شربل داغر له لغته وحيويته الطليعية، وله جهده البحثي بعينه، كما في عصب البحث عن جديد، وتطبيقات أفكار لها مساحاتها الرحبة.
جديد داغر كتاب "العين واللوحة"، (صادر عن المركز الثقافي العربي) حيث يكتب باحثاً في أحوال اللوحة وتواريخها ومحترفاتها بين الدرس التاريخي والتحليل الفني.
اللوحة المسندية، وما حولها وأمكنة إنتاجها في البحث الرحب الذي يفتح على الرسم والمنظر والتاريخ والأفكار، في التقاطات دارسة عميقة ولمّاعة، وفي جهد له عرفه الخاص الذي لا يشبه سواه.
هذا الدرس ينطلق من النطاق العثماني، ثم النطاق الاستعماري، بلوغاً إلى عهود "الاستقلالات" العربية، متوقفاً عند السيرورات التي قضت بقبول "ثقافة الصورة"، بإنتاجاتها المختلفة، في أمكنة اجتماعية بعينها، قبل انتشارها في العلانية، ووفق وتائر متباينة.
يستعرض الكتاب دورة "توطن" اللوحة، بل الثقافة الفنية، بتقنياتها ووسائل ذيوعها واقتنائها وحفظها والنقاش حولها. وهو "توطن" يعني تاريخياً وفنياً خارج الفنون المحلية والمتوارثة، وفي أوساط مهنية أخرى، ما جعل البداية أشبه بالقطيعة.
يتوقف شربل داغر عند علامات اللوحة، في بنائها الفني، وفي سياق تجاربها، وأساليبها، وجماعاتها، وتمايز فنانيها، ويكمن سؤاله البحثي في معاينة مصير اللوحة التي باتت تهددها وتعلن موتها تجارب فنية عربية حالية.
هل انتهت اللوحة المسندية؟ إشكالية البحث التي يتحقق منها الدرس في أوراق الكتاب، ذلك أن اللوحة المسندية بلغت البيئات العربية كلها، وتوطّنت في البيت مثل المدرسة، وفي الشارع مثل شاشة التلفزيون، وفي القيمة المالية مثل الاعتقادية. إلا أن هذا البلوغ والتوطّن تعيّنا في ظروف وسياقات، ما استولد اللوحة بوصفها "بداية" لجديد فني، وقطيعة مع أعمال الفن المحلية، وهو ما استولد تباينات بين بلد وآخر بفعل المرغوبات والمسموحات والممنوعات فيها. فما تتيحة جامعة في بيروت من دروس نظامية ("العاري"، على سبيل المثال، باتت تمنعه في العقود الأخيرة أكاديمية فنية في القاهرة، وهو ممتنع أساساً في الخليج. وما تستسيغه سياسات المختارات والاقتناء والعرض في فنادق الدار البيضاء ومراكش والرباط وغيرها (لأعمال أحمد بنيسف ذات التوقيعات الأكاديمية والاستشرافية على سبيل المثال).
المتابعة
رسوخ الفن التشكيلي يحتاج إلى تتبع متأن، وتاريخ فريد، وفهم لعملياته ووتائرها، في سياقات وظروف متغيرة، لا يسلم فيها الفن من التأكد كما في التحوّل، في آن. ذلك أن متابعة أحوال التشكيل العربي، على مدى المئة سنة الأخيرة، تظهر انقضاء أساليب وأنماط فنية معينة وانبثاق أساليب وأنواع أخرى في تفاعل مع محترفات عديدة في العالم.
ثم أن اللوحة محل تملك مختلف ومتغيّر، أي محل إعادة إنتاج بمعنى ما. فلا تتعيّن اللوحة من دون حداثتها، من جهة، ولا من جهة محليتها أيضاً. باختصار العملية التاريخية لو طلب الدارس إطلاق صفة غالبة على اللوحة لوجد أنها قلما كانت مرآة لفنانها أو لما يريد نقله فوق صفحتها. ولهذا صلة بما أصاب مشهد الفن في العالم منذ منتصف القرن العشرين، أي جنوحِه إلى خارج المنظور التمثيلي لصالح المنظور التجريدي أو التقديمي كما يسميه بول كلي.
