التفاعل بين الإنسان والآلة في الترجمة الحاسوبية

سلمان داود الواسطي
كلية الآداب ـ الجامعة المستنصرية

التفاعل بين الإنسان والآلة في الترجمة الحاسوبية 1. الإنسانُ مُترَجِماً
سأجعل من مقطع ورد في بحث لي حول "ترجمة النص الشعري" مدخلاً لدراستي هذه حول "التفاعل بين الإنسان والآلة في الترجمة الحاسوبية"، ذلك لأن في هذا المقطع تحليلاً لطبيعة الترجمة عموماً، أظن أنه ما يزال صالحاً كتمهيد للموضوع. قلت في المقطع:

الظاهرة الترجمية وليد شرعي للظاهرة اللغوية لدى البشر؛ فما أن تفرّق البشر، شعوباً وقبائل"، وتطورّت لديهم الظاهرة اللغوية ألسُناً مختلفة حتـى برزت الحاجة إلى الترجمة لتحقق بين الناطقين بلغات مختلفة ما تحققه اللغة الواحدة بين الناطقين بها من وظائف توصيل الأفكار والمشاعر والرغبات، ولتحقق التفاهم الذي هو الوظيفة العليا للغة.
لكن كغاية الترجمة ما كانت يوماً، ولن تكون أبداً، كغاية مطلقة، فالترجمة لا يمكنها أن تنجح في التعامل مع كل الوظائف التـي طوّرتها اللغات عن وظيفتها الأساسية في "إبلاغ" أو "توصيل" الرسالة (message) من المرسِل (sender) إلى المرسَل إليه أو المتلقي (receiver).
وإذا كانت الرسالة في اللغة الواحدة لا تسلم، كما نعلم من خلل في التوصيل بسبب الخلط أو الإبهام أو التشويش لعلّه في طرفٍ أو أكثر من أطراف الحدث اللغوي مما يقتضي ممارسة

