تمرّد على التقاليد وأزال الحدود بين الديكور والتصوير

يقظان التقي

غوستاف كليمنتغوستاف كليمنت

بعد الاحتفاء بموسيقى موتسارت بشتى الوسائط السمعية والبصرية، ها هي فيينا، العاصمة النمسوية تكرم عملاقها الآخر غوستاف كليمنت (1862 - 1918) في ذكرى ميلاده المئة والخمسين وذلك بتخصيص العام الحالي 2012 لإحياء الذكرى على مساحة عشرة متاحف رئيسية في المدينة.
الاحتفالية منجزة تتناول رسومه ووثائق سيرته الشخصية والفنية في فيينا وعلى مساحة النمسا وخارجها في أوروبا خلال أسفاره بين باريس وأمستردام.
أفيشات وملصقات وذكريات ولوحات في أكثر من معرض سواء في متحف ليوبولد، أحد المعارض البانورامية تحت عنوان "غوستاف كليمنت والسفر في الأزمان"، أو المعرض الرئيسي الذي شمل أكبر مجموعة فنية في متحف فيينا المركزي (كونستورشي) وإلى أيار المقبل.
أما متحف "البرتينا" فتخصص في جميع رسومه وتخطيطاته تحت عنوان "كليمنت الرسم" وإلى نهاية حزيران المقبل.
وثائق سيرته الحياتية والفنية بما يرمز إليه كليمنت من الثراء القومي الفني النمسوي ورمزاً للحداثة في امبراطورية هابزبورغ وحيث كان فنانها الرسمي والمرتبط ببلاطها مباشرة، وقد زين أغلب قصورها رائداً في الفنون الزخرفية وفي تعهدات الديكور الاستثنائية للقصور والمسارح والأزياء (ستيل) ما منحه كمادة عامة تلك الشهرة التعبيرية الزخرفية والوجدانية.
800 عمل فني لكليمنت تعرض هذا العام ولعل أشهرها لوحة "القبلة" التي تتمتع بشهرة الموناليزا في اللور.
تعتبر لوحة "القبلة" من أشهر الأعمال الفنية العالمية التي أنجزت في القرن العشرين، وكثير من النقاد الفنيين يصنّفونها ضمن أفضل خمس لوحات في تاريخ الفن التشكيلي العالمي! وقد أصبحت هذه اللوحة رمزاً للأمل ومرادفاً للجمال الأنثوي والانجذاب العاطفي بين الجنسين.
وفي "القبلة" كما في أعمال كليمنت الأخرى استخدام لافت للألوان الداكنة والخلفيات الذهبية والخطوط الزخرفية والعناصر الايروتيكية. وكان لها تأثير بالغ على الحياة الثقافية في عصر كليمنت.
وإلى لوحة "القبلة" توجد أعماله الأخرى. وقد اشتغل كليمنت في بدايات حياته الفنية بالديكور والزخرفة وتعلّم مهارات الحفر والنقش متتلمذاً على يد والده.

غوستاف كليمنتغوستاف كليمنت

 

الفضي والذهبي
ملمح ثابت في أعماله كافة يتمثل في غلبة اللونين الفضي والذهبي وتركيزه في تأليفاته على زحمة التفاصيل الزخرفية لشدة افتتانه بالموزاييك البيزنطي الذي اكتشفه في ضواحي فيينا والريف الايطالي. وقد تمرد كليمنت على القواعد والأساليب التقليدية في عصره وكان ميالاً الى أساليب الفن الحديث..
أعمال غوستاف كليمنت تغطي مروحة من المواضيع من ثراء الطبقة البرجوازية في فيينا الى القصص الأسطورية والايحاءات الايروتيكية والفسيفساء البيزنطية ومروراً بجمال الطبيعة، وإلى الموضوع الرئيسي في أعماله جسد الأنثى وبتلك الاثارات الجنسية الصريحة وأشبه بالاسكتشات (بواسطة الأقدام) وذلك العريّ الواعي والعالي والذي ينسجم مع مبادئ حركة الانفصال الفنية والتي تمحورت حول فكرة إعلان الحقيقة والجرأة وكسر حواجز الخجل السلبي. ثم هناك تعهداته الهندسية (ديكور) ومنها مشروع تزيين المتحف الفني الامبراطوري (1980)، الأمر الذي رسخ ارتباطه باللوحة والتصوير، وتلك التوليفة بين الديكور والتصوير ولائحة الألوان وتلك الحساسية الكبيرة متأثراً بأستاذه ماكار وبألوان تيسيان وروبينز وبفنون المتحدرين من اسبانيا وبالفنون الآسيوية والطوبوغرافيا الفراغية.
فنان أزال الحدود مرة واحدة بين التصوير والديكور وارتبط عاطفياً بالتجريد والموسيقى بتوليفة صور فيها بطريقة رمزية صراعات القدر بين الموت والحياة ومعالم الأجساد الملائكية العارية (النسوة والرياضي الأقرب الى الراقصين) وتلك الزخرفية والديكوراتية في الخطوط الحسية التي ترسم كاتدرائيات لأجساد بشرية أو احتدام أصوات بوليفونية روحية جامعاً في شخصيته الرسام والموسيقي والطبيب!

... روحه
روح كليمنت تعم فيينا في أكثر من 400 قصر وكنيسة باروكية، هي التي تحدد كلياً معالم فيينا، معالم البولفار البرجوازي العريض بما يشمل من مناطق صناعية ومبان شاهقة وبيوت الفنانين ودار الأوبرا والمتاحف وكنائس وكاتدرائيات، تلك الإمبراطورية الضخمة التي مثلت عصر الأنوار الجديد بكثافة سكانية بلغت حينها 50 مليون نسمة.
اليوم فيينا لا تعد أكثر من 1,7 مليون نسمة ومع ذلك تحتفظ بسحرها التاريخي الجميل.
في سنة 1880 اتخذ كليمنت تسمية الرسام، ومهندس الديكور، وأنجز العديد من ديكورات المباني والمتاحف. وفي سنة 1890 ابتعد عن الكلاسيكية وأخذ يهتم بالمواضيع اليومية، وصار يصور تعبيرياً حياة الإنسان العادي وبأشكالها كافة، أحزانها، أفراحها، الولادة، الموت والحب والجنس بطريقة رمزية حسية شهوانية، بمفردات تعبيرية قوية تسحر وتطرب القلوب.
وقد كانت المرأة أهم عناصر لوحاته، وخرج بها من الأطر الكلاسيكية والتقليدية والصارمة الى أشكال صريحة أكانت حادة الوضوح أو مبهمة.
كان كليمنت منجذباً بقوة نحو النساء، وكان يستخدم "بغايا" كموديلات للوحاته. وكثير من رسومه اعتبرت في عصره، حسية جريئة جداً تتحدى الأعراف والتقاليد السائدة.

... والسياسة
وبالإضافة الى الرسم عمل كليمنت في السياسة. وكان مدافعاً عن الفنانين الشباب الذين كان يشجعهم على الثورة على الأساليب الفنية المحافظة في ذلك الوقت. وكان واحداً من مؤسسي جمعية الفنانين النمسويين. كما أنشأ مجلة جمعت الآلاف من الفنانين الشباب من مختلف أنحاء العالم وحرص على نشر أعمالهم الثورية والتجديدية متجاوزاً المفاهيم الأكاديمية الصادقة، ولكن متعمقاً في آن في التراث النمسوي وعصر الباروك في الخطوط وانتماءاتها والألوان وخلفياتها.
هذه الحياة الحسية الصاخبة لم تعمر طويلاً. عام 1918 أصيب كليمنت بجلطة مفاجئة شلّت حركته ليرحل في عمر الخامسة والخمسين عاماً فقط.
هو أكثر من فنان، هو مدينة كاملة، لا ينفصل عنها، عن متاحفها وكاتدرائياتها وكنائسها وقصورها ونسائها ومن حيواتها الحسية في حدي الموت والحياة عنوان لوحته الشهيرة أيضاً "La mort et la vie" (1915 1920) والمعروضة اليوم في متحف ليوبولد.
أنى ذهبت العام 2012 في فيينا ثمة أشياء كثيرة تذكرك بمرور فنان كبير في المكان، حتى القهاوي التي مرّ عليها في العام 1900 وجلس فيها ساعات وقرأ جرائده، والشوارع حيث تمر العربات أمام القصر الجمهوري النمسوي، وحتى الباتيسيري وفي الشوارع الشعبية حيث المسارح وبين كل تلك الآثار التاريخية التي بُنيت في عهد فرانسوا جوزف، ثمة آثار لكليمنت تمشي في هواء المكان.

المستقبل
30-3-2012