أدونيس
(سوريا)

I

أدونيس مع والدته أم علي في سريرها. كمثل وردةٍ تكاد أن تذبل، وتبدو أيّامها كأنّها تتدلّى على كتفيها مناديلَ لم تعد صالحةً إلّا للذكرى.
في حَركاتِ يَديها ما يُخيِّل كأنَّها تُحاول أن تِصافحَ أياديَ في الهواء. أو أَنْ تُمسك بذراع طفولتها، فيما تَهبط بعيداً، على سُلَّمٍ من دمعٍ غَيْرِ مرئيّ، لكي تُلاقيَ دَليلَها الأَخير الذي سيفتح لها بابَ غيابها الأخير.
منذ أن دخلت بيتَ زوجها تَآختْ مع الحقول: تزرع، وتَسْقي الزَّرْع. قالت مرّةً: «كنتُ أتأمَّل النّباتات طويلاً. أنحني فوق براعمها. أُلامِسها وأداعبها. كما لو أَنّها لم تكن إلّا أطفالاً».
أَلِأنّها كانت تُحِسّ بأنّ في أحشائِها جنيناً؟
بعد موت زوجها، كانت تبدو، حتى في مِشْيتِها، كأنّ جسدَها شبه نائم، وكأَنّ روحَها تتأهَّب لكي تنام.
هَل صوتها هو الذي أسمعه الآن يتساءل: لأيّ ليلٍ سأسلم جسدي بعدكَ أيّها اللّيل؟
الغروب يتنقَّلُ بأعضائه كلِّها في أنحاء جسدها. ولا فَرْقَ في حضرة الغروب بين سطوع الصّورة وعتَمةِ المعنى.
ومنذ وقفَ جسدها على عتبة الغروب، ازددتُ شَغَفاً بتلمّسِ جسدي لأزدادَ معرفةً به.
هل جسدها قَلْبٌ آخَرُ فيّ؟
لماذا أشعر كأنني أنتظرها أمامي، فيما تبتعدُ وتَتَناءى؟
ولماذا تزداد خطواتي شكاًّ، فيما تزداد خطواتها يقيناً؟
ولماذا هي الآخذة، الآنَ، في الغياب، تبدو أكثر حضوراً مني - أنا المُثقَلَ بالحضور؟
مرةً، رأيتُها تستظلُّ بشجرة صفصافٍ عند عين قَصّابين، قرب بيتنا.
وخيِّل إليَّ أنّها كانت تقرأ بكاءَ الشجرةِ وأنينَها، كلّما هبّت الرّيح بين أوراقها.
وكنتُ سمعتُها مِراراً كيف تقرأ حُزنها على الأساور والعقود والأقراط الذّهبيّة التي اضطرّ زوجها لبيعها، لكي يَفيَ بوعوده ويسدّد ديونه المتراكمة.
ها هي في صباها، ماثلة في مخيّلتي. يغطّيها معطفها الأسود حتّى كاحليها.
تتحدّث مع جسدها همساً، كأنّها توشوش الرّجلَ الذي افتتح مملكة أسراره، للمرة الأولى.
صِبَاها؟ الواقع كلّه يتحوّل فيه إلى ذكورة، كما لو أَنّها هي، إزاءه، الأُنوثةُ كلها.
كانت حياتُها تزهو بتاجها الأَليف: التّعب. وكان هذا التّعب صديقاً.
ولم يكن شكوى٬ بقدر ما كانَ نشيداً.
هو نفسُه يغني الآن بين شفتيها، في سريرِها، على قَصَبِ الكَلامِ البَطيءِ، المتعثّر الذي تتفوّه به. هو نفسه الذي يحتضن البحّة التي تهيمن على حنجرتها.
لا تقرأ، لا تكتب.
كيف تقدر أن تتحمّل الزّمنَ، هادئةً مطمئنّة؟ كيف تقدر، هي الوحيدة، أن تستقبله، فاتحةً له ذراعيها؟
ربّما، لأنّ الموت بدأَ يضَعُ يدَه في يَدها، وكأنّ كلّاً منهما عُكّازٌ للآخر.
مات زوجها وهي في أوجّ تألّقها الأنثويّ. لم تكن تجاوزت الخامسةَ والأربعين. وهي الآن لا تقدر أن تقومَ بنزهةٍ صغيرة. البحر قريبٌ إليها. والجبل أيضاً قريب. غير أنّها تعيش بينهما في حصارٍ، في بلدةٍ يقودُها الغبار.
ليس لديها أيّ سلاح لمحاربة الزّمن. للاستمتاع بشيخوختها. من يشيخ في القرية، يخرجه أهلُه من دائرة الحياة، وينظرون إليه كأنّه انتقل إلى الجهة الأخرى من العالم، جهة الموت. هكذا يُصبح عبْئاً.
غالباً، تلجأ إلى الصَّمت الحزين، تعبيراً عن غَضبها المكبوت. وأحياناً تنفجر كأنّها تنفجر بقوة حُبِّها الأوّل. لكن هل عرفت الحبَّ، حَقّاً؟ أم أنه كانَ يعني الزواجَ، لا أكثر؟ تقول إنّها تتذكّر عُرْسَها، وكيف حملت بطفلها الأوَّل: علي. قلَّما تتحدث عن آلامها وجراحاتِها، وعن شهواتِها وخيباتها.
وها هي تَتّجه إلى الموت في منفى الرّوح، بعد أن عاشَت فترةً طويلةً في منفى الجسد.
المنفى هو نفسه الذي عَلَّمني كيف أعودُ إلى التفيّؤ في ظلِّها.
تَمهَّلي، أيّتها الطّبيعة في رَسْم منحنياتِك على جسمها. قلبها واسِعٌ يخفق فيما وراء حدوده، وكتفاها انحناءان في زمَنٍ كأنّه وتَرٌ مشدودٌ بين ذروتين - هاويتين. وأكاد أن أرَى السّماءَ تعبر فوقهما، بغِزلانِها وأحصنتها ونجومها، وبقيّة كائناتِها خصوصاً تلك التي تدبّ صعوداً نزولاً في خميرة الطّين الذي تعجنه يدُ الخالق وتخبزه.
قليلاً، أصغيتُ إلى نصائِحها. غير أنني كنت أحرص على الظّهور دائماً كأنّني أطيعُها في كل ما تقول، إلا في شيءٍ واحد: السّهولة.
لا أطيق السهولة. لا أقدر أن أرى نفسي أو أن أبحث عنها إلا في العاصفة. وهذا ما فهمتْه متأخرةً، وقبلته.
بكت في زيارتي الأخيرة، دون أن تشكو من أي شيء.
-»لا ترحل. أرجو ألّا أموتَ إلّا في حضوركَ»، قالت بنبرةٍ لم أقدر أن أميّز فيها بين الكآبةِ والغبطة.
هكذا أُتيح لي أن أفهمَ كيف كانت تمنح أجنحةً غامضة لذلك الطّائرِ الذي يسمّى تاريخ أيّامي. وقلت في نفسي: ارتجلي، أيتها الأيّامُ، ما شئتِ من هذا التّاريخ الذي ترتجله أحشائي.
وأتيح لي أن أكتشفَ كيف يمكن أن يكون العشبُ سجّاناً.
وأتيح لي أن أقول: للفرح أشجارٌ كريمة، لكن لماذا تُسدل ستائرَها على نوافذ الحقول؟
كلّا، ماء الفرح لا يطفئ نار الحزن.
نعم، ليس الفرح إلّا مِشْطاً عابراً في جدائل الحزن.
طِفلةً٬ كان الزّمنُ هو الذي يقيم في جسدها.
شيخةً٬ أصبحت هي التي تقيم في ظلّه.
وها هي تمشي بطيئةً، متعثّرةً إلى موعدها الأخير مع الحياة. غامضةً في ذُروة وضوحِها.
ما أعمق فيها تلك الحسرة التي تتهيّأ لكي تلبس الثوب الذي تنسجه إبرة النّهاية.
وكم كان خَطأِي كبيراً: لم أعرف إلّا متأخّراً، كيف أتنوَّرُ بهاءَ الأمومة.
أكثرَ فأكثر، تغور عيناها في جوهر النّظر.
أكثر فأكثر، ترتطم شفتاها بصخرة الظلام.
جسدها مع ذلك، أكثر فصاحةً من لسانِها.
في كلّ حالٍ، سوف يختصرها فِعْلٌ ماضٍ يزدردُ كلَّ شيء: كانت.
كأنّ اللّحظة، الآن، لحظة النطق بهذا الفعل الماضي، تنحلُّ في حِبْرٍ اسمه: أمّ علي.

II

2009، السّنة التي أتيح ليَ فيها أن أمضي مع أمّ علي وقتاً طويلاً، بالنسبة إلى غيرها من السّنوات.
الخامس والعشرون من آب، في السنة نفسها، في قصّابين. استيقظتُ باكراً. كان الصّباح عندما تناولت فطوري، قد انتهى من رضاع ثَدْيي قصّابين. وكانت الشمس تتهيّأ للتّجول بين الأشجار التي تنهض في أحضان البيت - الصنوبر، الإزدرخت، الجوز، التّين، الزّيتون، اللّيمون، الرمّان، العنّاب... في موكبٍ من إكليل الجَبل، والطيّون، والصَّعتر، والفلّ، والياسمين، والخزامى.
كنت مضطرباً حتى أنني تردّدت: هل أشرب القهوة، أم الزّوفا، أم الملّيسة، أم مزيجاً من إكليل الجبل والطيّون والصّعتر؟
شمسٌ طاغيةٌ تبدو كأنّها تتدلّى من عروة الفنجان الذي أترشفه رويداً رويداً على شرفة المطبخ.
إلى الطاولة المربعة في المطبخ، جلست أمّ علي. نظرت إلى وجهها وتساءلت في نفسي: هل يتلألأ شبهَ منطفئ، أم ينطفئ شِبه متلألئ؟
وكانت فاطمة أختي الوحيدة الآن، بعد موت أختيّ سكينة وليلى، تتفنّن في تلبية ما تطلبه أمّ علي، لكن بشيء من التّعب:
-»كلّ لحظة في شأن. أمّي صعبة جدّاً»، قالت.
لحديقة البيت في قصّابين أذنان لا تنامان، وإن نامت الكتفان، ونام العنق والرأس. أذنان تتدلّى منهما أقراطٌ كمثل طيورٍ تتطوّح في الفراغ.
تتزنّر الحديقة بحزام جميل نسجته نبتة الجهنّمية في لغة القاموس الفرنسي - العربي، والمجنونة في لغة الحياة اليوميّة، لغة قصّابين.
-»لماذا يبدو التّاريخ هنا يتيماً؟» سألت ضيوفاً يزورون أم علي. وتابعت قائلاً: الأيام في قصّابين مظلّة مليئةٌ بالثقوب. والحاضر خيمةٌ تتنقّل على عكاكيزَ من القَشّ.
خيرٌ لي أن أجمعَ العرق الذي بدأَ يتصبَّبُ من جسم الأفق، وأن أسكبه في كأسٍ أنذرها لأول فلّاحٍ أصادفه.
ولن يكون هذا الفلّاح جارنا القريبَ اللّطيف الطّيب. فقد هجر الفلاحة، وانصرف إلى التجارة.
لحديقة البيت حوض أنثويٌّ.
يبدو الحجر في هذا الحوض أكثرَ شفافيةً من الماء. ذلك أنّ كتاب الأنواء نُقش عليه. ذلك أنّ هذا الحوض لا يفعل شيئاً إلّا تقليد الأمومة في حركة الهواء، وفي ضوء الشّمس.
-»مهما كان التّحول غريباً وبارعاً، فلا يمكن تحويل البقرة إلى ثور». هذا معنى ما قالته أمّ علي حول المرأة، تعليقاً على كلام ضيفة تزورها.
-هذه اللّيلة لم تنم نوافذ البيت.
-»أنت كذلك لم تنم، كما يبدو» قالت أم علي محدّقة في وجهي.
نساءٌ في زيارتها. نساء القرية - آباؤهنّ محاريث، وأمّهاتهنّ حقولٌ حيناً، وجرارٌ حيناً.
إنّه رمضان، والنّاس كلّهم صيام.
لكن، لماذا يُصلّي الأفق حاسِرَ الرأس؟
-يا أمّ علي، لماذا تصومين وأنت مريضة، والشيخوخة مرهقة، والله لا يكلّف نفساً إلّا وسعها؟
-»أصوم لله، لا لنفسي»، قالت بلهجة اطمئنان كامل.
آلم أمّ علي أنها لم تقدر أن تصوم شهر رمضان كلّه، هذه السنة 2009. وبدت كأنّها غاضبةٌ على القمر.
الشيخوخة طفولة ثانية.
تنتقم أم علي من شيخوختها بنوعٍ من العودة إلى الطفولة. من حسن حظِّها أنّ لها ابنةً تصيُر لها أمّاً. أمّ علي طفلةٌ بين يديها. وهي جاهزة كلّ لحظةٍ لتلبية ما تطلب.
اللحظة في الشيخوخة كمثلها في الطفولة ليست جزءاً من الزّمن، بقدر ما هي جزءٌ من الرغبة. رغبة لا تتوقّف. رغبة آمرة.
أنظر إلى أمّ علي ماشيةً:
يتقوّس ظهرها كأنّه عكّازٌ آخر في يد الزّمن.
مع ذلك، تنسى كلّ شيءٍ إلّا نفسها، وإلّا ما يذكّرها بها.
وهي تحتاج حتّى إلى من يقدّم لها كأس الماء.
إلى من يمسك بيدها لكي تنهض. إلى من يساعدها على أن تأكل وتنام، دائماً، وكلّ يوم.
ضع نفسك مكانَها.
لا، لا تضع. ربّما ستكون مَيّالاً إلى أن تفضّل الموت دفعةً واحدةً، على الموت يوماً يوماً وساعةً ساعة.
عندما يتاح لها أن تروي بعض ذكرياتها٬ تتوهّج عيناها، وتشعرُ أن لوجودها حضوراً ومعنى، على الرغم من الشيخوخة. الوجود في الشيخوخة ذكرى، وهو في الطفولة وعد. الشيخوخة مكانٌ للوحدة بين الحياة والموت في جسد واحد - خصوصاً شيخوخة المرأة.
يكفيها، أمام شاشة التلفزيون، أن تسمع وترى. بالرّؤية والسّماع تحارب العزلة والضّجر، وتستعيد ثقتها بحضورها. هكذا لا يهمّها ما تشاهد على الشاشة، بحد ذاته. يهمّها أن تكون شاشةً مضاءةً، وأن تنقل صوراً تَتحرَّك وتجذب.
نادراً ما تتكلّم، وإذا تكلّمت فلحاجةٍ تطلبها.
خارج الحاجة، تميل دائماً إلى الكلام على ذكرياتها، بقدر ما تتيح المناسبة.
الواقع كلّه بالنسبة إليها، هو الآن أن تأكل وأن تنام.
ماذا يدور في قلبها الآن؟ ربما لم يعد قلبها إلّا كتلة صغيرة من لحم واهن.
الذاكرة ينبوعٌ لإحساسها بأنها ما تزال حيّة. والأحداث التي لا تزال تتذكرها ترويها بشكل متقطّع، ومجزوءٍ، ومضطرب، غير أنها تتمحور جميعاً حول شخصها.
عظيمة الثّقة بإيمانها.
يقول إيمانها ما ترجمته: كلّ ما يتحقق للإنسان من عملٍ أو فكر، على نَحْوٍ مفاجئٍ لم يخطط له، ولا ينتظره، إنما يجيء في رأيها، بقدرةٍ خاصةٍ من الغيب الإلهي.
وترى في هذا المجيء دليلاً على أن لهذا الإنسان مكاناً في هذا الغيب. أو تقول بتعبيرٍ آخر: يكون الله راضياً عن هذا الإنسان. ومضمون هذا القول أن الله راضٍ عن أمّ علي.
هذا الصّباح الثامن والعشرون من آب 2009، شربت قهوة الصباح مع أمّ علي. بدا الصَّباحُ في وجهها كانه ليس إلّا ظِلّاً.
وَجه الأمومة كمثل الشَّمس: حجابها نورُها، ونورُها حجابها.
لا أعرف زهرةً يمكن أن تشبّه بالأمّ
لا أعرف شجرةً ولا ينبوعاً ولا جبلاً ولا وادياً،
وما أكبر الفرق بينها وبين النّجوم.
وليس في كتفيها غير الأجنحة،
وبين قدميها يتدفّق نهر المعنى.
وثمّة كواكب نكتشفها دائماً في فضاء خَدَّيها،
وكل خدٍّ جسرٌ بين لا نهايتين.
فجأة تبكي.
انبجسي يا دموعها. الدّموع هي الآن كلماتها الفصيحة الوحيدة.
الدمع أجمل دفقةٍ في نهر الحزن.
لم يكن عبثاً أن تَمرَّ يدُ الشمس، هذا الصباح فوق شعرها.
شعرها بياضٌ، بياضٌ لا ينتمي إلى الشّمس. ينتمي إلى ابنها الفجْر.

مدارات يكتبها أدونيس - أم علي (1)

III

أتكاثَرُ في حضرة أمّ علي وأتعدّد. هذا يسعدني. يسعدني كذلك أن أبدو في حضرتها أكثر من إبْنٍ، وأكثرَ من قرويٍّ.
عندما ينزلق منديلها عن رَأْسها ويسقط على كتفيها، يُخيّل أنّه شراعٌ ينزلقُ عن صارية عالية. ويبدو كأنّ هيكلاً يرتفعُ بين عينيها لكي تنام فيه نومها الثّاني.
هكذا أحرصُ دائماً على الجلوس قربها، لكي أزدادَ قرباً إلى تلك النّقطة الغامضة التي توحّد بين جسم الإنسان وجسم الطّبيعة.
تحب أمّ علي أن تنهضَ باكراً، وأن تسبق الشّمس. تيسّر لي يوماً أن أنهض معها من النّوم في وقتٍ واحد.
دخلت إلى غرفتها لكي ألقي عليها تحية الصّباح: كانت تتمرأى.
في المنزل تسير ببطءٍ متوكّئةً على عُكّازها.
مع ذلك، تتعثّر. تخاف من الموت البليد، ارتطاماً بشيء بليد.
أصابع يدها اليمنى معطّلة، شبهُ جافّةٍ. تكاد أن تَيْبس.
أصابع يدها اليسرى وطنٌ كامل.
ولم تعد شفتاها تتقنان الكلام إلا إذا كان رجاءً أو دعاءً.
في الصيف تجلس أمام المروحة الكهربائية، دفعاً للحرارة. تغمض عينيها.
تتحرّك شفتاها، صامتتين. وأكاد أسمعها تقول في صمتها الحزين:
ربّما يعرف أبنائي عُمْر فرحي بولاداتهم،
لكن، من منهم يعرف الآن عمر العذاب الذي أكابده؟
في الصباح تشتهي التّين. تذهب ابنتها فاطمة إلى أقرب تينةٍ في الحديقة. التينة الأكثر كرماً، والأطيب نوعاً، وتقطف لها بعض الثمار.
بعد لحظة تشتهي الزّيتون، أو البطّيخ الأحمر.
ولا بُدَّ من الشاي، دائماً. ولا بدّ أيضاً، قبل هذا كلّه، من خبز التّنور.
حياة طبيعيّة، بسيطة في الظّاهر.
لكنها، في العمق حياة معقّدة حَتّى في بساطتها الطبيعيّة.
ها هي تنهض في هذه اللّحظة، على عُكّازها وتخرج من المطبخ.
أنظر إليها، وأتذكّر عفواً شجرةً ماتت - شجرة التوت أمام بيتنا الذي كان بيتاً من الطّين. بينهما شَبَهٌ ملتبسٌ، لعلّه الانحناء. أو لعلّه آتٍ من أحضان تلك الشجرة التي اتّخذت منها عرزالاً في طفولتي.
في أحيانٍ كثيرة، تبدو أمّ علي شفافةً إلى درجةٍ يخيّل لي فيها أنها بلا جسم، أو أنّ جسمَها يسيرُ وراءَها، أو يجلس حولها متوكّئاً على روحها.
ونستطيع الآن أن نقول عنها: طريقها مرسومةٌ لا تقدر أن تغيرها، أو أن تعدِّلها. ولا شأن لها فيها، طالت أو قصرت. تبحث الآن عن طريقٍ لا تنطقُ إلّا باسم قدميها.
لم تعد ثيابها تشتكي لها. بدأت هي الآن تشتكي ثيابها.
وقُبَيْل أن تضع رأسها على الوسادة لكي تنام، يبدو كأن في عينيها لقاءً بين ضوء الشمس وظلّ القمر.
وغالباً ما تحلم٬ كما تروي عندما تستيقظ، أنّ القمر ينام دائماً بين ذراعيها. تعلّم تجاعيد أمّ علي أن الجسمَ ليس الكاتب الوحيد للجسم، وأنّ في السّراب ماءً آخر لقراءة الماء. وها هو قلبُها يسهر على صحة خطواتها، ويكتب حزنها أسطورة السّهر.
لم تعد تتهيّأ لكي تذهب إلى اللّيل، صار اللّيل هو الذي يجيء إليها - يجيء فيما تُسرع يدُ الزّمن لكي تكمل الشبكة التي تنسجها حول قدميها. ضوء الأمومة كمثل ضوء الصّباح، يولد مترحّلاً. إنه سريرٌ متنقلٌ وقلّما يقيم في بيته الأوّل. لا يقيم الزّمن في مكان تهجره الأمومة.
وهاهو قَدَرَ الموتِ يَزْحَفُ. يقبض على عُكّازها، ويحاول أن ينتزعه من يدها. يعلو نحو عنقها، وقسمات وجهها، نحو عينيها الغائرتين وراء زجاج نظّارتها. قدرٌ بقَرْنيْن: قرْنِ السّماء التي لا تعرفها، وقرن الأرض التي تتأوّه منها. ولم تعد لها قدرة إلّا على الاستسلام.
تكادُ أن تتسوّل حتّى الكرسيّ لكي ترمي هيكلها عليه، في انتظار أن يكمل هذا القدر غزوه القاتل. ولم تعد المسألة بالنسبة إليها، كيف تتمسّك بالحياة. المسألة هي كيف تعالج اتّجاهها، لحظةً لحظةً، نحو الموت.
وأتخيّل أحياناً نفسي مكانَها، وأقول بلسانها:
لم أعد أيأس، لم أعد آمل،
همّي كلّه هو أن أصل إلى الموت بحياةٍ كريمة، وخطواتٍ عزيزة.
يصل الإنسان بالشيخوخة إلى مرحلةٍ لا يعود وجوده فيها ضرورياً.
لكن لماذا يَصيرُ ضَرراً؟
شيخوخة الأمّ بين أبنائها وأحفادها، مختبرٌ فريدٌ لشهوة الحياة عندهم. للأخلاق. للمعاملة. للحس بالمسؤولية. للصبر. للتعاطف والرأفة والرّحمة. لحسّ العدالة. للشعور بقيمة الإنسان ومعناه، وبالرّحيل المتسارع نحو الموتِ، واحترام هذا الرّحيل. بمعنى العلاقة بين مَن يَلِد ومن يُولَد. مختبرٌ أتردّد، في ما يتعلّق بأمّ علي، أن أجهر بـ «كيميائه».
في كلّ حالٍ شهوة الحياة هي دائماً الأولى والغالبة.
وهي هي شهوة المستقبل: تترك وراءها الموتَ وفرائسَه كلّها.
كأنّ في حياة «الابن» ما يقهر حياة «الأمّ»، وكأنّ فيها كذلك ما «يُميتها».
«تبدأ الأمّ فتأخذ من ابنها ما أعطته إياه منذ ولادته»:
هل يمكن هذا القول؟ وإلاّ٬ لماذا لا يكون ممكناً؟
شعرت مؤخّراً أكثر من أيّ وقتٍ مضى أن أمّ علي تميل إلى أحد أبنائها بإيثار خاصّ، وعنايةٍ خاصّةٍ. حجّتها في ذلك أنه أكثرهم فقراً، وإذاً أكثرهم حاجةً، وإذاً لا بُدَّ من مساعدته قبل إخوته الآخرين.
أمّا هو فلا يرقى في الاهتمام بها، بوصفها أمّاً، إلى مستوى اهتمامها به، بوصفه ابْناً. لكن، لماذا تؤثر الأمّ أحد أبنائها على الآخرين؟ هل هذا الإيثارُ غريزة، أم فطرة، أم هو شيء آخر؟ الابن - الذّكر خيطٌ ينقطع عن أمّه. البنت خيطٌ متّصل. الأم تلد نفسَها في ابنتِها، وهي تتمرأى في ابنها. الذكورة جسرٌ. الأنوثة جَذْر.
هل محبّة الابن للأمّ تقيده؟ للمرة الأولى أطرح على نفسي هذا السؤال، ربّما بسببٍ من شيخوخة أمّ علي وعجزها، وحاجتها إلى من يقف دائماً إلى جانبها كمثل الطفل. أو ربّما بضغط من الظّروف والأوضاع التي تحيط بها.
وجوابي هو: نعم. تقيّده في نفسه، داخل نفسه. وتقيّده في علاقاته الخاصّة مع إخوته وأقربائه. وتقيده في علاقاته الاجتماعية العامّة.
أشعر في هذه المحبّة التي أكنّها لأمّ علي كمن يركض في فراغ: يظلّ راكضاً دون أن يصل. توازنٌ شبه شمسيّ: في وجه أمّ علي رعبٌ، وفي قلبها طمأنينة.
لماذا أتردّد في القول إنّ الأمومة في ذاتها منبعٌ للإلهام؟
ألِأنّ الأمومة شيء، والأنوثة شيء آخر؟
وأعرف أنّ أمّي هي الكائن الأكثر قرباً إليّ، والأكثر حنوّاً علي. واعياً أنها قوّة توقظ في نفسي أشياء لا توقظها أيّة قوةٍ أخرى. وأنني في هذا كلّه أرث منها بعضاً مما يتميز به عقلها وجسمها. وأنني ألبي ما تطلبه بأكثر ممّا تنتظر أو أكثر مما تسمح به غالباً طاقتي.
لكن هل ذلك عائد إلى أنني أكنّ للبعد الإنساني فيها احتراماً عالياً جداً؟
هل لأنني أرى الأم لغة، هي لغة الطبيعة، وأنّ اللغة، لغة الكتابة، أمّ ثانية، وأن الشاعر ليس له شعريّاً إلّا أمّ واحدة هي لغة الكتابة؟ أم لأن الأمّ وجودٌ كاملٌ وماذا يمكن أن يقال عن الكمال والكامل؟
هل لأنّ الأمومة فكرة وليست انفعالاً؟ هل لأنها حالة وجودية - أرضيّة؟
الرؤيا، المخيّلة، الحلم، التوهّم، التمرد، الرّفض، الغضب... هذه كلّها تجيء من عالم آخر غير أموميّ هو عالم اللّغة - الأمّ.
الأمومة سلامٌ، والفنّ حرب.
أَمَّهُ: قَصده، وأصاب أمّ رأسه.
أمَّ القَومَ: تقدّمهم، وكان لهم إماماً.
أَمّ (يَأَمُّ): فَاجأَ وقَرُبَ.
أَمّتِ المرأة: صارت أمّاً.
تأمّم المرأة: أخذها أمّاً.
كل شيء انضمّت إليه أشياء فهو أمٌّ.
أمّ كل شيء: أصلُه وعماده.
الأمّ: من القرآن الفاتحة، أو كلّ آيةٍ محكمة من آيات الشرائع والأحكام والفرائض. أمّ القُرَى: مكّة. أمّ القِرى: النّار. أمّ الكتاب: أصلُه. (محيط المحيط)
في هذين الحَرْفين: الألف والميم، فاتحة الوجود الإنساني.
في جلسة أخيرة مع أبنائها وبعض أحفادِها، بدت أم علي كأنها تتذكّر طفولتها. بحركاتها، بكلماتها القليلة، بإصغائها إلى ما يقال حولها. تتذكر حتّى كأنّها ترى أيّامها الأولى تتكرّر أمامها.
وخيِّل إليّ أنّ الموت يرفرفُ حول وجهها تارةً كمثل الفراشة،
وتارة كأنّه الطّفل الأخير الذي أنجبته، يرضع الحليب الأخيرَ في ثدييها.
وكانت اللّحظات تتفكّك وتترابط بين أَصابع يديها كمثل نَوْلٍ تتداخَل فيه الخيوطُ دون أن تلتئم في نسيجٍ واحد.
وشطح بي الخيال مستعيداً حضورها في بيتنا الطّينيّ الأوّل، في قصّابين. مستعيداً علاقاتها مع جيرانها وقريباتها، مع الحقل والتّنور والخبز. مع أشياء الطبيعة، الأشجار والنّباتات. وأتاح لي هذا الشّطح أن أتذكر طفولتي، وأن أتوغّل بعيداً في النظر إلى الأمومة، وإلى الزّمن كيف يدحرج صخوره بلا توقف، على كلّ شيء.
وشعرت كأنني أنفصل عن حاضري، لكي ألتقط ماضيَها، وحده:
لم أرَها مرّةً تضع نقاباً على وَجْهها. كانت تغطي شعرها بمنديل من الحرير طويلٍ وباذخ. منديل يُصْنع باليد في كثير من القُرى.
منديل جميلٌ يضيفُ جمالاً إلى الجمال. منديلٌ تتزين به: يتيح لقسماتها وتقاطيعها أن تزدادَ تألّقاً، فيما يُخْبِئُ أسرارَ جَدائِلها.
الجدائلُ ليلٌ آخر. ليلان يحيطان برأسها، ليلُ الطبيعة وليل الجدائل. هكذا يصبح وجهها نهاراً ساطع الشّروق٬ مطوّقاً بأسرار الليل. أما جسمها فَيُصبح٬ على العكس، ليلاً. الجسم بوصفه ليلاً، يعيش عاشقاً. العشق هو كذلك ليل داخل الليل. الوجه جسرٌ من الضوء بينها وبين العالم. الوجه هو الوجود. أو هو عتبة الوجود وفاتحته. هو ما يَبْقى بعد غيابِ كل شيء.
لماذا لا مكانَ في تاريخنا لهذه العتبة - الفاتحة؟
للعينين مكان. للشّفتين مكان. للخدين مكان.
لكن، لكن - لماذا لا مكان في تاريخنا للوَجْه؟
أو لماذا يتحول الوجه في هذا التاريخ إلى ليلٍ مزدوج: ليلٍ للحجاب، وليلٍ لما وراء الحجاب؟ ذاكرة أمّ علي غابةٌ من الصّور: الفجرُ فيها زُنّارٌ واللّيلُ منديل.
غابةٌ لا يعرف العاشق أن يرقص فيها إلّا الرّقصات التي يجهلها.
كأنّ العشق هو نفسُه ذاكرةٌ فسيحةٌ كمثل الأرض.
أعشقك يا أرض الحبّ، فيكِ وحدكِ يبدو قبرُ العاشقِ أكْثَرَ علوّاً من فضاء الموت. ألهذا تبدو السّماء، غالباً، أنّها تحبّ أن تجلسَ تحت أهداب العشّاق لكي ترتّل سورة الموت؟
ألهذا ليست الأنوثة طبيعةً، إلا لأنّها جرح. وليس الجرح مذكراً إلّا باللّغة وفيها. الجرحُ مؤنّثٌ في المعنى، وإن كان مذكّراً في الصُّورة.
عندما تفرح أمّ علي، يشعر من ينظر إليها كأنّ الأرضَ تَتطايرُ حولَها وفي حركاتِها٬ كما لو أنّها غابةٌ من الأجنحة.
وعندما تغضب، يمتلئ وجهها بغيوم داكنةٍ، وتنزل أهدابُها على عينيها، كمثل غلالة لا يبين وراءها إلا توهّج الدَّمع.
ربّما لهذا كانت كلّما تقدّمت في العمر، يزدادُ وجهُها ضياءً. كما لو أنّ الأيام التي عاشتها، خصوصاً التّاعسة، لم تكن إلّا نوراً يتَلَأْلأُ في أحشائها. وكنتُ كلما جلستُ معها، أشعرُ أنّ الوقتَ شخصٌ آخرُ فيَّ. شخصٌ لا يتوقَّفُ عن قراءة جسمها. غير أنّه لا يبدو مأخوذاً حتّى الشَّغف، إلّا بقراءة وجهها. وكنتُ أشعرُ أنني أعودُ طفلاً، لكي أتعلّم كيف أقرؤها.

IV

حاشية أولى:

كان سؤالها الأوّل دائماً، كلما التقيتها، كيف حال خالدة؟
تلك المرأة الفارسة التي تحبّها، رافقتها أمس إلى مطار بيروت.
كانت تتوكّأ على آلةٍ، لا بسبب من خطيئة العمر، بل بسببٍ من خطيئة الطّب. وقفت، أواكبُ من بعيدٍ كيف تتجاوز «حواجز» الأمنِ، واحداً واحداً.
ذكّرتني بأمّ علي، فيما أنظر إليها، وإلى الوقت كيف يقفز على عقارب ساعةٍ ليست في السماء، وليست على الأرض. وكان جسمها شبيهاً بجسم أم علي، نحيلاً، ويكاد أن ينكسر.
خيّل إلي كأنّ، حياتنا المشتركة كانت تقرأ تاريخنا المشترك على تخوم جسمها. وبدا لي، فيما تغيب وراء حواجز الأمن، أن سواد شعرها يمتزج بضوءٍ كأنه الضوء نفسه الذي يزركش شعر أمّ علي. التخوم؟ دائماً، كنت٬ فيما أكتب، أرتجِلُ التّخوم.
دائماً، كنت أقول لخطواتي: استضيئي بليل التّخوم.

حاشية ثانية:

من زمنٍ يهبّ على قلبي غبارٌ أحارُ من أين تجيء به الرّياح. كنتُ أستعين عليه بشمس الأمومة. هكذا كنت أستيقظ دائماً وفي حنجرتي حبال صوتيّة لنشيد المجرّات.
لكن في هذا كلّه، لم يكن يفارقني الخوف من أن يلتهم الحاضر ما تبقّى من الخبز الذي يسمّى المستقبل. وكنت أشعر أنّ الماء يعاند أيّامي، وأنّ الطّحلب يكسو ضفافها. وكانت شهواتي نفسها تميلُ إلى أن تفتكَ بجسَدي، وها هي تتشعّب وتخلق لها أعضاء داخلَ أعضائي. ولا تزال قطعان الرّغبات تملأ فضاءَها. هكذا كان حنيني يكتمني، وبوحي يهجرني.
متى ستسقطين على الأرض أيّتها الكواكب؟

حاشية ثالثة:

بدأت أمّ علي تنام كثيراً كما لو أنها تريد أن تسبقَ اللّيل.
بدأ الفجر يعزف على قيثاره في غرفتها، دون أن يوقظَها.
نزع الخريف خاتمَ زواجه وقدَّمه لها.
تابعْ، أيّها الزّمن، سيرك المريرَ نحو باب الأبد. ها هي في طريقها إليه.
العربة التي تقلّها، هذه المرّة، لن تتوقَّفَ، ولن تنزل منها.
حقّاً، الموت هو الذي يُضيء الحياة.

حاشية رابعة:

في العاصفة، وقبل أن يولد في قريتنا القنديل الكهربائيّ الذي يُطفئ اللّيل، ولد أبناء أمّ علي جميعاً. هكذا صنعت أَسرّتهم من الرّيح.
وكثيراً، كانت تحسب الغيومَ فوقهم خيولاً، والسَّماءَ مراعيَ لها.
سيُقال عنها إنّها لم تُسلم جسمَها إلى الموت إلّا مللاً من الحياة. وسوف يقال: كأنّها لم تمت مع الموت، بل ماتت بعده.

الحباة
16 فبراير 2012