شكل من أشكال "الترجمة الداخلية" توضيحاً وتفسيراً أو إعادة صياغة. فإن الحدث الترجمي بين اللغات المختلفة يكون أكثر عرضة للخلل، ذلك لأنه يتضمن في آن واحد ضعف ما يتضمنه الحدث اللغوي في اللغة الواحدة من أطراف وفعاليات، إذ يتحتّم على المترجم أن يكون متلقياً ومُرْسِلاً في الوقت نفسه، ويتحتّم عليه أن يدير، بسيطرة يُفترض أن تكون كاملة. نظامين مختلفين من الترميز اللغوي، فيفكّ، بمساعدة النظام الأول، رموز الرسالة في صيغتها الأولى، أي في لغة المصدر (Source longuage) SL ويُعيد، بمساعدة النظام الثاني، تركيبها رموزاً جديدة، ثم يبثّها مجدداً، كتابة أو كلاماً، بما يُفترض أن يضمن لها كمال الإبلاغ وحسن التلقي، أي الفهم الكامل لها من لدن من تتوجه إليهم بوعائها اللغوي الجديد، أي في لغة الهدف (Target Language) TL.
وهنا نطرح سؤالاً لابدّ من طرحه حول مديات الكفاية وحدود القصور ودرجة الثقة التـي يمكننا أن نمنحها النص المترجم.
الإجابة عن هذا السؤال تتطلب معرفة هدف الرسالة أولاً، وطبيعة اللغة المستخدمة فيها ثانياً. فإذا كان الهدف مجرّد توصيل الحقائق (facts) أو المعلومات (information) خلال لغة محايدة أو شفّافة (transparent) لا تثير الانتباه لذاتها ولا تستهدف سوى وظيفتها التوصيلية (commanicative function)، أي عندما تكون مفرداتها أحادية المرجع لا تشير فيها الدوال (signifiers) إلاّ إلى مدلولات محددة (signified) أو (referents) لا يُبتغى منها غير توصيل مراجعها إلى المتلقي مجرّدة عن إي ظلال إيحائية أو قيم انفعالية (emotive connotations)، إذا كان ذلك هو هدف الرسالة، وكانت تلك هي طبيعة اللغة المستخدمة فيها، فإن مدى كفاية الترجمة يكون واسعاً، وتكون مهمة المترجم يسيرة لا تكلّفه كبير عناء.
لكن الترجمة تغدو مغامرة تحفّ بها المصاعب من كل صوب ويهددها سوء الفهم (misunderstanding) عندما تتجاوز اللغة في النص المقدّم للترجمة وظيفتها النفعية (pragmatic function) لتؤدي وظيفة فنيّة أو انفعاليّة(artistic or emotive function) تنفتح فيه الدوال، أي المفردات اللغوية، على عالم واسع من الإيحاءات والإيماءات والتداعيات، وتجلب لنفسها، أي لأصواتها ومفرداتها وحتى تراكيبها النحوية، من الانتباه ما يفوق أحياناً الانتباه الذي تتطلبه مدلولاتها ومراجعها.
جلبُ الانتباه إلى الذات هو ما تفعله اللغة في النص الأدبي عموماً، لكنها تُمْعِنُ فيه من النص الشعري خاصة، مما دفع بعضهم إلى القول باستحالة ترجمة الشعر دون تضحيات كبيرة في موسيقاه وصورة ومجازاته وإيماءاته الانفعالية.
في الفقرات السابقة تم استخدام مصطلحي "لغة" و"ترجمة" مُجَرّدَيْنِ عن أي وصف أو تحديد، ليشيرا إلى مدلوليهما أو معنييهما الشائعين: فمصطلح "لغة" يشير إلى ما أخذنا ندعوه "اللغة الطبيعية" بعد أن تطورّ "علم العلامات" أو "العلاماتية" (Semioties) الذي يدرس الجوانب الفلسفية والنفسية والاجتماعية لأنظمة العلامات (sign systems) على اختلاف أنواعها ومصادرها بوصفها رموزاً تواصلية، وتُعدُّ اللغة البشرية الطبيعية واحداً من هذه الأنظمة، بالرغم من إعترافه بأن النظام اللغوي لدى البشر هو الأرقى والأكثر تعقيداً، مقارناً بأي نظام علاماتي آخر أو بأية لغة اصطناعية أخرى. أما مصطلح "ترجمة" فيشير إلى الترجمة بمعناها القديم والشائع أي إلى ما ينبغي أن ندعوه الآن "الترجمة البشرية" بعد أن ظهر أسلوب جديد في الترجمة هو "الترجمة الآلية". لقد أشرنا إلى ما يرافق الترجمة البشرية من مقيدات على كفايتها وشكوك في دقتها بالرغم من أن القائم بها بشر يتمتع بما يتمتع به البشر عادة من ذكاء ومقدرة على التفكير والفهم والإفهام.
نتساءل الآن: كيف هي الحال إذا كان من يقوم بالترجمة آلة؟ ما مدى كفاية الآلة في نقل الرسائل من لغة طبيعية إلى لغة طبيعية أخرى؟ ما هي ميّزات الالة على البشر، وما هي المعوقّات التـي تجعلها، باعتراف الجميع، دون البشر؟ ما هي إمكانات وفوائد التفاعل أو التعاون بين الإنسان والالة لانتاج الترجمة بين اللغات الطبيعية؟
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة، لا بد لنا أن نشير إلى التطورات التـي مرّت بها أنواع الترجمة وطرائقها وأساليب إنجازها عبر تاريخها الطويل، وإلى التطورات السريعة المذهلة في أساليب الانجاز خلال النصف الثاني من القرن العشرين خاصة.
فمن حيث الأنواع، هناك الترجمة التحريرية والترجمة الشفاهية والترجمة العامة والترجمة التخصصية، وما يتفرع عن هذه كلها من أنواع كثيرة لا يهمنا هنا التوسعُ فيها.
ومن حيث الطرائق، لم يحدث أيّ تطوّر في "الطريقتين" اللتين نقلهما بهاء الدين العاملي

(1547 1626م) في كتابه الكشكول عن صلاح الدين خليل الصفدي (1296 ـ 1362م).

قال الصفدي:
وللتراجمة في النقل طريقان: أحدهما طريق يوحنا بن البطريق وابن ناعمة الحمصي وغيرهما، وهو أن ينظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات اليونانية وما تدل عليه من المعنى فيأتي بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى كذلك حتـى يأتي على جملة ما يريد تعريبه, وهذه الطريقة رديئة لوجهين: أحدهما أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل جميع كلمات اليونانية، ولهذا وقع في خلال التعريب كثير من الألفاظ اليونانية على حالها. الثاني، أن خواص التركيب والنسب الاسنادية لا تطالب نظيرها من لغة إلى أخرى دائماً. وأيضاً يقع الخلل من جهة استعمال المجازات وهي كثيرة في جميع اللغات.
الطريق الثاني في التعريب طريق حُنين بن اسحق والجوهري وغيرهما، وهو أن يأتي الجملة فَيُحَصِّلُ معناها في ذهنه ويعبّرُ عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها سَواءٌ ساوت الألفاظُ الألفاظَ أم خالفتها. وهذا الطريق أجود.
الطريق أو الطريقة الأولى في الترجمة هي الطريقة المعروفة باسم "الترجمة الحرفية"، وسنطلق عليها هنا تسمية "ترجمة الترادف المعجمي"، أما الطريقة الثانية فسنطلق عليها تسمية "ترجمة التكافؤ المعنوي" أو "ترجمة التطابق المعنوي" بتعبير الصفدي.
إن أكثر التطورات تنوعاً وتسارعاً قد حصلت في أساليب إنجاز الترجمة، فبعد أن كانت مفردتا "مترجم" و "ترجمة" تشيران إلى الإنسان وإنجازه في هذا الحقل، دخلت الآلة لتقدم العون إلى الإنسان في الترجمة أو لتطلب معاونته في إنجازها، مما أوجد، في الوقت الحاضر، أربع وسائل أو أربعة أساليب في الترجمة هي:

1
الترجمة البشرية (1)
H.T.
Human Translation
1
2
الترجمة الآلية (2)
M.T.
Machine Translation
2
3
الترجمة البشرية بمساعدة الآلة
M.A.H.T
Machine-Aided Human Translation
3
4
الترجمة الآلية بمساعدة البشر
H.A.M.T
Human- Aided Machine Translation
4

