القصة القصيرة في الخليج العربي
(الكويت والبحرين)
دراسة نقدية تحليلية

البحرين
2000 م

كتاب أُهدرت حقوقه

أُنجزت هذه الدراسة في نهاية عام 1978. ولم تكن الحركة الأدبية في الكويت والبحرين وبقية مجتمعات الخليج العربي آنذاك قد ظهرت فيها دراسات نقدية منهجية مركزة حول القصة والفنون الأدبية الحديثة كما هو عليه حال هذه الدراسة باستثناء دراسات الأخ الأستاذ الدكتور محمد حسن عبد الله التي كرسها لتوثيق وتحليل ظواهر الحركة الأدبية والفكرية في الكويت في المسرح والقصة والشعر والصحافة. وحين قدمتُ مخطوطة هذه الدراسة للأصدقاء في رابطة الأدباء الكويتية والأصدقاء في البحرين وجدوا فيها كشفاً جديداً يقدم تجارب القصة القصيرة وأصواتها الرائدة والمؤسسة والمخضرمة والشابة كما وجدوا فيها من المعلومات النقدية الخاصة بتجربة القصة ما يجعل منها دراسة شاملة ورائدة بالفعل بما اشتملت عليه من جهود الجمع والتوثيق والتحليل والدراسة المتقصية المصحوبة بالببليوغرافيا الشاملة لأعمال القصة القصيرة وأصواتها في جميع المراحل.
من أجل ذلك ألحّ عليّ الأصدقاء بطباعتها وتوزيعها في البلاد العربية نظراً لأنها دراسة يمكن أن تعرِّف بتجارب القصة القصيرة في منطقة الخليج وتقدمها للقارئ العربي في سياق يواكب ما كانت تنجزه تجارب النقد العربية في القصة القصيرة والرواية.. ومن هنا بدأت قصة هذا الكتاب وربما مأساة طباعته التي حالت دون المحافظة عليه كمرجع أساسي وربما امتدت تفاصيل هذه القصة لتشمل ما تعرض له من ظروف متعثرة الحظ تعاكس تماماً نواياه الجادة والتزامه المسئول بشحذ التجربة النقدية من ناحية، وتأصيل الفن القصصي الحديث في مجتمعات الخليج العربي من ناحية ثانية.

وتكمن نقطة البداية منذ بادر بعض الأصدقاء في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت مقترحين طباعة الكتاب في سلسلة عالم المعرفة الواسعة الانتشار في البلاد العربية، ومنهم الأخ الدكتور خليفة الوقيان وكان حينذاك الأمين العام المساعد والأخ عبد العزيز السريع وكان مديراً للشئون الثقافية والفنية والأخ الدكتور سليمان الشطي. وقد رحبت بالفكرة كما رحب بها كثيرون في الكويت ولكن كان هناك شرط اختصار أو حذف أجزاء قليلة من الكتاب نظراً لضخامته وعدم اتساقه مع حجم سلسلة عالم المعرفة واهتمامها المعروف بالقارئ العام لا القارئ الخاص. وقد اصطدمت مع هذا الشرط ووجدت فيه تعدياً على أهداف الكتاب، كما رأيت من الصعوبة التخلي عن أي جزء أو صفحة.. ربما اعتزازاً أو تعصباً وتطرفاً في الاعتقاد بأن كل سطر في الكتاب لا يحتمل الحذف والتأجيل.. وكان الدكتور خليفة يرى ما أنا عليه فيضحك ويأسف في آن واحد فقد كان عزيزاً عليه أن تصدر هذه الدراسة في سلسلة عالم المعرفة.. وتكررت لقاءاتنا لتسوية طباعة الكتاب وتدخَّل أستاذنا الشاعر الكبير أحمد العدواني (رحمـه اللـه) الأمـين العـام آنذاك ولكـن دون فائـدة.. فالكتاب بالنسبـة لـي إما أن ينشر كاملاً وبوثائقه وملاحقـه أو لا ينشر.. وظل الأمر معلقاً من غير حسم لا من جهتي ولا من جهة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. ولم تكن إمكانياتي تسمح لي بتمويل الطباعة فظللت أنتظر حتى عرض عليّ مركز دراسات الخليج العربي بجامعة البصرة مشروع طبع الكتاب في سلسلة إصدارات المركز.. وقد وافقت على ذلك نظراً لأني كنت حريصاً على أن يصدر الكتاب في أقرب وقت ممكن ليستفيد منه القارئ والباحث المتخصص على السواء. وقد طبع الكتاب في عدد محدود من النسخ في بداية الأمر، ولم أحصل منه سوى على بضع نسخ ولكن تدخل أحد الأصدقاء وهو المرحوم الأستاذ شفيق الكمالي (وكان حينذاك رئيس تحرير مجلة آفاق) وأوعز بزيادة عدد النسخ المطبوع.. والمخصصة للمؤلف.. ورغم أن الأخوة في مركز دراسات الخليج العربي قد بذلوا جهداً طيباً إلا أن الكتاب صدر دون مراجعة دقيقة.. لمست ذلك منذ أن قلبت صفحات الكتاب وطالعت سطوره الأولى. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل إن شكل إخراج الكتاب والصورة التي خرج بها من طباعة وتغليف جعلتني أشعر بمرارة شديدة وخيبة أمل لا مثيل لها.. لقد نفرت من الكتاب الذي وضعت فيه جهدي وعقلي وبذلت فيه ما بذلت من أجل تأصيل فن أدبي حديث في الخليج العربي. وهاأنذا أجده بين يديَّ مهلهل الطباعة لا أكاد أفتح غلافه حتى يتمزق بين يدي وينحسر عن ملازم مضمومة بطريقة بدائية.

ومع ذلك تغاضيت عن ذلك.. وقلت : إذا كنت قد وضعت نفسي موضع القارئ العادي فوجدت الطباعة غير لائقة فإن من الخير لي أن أجد نفسي في موضع القارئ الخاص الذي يبحث عن مضمون جاد ومعلومات رصينة، ولكن حتى هذا الموضوع لم يجد حظاً من اللياقة ؛ ذلك أن الكتاب لم يوزع لأسباب قد ترجع إلى إمكانيات المركز وحدوده الضيقة في الانتشار، وقد ترجع أيضاً إلى حجم الكتاب وشكل إخراجه الذي لم يشجع على توزيعه وانتشاره.

وانعكست الصورة غير اللائقة التي خرج بها الكتاب على جانب أكثر خطورة من سـوء التوزيـع وهـي صـورة يمكـن أن أطلق عليهـا الآن ) استباحة الكـتـاب ( أو ) المرجع المستباح ( فقد أطلق كثيرون لأنفسهم حرية الأخذ من دون أمانة، بل استباح البعض سرقته وادعاء أجزاء كبيرة منه بوصفها بحوثاً منه تأليفهم، وقدمت هذه البحوث في مؤتمرات عربية. ورغم أن حوادث سرقة هذا الكتاب قد كشفت بأقلام عربية مثقفة وغيورة شهدت بها الصحافة في الثمانينات إلا أن المشكلة أن الكتاب قد أصبح يسدّ حاجة أساسية في النقد والدراسة لتجارب القصة القصيرة ؛ وكان يطلب في سوق الكتاب لكن المكتبات لا تجد من نسخه شيئاً على الإطلاق، والكمية القليلة المتوفرة ظلت حبيسة لدى أحد الموزعين. وقد أهملها بصورة عرضتها للتلف الأمر الذي حال دون توزيعها.

والحق أن طبيعتي كانت تحول دون الدفاع عمّا حلّ بهذا الكتاب من ظروف حالكة.. لقد وقفت أتفرج عما يحدث مستغرباً تارة، نادماً تارة أخرى، وخاصة حين أتذكر الفرصة التي ضاعت بطباعته في سلسلة عالم المعرفة.. ولم يكن بإمكاني أن أفعل شيئاً فكل ما حدث للكتاب من تعثر وهدر واستباحة تقع مسئوليته على كاهلي ولا صلة لمركز أو ناشر أو موزع بما حدث.. إنه اختياري في نهاية الأمر.

وقد اكتشفت أمراً غريباً في سياق ما حدث لهذا الكتاب وهو أني لم أقرأ الكتاب بعد طباعته على الإطلاق.. لقد قلَّبت بعض صفحاته وأدركت ما به من أخطاء وسقطات.. ووعيت لما كان يحتاج له من مراجعة فاغتممت وآليت على نفسي عدم قراءة الكتاب. وكلما احتجت للعودة إليه في سياق ما كتبت بعد ذلك أجدني لا أحتمل تصفحه.. وظل الأمر كذلك فترة طويلة انعزل فيها هذا الكتاب عن اهتماماتي إلى أن بدأ بعض الأصدقاء ينبهني إلى أهمية هذا الكتاب وضرورة مراجعته وإعادة طباعته ومنهم عبد العزيز السريع في الكويت وأحمد المناعي وقاسم حداد في البحرين.. وقد توقفت مع هذه الفكرة واختبرت حيويتها في البداية فوجدت الجميع يتفق على أن الكتاب لم يقدم إلى القارئ بما يتفق مع أهميته في مجال النقد التطبيقي للحركة الأدبية الحديثة، وأنه قد حان الوقت لتجديد الوعي بهذه الأهمية وإعادة طبعه بما يجعله متوفراً للأجيال الجديدة في الحركة الأدبية والفكرية.

استيقظت الفكرة في داخلي وقلت : سأختبرها بقراءة الكتاب.. فقد انقطعت عنه سنوات طويلة، وسأعود إليه الآن برؤية أخرى وكأني قارئ متخصص آخر مما سيهيئ لي فرصة للحكم والتقييم.. وبالفعل ما إن فرغت من قراءة الكتاب حتى وجدت نفسي مستغرقاً في حزن عميق على ما فرّطت إزاء الاهتمام بمرجع حيوي في حركتنا الأدبية.. فقد كان من الأولى بي أن أفعل ذلك قبل سنين، وبعد فشل طباعته الأولى مباشرة، ولكني مضيت منشغلاً بأبحاث وكتابات ومشاغل ثقافية لا حصر لها باعدت بيني وبين فكرة العودة إلى كتاب قديم وضعته وانتهيت منه..

أيقنت الآن بفكرة جديرة بأن ينظر إليها كل مؤلف بعين الاعتبار، وهي العودة إلى قراءة ما كتب بحثاً أو إبداعاً.. هل هناك جدوى أو حيوية خاصة فيما نكتب وهل كل ما كتبناه يستحق البقاء والاستمرار ؟.. لا يمكن الإجابة بنعم على مثل هذا السؤال إلا إذا كنا نمتلك حساسيتين أساسيتين : الأولى حساسية التجدد.. والثانية حساسية الاكتشاف والقدرة على إعادة النظر في الأشياء المسلم بها.. بدون هاتين الحساسيتين ستكون الإجابة غير مبرأة من اليقين الأجوف الذي تختزله عبارة (ليس في الإمكان أبدع مما كان). وهكذا فعلت مع هذا الكتاب.. لقد وجدت خطواتي في النقد تتجاوز جانباً كبيراً مما جاء في صفحاته وفصوله، كما وضعت من الدراسات النقدية ما مكنني من إعـادة قـراءة مسـارات وتجـارب وظواهر رغم أن البعض قد أشبعهـا بحثـاً ودراسة.. المعوّل إذن في أدوات القراءة وعدتها وجهازها المعرفي والمرجعي. وقد قمت باستعادة صورة الكتاب عبر قراءة متأنية عدَّلت خلالها الكثير من الأخطاء الطباعية واللغوية والتركيبية كما عالجت الفجوات التي خلفها سقوط فقرات من الأصل الأول للكتاب.. وحذفت أجزاء من المقدمات التاريخية، لكني لم أمس معلومات الكتاب وتحليلاته ونظراته النقدية بأي تغيير.. لقد تركتها للقارئ تعبر إليه مجتازة الفترة التي قطعتها تجربة القصة القصيرة في الخليج العربي خلال ما يقارب عشرين عاماً بعد تأليف هذا الكتاب.. تركتها لأني وجدت الكتاب يستشرف هذه المرحلة التي لم يدرسها وإنما درس عتباتها الأولى في نهاية السبعينات.. لقد كان الكتاب آنذاك يطالع تجارب لعبد الله خليفة ومحمد عبد الملك وسليمان الخليفي وعبد القادر عقيل بكثير من الخوف والترقب ويحدس بتحول جذري في بنياتها وسياقاتها، كما كان يطالع تجارب أخرى لأمين صالح وخلف أحمد خلف وسليمان الشطي بضرب من التوقع والحدس النقدي المفتوح أمام تجربة لم يكن ينقصها من أدوات التجريب والمغامرة شيء يحول دون تحولاتها المدهشة التي كشفت عنها السنوات الأخيرة. وربما كان أفق ذلك الحدس صادقاً مع البعض (أمين صالح وسليمان الشطي) ومتوقفاً مع البعض الآخر. لكن جملة الحدود التي توقفت عندها الدراسة النقدية في هذا الكتاب لا تحول دون أهميته وحيويته حتى في المرحلة الراهنة.

وفضلاً عن ذلك فالكتاب لا يشتغل عند حدود بضع سنوات أو تجارب وإنما يبدأ منذ خطوات التأسيس الأولى ومروراً بمراحل التطور واتجاهاته التي بدأت منذ منتصف الألفية الثانية.. إنه يربط بينها جميعاً وفق منهج محدد. وهو من أجل ذلك - مرجع لا غنى عنه للنظر في دراسة تجارب لم تسمع بها الأجيال الجديدة، ولم تتواصل مع تحولاتها الفنية والإبداعية في كتابة القصة القصيرة.

هذه قصة كتاب حالت ظروف طباعته المتعثرة دون المحافظة عليه بوصفه مرجعاً حيوياً. بل جَعَلَتْ منه كتاباً مستباحاً مهدر الحقوق، وقد رأيت الآن أن أعيد طباعته وأن أضيف إليه وثائقه وملاحقه التي لم تنشر في الطبعة الأولى، وأن أنقح متن الكتاب دون المساس بمنهجه وروحه ونظراته النقدية التي خرج بها في نهاية السبعينات. ولعلي في ذلك قد وفيت لضميري من ناحية ولرغبة العديد من الأصدقاء الذين عبروا لي عن غيرتهم الشديدة على أهمية الكتاب وحيويته من ناحية ثانية.

إنني أتأمل ما في هذا الكتاب من جهد فأعجب له، ذلك أني مهما بلغت الآن من الصبر والجلد فلن أستطيع أن أنجز آليات التقصي والتأمل والتحليل والتفسير والتوثيق والقدرة على الذهاب إلى المصادر الأولى في الصحافة ونحوها. ولذا فإني أعترف الآن بأني فرطت في هذا الكتاب وخاصة حين عزلته عن اهتماماتي، ولم أعد النظر في طباعته، كما لم أعد النظر في الخطوط التي رسمتها لدراسة تجارب القصة القصيرة في منطقة الخليج العربي. وهي خطوط معقدة ومتداخلة كما سيرى ذلك القارئ بالفعل ولكنها بحاجة الآن إلى إعادة نظر وتفكيك رغم أن الدراسة وضعت أسساً معرفية تراكمية وتوثيقية لا يستطيع المتتبع أن يستغني عنها في هذه المرحلة أو حتى في المراحل القادمة. ولعلي آمل في أن يطلع جيل جديد من النقاد يتوفر فيه شرط التعايش الثقـافـي والإنساني مـع تراكميـة التجـارب النقديـة الـتي ينخـرط هذا الكتاب في سياقها، فمثل ذلك يؤهلنا لتأصيل تجربة نقدية معافاة من شتات النقل والتبعيــة.

إبراهيم عبد الله غلوم
البحرين - 2000 م