يرى شربل داغر أن عالم الفن يعيش أزمة بين فنانين وعاملين في أجهزة عرض وتسويق وبيع وحفظ ونقاد وفلاسفة فن وغيرهم. وتتعيّن هذه الأزمة في إعلان "موت" اللوحة المسنديّة، و"موت" صيغتها أي "فن الصالون" أو "الفن الصالوني". لعلها وقائع موت متأخر. لكن لها أسبابها القريبة انطلاقاً من وقائع الفن في العقد الأخير، أو منذ انهيار الواقعية الاشتراكية ووقائع "البينالات" الدولية في البندقية أو الدوكيمنتا أو القاهرة أو الشارقة، يلاحظ أن البينالات هذه باتت تقصر عروضها ودعوات الفنانين إليها على التجريبيين منهم، أي الخارجين على منطق اللوحة.
هذا يصح أيضاً في ندوات النقد في أعمال مهدي مطشر (العراق) وناصر السومي (فلسطين)، وفيصل السمرة (السعودية)، وحسن الشريف (الإمارات) وجلال توفيق (لبنان) وغيرهم الكثير من فناني التنصيبات والفيديو آرت.
دارس اللوحة أي المسندية الصادرة عن المحترفات العربية، لن يجد في كتاب شربل داغر متحفاً جامعاً لهذا الفن، فيزور في قاعاته عهود هذا الفن وأساليبه وفنانيه. بعض المتاحف وبعض من المجموعات من غير صفة تمثيلية.
واحد من هذه المتاحف هو من العالم العربي في باريس، وآخر هو المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة، بما لا يلبي حاجات التمثيل الشامل للفن العربي الحديث.
223 فناناً
في الأول كتاب يقتصر على عمل واحد لكل فنان، في صورة أبجدية متتابعة، من دون تصنيف وطني أو أسلوبي، أو حسب الموضوعات. أما مجموعة المتحف الأردني فتشتمل على تمثيل أوسع لـ223 فناناً في عداد المجموعة الدائمة وتواكب عهود الفن العربي المختلفة منذ أعمال الرواد مع راغب عياد وصليبا الدويهي وعطا صبري وحافظ الدروبي وجواد سليم وغيرهم، مروراً بفنانين من مواليد العشرينات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، وصولاً إلى فنانين من الستينات والسبعينيات.
قد يمكن القول بأن مقتنيات بعض المجموعات الخاصة في العالم العربي قد توفر تمثيلاً أوسع عن الفن العربي (مجموعة الشيخ حسن بن محمد بن علي آل ثاني وعادل قنديل).
يتوقف شربل داغر عند معرض "مئة عام في التشكيل العربي" في العام 2000، والوقوف على شيء من تمثيلية هذه المجموعة.
هذا يصح في لبنان، حيث أن المعرض قدم أعمالاً ترقى إلى فنانيه الرواد، من أمثال داوود القرم، وجبران خليل جبران، وعمر الأنسي وحبيب سرور ورشيد وهبي ومصطفى فروخ وقيصر الجميل وغيرهم. وهذا يصح في تمثيل عدد من فناني مصر مثل راغب عياد وجورج صباغ وحامد ندا، ويوسف كامل، والملكة فريدة، ومحمود سعيد، ومع فنانين عراقيين، عبدالقادر الرسام وزيد محمد صالح، وفائق حسن، وحافظ الدروبي، وعطا صبري وجواد سليم ومحمد صالح وغيرهم.
وهذا يصح في فنانين سوريين مثل توفيق طارق، وعبدالوهاب أبو السعود، وسعيد تحسين، ومن الجزائر: محمد راسم وعبد الحليم همش، ومن تونس: عمار فرحات ويحيى التركي، ومن المغرب: محمد المليحي ومحمد السرغيني، ومن السودان: ابراهيم العلمي وأحمد شبرين، ومن الكويت:
خليفة القطان، ومن البحرين: عبدالله المحرقي.
ويتوقف المؤلف أيضاً عند أقدم المتاحف وهو "متحف الفن المصري الحديث" (584 عملاً لفنانين مصريين ومستوطنين أوروبيين) ويبلغ حالياً مجموع مقتنيات الدولة المصرية ما يزيد على 13 ألف عمل (على ما يؤكد أحمد نوار).
غير أن استعراض واقع المتاحف لا يغيب عن الدارس وجود مجموعات عديدة عند مؤسسات ثقافية واقتصادية.
هل الفن التشكيلي العربي إختصاص أوروبي؟
لهذا المذهب مبرراته لدى الباحث إذ أن الموظفين الاستعماريين على اختلاف جنسياتهم كان عليهم أن يعرضوا "البلديين" لا سيما لنخبهم السياسية والثقافية والفنية مشروعات سيطرتهم على الولايات العربية المختلفة (تقاسم المجال العثماني)، إذا وجدت العودة إلى المجال العثماني لتفسير مشروعات الاستعمار وإدخال البيئات العربية في الفن حسب الطريقة الأوروبية ومع أن العودة صعبة، لكن شربل داغر يدخلها في أوراق ليس زائراً بل في استرسال ملموم بتميز .يحل في واقعها الاجتماعي متعمقاً في المذاهب والمرجعيات والنظريات في كتاب التاريخ الفني العربي ابتداء من تاريخ الدول العربية نفسها، ومن تاريخ الفنانين العرب أنفسهم.
يقوم الكتاب في خطته التأليفية على عدة أقسام:
- التحقق من وجود اللوحة المسندية العربية في متاحف ومجموعات (معاينة القصر العثماني، والكنيسة العربية).
- معاينة تاريخية وتمثيلية لانتاجات الفن: مرآة ونافذة في آن.
- الخارج الاجتماعي، بإنتاجاته وقيمه وأساليب عيشه.
ويعالج الكتاب دور اللوحة المسندية أي ظهورها أو امتناعها أو تركزها لا سيما في دور الأغنياء "المتأوربين" من المحليين، والاستهداف الاستعماري للولايات العربية، وقيم الفن وأساليب العيش والظهور الاجتماعي وعلامات الفن. ويبلغ الكتاب حركته الأوسع في البحث عن "توطن" اللوحة المسندية ولواحقها ومتعلقاتها، وانتشارها بعد الحرب العالمية الثانية، ما بين بدايات جديدة لهذه اللوحة، وفي سياقات مختلفة في بلدان الخليج العربي.
مسار تأليفي له ما قبله ما ينيف على عشرين سنة، وقضى بجمع المعلومات وبفحصها، والتمعن في فهم مضامينها في غير بلد عربي، وزيارات دراسية في عدد من القصور والمتاحف والمحترفات، ولقاءات حوارية مع فنانين مختلفين.
فائق حسن، وصليبا الدويهي، ومحمد المليحي وغيرهم. ومصادر ومراجع ملفات أخرى، كما في تركيا وفرنسا وإيطاليا.
تعريفات
- المحترف: مجاز التصوير المسندي الذي يعني انتاجاً فنياً، تشكيلياً من جهة وطريقه في إعداد الإنتاج من جهة ثانية، المحترف ومجاز العالم وهو ما بلغ مع دييغو فلاسكيز حداً، أعلى وقد تكون أول لوحة معروفة عن الفنان ومحترفه حصراً هي لوحة الفنان ليان فيرمير.
- اللوحة المتنقلة، وقد يكون المصور الايطالي جورجيو دا ستلغرنكو (1477 ـ 1510)، الأول في ابتداع اللوحة القماشية الزيتية.
والمقصود هنا مرحلة جديدة من انصراف اللوحة عن غرضها الديني إلى غرضها المدني، ومن غرضها الأميري إلى غرضها البعثي، بل الصالوني.
ـ لوحة عالمية: وواحد من اهتمامات البحث تحديداً هو كيف بلغت هذه اللوحة البيئات العربية المختلفة؟ وكيف توطنت فيها؟ وهو سؤال في مدى الكتاب، والمعلوم أن تاريخ انتشار اللوحة الزيتية خارج أوروبا لم يكتب بعد، إلا أنه يمكن الوقوف عند تجارب، بل علامات دالة على هذا التاريخ (في الهند والصين وبلدان آسيوية).