2. الآلَةُ مُتَرْجِمَةً
عددنا أربعة أساليب للترجمة، وهما، في واقع الأمر، أسلوبان فقط: الترجمة البشرية والترجمة الآلية. ولكن عندما يستعين المترجم الإنسان بالآلة لتسهيل أو تسريع عمله، تتحصّلُ لدينا "الترجمة البشرية بمساعدة الآلة". وعندما يقوم المترجم الإنسان بمراجعة النص الذي تترجمه الآلة وتصحيحه، تتحصّل لدينا "الترجمة الآلية بمساعدة البشر".
إن الترجمة الآلية الصِرفة أو الخالصة هي ترجمة من لغة طبيعية إلى لغة طبيعية أخرى يقوم بها آلياُ (automatically)، أي بدون تدخل الإنسان، الحاسوب الالكتروني بعد تغذيته بالقواميس والبرامج التـي تضم قواعد تحلل النص الأصلي في اللغة المصدر صرفياً ونحوياً ودلالياً وتضم قواعد أخرى تعيد تركيبه نصاً جديداً في اللغة الهدف.
كانت الترجمة الآلية واحدة من تطبيقات بحوث "الذكاء الاصطناعي" (Artificial Intelligence)، في "علم الإدراك" (Cognitive Science). تحاول تطبيقات الذكاء الاصطناعي أن "تجعل الآلات تفعل أشياء" تتطلب الذكاء إذا ما فعلها البشر:
Making machines do things that would require intelligence if done by men
كما عبّر عنها M.L.Minsky في كتاب من تحريره صدر في العام 1968 عن الـ MIT بعنوان Semantic Information Processing.
ولأن الترجمة الآلية تتطلب معرفة وخبرة في حقلين مختلفين هما "علم الحاسوب" (Computer Science) و"علم اللغة اللسانيات" (Linguistics)، فقد تطوّر علم جديد هو علم "اللسانيات الحاسوبية" (Computational Lingaistics) .
بدأت اللسانيات الحاسوبية بدايات متواضعة جداً، تعتمد التحليل الإحصائي للمفردات اللغوية في كتاب معين أو لدى كاتب معين لإعداد فهارس أبجدية بتلك المفردات (concordances) وتحديد تواترها (frequency) في مؤلفاته. ثم خطت خطوة مهمة جداً في اختصار الزمن عندما أعدّت معاجم الكترونية أحادية اللغة أو ثنائية أو متعددة اللغات.
ويبدو أن المعاجم الألكترونية، ثنائية اللغة، هي التـي أوحت بالترجمة الآلية بحسب طريقة يوحنا بن البطريق الحرفية، أي ترجمة مفردة بمفردة دون اهتمام بالتراكيب النحوية والنسب الاسنادية. ثم توسعتّ هذه المعاجم لتضم فضلاً عن المفردات، تعابير اصطلاحية عامة أو جملاً كاملة، أو ضاقت لتتخصّص بمصطلحات "حقل" أو "مجال" (domain) أو فرع من فروع المعرفة والنشاطات الإنسانية في العلوم والتِقْنيَّة ومجالات الحياة كافة.
وهكذا تم خلال الستينات من القرن العشرين وما تلاها من سنين، حتى الآن، إنتاج برامج وأنظمة للترجمة الآلية، كان بعضها تجارياً بحتاً تُغذّى به حواسيب الجيب الصغيرة لتـترجم، كتابـياً وحتى صوتياً. جملاً ومصطلحات كاملة في مجالات محـددة أهمها ما يخـدم السُيّاح والباعة وعمال الخدمات كمصطلحات التحية والاستفسار عن الأسعار والأماكن والزمن وغيرها..
كانت البرامج التجارية للترجمة الآلية، ولا تزال، تسوّق عبر دعايات مثيرة خلقت لدى "عامة الناس" أو "الجمهور العام" ولدى سريعي التأثير والتصديق بفنون الدعاية والإعلان فكرة غير دقيقة عن الترجمة الآلية، إذ دفعتهم إلى الاعتقاد بأن الترجمة الآلية ستُنهي دور المترجمين البشر وستحقق المعجزات في نقل آلاف الكتب والبحوث والدوريات والمراجع بين لغات العالم المختلفة خلال ساعات بدل الأشهر والسنين التـي يتطلبها المترجمون البشر.
لكن آراءً كهذه لا تقتصر على "الجمهور العام"، فهناك متخصصون في علوم الحاسوب واللسانيات الحاسوبية والذكاء الاصطناعي يعطون وعوداً كبيرة ومثيرة حول الإمكانات المستقبلية للترجمة الآلية، فهم يَعِدُوْن بأنهم سيتوصّلون إلى ما يطلقون عليه تسمية "الترجمة الآلية كليّاً ذات النوعية البشرية FAHQMT (Fully Automated Human Quality Machine Translation) وهذا ريموند كيرتزفيل Raymond Kurzweil واضع طريقة كيرتز فيل لمسح الحروف: (The Kurzweil Scanning Method For Character Recagnition by Software) يدّعي في كتاب أصدره في العام 1998 بعنوان: عصر الآلات الروحية The Age of Spiritual Machines، بأن الترجمة الآلية ستحقق عما قريب الدقة نفسها (accuracy) التـي تحققها الآن الماسحات البصرية (optical scanners) التـي تستطيع أن تحوّل خلال دقائق مئات الصفحات المطبوعة بالكلمات الاعتيادية إلى وحدات عددية (digital units) تتألف من الأصفار والوحدات.
ويعلّق مترجم محترف هو ستيف فلاستا فيتيك Steve Vlasta Vitek ساخراً بقوله:
وستقوم عما قريب ماسحة بصرية بترجمة الكتاب المقدس Bible بدلاً من فريق العلماء المتخصصين بالدراسات الانجيلية، وستنتهي الماسحة البصرية من ترجمتها خلال بضع ساعات بدلاً من مئة عام يحتاجها علماء الكتاب المقدس لانجاز ترجمتهم وستكون ترجمة الماسحة البصرية "العهد الجديد" The New Testament لعصرنا هذا!
كما يبشّر كرتزفيل باندماج (merger) بين البشر والآلات، إذ ستُزرع في أدمغة البشر مزدرعات عصبية ميكانيكية (Mechanieal Neural Implants) تُمكّن من "تفريغ" (dounloading) ذكريات الانسان وأفكاره ومشاعره وقيمه الروحية في ذاكرة الحاسوب لتجعل منه "آلة روحية" (Spiritual Machine) تتمتع بما يتمتع به الإنسان من مشاعر واحاسيس وقدرة على التفكير والفهم وإتخاذ القرار!

وعلى الضد من هذا الادّعاء المُغرِق في "خياله العلمي" (ولربما المتأثر بأفلام "الخيال العلمي" التـي تحقق فيها سينمائياً، الاندماج بين البشر والآلات في "روبوتات عجيبة!"، على الضد من هذا الإدّعاء، يقف الفيلسوف كولن ماك جن Colin McGinn في كتابه الصادر في العام نفسه بعنوان: التوهج الخفي The Mysterious Flame، إذ يتحدث عن نشوء الذكاء أو الوعي البشري وتطوره فيقول إن التطوّر نفسه قد صمم عقولنا، نحن البشر، بطريقة تجعلنا غير قادرين على فهم أو تفسير ماهية الذكاء وكيفية عمله، ذلك أن مستوى الوعي البشري، بشكل عام، أوطأ جداً من مستوى "أعلى جداً" من الوعي الكوني الذي يسميه بعضهم "الوعي الالهي" أو "الذكاء الكوني" أو "التطور". غير أن بإمكان بعض البشر أن يلمحوا وَمَضاتٍ (glimpses) من ذلك الوعي بصيغة "توهج ففي" (a mysterious Flame) لكنهم أنفسهم لا يعرفون كيف يأتي وكيف يعمل.
الذكاء، التفكير، الفهم، التعلم، الإبداع، إكتشاف الخطأ وتصحيحة وعدم تكراره، إتخاذ القرار، بل وحتى عدم إتخاذ القرار.. كلها صفات أو مواصفات خاصة بالدماغ البشري الذي تقطرّت فيه قطرة قطرة، وعبر آلاف إن لم نقل ملايين السنين كلُّ تجارب ونجاحات وإخفاقات أداة التفكير الإنساني، العقل، حتـى صارت خزيناً لا محدود ولا معروف حجُمه مما نسميه الذكاء أو الوعي البشري الذي لا يمكن لأية آلة أن تمتلكه أو أن تُغذّى به كاملاً.
فالحاسوب آلة غبيّة لأنها لا تمتلك فطرّياً (innately) ما يمتلكه الإنسان فطرياً من أدوات التفكير، لهذا فإنها لا تفهم، والفهم، كما هو معروف، من أهم متطلبات الترجمة، فنحن البشر لا نستطيع أن نترجم ما لا نفهم، ولن يستطيع أيّ حاسوب أو أي نظام للترجمة الآلية أن يفهم ماذا يفعل.
ومعذرة للعاملين في حقل الذكاء الاصطناعي، ومع التقدير الكبير لجهودهم في تغذية الحاسوب ببعض أوجه الذكاء البشري، فإنني أتحدى في أي نظام يتعامل مع اللغة الطبيعية آلياً أن يقرأ صفحة واحدة في أي موضوع ثم يقدّم خلاصة (Précis) لأهم ما فيها من أفكار، ذلك لأن التلخيص الجيد يتطلب فهماً جيداً للنص أو إعادة صياغته على وفق ما يقرر العقل أنه مهم أو رئيسي من الأفكار.
إن الحاسوب مهما بلغ حجمه وتعددت وتنوعت برامج تغذيته لن يتمكن من استيعاب كل ما يختزنه الدماغ البشري من معارف وخبرات وآليات للتعامل مع الماضي والحاضر والمستقبل. وقد صدق شاعرنا العربي الذي خاطب الدماغ البشري قائلاً:

أَتحسَبُ أنّكّ جُرْمُ صَغيرْ            وَفيكَ انْطوى العالَمُ الأكبرُ؟

3. التفاعل بين الإنسان والآلة
يَعِدُ بعض علماء اللسانيات الحاسوبية بأنهم سيجعلون من الحاسوب قادراً، بشكل آلي ودون تدخل الإنسان، على إعطاء ترجمة ذات نوعية بشرية، لكنهم يتحاشون، ربما عن عمد، ذكر المجالات (domains) التـي يستطيع الحاسوب فيها أن ينجح في الترجمة دون مساعدة الإنسان... وهي، في الواقع، مجالات محدودة ومحددة في مفرداتها ومصطلحاتها وحتى في تراكيبها النحوية حتـى ليمكن وصفها بأنها "مجالات آليّة" أصلاً، وليست "إنسانية" بالمعنى الواسع لمصطلح "إنسانية". ومن هذه المجالات التـي نجح فيها الحاسوب فعلاً في إعطاء ترجمات آلية تماماً دون تدخل الإنسان مجالات النصوص المكررة (repetitive texts) مثل تقارير الأنواء الجوية وتقارير أسواق المال وأسهم الشركات وبراءات الاختراع وكُتيبات تعليمات الاستعمال والإدامة للمكائن والمعدات (manuals) وغيرها من التقارير الرقمية والإحصائية كتقارير الولادات والوفيات والمحاصيل الزراعية ودعايات الأدوية وأَدلّة السيّاح وغيرها من المجالات المحدودة.
إن الحاسوب لن يحقق ترجمة آلية ذات نوعية بشرية في مجالات هي أوسع وأكثر بكثير من المجالات المحدودة التـي أشرنا إلى بعضها. دون أن يكون أمامه إنسان يراجع ويصحح ويوضّح.
وهذه حقيقة يدركها الكثيرون من علماء اللسانيات الحاسوبية ذوي الرصانة العلمية البعيدة عن مبالغات الدعاية والإعلان ومن هؤلاء العلماء عالمنا العراقي الدكتور سعد عبد الستار مهدي الذي نعتز بجهوده المخلصة وإنجازاته البحثية والتعليمية في حقل اللسانيات الحاسوبية. ففي بحث أعدّه الدكتور سَعد عبد الستار مهدي لندوة الترجمة الآلية التـي نظمها قسم دراسات الترجمة في (بيت الحكمة) ببغداد في 30/9/1998، تجيء هذه الفقرة العلمية الرصينة:
مهما اختلفت أساليب واستراتيجيات الترجمة الآلية، تبقى هناك صعوبات ومعوّقات تواجه الحاسوب خلال عمليات الترجمة. فالإنسان المترجم لديه القدرات الذاتية والمعارف الآنية والمقامية والمعرفة بالموضوع تساعده في إنجاز الترجمة الصحيحة. وقد تكون هذه الأمور سهلة ومتوفرة بطريقة أو أخرى للإنسان، ولكن توفيرها إلى الحاسوب تعترضه الكثير من المعوّقات الفنية والتي تجعل بدورها الكثير من العبارات والكلمات تتطلب تدخل الإنسان وتحاوره مع الآله بوجود ما يُسمى بالتنقيح السابق والتنقيح اللاحق (Pre- and Post- Editing) حيث يقوم المترجم بمراجعة النص في لغة المصدر وإجراء بعض التعديلات بما ينسجم والقاموس والقواعد التـي تستخدمها منظومة الترجمة الآلية، وقبل المباشرة بالترجمة. أما التنقيح اللاحق فيتطلّب من المترجم إجراء التعديلات على نص لغة الهدف للخروج بنص مترجم مقبول. إن ذلك يعني وبالتأكيد عدم وجود منظومات لها المقدرة عل الترجمة الكاملة %100.
إننا لا نريد أن نلغي أو نتجاهل الخدمات والعون الكبير الذي تستطيع الآلة أن تقدمه للإنسان في تقليل النفقات واختصار الزمن. فالترجمة البشرية تبقى مكلفة جداً (*) وتستغرق الكثير من الوقت فضلاً عن الجهد الكبير الذي تتطلبه من المترجمين البشر في الرجوع إلى المعاجم العامة والمعاجم المتخصصة والمراجع وغيرها من الكتب والمصادر التـي يستغرق البحث اليدوي فيها وقتاً طويلاً، لكن بإمكان الآلة أن توفر كل هذه المراجع للمترجم البشري الكترونياً وتجعلها بمتناول أطراف أصابعه فيوفر من جهده ومن وقته.
وهذا هو أسلوب "الترجمة البشرية بمساعدة الآلة" Machine - Aided Human Translation. وهو واحد من أوجه التفاعل والتعاون المثمر بين الإنسان والآلة في الترجمة. وأغلب الظن أن هذا الأسلوب سيكون هو الأسلوب العام للترجمة البشرية إذا ما توفرت متطلباته الفنية والمادية للمترجمين من حاسوب وبرامج وأنظمة واتصال متيسّر بالأنترنيت.
لكن أفضل صيغ التعاون والتفاعل بين الإنسان والآلة سيكون في اتباع أسلوب "الترجمة الآلية بمساعدة البشر" Human- Aided Machine Translation، أي إعطاء النص للآلة لكي تترجمه وتعرضه على شاشة الحاسوب ليقوم المترجم الإنسان بمراجعته وتصحيحه قبل طباعته بشكله النهائي. ويجري العمل الان على إنتاج أنظمة ترجمة آلية مفتوحة، تقبل تعاون الإنسان معها لتعدّل أو تضيف إلى خزينها ما يجنبها عن تكرار الخطأ في مفردات أو تعابير أو تركيبات نحوية لم تكن تغذيتها بها كافية. وقد دخلت "انفتاحية" النظام على التعديل والإضافة بوصفها مؤشراً رابعاً من مؤشرات تقييم كفاءة أنظمة الترجمة الآلية، وهي:

  1. نوعية النتاج            Output Quality
  2. الكلفة                   Cost
  3. الزمن                  Time
  4. قابلية تحسين النظام     System impravability

وعلى الرغم من هذه المحاولات التحسينية كلها، تبقى نوعية النتاج، في الترجمة الآلية كليّاًَ، أي التـي لا يساعد الإنسان فيها الآلة، قاصرة في كثير من الحقول المعرفية، عن الترجمة البشرية في دقتها وفي درجة الموثوق بها والتعويل عليها.
وأود أن أشير هنا إلى ما جاء في مجلة الترجمة Translation Journal في عددها الصادر في 4/8/2000 (على الانترنيت). تقول المجلة إن الشركات التجارية التـي تقدم خدمات الترجمة الآلية الـحيّة (On-Line) عبر الانترنيت تعرف أن نتاجها في حقيقة الأمر ليس "ترجمة"، أي ليس نقلاً (rendition) لـ "معنى" النص الأصلي، لهذا فإنها أحياناً تستخدم مصطلحاً آخر غير مصطلح "الترجمة" لنتاجها فتسميه "المعنى العام" أو "الخلاصات العامة" (gisting) للنص الأصلي... وعادة ما تحمل النصوص المترجمة آلياً عبر الانترنيت، وعلى كل صفحة من الصفحات التـي تبثّها للزبون "تَنَصُّلاً" (a disclaimer) عن إعطاء إية ضمانة بـ "دقة" الترجمة وعن تحمّل أية مسؤولية قانونية عن سلامة النص المترجم آلياً.
وختاماً، أود أن أقدّم ملحقاً بهذه الدراسة، يضم ثلاثة نماذج للترجمة الآلية الصِرْف من اللغة الإنكليزية إلى اللغة العربية أنجزها برنامج "الوافي" للترجمة الآلية من الإنكليزية إلى العربية وأترك التعليق عليها للقارئ الكريم.

الملحق

  1. النص الأول           The Poet Laureate
  2. النص الثاني           Shall I Conpare thee
  3. النص الثالث           Machine Translation

النص الأول

The office of poet laureate is one of great honor, conferred on a poet of distinction. In 1616, James the first granted a pension to the poet Ben Jonson but it was not until 1668 that the laureateship was created as a royal office.
When the position of poet laureate falls vacant, the prime minister is responsible for putting forth names for a new laureate, to be chosen by the soverign. The soverign then commands the lord chamberlain to appoint the poet laureate, and he does so by issuing a warrant to the laureate-elect. The lord chamberlain also arranges for the appointment-for life- to be announced in the london Gazette.

إنّ مكتب الشاعرّ المبّجل واحد من الشرّفُ العظيمُ، منَحَ على شاعر امتياز. من 1616 جيمس الأول منَحَ الراتب التقاعد إلى بن جونسون الشّاعر، لكن كان ليس حتـى 1668 ذلك laureateship قدْ خُلِقَ كالمكتب الملكي.
عندما موقع شاعر السّقوط المبجّل الشّاغر، ورئيس الوزراء هو مسؤول عن الوَضْع يَسمّي فصاعداً لمبجّل جديدِ، أنْ يختارُ من قبل الملكِ. الملك إذن يأمرُ كبير أمناء البلاط أنْ يُعيّنَ الشاعر مبجّل، وهو يَعمَلُ جداً بإصدْار تفويض إلى المنتخبِ المبجّل. كبير أمناء البلاط يُرتّبُ أيضاً للتعيينِ للحياةِ أنْ يُعلَنُ في صحيفةِ لندن.

