أمجد ناصر
الأردن/ لندن)

أمجد ناصركان قد مضي وقت طويل علي وجوده في الخارج، وكان يظن، بإحساس عميق، تبين خطؤه فيما بعد، ان الزمن سيحفظ له شيئا أثيرا، وجها ًمحدداً لم يسعه تحديد ماهيته. لكن الزمن لا يرضخ للأماني مهما كانت ضارعة. وها هو الرجل يعود بعد وقت طويل علي خروجه الذي لم يشكل حدثا إلا لقلة تهتم بأمره... وهذه القلة، كالعادة، تتناقص باستمرار. إنني أراه الآن (أنا قرينه أو ماضيه أو الشخص الذي كانه) يمشي بقامة لم تعد تحفظ وصايا والده باعتدال ذي طابع عسكري، وبرأس رمادي يلمع، كمرآة عاكسة، تحت شمس هذا الضحي المتثائب.. إلي جانبه يسير ولد صغير، يمسك يده حينا، ثم يتركها حينا آخر، كأنه يعاني من فكرة الارتباط بشيء لاجدوي من الارتباط به.

قبل أربعين عاما كان يمشي، بطول وعمر الطفل الذي يمسك يده حينا ويتركها حينا آخر، في هذه الشوارع المتربة. كانت الشوارع اقل مما هي عليه الآن... و لكنها كانت متربة أكثر. انه لا يعرف، كما يظهر من خطوه غير الواثق، أي شارع يسلك بعد التقاطع الكبير الذي كان يقسم البلدة قسمين متساويين. انه ينظر إلي الطفل الذي أدرك ارتباكه... فيشير الطفل بيده في اتجاه الغرب. قطعا آخر شارع يعرفه.
ثم ترك للطفل زمام أمره. انه صامت. وكذلك الطفل. كان الطفل يقول بين الشارع وآخر: من هون عمي ، ثم يعاود الصمت. انه مستسلم لخطي الطفل. أكاد أحزر انه كفَّ عن محاولة معرفة الشوارع الصغيرة المتربة التي تصطف علي جانبيها حوانيت تغيرت معظم بضائعها القديمة. انها بضائع تستجيب لحاجات لم تكن معهودة، من قبل، في بلدة تحرس حدود الصحراء. لعله فكر أن الحاجيات نفسها، بأسمائها وألوان أوعيتها الكرتونية والقصديرية، هي نفسها، اليوم، في كل مكان. عندما قرر القيام بهذه الزيارة لم يقل لي : إيه يحيي.. دعنا نذهب، كما فعل عندما زار صديقا قديما استئصل منذ سنين طويلة ورم من دماغه ما افقده قسما لا بأس به من ذاكرته. كان صديقه القديم يعرفه لحظة.. ثم يسأله من هو لحظة أخري. لم يمكث طويلا في بيت صديقه حتي قال لي : هيا نعود إلي البيت. كان أيضا قد طلب مني أن نزور صديقا قديما له يعمل في ورشة للحدادة. مكث أطول مما توقعت مع صديقه هذا الذي بادره، ما ان رآه، بالقول ضاحكا : يا رفيق الطفولة المشردة ! ضحك هو أيضا من أعماقه لهذا الوصف الميلودرامي. كانت تلك ضحكته الأولي الصافية التي اسمعها مذ عاد إلي مسقط رأسه في هذه الزيارة ، التي لا اعرف ان كانت طويلة أم قصيرة.
هذه المرة لم يقل لي: إيه يحيي... دعنا نذهب. اصطحب، بدلا مني، ابن أخيه الاصغر. سأل الطفل: هل تعرف المكان؟ فقال الطفل: أعرفه.. فأنا أزوره كل يوم جمعه.. وأسقي شجرة الزيتون.

لم تكن المقبرة التي وصلا اليها أخيرا، موجودة من قبل. انه لا يعرفها. هو يعرف القديمة التي صارت تتوسط البلدة ، لعله فكر أن الميتين كانوا، أيامه، قلة. كان الموت، فعلا، اقل ألفة وعادية مما هو عليه اليوم. كان الموت حدثا تجتمع عليه البلدة بأسرها. كان الليل الذي يعقب وفاة احدهم مخيفا للأطفال، وله، علي نحو خاص. كان أكثر ما يؤرقه هو ترك الميت بعد دفنه. ذلك الانفضاض الجماعي عن شخص كان حيا قبل يوم أو يومين. انفضاض شامل. عزلة. تركٌ للجسد في حفرة طمرت بالتراب. أظن انه فكر بذلك ، فأنا فكرت بذلك ، وما دمت فكرت به فلا بد انه فكر به هو أيضا. فتلك الذكري راسخة، علي ما أظن، في ذهنه رغم انه لم يعد أنا. صرت أشعر بما يشعر به ما ان أطل علي المقبرة المغبرة الواسعة المسيجة بأسلاك حديدية متهالكة في بعض الجوانب. خرج الحارس من كوخ خشبي علي مدخل المقبرة عندما رآهما يدفعان بابها الحديدي ذا الصرير المزعج. أشار الطفل بيده إلي جهة داخل المقبرة.. فهز الحارس رأسه وحرك يديه بطريقة أدرك معها الرجل انه اخرس. كان واضحا أن الحارس يعرف الطفل. لابد أن لغة الإشارة التي استخدمها الطفل ورد عليها الحارس كانت، في نظر الرجل، بدائية. في المدينة البعيدة التي يقيم فيها هذا الذي كان أنا قبل ثلاثين عاما، هناك تطور كبير في هذه اللغة. هناك متعلمون وأميون حتي بين الصم والبكم.
حارس مقبرتنا الذي يتلفع، كيفما اتفق، بكوفية حمراء يمكن اعتباره أميا في لغة الصم والبكم، ولكن أي حاجة لحارس مقبرة أصم وأبكم في بلدة ترزح تحت مشيئة الغبار الضاري ، الي مفردات اكثر من تلك التي تبادلها مع الطفل ؟ تلك الحركات البدائــــية القليـــلة كانت كافية ليعرف ما الذي قاله الطفل، أو بالأحري، ما الذي يقصده. ليس هناك نظام معين تتبعه المقبرة. القبور الترابية المرتفعة قليلا عن الأرض أو تلك التي أقام عليها أهل الميـت صبة اسمنـتية تحتل كل مساحة ممكنة. تتداخل وتتجاور، تماما، كما تتداخل وتتجاور بيوت الأحياء التي سكنوها.

فكرَّ الرجل كيف تصبح المقبرة صورة من الأحياء العشوائية نفسها التي كان يركض بين أزقتها الضيقة في طفولته ، والتي ما تزال، اليوم، كما كانت عليه، تقريبا، من قبل.
أخيرا وصل الطفل يتقدم الرجل بثلاث خطي إلي القبر، محاولا، مذ وطأت قدماه الصغيرتان أرض المقبرة ألا يدوس قبرا من القبور المتجاورة المتداخلة ، كأنه يتنقل بين أطراف جسد نائم يخشي إيقاظه من سباته المقدس. القبر ككل القبور المحيطة. الشيء الوحيد الذي يميزه، سوي شاهدته الحجرية، شجرة الزيتون التي تبدو، بوضوح، أنها تتلقي أقساطا منتظمة من الماء. إنها ريانة. خضراء. رغم الغبار الذي يكلل أوراقها وأغصانها ولا سبيل إلي مكافحته. بدت نباتات القبور الأخري، بالمقارنة مع شجرة الزيتون، مصفرَّة، أو ذاوية تحت الشمس التي اشتد عزمها.

نظر الطفل، الذي سبق الرجل بثلاث خطي، بعينين مدورتين تقولان : ها قد وصلنا! ثم انصرف عن الرجل ورفع كفيه الصغيرتين أمام وجهه وراح يتمتم. قال الرجل، في نفسه، ان الطفل لقنّ نفس الدروس التي تلقنها وهو صغير. قال أيضا : ان الزمن يمكن أن يتكرر. الأشخاص يمكن أن يتكرروا. تذكرَّ نفسه، قبل أكثر من أربعين عاما، واقفا أمام قبر جدته يرفع كفيه متمتما بالطريقة نفسها. لاحظ الرجل وجود نباتات سرخسية ذات أزهار نارية صغيرة نبتت علي القبر. مدت جذورها الشفافة إلي حيث ترقد أمه منذ سبع سنين.
لاحظ، كذلك، ان الكلمات المكتوبة علي الشاهدة الحجرية قد حالت قليلا، ولكنه استطاع أن يقرأ بسهولة هذه الكلمات: ضريح المرحومة بإذن الله فضة....
الشمس تقف، الآن، عمودية فوق القبر. شمس متسلطة ذكرته بالشمس المتسلطة التي عهدها، قديما، في هذه البلدة. سمع صوت رفيف جناحين. نظر إلي الطرف الشرقي من المقبرة فرأي طائرا جارحا في هيئة الانقضاض، وخلف السياج الحديدي المتهالك كانت هناك سحابة لولبية من الغبار تتطاول في السماء العارية مهددة بالاقتراب.

لاحظ أن الطفل، نظر، في الوقت الذي سمع فيه رفيف جناحي الطائر الجارح ورأي السحابة اللولبية من الغبار، في الاتجاه نفسه. قال الطفل للرجل: لازم نروح عمي. لم يجب الرجل. نظر إلي الشاهدة الحجرية وأعاد قراءة الكلمات المكتوبة بخط كوفي أسود حائل : قبر المرحومة... نظر إلي جوار القبر. كانت هناك قبور أخري بلا شواهد. بلا أشجار، سوي بعض الأعشاب البرية الذاوية. خطا الطفل ثلاث خطوات في اتجاه مدخل المقبرة حيث ظل الحارس المتلفع بكوفية حمراء كيفما اتفق واقفا ينظر إليهما، ففكر الرجل أن أمه عاشت سني زواجها الأربعين باسم عليا .كان هذا هو اسمها في الأوراق الرسمية القليلة التي يحتاجها المرء في هذه البلدة: عقد الزواج، البطاقة الشخصية، ثم شهادة الوفاة. فكرَّ أن الحيلة التي أقدم عليها والده لزيادة راتبه العسكري دينارين من خلال إبرامه عقد زواج مزيف من قريبة له تدعي عليا ، قبل أن يقترن بأمه، لم تنطل علي الموت.

فكرَّ بنفسه. إنه، هو، أيضا، يحمل اسمين: يحيي وأمجد. نظرحوله، كمن يفتش عن شخص آخر يشعر بوجوده ولكنه لا يراه، ثم استقر نظره في اتجاه الشرق، وقال بصوت سمعه الطفل الذي توقف عن المشي: من سيكتبُ اسمه علي الشاهدة الحجرية؟ أيُّ منا سيناديه الملكان بعد أن ينفض جمع المشيعين الصغير؟

القدس العربي
06/04/2007


إقرأ أيضاً:-