في الكتاب فصل من القصر العثماني ("قصر طولمه باغجة" في استانبول، والقصر هو مرآة السلطان ويتتبع فيه بعض التصوير العثماني في عهد السلطان محمد الثاني... وكيف انتهى البلاط العثماني إلى أن يكون، قبل القرن التاسع عشر، قريباً من البلاط الأوروبي.
فصل آخر، "بين الأيقونة واللوحة" والمفارقة هي في الصورة القبطية وهي الأخيرة في مسلسل التعرف على التراث المسيحي الشرقي القديم، فيما تمثل أقدم التجارب من دون شك.
لجهة الأيقونة الأقدم يزعم الباحث أن "معظم الأيقونات التي يرجع تاريخها إلى ما قبل زمن تحطيم الأيقونات قد تم العثور عليها في مصر أو ظلت محفوظة بدير سانت كاترين الأرثوذكسي اليوناني بسيناء".
بقي التصوير، وفق النمط الأوروبي، أسير القصر العثماني طوال قرون قبل أن ينتهي إلى خارجه، سواء في تركيا أو الولايات العربية. هذه اللغة العلانية يستعملها جيرار دونرفال في حديثه عن الفن العثماني (استانبول والقاهرة، وصور بيوت العائدين من الحج).
بناء الكليات
إن سياسات بناء الكليات والمعاهد سبقها ورافقها في غير بلد عربي، سياقات أخرى قامت على الايفاد الدراسي إلى الأكاديميات والمعاهد الفنية الأوروبية، أوائل المبعوثين السوريين عادوا في العام 1938 وهم: محمود جلال، وصلاح الناشف، وسهيل الأحدب، ورشاد العقيباني ونصير شورى، وناظم الجعفري وشريف أروفلي. وتوفيق طارق وميشال كرشه، وفاتح المدرس وأدهم إسماعيل، ومحمود حماد، وممدوح منشلان، ولؤي كيالي وسامي برهان.
الكتاب يتناول ليس فقط معلومات بل تقديم وتشريح لأساليب اللوحة والترميز والأخبار والاستشراق وبين شكل ومضمون وتحوير وممانعة، إلى عائد اللوحة والى الخاتمة الإشكالية: هل ماتت اللوحة أو هل انتهت اللوحة المسندية، وهل وصلت اللوحة العربية إلى العالمية، أم الأخيرة هي التي وصلت إليها؟
اقتضى تأليف مادة الكتاب عملاً متمادياً لسنوات ولسنوات في غير موقع وفكرة ومع أكثر من جهة، وفي أكثر من مدينة وموقع ومكان مع سعة اطلاع وخبرة حرفية واسعة بغير لغة، ما ساهم في عمل توثيقي واسع مدقق للفن العربي الحديث، والمتتبع لفصول الكتاب وأوراقه يدرك الكثير من خطوط البحث العريضة.
لشربل داغر مصطلحات متصلة بالمادة وبمراحلها وانطلاقاتها منذ البدايات.
ليس هناك رهان على عناصر التجدد، لا على العالمية ولا على الموروث في التراكمات التي تبلورت في مفاهيم ومدارس ومذاهب واتجاهات.
المهم في الكتاب استعراض شامل للاتجاهات التي برزت في مستويات مختلفة ومتباينة في كل قسماتها وفي مراحلها الشاملة. والهوية الفنية لا يمكن أن تفهم إلا في سياقاتها التاريخية والاجتماعية والواقعية السياسية فهماً ليس متحفياً فقط يستودع فيه الموروث وليس في أنساق ثابتة إلى الأبد.
الخوف على اللوحة مشروع وموجود اليوم عالمياً وفي أوروبا تحديداً، وأصلاً في العالم العربي هناك خوف من الخوف فيما يؤشر إلى عالم ومنطق جديد بين العين واللوحة، العين و الصورة في النظرات المتحولة بعد كل الريادات التي تحققت، وارتقت فكراً وفناً.
المستقبل
الخميس 12 تشرين الأول 2006
أقرأ أيضاً: