حاورها في باريس
عدنان أحمد
ثمة أسرار غامضة, مرواغة, في قصائد الشاعرة السورية عائشة أرناؤوط, لا تمنح نفسها دفعة واحدة إلى القارئ, فقصائدها لا تحتفي باللغة الأدبية المجنحة فحسب, و إنما تمتد بشكل عفوي إلى القاموس العلمي الذي استطاعت أن تروضه طوال أربعين عاما من السقوط في فخ الغواية الإبداعية الجميلة, عائشة أرناؤوط لها قاموسها الخاص الذي يؤول نفسه بنفسه من خلال السياقات والبنى الدلالية الجديدة التي ابتكرتها خلال تجربتها الشعرية الطويلة, لقد كتبت الشاعرة أرناؤوط ثلاث عشرة مجموعة شعرية, نشرت منها خمس مجموعات باللغة العربية, ومجموعتين باللغة الفرنسية ولا تزال في أدراجها المقفلة ست مجموعات شعرية ورواية مخطوطة تنتظر النور, وللإحاطة بظروفها الإبداعية والحياتية التقاها بيان الثقافة في باريس وكان هذا الحوار.
* إلى أي حد يصل بك القلق أثناء مرحلة الإرهاصات التي تسبق كتابة القصيدة؟ وهل تشعرين بنوع من التوازن الروحي بعد الانتهاء من كتابة النص الشعري؟
ـ كان القلق مرتبطا بشكل عضوي بهاجس الكتابة لدي اذكر أنني كتبت عام 1966 ـ 1967 مجموعة (هذيانات شخصية) التي احبها تحت سطوة قلق في الوجود وصل إلى حد يلامس الجنون تحت وطأة غربة داخلية تفترسني, كان مروري بذلك كان ضروريا لأنه دفعني إلى إيجاد مرتكزات أساسية استطاعت أن تسندني فيما بعد, مررت بعدة حالات شعرية, إلا انه لم يكن لدي منعطفات مفاجئة وحاسمة في كتابتي لم تكن هناك قطيعة جذرية بين ما كتبته سابقا وما اكتبه الآن خذ مثلا ما كتبته عام 1966: قال لي حلم قديم:
خذي عظامك واذهبي
ولادة ثانية تنتظرك
لم آخذ عظامي.. لم أخذ شيئا
تركت جلدي
تركت العطر والخلايا ونكهة الهيولا
أريد ولادة جسد
أريد ولادة جوهر.
وفي مجموعة (من الرماد إلى الرماد عام 1992 تجد:
(منهوبة الروح والأفكار والخلايا ,
استأصل أخاديد البصمة,
أتاجر بموتي المقطر,
أشعل النار في الأدمة,
كي أولد من نقيضي.
قضية الولادة الصافية,
الحرة, المختارة)
تؤرقني دائما على ما يبدو, وهواجسي الأخرى متجانسة في البعد المحرك لكتابتي, مجموعة (الحريق) كتبتها عام 1967 ـ 1977 ونشرت عام 1981 كانت تحمل بعنف موقفي من الحرب اللبنانية ورؤيتي للأحداث ضمن موشور الهم الجمعي, وكذلك مجموعة (الفراشة تكتشف النار) التي كتبتها ما بين عامي 1979ــ 1982 في بداية مرحلة استقراري في باريس, إلا أنني شيئا فشيئا, ومع تقدم الزمن, بدأت بالعودة إلى الهاجس الضبابي الذي يسكنني ويخبرني أن الوقت قد حان لمحاولة تلمس انتمائي وعلاقة مساري كوجود في حركة الكون: أتساءل أحيانا: أين أنا من وضع العالم الحالي, من الحروب والمجاعات ومظاهر الاستبعاد الحديث والمبرمج؟ لقد وصل العالم إلى الحدود القصوى من الاستفزاز واللامعقولية بشكل يدفعني إلى الخجل من انتمائي إليه, و أدرك ما وصلنا إليه نحن كأفراد من عجز شبه مطلق.
* اغلب الشعراء يروجون لكتاباتهم, ويتفننون لتسويق نتاجاتهم, بينما تقف عائشة أرناؤوط في الضفة المقابلة وحيدة عزلاء, لا تكترث حتى بالإفصاح عن شخصيتها الشعرية, لماذا تظلمين الشاعرة في داخلك؟
ـ سؤالك جعلني أتذكر حادثة قديمة جدا, كنت في الثامنة من عمري وكان أولاد حارتنا (الصبية بالتحديد) في أيام العطل يقومون بعمل (البسطة) حيث يبيعون سكاكر وحلويات يصفونها على طاولات صغيرة أو صناديق خشبية أمام أبواب بيوتهم, ألححت على أمي بأني أريد أن أبيع مثلهم وأمام إصراري الطفولي اشترت لي أمي كمية من ألواح الشيكولاته والسكاكر والحمص المشوي, وضعت كل ذلك بأناقة على طاولة صغيرة منخفضة جانب باب بيتنا ووقفت أمامها لأبيع بضاعتي توافد أولاد الحارة, وكنت اعرفهم كلهم, كل منهم كان ينظر إلى البضاعة بحسرة ويقول: احب هذا النوع ولكن ليس معي نقود لشرائه وأمام تيقني من صدقه ما كان مني إلا أن أعطيه ما يريد دون مقابل, بعد ساعات عدت إلى المنزل ومعي ليرة واحدة على ما اعتقد, بينما كان الموضوع قد كلف أمي عشر ليرات تقريبا, ضحكت أمي آنذاك قائلة أنني لن أكون في أي يوم من الأيام موهوبة في هذا المجال هكذا يا عزيزي لا أظن أنني موهوبة بالتنسيق لإنتاجي, ولكنني لا اعتبر هذا ظلما للشاعرة فيّ.
