أمجد ناصر
(الأردن/لندن)

في شهادة سابقة لي تحدثت عن مروري، سريعاً، على أعداد لمجلة "شعر" ومنشوراتها كانت بحوزة شاعر أردني في مدينة الزرقاء التي شهدت تفتحي الواعي على القصيدة العربية من طورها الطللي الى مطالع الريادة، لكن ذلك المرور السريع، الذي ترك ألماً في فكي، ظل على ما يبدو، محاصراً بالتلازم الذي عرفه وعيي الشعري المبكر بين القصيدة والشأن العام، ولم تتحرك تلك الذكرى من موقعها الخلفي في الذاكرة، إلاّ في بيروت.
أنا من الأشخاص الذين يعتبرون وجودهم في بيروت تاريخاً فاصلاً في حياتهم على أكثر من صعيد، ولم استنفد، على ما يبدو، رغم الاستعادات المتكررة لتلك الفترة القصيرة من حياتي، المخزون الكامن فيها.
ففي بيروت حصلت على ما لم يكن ممكناً لي الحصول عليه في عمان. لم تكن مكتبات بيروت، فقط، تتوافر على كتب لم تصل إلى عمان، ولكنها كانت أيضاً مكاناً لم يتوقف فيه السجال، رغم الحرب، في الشعر والشعرية اللذين عرفتهما في أواخر الخمسينات.

هذا وجه من وجوه عبقرية المدينة التي لم تتمكن الحروب والاحتلالات والنزاعات الدامية والانقسامات الأهلية من اطفاء جذوتها أو الاستئثار بها أو مماثلتها بمحيطها العربي. كان الشعر، والسجال حوله، رغم حرب السنتين الطاحنة، على وشك أن يستأنف طورا جديدا تواصل نحو عقدين بعد ذلك وأمكنه أن يمتد الى عواصم عربية أخرى ويشبكها في صخبه. هل أعزو الخلخلة التي أصابت اقتناعاتي الشعرية في بيروت إلى ايماني الضعيف بهذه الاقتناعات؟ لا أستبعد ذلك، رغم اشارة أكثر من ناقد وشاعر، من بينهم عباس بيضون، إلى أنني "بدأت قوياً" في قصيدة الوزن. وليس بعيداً عن ملاحظة عباس، ذلك الأسى الذي أبداه محمود درويش، يوماً، عندما، علّق على "طوري النثري" قائلاً إنني لم تكن لي مشكلة مع الوزن! صحيح أنني واصلت، في بيروت، كتابة قصيدة الوزن، على خطى المعلم سعدي يوسف، إلاّ أن الخلخلة تواصلت، بوصفها امتداداً لهشاشة داخلية وشك مبرح، على نقيض من رآني "قوياً" في "الوزن" وواثقا في الكتابة.

كنت أقرأ، في وقت واحد، رواد "قصيدة النثر" والجيل اللاحق عليهم حيثما، وأينما، وقعت على أعمالهم، من دون أن يغيب عن ذهني، نهائيا، رأي الشاعر الأردني الذي أعطاني بعض أعمال شعراء "قصيدة النثر" في الزرقاء وقال لي، بما يشبه التحذير، إن هؤلاء يكتبون ما يسمونه شعراً بالنثر لأنهم لا يعرفون "الوزن"!

طبعاً، لم أكن قد قرأت في الأردن كتاب أنسي الحاج الأول "لن" الذي حمل أول مانيفستو يرسم خطاً فاصلاً بين "قصيدة الوزن" و"قصيدة النثر"، بل قرأت قصائد متفرقة له لاحقة على ذلك "المانيفستو".

لكن لِمَ كنت أقرأ أولئك الشعراء الذين لم يرموا مجذافاً في بحور الشعر العربي المتلاطمة؟

لا بدَّ أن هناك اغواءً جذَّاباً وسرَّياً يشبه التلصص على الغير من ثقب الباب أو، وهذا أقرب إلى الدقة، يشبه الخيانة، دفعني إلى ذلك. فهم، كانوا، في تلك اللحظة، على الجانب الآخر من خياراتي السياسية والفكرية والشعرية.
الإنحراف.

الخطأ.
الخيانة.

أحسب أن لهذه المفردات الثلاث، رغم احالاتها الأخلاقية، وجاهة في الخروج، المقصود أو غير المقصود، من المؤتلف إلى المختلف. وما مررت به سريعاً في الأردن من أعمال بعض شعراء "قصيدة النثر" مثل "حزن في ضوء القمر" لمحمد الماغوط وبعض القصائد المتفرقة لأنسي الحاج وأدونيس، أعدت قراءته في ضوء وعي ذاتي بالشعر العربي الحديث واتجاهاته، قفز، في بيروت، فراسخ إلى الأمام.

يلزم التذكير، هنا، بأنني لم آت إلى بيروت كشاعر أصلاً، بل، كمناضل سياسي فار من العواقب الوخيمة لما كان يخطط له، في الظلام، قادة تنظيمنا.

*****

هذا يعني أن الشعر ليس هو الذي جاء بي إلى بيروت، بل السياسة. غير أن ذلك ليس صحيحاً تماماً، أقصد أن الشعر ظل، حتى في أكثر تقمصاتي حدةً لدور الثائر، هو الدافع الغامض لكل خطوة وضعتها على الأرض، وهو المعنى الذي أبحث عنه ولا أصل إليه. عليَّ أن أرسم "سكتشاً" سريعاً، لبيروت في تلك اللحظة ليبدو ما أقوله أكثر وضوحاً: فاسم "بيروت"، آنذاك، لم يكن يحيل على مدينة واحدة على عكس كل العواصم العربية.

لم تنقسم عاصمة عربية وتتعدد مثلما انقسمت بيروت وتعددت، وتراكبت، طبقاً داخل طبق. كانت بيروت التي جئتها من مدينة تنتظر، بفارغ الصبر، صلاة العشاء لتخلد الى النوم، قد نشبت فيها مخالب الحرب الأهلية، فانقسمت بعد بدء الحرب شطرين متقابلين يفصل بينهما خط مرسوم بالدم يسمى "خط التماس": واحد شرقي والثاني غربي. في الأول تنوجد "القوى الانعزالية" وفي الثاني فصائل "المقاومة الفلسطينية" و"الحركة الوطنية اللبنانية". كنت منتميا سياسيا وايديولوجيا الى الشطر الغربي من بيروت. وشأن كثيرين غيري من القادمين الى بيروت ليزيدوا الانقسام حدة والتراكب طبقة جديدة، كان الشطر الغربي مكاني المادي والرمزي.

ولكن بيروت الغربية، بدورها، لم تكن مكانا واحدا، لا أقصد، فقط، الأحياء المختلفة بعضهاعن البعض، المتمترس فيها قبضايات وحالمون وحاملو سلاح، بل أيضاً، تعدد الطوائف، المواقف، والخطب في اطار وحدة متوهمة. فداخلها ستكون هناك أكثر من طبقة ومكان وانتماء وثقافة. يلزم القول، إذاً، بدقة أكبر، إنني جئت الى الفاكهاني في بيروت الغربية، فيما كادت منطقة الحمرا، التي لا تبعد ربع ساعة بالسرفيس عن الفاكهاني، أن تكون منطقة "مفتوحة"، لا يسيطر عليها "رمزيا" أي طرف من الأطراف، حتى وإن كانت واقعة، جغرافيا، في مناطق "المقاومة الفلسطينية" و"الحركة الوطنية اللبنانية"، أي في ما كان يسمى، بحسب مصطلحات تلك اللحظة: المناطق الوطنية.

ولكن ماذا يعني ذلك شعريا؟ ما علاقة الشعر بهذا الانقسام بين البيروتين (وداخل البيروت الواحدة) الذي رسمته السياسة بخطوط حادة ووقفت البندقية الروسية الشهيرة "كلاشنيكوف" حارسة حدوده؟

سأغامر بالقول، من دون تمحيص، إن ذلك الانقسام (أو التعدد) بدا لي انقساما، وتقابلا، بين "قصيدة الوزن" و"قصيدة النثر"! أو بين "القصيدة الوطنية" وتلك التي تناهضها، من دون أن تكون مناهضة، في الضرورة، للقوى التي تتبناها. فللشعر في بيروت أكثر من نشأة وأكثر من "ثقافة" نهل منها، فتعددها يتيح المجال لأكثر من فكرة عن القصيدة، أكثر من طريق، وربما أكثر من أصل ولسان.

أليس غريبا أن يكون الشعر منقسما، فنيا، وربما فكريا، على صورة انقسام المدينة؟
أفكر، الآن، هل كان الشعر في عمّان منقسما ومتعددا إلى شعر عمّان الشرقية (الفقيرة) وعمّان الغربية (التي كانت تمعن، بعيدا، بحجرها الأبيض الشاهق)؟
لا أظن أنه كان.

فالعاصمة الأردنية التي تنهض على تلال متقابلة يتوسطها السيل الذي جفَّ والأسواق القديمة، لم ينعكس انقسامها الديموغرافي تعددا في الخطاب الثقافي لأنه انقسام بلدي وربما اجتماعي وطبقي، غير أنه يظل في إطار "وحدة" العاصمة التي يتركز فيها قصر الحكم وشوكة الدولة الواحدة، ولم تكن هذه حال بيروت، المتعددة، المنقسمة منذ لا أدري. في عمان كانت السياسة والكتابة منخرطة في المجهود القومي للقضية الفلسطينية، وفي عملية اسقاط متواصلة، بحكم قسوة اللحظة العرفية، للجانب المتمرد في التراث العربي والاسلامي على الواقع، وبهذا المعنى، فقد كان خطابا يتعالى على التركيب الاجتماعي والطبقي للمدينة. إنه، أصلا، لا ينطلق من المدينة نفسها ولا يصب فيها. لم تكن هناك قصيدة عمّانية، ولا حتى أردنية، كانت قصيدة تهجو الوضع القائم من وراء قناع، أو تنخرط في اطار قصيدة وطنية أو قومية تتسيد اللحظة العربية بلا منازع.

شعريا، كانت القصيدة الأردنية، سواء انتجها شعراء من عمان الشرقية أو الغربية، من الشمال أو الجنوب، تتلفع بالكوفية الفلسطينية حينا أو ترتدي قناع الغفاري أو ثورة الزنج والقرامطة حينا آخر. لم تكن قصيدة سياسية، لأن القصيدة السياسية تستلهم، بصورة أو أخرى، واقعا ولحظة، أما "القصيدة الوطنية" فهي تنميط للتراث وتوحيد غنائي مشبوب للجماعة، حيث لا يتراءى فيها الأفراد إلاّ كالبنيان المرصوص، لا نزاعات بينهم، ولا شغور في زمنهم الملحمي الممتد، فيما يتشيطن "الآخر" وينمسخ خلقا زريا.

ولا أظن، استطراداً، أن قصيدة دمشق أو القاهرة انقسمت، على صورة انقسام المدينة، أكثر من قصيدة.

بيروت وحدها كان لها هذا الانقسام المتأصل في الطبع والنشأة حتى عندما لا تكون هناك حروب دامية. وعندما أستعيد، اليوم، أيامي في بيروت، بنوستالجيا معتقة، ترتسم صورة الفاكهاني، مكانا ورمزا، كمطرح لقصيدة الوزن، فيما تكاد تنفرد "الحمرا (وربما المنطقة الشرقية) بالقصيدة المضادة، "قصيدة النثر"، أو ما كان يحسب، في جدالات تلك اللحظة، أنه "قصيدة نثر" حاملة معها التباساتها الشعرية ومضمرة، بوعي أو من دون وعي، بذار رؤية للذات والآخر مختلفة، إن لم تكن متصادمة، مع المشروع الشعري للفاكهاني، بوصفه تمثيلا للحظة عربية، أوسع وأكثر امتدادا.

كنت في منطقة الطريق الجديدة ببيروت الغربية أقرب ما أكون إلى "مكاني الشعري" رغم أنني لم أصدر، تماماً، من أصوله الشعرية ذات النفس الغنائي الوطني، بينما كانت منطقة الحمرا تحتضن طلائع الجيل الثاني من "قصيدة النثر" اللبنانية وتؤسس لجيل ما بعد الريادة.

آنذاك، لم يكن في الفاكهاني، حسب علمي، من يكتب "قصيدة نثر" كـ"مشروع شعري"، وعندما بدأتُ بكتابتها، بدا ذلك، مستهجناً حتى من أقرب أصدقائي وأبعدهم عن التيار الشعري السائد في المساحة الفلسطينية مثل زكريا محمد.

هل أقول إن الأمر ظهر أقرب إلى "الخيانة" منه إلى شيء آخر؟

لا أجد كلمة أفضل من ذلك لوصف الشعور الذي أبداه أصدقائي الشعراء حيال مغادرتي أرضهم الى أرض أخرى، كأنني بذلك كنت أنشق عنهم وأنا بين ظهرانيهم، ولكن من يحفل بمغادرة شاعر ناشئ، لم ينظر إليه، في تنظيمه، إلاّ كـ"مناضل" مثل سائر المناضلين؟ لم يكن شعري، أصلا، معروفاً لهم ولا مطلوباً، فلو حدث أمر كهذا مع شاعر معروف لربما اختلف الأمر. كان لي اسم شخصي في عمان، اسم يحيل على مكان وعشيرة. في بيروت صار لي اسم آخر. أفليس سهلا على من يترك اسمه في بلده الأول أن يترك، كذلك، قصيدته هناك؟

أيكون تغيير الاسم تغييرا لـ"هوية" في الكتابة والحياة؟

لم أفكر بذلك على هذا النحو

* فصل من كتاب بعنوان "طريق الشعر والسفر" يصدر قريبا عن "دار رياض الريس" في بيروت.

النهار
21 نوفمبر 2008