النص الثاني

Shall I compare thee to a summer`s day?
Thou art more lovely and more temperate.
Rough winds do shake the darling buds of May,
And summer`s lease hath all too short a date:
Sometime too hot the eye of heaven shines,
And often is his gold complexion dimm'd,
And every fair from fair sometime declines,
By chance or nature`s changing course, untrimm`d;
But thy eternal summer shall nat fade,
Nor lose possession of that fair thou ow`st;
Nor shall Death brag thou wander`st in his shade,
When in eternal lines to time thou grow`st.
So long as men can breathe or eyes can see
So long lives this, and this gives life to thee.

هل أقارن thee إلى يوم صيفَ؟
فن معتدل ثوو الأكثر والجميل الأكثر.
رياح قاسية تَهْزُّ البراعم العزيزو لمايس/أيار,
وعقد إيجار صيف hath كل إلى القصير تأريخ:
سوميتيم حارة جداً عين لمعة السّماءِ،
وغالباً طبيعته الذّهبية d `dimm؛
وكل معرض من العادل some time يَهْبط،
بالصدفة أو فصل طبيعةِ المفُيرِّ d`untrimm؛
لكن thy صيف سرمدي لنْ يَبْهتَ،
ولا تفقد ملك ذلك العادلِ st `thou ow؛
ولا ستَفاخر موتِ st`thou wander في ظله،
عندما في الخطوط السّرمدية من الوقت st`thou grow.
طالما رجال يُمكنُ أنْ تتنفسَ، أو عيون يُمكنُ أنْ تَرى،
حياة طويلة جداً هذا، وهذا اعطىَ حياة إلى thee.

النص الثالث

Machine translation is a huge applied research area since the nineteen fifties, however machine translation systems are still far short of the overall quality achieved by human translators, particularly regarding accuracy with intricate texts. However machine translation systems can offer majer benefits in terms of cost and management. There are three standard ways of improving the quality of output achieved by machine translation systems: the marking up of source text, the use of a controlled longuage and the use of a sublanguage. Text markup facilitates easier translation through the addition of helpful information to the source text. Controlled languages are designed to be easy to translate, general- purpose languages, based on a simple grammer and vocabulary.
Sublanguages on the other hand, focus on a particular domain, allowing more complex grammar and vocabulary, albeit within a small range of documents targeted in this architecture.

الترجمة الالكترونية هي مساحة بحثِ مُقدَّمةِ ضخمةِ منذ التِّسعة عشرَ الخمسيناتِ، على أية حال أنظمة الترجمة الإلكترونية ما زالت بعيدة قليلة النّوعية الإجماليةِ انجزتْ مَن قِبل المترجمين الإنسانين، خصوصاً بخصوص الدّقةِ بالنّصوصِ المعقّدةِ. على أية حال أنظمة الترجمة الإلكترونية يُمكنُ أنْ تَعرْضَ فوائد رئيسية في تعابير الكلفةِ والإدارةِ.
هناك ثلاثة طرقُ قياسية من تَحسين نوعيةِ النّاتج انجزت بأنظمة الترجمة الإلكترونية: التّأشير فوق من النّص المصدري، استعمال لغةِ مُسَيطرة على واستعمال لغة تخصص. نص markup يُسهّلُ ترجمة أسهلَ خلال إضافةِ المعلوماتِ المفيدةِ إلى النّصِ المصدري. سيَطرتْ على اللّغاتِ تُصمّمُ أنْ تكوُنَ سهلة أنْ تُترجمَ، لغات متعدّدة الاستعمالات، مستندة على قواعدِ بسيطةِ ومفرداتِ. لغات تخصص من الناحية الأخرى، تركيز على ميدان خصوصي، يَسمْحُ قواعدَ ومفرداتَ أكثرَ تعقيداً، بيد أنْ ضمن صغيرة مجموعة من الوثائق. استعمال لغات التخصص هكذا يَظهرُ قابل للتطبيق إلى الوثائق المُتَخَصّصةِ تَستهدفينَ في هذه الهندسة المعماريةِ.