في الواقع الخصوصية الحميمة في أثناء الكتابة هي التي تأسرني أما العمليات التي تلي ذلك فهي جد خارجية نائية عن صميم التجربة الجوانية, ولا أرى في أي استعداد أو جاهزية لان انغمس في هلام المجاملات والترويج, نعم, كما تقول بأنني عندما أتعرف مثلا على أحد مالا اذكر له مباشرة أنني اكتب المهم في البداية هو مستوى التعامل الإنساني, هذا هو التواصل الذي يتم في الحضور, الحضور في اللحظة, تعريفه بأنني اكتب يتم بعد ذلك عندما اشعر أن هناك استعدادا عند الآخر للولوج في الموضوع واهتماما به.
* صدرت لك مؤخرا مجموعة شعرية باللغة الفرنسية, ما أهمية هذا الإصدار بلغة أخرى إذا كانت الكتابة بالنسبة إليك متشابهة في كلتا اللغتين؟
ـ صدور مجموعتي (ماء ورماد) مؤخرا باللغة الفرنسية عن دار نشر (لوبلي) تتمثل في أنني أزحت وجودها من حياتي أنني حررتها وصار لها وجود خارجي منفصل عني, و أود أن انوه هنا إلى أنني قبل كل شيء كاتبة بالعربية, فهي لغتي الأم البيولوجية بينما الفرنسية هي أم بالتبني, والكتابة باللغة الفرنسية تولدت لدي نتيجة الفترة التي عشتها في باريس (نصف عمري تقريبا ) واعتقد أن اللغة مرتبطة عضويا بالواقع المعاش أيضا , طبعا لا احدد على الإطلاق اللغة التي سأكتب بها, القصيدة تختار لغتها, إلا أن المناخ في اللغتين واحد, والشكل كذلك على ما اعتقد (فأنا لا أتغير كوجود بتغير اللغة). ورغم هذا فأنا غير قادر على الإطلاق أن أترجم قصائدي من لغة إلى أخرى, لأن روحية التعبير بلغة ما تفقد توجهها باللغة الأخرى, يمكن أن أقول أن ما اكتبه يشكل خطين لوبيين متوازيين لا يلتقيان إلا انهما مشتركان في المصير كما هما مشتركان في الرحم.
* أنت من جيل الستينيات, هذا الجيل الذي تعرض إلى الكثير من النكسات والخيبات ولكنه مازال مصرا على التحدي ومواصلة الكتابة كيف تقيمين تجربة هذا الجيل؟
ـ تجارب الحداثة التي بدأت قبل الستينيات, أخذت تتبلور, حركة النشر والترجمة التي ازدهرت كان لها اثر في تعميق الوعي الأدبي, ولكن الأمر لم يكن مقتصرا فقد كانت هناك حاجة جوهرية للتغيير كان السجال آنذاك على اشده بين مؤيديي الحداثة ورافضيها تمسك التقليديون بالجانب الشكلاني, بينما تموضع الآخرون على محور القطبية الحية للمضمون والشكل معا, حيث تتوحد هذه الثنائية كفيض في صميم الكتابة, كان جيل الستينيات طافحا بالأمل في التغيير أدبيا وحياتيا واجتماعيا, كان لديه يقين لا يتزعزع في إمكانية تغيير العالم, وكان هذا موقفا طوباويا اغلب ما كتب خلال هذه الفترة كان صادرا من الأحشاء محموما بالرؤى طامحا إلى التخريب بهدف الإبهار, متوازيا مع تشرد الروح ووضوح الأفق.
هكذا بدأ الشعر يتنفس في مناخ صحي ويبحث لنفسه عن آفاق حية, تواكبه حركة الأشكال الإبداعية الأخرى, فجأة بدأ كل شيء بالانهيار مع النكسة, تكلست الآمال, انسحب الأفق من مكانه تاركا فراغا مرعبا, تماهى الذاتي بالجمعي بشكل ملتبس, تلاشت الرؤى وهذا ما أدى إلى إعادة النظر في كثير من الأمور الجوهرية حياتيا, هناك من انتحر, وهناك من انطوى على جراحه المفتوحة متكورا في وضع الجنين, وهناك من استمر بجلد باحثا عن آفاق بديلة فقد توجت أرواحنا باللايقين, ولم نعرف وقتها إن كان ذلك فاتحة لنكسات أخرى وبالتالي خيبات متتالية.@
سيرة : من مواليد دمشق سوريا عام 1946
صدرت لها الدواوين التالية : الحريق على غمد ورقة تسقط الفراشة تكتشف النار الوطن المحرم من الرماد إلى الرماد مشروع قصيدة - بالفرنسية ماء ورماد - بالفرنسية
لديها ست مجموعات شعرية ورواية مخطوطة تقيم في باريس منذ عام 1978 |
البيان الثقافي - الأحد30 ذو الحجة 1421هـ 25 مارس 2001 -العدد63
إقرأ أيضاً: