القسم الأول . الفصل الرابع 1

انتزاع المغزى الأخلاقي من القصص الشعبي

* فهد الدويري
* عبدالله الزائد

لا يضمّن الكاتب تجربته المغزى الأخلاقي إلا من أجل أن يصل إلى نتيجة أو هدف محدد، ولا يكون هذا الهدف الذي يسعى إليه إلا قيمة أخلاقية عظيمة، يريد إسداءها لأفراد المجتمع وتنبيههم على أهميتها، فيكون المغزى بمثابة العبرة التي ترسم الجديد وتصلح في المعتقدات والقيم القديمة التي تواضع المجتمع عليها، ويكون سعي الكاتب بحثاً عن هذه العبرة المدار الرئيس الذي يوجهه وجهة إصلاحية لأن الإصلاح في المعتقدات والأخلاق يعني بالضرورة إصلاحاً في المجتمع وتنويراً لمفاهيمه ومثله السائدة، بل إنه يعد توغلاً في جانبه الوجداني وبنائه الداخلي الذي يتصل اتصالاً كبيراً بالعلاقات الاجتماعية السائدة .

ولا نريد أن نذهب بعيداً فنحن حين نقف مع فهد الدويري، وهو أظهر كتاب القصة القصيرة في هذه الفترة اهتماماً واحتفالاً بإيجاد المغزى الأخلاقي والسلوكي نجده يؤكد لنا مراراً أنه لا يتوجه إلا إلى الواقع الحقيقي في المجتمع ويشتق من مظاهره التي حدثت أو يمكن أن تحدث، فهو يكتب مقدمة قصيرة لأول قصة ينشرها في الصحافة بعنوان (من الواقع) (2) وتحمل هذه المقدمة فكرة نظرية عن أسلوبه في كتابة القصة حيث يقول :
(قال لي صديقي وهو يحاورني في موضوع القصص الخيالي والواقعي أني أصر على أنه ينبغي لكتاب القصة أن يدركوا أن في الواقع ما يفوق الخيال ومن ثم فإن عليهم أن يكتبوا الواقع الذي يسجل التاريخ النفسي للمجتمع، ليدرسوا في قصصهم ما انطوت عليه النفس الإنسانية من مشاعر وأحاسيس، عوضاً عن خلق أشخاص لا يعيشون إلا في قصصهم وحدها .. ذلك أن القصص الخيالي إنما يعكس الناحية النفسية للمؤلف، أما أحداث الواقع فإنها تعرض صورة المجتمع على حقيقتها).

ومثل هذه الفكرة الصريحة تشير بوضوح إلى أن الكاتب لا يشغل إلا بصورة المجتمع وبوجدانه وأخلاقياته السائدة وهو ما أطلق عليه (التاريخ النفسي للمجتمع) فالبحث عن الفكرة الأخلاقية أو المثالية تدخل في سياق البحث عن السبل الصحيحة المقومة للمجتمع والمصلحة لمعتقداته ومفاهيمه الشائعة .

وقد تنبه بعض كتاب القصة القصيرة إلى أن القصص والحكايات الشعبية التي يختزنها التراث العربي، وتراث منطقة الخليج العربي بصورة خاصة من أكثر الأشكال الفنية احتفالاً وتمسكاً بالمغزى الأخلاقي، فقد انحدرت منها -غالباً - خلاصة الصراع الذي تقيمه الحكاية الشعبية بين عنصري الخير والشر، وهيأت المجال واسعاً لإسباغ الصفة الأخلاقية على نموذج معين من الناس يحمل قيمة معينة من القيم ، سلوكاً .. أو طقساً .. أو عادة أو نمطاً، أو شعوراً وعاطفة، أو خصلة من الخصال السائدة .

ومن أجل ذلك فقد أصبحت الحكاية الشعبية مصدراً للقصة القصيرة في معالجتها وبحثها عن المغزى الأخلاقي والسلوكي، وأرادت - القصة القصيرة - وهي تستعمل المأثور الشعبي مادة ومضموناً أن تعبر بما عبرت عنه الحكاية الشعبية، وأن تصوغ ما صاغته في مجال السلوك الجماعي والتربية الأخلاقية، فالقصة الشعبية تتضمن بطبيعة أصولها ومصادرها البعيدة (وجداناً جماعياً يمكن أن يطل على الأديب صاحب الإنتاج الرفيع، بمعنى أن القصة الشعبية تؤثر في القصة الرفيعة، تماماً كما يؤثر أي مأثور شعبي في نتاج القراء وكتاب الدراما وغيرهم) (3) .

وقد جعل فهد الدويري من (السوالف) مادة حقيقية لفنه القصصي . و (السالفة) لا تخرج عن كونها حكاية أو حدثاً مر فيما مضى من قديم العهد والأوان، ومعظم القصص التي تتضمنها هذه (السوالف) حدثت وقائعها، بالفعل، ويعرفها الناس عن قرب، بل ربما كان أبطالها أحياء يرزقون، ولكنها لما تتميز به تلك القصص من غرابة ولما تحويه من مواقف لا تتكرر كثيراً تظل عالقة في أذهان الغالبية من الناس فيتناقلونها ويأنسون لها، خاصة وأنها تقدم لهم في النهاية عبرة أو موعظة أو قيمة خلقية محببة .

وقد استطاع الدويري في توظيفه للسوالف أن يقترب كثيراً من الواقع الاجتماعي، ومن بعض النماذج البشرية المنتمية إلى البيئة المحلية، وفي الوقت نفسه تمكن من احتواء المغزى الأخلاقي الذي حرصت عليه القصة الشعبية الأولى . ففي القصة السابقة التي أشرنا إليها منذ قليل وهي قصة ( من الواقع ) يصطنع الكاتب من نفسه مستمعاً إلى صديقه الذي يحدثه بأن أميراً من أمراء البحرين استولى على الجزيرة بعد حوادث مريرة، حيث استتب له الأمر، واستقبله الناس بالفرح لأنه أخذ يحكم البلاد بالعدل والإحسان، بعد أن كانت مليئة بالظلم، ولكن كان هناك من يضمر له العداوة فقد تم تدبير خطة لقتله والتخلص منه، حيث يغري الأعداء رجلاً يقوم بقتله في مقابل مبلغ من المال، ويدخل الرجل القصر ويختبئ في إحدى الزوايا ولكن الأمير يكتشف وجود المجرم فيأخذه ليطعمه ويلبسه الكسوة بدلاً من معاقبته، ويطلب منه معرفة الذين أغروه بهذه العملية . ثم يعطيه مبلغاً مضاعفاً للمبلغ الذي أغرى به، وهنا يعلن الرجل الوفاء للأمير والولاء له أبد الدهر .

ولا شك أن الدويري وهو إزاء صياغة هذه القصة لم يكد يكلف نفسه جهداً ومكابدة، فالحكاية جاهزة . بمواقفها وبمغزاها الأخلاقي، يأتي لصياغتها وتسجيلها بأسلوبه واضعاً نصب عينيه ما تعالجه من مضمون اجتماعي وأخلاقي يدور حول جزاء الإساءة بالإحسان، والصورة المثالية للحاكم العادل الذي يلقى الإساءة رغم أنه ملأ البلاد بالعدل والإحسان . وتلقن هذه القصة درساً حول عاقبة مثل هذه الإساءة التي لا يكون مصيرها إلا الكشف والجلاء والفضح والجزاء .

وهذه القصة بصياغتها المتوازية مع الحكاية الشعبية تفتقد روح الفن وتبتعد قليلاً عن الأصول الصحيحة في بناء القصة القصيرة، وبخاصة فيما يتصل بحركة الشخصية القصصية وحضورها الفني المتوازن مع حضور الرؤية الفنية للكاتب والقائم على التصوير أو التجسيد الذي يهب فيها القدرة على الحياة والخروج عما كانت عليه في الأصل الحكائي .

إن بناء الشخصية .. والتحرك الفني بالحدث لا يشكل اهتماماً واضحاً لدى الكاتب، فقد كان يشغله استخراج المغزى والفكرة الأخلاقية التي تأتي بازغة كالشمس في النهاية، فلا يكاد يصل إليها، حتى يواجه القارئ بها مباشرة على لسان الراوي الذي يقول :
(هذه يا صديقي قصة من الحياة، فيها خصائص إنسانية سامية، وفيها عظة . حاول أن تسكبها كما يفعل القصاصون، وسأقص عليك غداً قصة أخرى، لأريك أن في الحوادث الحقيقية قصصاً كثيرة حرية بالتسجيل).

ولا ريب أن الدويري قام بتسجيلها بالفعل، وبصياغة موعظتها، ولكن كما يفعل القاص أو الراوي الشعبي لا كما يفعل كاتب القصة الفنية القصيرة . والحق أننا لا ننتظر من الدويري في أول قصة يكتبها أكثر مما حرص عليه في اقتباس المغزى الأخلاقي من القصة الشعبية، بخاصة أن هذه القصة تحسب من البدايات الأولى التي تمخضت عنها نشأة القصة القصيرة في الخليج العربي .

غير أن الكاتب يستمر في هذا الاتجاه الحريص على اشتقاق المدلول الأخلاقي من القصص الشعبي، ففي قصة (صك الكرامة) (4) يجسد لنا صورة مثالية رائعة للنبل والشرف والوفاء للعهد، وذلك من خلال سلوك شخصية تحمل قسمات هذه الصورة وتتعلق بها تعلقاً عفوياً، وتواجه به مشقة الحياة بكل ما فطرت عليه من صبر وصفاء .. فأبو صالح رجل من أعيان البلاد له تجارة تمتد من الخليج إلى البصرة وإلى كراتشي وموانئ الهند، وتنقلب عليه الأحوال بعد كارثة مادية فيبتعد عنه الجميع وتقسو عليه الأيام، ويدفعه جوع أولاده للاقتراض من صديقه (عبدالرحمن) وحين يطلب منه رهاناً لا يجد سوى شعرة من لحيته ينتفها ويقدمها له عنواناً لكرامته . وتمضي الأيام حتى يأتي يوم وفاة أبي صالح فيطلب حضور صديقه ليسلمه الرهان، ويستلم منه المقابل لما اقترض منه .

والكاتب يرسم صورة مثالية مؤثرة لشرف العهد وكرامته ونبله في مجتمع لا شك أنه بات يفتقر إلى التمسك بمثل هذه القيم الأخلاقية العالية وهو يلجأ إليها في القصص الشعبية التي تمثل إرثا جماعياً قريباً من وجدان المجتمع في الخليج العربي، ثم يجعل سياقها في نموذج محلي مرتبط بواقع الحياة التجارية المغامرة في الخليج، وما كانت تتعرض له من تقلبات بعيدة الأثر تكون امتحاناً للوازع الإنساني والأخلاقي في الشخصية، كما حدث لأبي صالح الذي أخرجه الكاتب من محنته، مثالاً عزيزاً أثيراً إلى النفس المشتاقة لما تبعثه الأخلاق والقيم الحميدة من ضبط الأواصر والنوازع الإنسانية .

وربما كانت هذه القصة أكثر تطوراً من السابقة، لأن الكاتب حاول أن يرسم بعض الملامح الفنية لشخصيته عن طريق الوصف والحدث والحوار القصير . فهو بذلك يخرج عن سذاجة العمل القصصي الأول بمقدار واضح، كما يتخلص نوعاً ما من عدم منطقية بعض المواقف، فتبدو أكثر قرباً من الواقع الاجتماعي وإن كانت تحكي حدثاً ماضياً بعيداً، وفي هذه القصة تتسق عناية الدويري بالشخصية القصصية المحلية مع عنايته باستخراج المدلول الأخلاقي التعليمي، الذي يسعى إلى تلقينه وجعله مثلاً يجب أن يحتذي المجتمع به، وخاصة حين يهتف عالياً في نهاية القصة: (هذه الشعرة التي لم تعد شعرة عادية بل عنواناً لكرامة رجل نبيل).

ويمكن أن نسجل ملاحظة حول قصص الدويري التي استمد مدلولاتها التعليمية من القصص الشعبية وهي أن معظمها يدور حول أخلاقيات مجتمع يعيش على التجارة والأسفار والرحلات التي تجلب فيها البضائع من الموانئ البعيدة سواء في ساحل الخليج العربي أو في سواحل أفريقيا والهند، وهذه الأسفار كانت تشكل لها واقعاً اجتماعياً متميزاً في الكويت والبحرين بصورة خاصة، فقد خلقت لها كثيراً من الغرائب والحوادث الهائلة التي واجهها الرجال وهم في عرض البحر، وفي الأسفار البعيدة، ولم يخل واقع هذه الحياة من المغامرة والمثابرة والجلد فمن عاصر هذه الفترة التي نشطت فيها تلك التجارة، عايش كثيراً من الوقائع التي هزت البلاد (5) وبخاصة عندما تدور بعض العواصف التي تأتي على الرجال والأبناء . وهم يواجهون البحر، وتأتي على ثرواتهم الطائلة . وكانت مثل هذه الأحداث تؤثر في نفسية العامة من الناس حيث يرضخون لمشيئتها وتصاريفها ويرتدون فيها إلى ما يعينهم على مواكبة تقلباتها المباغتة كالتعلق بالقيم الروحية والمثل العليا في الوفاء والصبر والجلد كما رأينا في شخصية (أبي صالح) حتى أصبحت الحياة مطبوعة على الصلابة والخشونة.. فطبيعة الحياة التجارية في مجتمع تسيطر عليه المحافظة والتعلق بالقيم، تستدعي التجلد والاعتماد على كلمة الشرف التي يطلقها الرجل فتصبح بالنسبة إليه أمراً عظيماً يسترخص دونها الموت . من أجل ذلك أصبحت الشعرة التافهة من لحية الرجل عنواناً للكرامة في قصة (صك الكرامة).

وكاتبنا فهد الدويري حين استمد القصة الشعبية التي سمعها عن سنوات السفر والتجارة، إنما يريد أن يتمثل هذه القيمة الأخلاقية العظيمة التي نتعلمها من شخصيته في القصة، فضلاً عن تسجيله لوقائع حكاية تناقلها الناس وتداولوا صيغتها جيلاً بعد جيل .

وكما يرتد واقع البحر والسفر والتجارة بالمجتمع إلى امتثال الصبر والمثابرة والشرف فهو يرتد بها أيضاً إلى امتثال بعض القيم الأخلاقية التي تدفع إليها الثروة الطائلة في حالة ازدهار التجارة .. أو الفقر المدقع في حالة عدم ازدهارها، فنجد لدينا وجوداً راسخاً للكرم والبخل والإسراف وأهمية الثروة، وكيفية استغلالها للتغلب على نوائب الدهر، بل إننا نجد سعياً للبحث عن حقيقة معنى السعادة في حياة الأسرة وانسجام موقعها مع واقع قد يسفر عن ثروة كبيرة، أو قد يسفر عن كفاف وخسران كبير . لذا يقترن مفهوم (المجتمع السعيد) مع إنتاج الثروة وتقلباتها، فهل هو يأتي مع وجود الثروة والتفوق في التجارة .. أو أنه يأتي مع عدم وجودها أو ذهابها المفاجئ ... ؟
وهنا يعين فهد الدويري لجوءه إلى القصص الشعبية، ويجد فيها إمكانية استخلاص العبرة الحاسمة .. ففي قصة (يرثون حياً ) يستخرج لنا مغزى كبيراً حول عاقبة البخل والتقتير، وكيف يؤول بصاحبها إلى زوال وانتهاء ما جمع وبخل به وحرص عليه لا عن طريق تمتعه بها هو الذي سعى في جمعها بل عن طريق تمتع الغير بها ممن لم يصرف جهداً في تحصيلها .

ويرسم لنا هذا المغزى عبر شخصية يشتقها من المجتمع تقترب صورتها كثيراً من روح السخرية، والنكتة أو التجسيم الهزلي بما يتفق مع وصفه البالغ للبخل الذي تقوم عليه القصة، فالبخل يقترن بالسخرية لدى كثير من الكتاب ابتداء من الجاحظ في كتابه البخلاء، وانتهاء بموليير وغيره . بل إن الدويري كان يتمثل بخلاء الجاحظ حقاً وهو يصف شخصيته منذ البداية فيقول :
(لو أردت أن أصفه لك وصفاً شاملاً دقيقاً وافياً، لاستلزم ذلك أن أنسخ لك هنا كل ما قاله الجاحظ في كتابه الخالد (البخلاء) فعليك إذن أن تعفيني من هذا العناء، وتقرأ أنت ذلك الكتاب الطريف، لتكون في ذهنك فكرة هي دون الواقع بكثير عن بخل يعقوب وشحه) (6) .

ورغم ذلك فالكاتب لا يستغني عن وصفه، فهو رجل تمتلئ خزائنه ذهباً وأموالاً يتعبد بها ويحبها حباً غريباً، ويجد في جمعها لذة ومتعة حتى أصبح مشهوراً ببخله بين الجميع بل إنه بسبب بخله يذيق زوجته وولده الحرمان والتقتير والجوع، ولأنه لا يثق في أحد من الناس فهو يسافر مع بضاعته في البحر، ويشاء القدر مرة أخرى أن تهب عاصفة أغرقت السفينة والبضاعة والبحارة وحزنت البلاد على هذه الحادثة ما عدا زوجة يعقوب وابنه، حيث وجدا في ذلك نهاية لحرمانهما، فنعما بحياة مليئة بالبذخ إلى أن نفدت الأموال من كثرة الإسراف ورجعا ثانية إلى الكفاف. وبينما هما في هذه الحالة فوجئوا بمقدم يعقوب حياً وقد تقدمت به السن، وحين يدرك كيف تبددت أمواله لم يستطع العيش بدونها، فانتحر .

والكاتب يضع لنا نهاية لا تخرج عن دائرة العبرة والموعظة الأخلاقية بل إننا نستشف هذه النهاية منذ بداية توسع الكاتب في وصف هذه الشخصية لأنه يشعرنا بالمواضعة الأخلاقية المعروفة التي يقررها أحد الأمثال الشعبية الشائعة في مجتمع الخليج العربي( مال البخيل ما يأكله إلا العيار)، فكما تمتثل هذه الخلاصة حول عاقبة البخل ونهايته في هذا المثل نجد هذه القصة تقدم لنا المفارقة المؤسية والحتمية لسلوك الرجل البخيل الذي لا يذوق من ثروته متعة وسعادة بل يذوق من تبديدها الحرمان والموت الأكيد .

وتتضح لنا دلالات الجانب التعليمي في كل ما تعكسه هذه القصة من آثار أو تحرص عليه من صياغة، فالوصف يأخذ له حيزاً استطرادياً من عناية الكاتب خاصة وهو يصف بخل الشخصية وشذوذها الأخلاقي . بل إنه في وصفه يعني باشتقاق كل ما يمكن أن يطبعه البخل في سلوك الشخصية كاللؤم، والحسد وسوء الظن في الآخرين واحتكار التجارة وفرضها لذات البخيل، والشعور بالحقد والعدوانية وغير ذلك مما يسهب الكاتب في وصفه، وهو ما جعله يسبغ على بخيل قصته تشبيهات من بخلاء الجاحظ تارة .. وبخل اليهودي (شيلوك) تارة أخرى، وفي كل ذلك يحرص الدويري على المبالغة لصورة البخل في شخصيته، حتى تكون عاقبته ونهايته أكثر بزوغاً واحتواء للمغزى الأخلاقي . وجهارة الكاتب بالدلالة التعليمية تبدو حتى في أسلوب السخرية الذي يحرص على إشاعته وتقديم شخصيته بها . ويمكن أن نقف مع جانب من هذا الأسلوب فهو يقول مثلاً :
(صارت شهرته بالبخل تتضاءل عندها شهرة اليهودي (شيلوك) وأصبح تقتيره على أهل بيته مضرب الأمثال للمقترين والبخلاء مع أنه ليس له في الوجود غير زوجة شارفت عصر العمر وولد قارب العقد الثالث، ولكنه يسومها سوء الشح وعذاب الفاقة والجوع، وذلك لأن من آراء هذا (الشيلوكي ) أنه مادام في طاقة الإنسان أن يتحمَّل ما دون الموت جوعاً وما دام في استطاعته الاكتفاء باللقمة المانعة فأحرى به أن يعيش عيش الكفاف، والتقتير لكي يبقي على النقد والبنكنوت داخل الصناديق الصدئة...... إنه يردد دائماً شطر القول المأثور: (إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا) أما الشطر الآخر من هذه الحكمة الغالية فقد نسيه، أو قل تناساه) (7).

ولا شك أن مثل هذا الأسلوب الذي يجمع بين مبالغة الوصف، وسخريته يساعد الكاتب كثيراً على الوقوف مع القارئ حول ما يشير إليه من مظاهر سلوكية وإشارات خلقية، تصب جميعها في المغزى النهائي الذي تنتهي إليه القصة.

وبالأسلوب التعليمي نفسه الذي يستهدي بالفكرة الأخلاقية يحاول الدويري أن يضع مغزى خاصاً في بحثه عن صورة (المجتمع السعيد) التي يتمثلها في قناعة الفرد وبساطة معيشته وشعوره بالرضا التام وخلوّ ذهنه من مشاغل الأغنياء وهمومهم الذين يغرقون جل وقتهم في احتساب الأموال واكتسابها .

ويصوغ الكاتب هذه الفكرة في قصة ) صانع المتاعب ( ويخضعها لما تستوعبه من مواقف متحولة، ومثيرة، فيلجأ إلى تصوير حال أسرة فقيرة سعيدة وأخرى غنية، حاقدة حاسدة، ما إن يتبدل وضع الأسرة الفقيرة إلى الغنى حتى يدخلها الشقاق والبغضاء، فيقول رب الأسرة الغنية ) سعيد ( لزوجته التي تنظر إلى مشاجرات جيرانها :
(لا تلوميني بعد اليوم ستعلمين أن الثراء والراحة ضدان لن يجتمعا) ..

تأتي هذه الجملة محملة بكل ما أراده الكاتب من دلالات المغزى الأخلاقي الذي يدور حول الموطن الحقيقي للسعادة بين أفراد المجتمع، كما جاءت صياغته العامة للحدث في القصة وهي تقرر لنا بوضوح هذه الفكرة منذ البداية، حيث وجدناها تقدم المشاهد الاجتماعية بين الأسرتين وتصور كيف يسفر وضع كل منهما عن مؤشرات سلوكية تجري في أعماقها ويصطفيهما الدويري ليقف بها وقفة خطابية يتوجه بها إلى القارئ مباشرة كأن يقول :
(عجباً كيف يتمتع بجمال الحياة من فقد المال، ويفتقر إلى السعادة من رزق الثراء الواسع) .

وفي هذه القصة يتجاوز المغزى الأخلاقي الذي يبحث عنه الدويري حدود الأفراد وعلاقاتهم المحدودة لينبئ عن مغزى أكبر وأوسع . إذ أن الكاتب يتنبأ في هذه القصة بما يستقبله مجتمع الكويت من آثار الثروة المفاجئة التي يحدثها انتاج النفط .. وقد كتب الدويري (صانع المتاعب) عام 1949 أي قبل أن تتضح مظاهر الثروة الطارئة وتستشري نتائجها الاجتماعية في تمزق أواصر الأسرة وتفكك كثير من العلاقات الاجتماعية التي كانت تحافظ عليها أخلاقيات المجتمع التقليدي كالجوار، والتعاون (المفازعة) والتكافل ونحوها.

ونحن نجد صورة هذا المستقبل فيما تعرضت له أسرة خالد الفقيرة من امتحان عسير بعد أن هبط عليها المبلغ الكبير من غير أن يحتسب وصار عن طريق التجارة من أغنى الأغنياء في الوقت الذي افتقد تماماً ما كان يتحلى به من تماسك داخلي وحب لزوجته وأولاده واطمئنان للحياة معهم من غير نفور أو ضيق.. وبذا فإن تمزق هذه الأسرة بسبب الغنى الفاحش المفاجئ هو النافذة التي يطل منها الدويري قبل غيره على ذلك التمزق الكبير الذي هز العلاقات الاجتماعية في الكويت هزاً عنيفا بعد أن اتضحت آثار المرحلة الاقتصادية الحديثة والمفاجئة.

وهناك فكرة قوية سيطرت على كاتبنا الدويري وهو يستمد بعض قصصه من الوجدان الشعبي وهي أنه يكتب القصة الواقعية لا الخيالية التي يختلق الكاتب حوادثها من خياله وفكره، فهو في مقدمة قصته الأولى (من الواقع) يميل إلى الاعتقاد أن الكاتب يجب أن يسجل التاريخ النفسي للمجتمع ويقصد به الواقع الحقيقي الذي لا يكون متخيلاً، ونستشف معنى قريباً من ذلك من قوله في مقدمة قصة (صانع المتاعب) فهو يصطنع حواراً مع القارئ على هذا النحو :
(تسألني متى حدثت وقائع هذه القصة . حسناً، إني لا أعلم متى حدثت يا سيدي، ولو لم أكن أقتطف ما أقصه عليك من صلب الواقع ولب الحقيقة لحددت لك تاريخها باليوم والشهر والسنة كما يفعل كتاب القصص الذين يختلقون قصصهم اختلاقاً، يلفقون الوقائع، وتاريخ وقوعها ليوهموا القراء بأنها حقيقة واقعة)(8).

وإذا كانت مثل هذه المقدمة تشير إلى هدف الكاتب في أن يجعل من نفسه كاتباً واقعياً، فإن الدلالة التعليمية فيما كتبه من القصص السابقة واهتمامه المباشر بصياغة المغزى في ثناياها كان بلا شك يقربه من الواقعية بمعناها التسجيلي الأخلاقي التي كانت تداعب فكره بإلحاح شديد خاصة أن الفكرة التي ترسمها تلك المقدمة تبدو نابعة من تأثر شديد بأسلوب طه حسين في (المعذبون في الأرض)(9) التي يحدث فيها قارئه بجمل قريبة مما أراده الدويري في مقدمته السابقة . وربما كان أكثر ما أفاده إلحاح فكرة الواقعية أنه ربط ربطاً وثيقاً بين المغزى الأخلاقي والسلوكي وبين مظاهر من الحياة الاجتماعية في البيئة المحلية، فأصبحت إشاراتها التعليمية تتوجه بالإصلاح وتسدي الموعظة الطيبة في سبيل تخليص المجتمع من عيوبه المتسببة في تفكك أواصر المودة وعلاقات التماسك في داخل الأسرة.

ويبدو أن قصص الدويري السابقة قد شقت لها رافداً جديداً لم تألفه التجربة الأدبية في الخليج العربي فقد وجدناها تستأثر باهتمام بعض الكتابات القصصية اللاحقة، فتحرص على اشتقاق المغزى الأخلاقي إما من بعض القصص الشعبية الموروثة أو من أسلوب القصة في التراث العربي القديم .

ومن النوع الأول نجد عدداً من القصص نشرتها مجلة ) الرائد (، الكويتية بعنوان (من الواقع ) (10) تحت توقيع مستعار (قصاص) وربما كان هو فهد الدويري نفسه، وترضخ فكرة هذه القصص للإيمان والتطامن لما يأتي به القدر وما تقرره القوى العليا (الإلهية) من مشيئة لا ترد . مما يعد ترجيعاً لما يشيعه المجتمع المحافظ من تعاليم استسلامية لم يكن مجتمع الخليج حتى فترة الخمسينات في خلو منها .

أما النوع الثاني فنجد منه قصة نشرتها مجلة ) البعثة (بتوقيع مستعار (ع.ف) تحت عنوان (ابن آوى والأسد ) (11) وهي من قصص الحيوانات التي يجاري فيها الكاتب أسلوب الحكاية في قصص كليلة ودمنة . حيث يعنى بتجسيد المغزى الأخلاقي الذي يجري في مجتمع الإنسان على لسان بعض الحيوانات، ففي هذا المجتمع تسود فكرة سيطرة القوي عن طريق ما يفرضه من قوة يرضخ له بسببها الآخرون ويرهبون جانبه، وحين تنتهي قوته أو يفقدها تنتهي تلك الرهبة وتذهب الطاعة ولا يجد أحداً يواليه أو يواسيه، كما حدث للأسد الذي ضعف واستبد به الإعياء وحين بعث بابن آوى ليصطاد له صيداً هجمت عليه الحيوانات الأخرى التي كانت تدين لطاعة الأسد وأرادت أن تستلب صيده ساخرة من مرض الأسد وضعفه، وعندما وصل ابن آوى متأخراً لم يفعل سوى أن رق لحاله وحزن عليه عند الوفاة .

وربما افتقرت مثل هذه القصص إلى المستوى الفني الذي كان يعني به فهد الدويري في صياغته لبعض القصص الشعبية وبخاصة فيما تثيره من معان أخلاقية وثيقة الصلة بسير الحياة الاجتماعية وقوانينها ومواضعاتها الأخلاقية، ولكنها رغم ذلك تظل تؤكد حرص كتاب القصة في هذه الفترة على تكريس بعض القيم الأخلاقية معتمدين في ذلك على المرجعيات الشعبية القريبة من الوجدان والمجتمع.

وكما كانت نماذج التراث الشعبي قريبة إلى الوجدان الجماعي بما تثيره من دلالات أخلاقية مباشرة، فإن ما تحكيه قصص الأنبياء أيضاً يعد أكثر قرباً إلى قواعد السلوك العامة التي يرضخ لها المجتمع المحافظ في الخليج العربي، وقد تمثل عبدالله الزائد في فترة مبكرة من نشأة القصة جانباً مما تثيره قصة موسى (عليه السلام ) من ضرورة الإيمان بعدالة السماء والاطمئنان إليها في اندحار الظلم وإن طالت به الأيام، وذلك في قصة لم يضع لها عنواناً بل أطلق عليها رواية تمثيلية .. وهي في الحقيقة لم تزد عن كونها قصة تمثيلية، لأن الزائد عنى بتسجيل الحركة والحوار ووصف المشهد الذي جعله يقترب من روح السيناريو أو المسرحية ذات الفصل الواحد .

وبصرف النظر عن خلوها من العنوان واضطراب الكاتب في تسميتها فإننا نجد حرصاً واضحاً منه على تقرير ما يؤول إليه الظلم،وكيف ينتهي مصيره عندما تكون العدالة الإلهية وراء كل ما يحدث، فالنبي موسى ينظر أمامه إلى رجل يأخذ صرة نقود ثم ينظر إلى آخر يدعى ) يوشع ( وهو يقتل شيخاً يردف معه فتاة جميلة وقد ظنه هو الذي أخذ النقود، ثم يأخذ الفتاة معه، وحين يسأل موسى عن العدل والإنصاف في هذه الحوادث يأتيه الوحي بأن ذلك الرجل إنما أخذ نقوده التي استلبها والد يوشع منذ زمن، وأن يوشع إنما أخذ بدم والده الذي قتله الشيخ غدراً وغنم منه ابنته، وحين أردف يوشع الفتاة معه فهو قد استرد أخته (12) .

وهكذا فالكاتب يريد القول ) إن الظلم لا يدوم طويلاً بل إنه نهايته لابد أن تأتي حتمية وكاشفة لما صدر عنه من بطلان واختلال، وقد أراد في ذلك أن يعبر عن المثالية الروحية التي ترتد إليها بعض القيم الأخلاقية كالعدالة . مؤكداً صدورها عن قوة عليا لا يمكن إلا أن ترصد الخطأ والخلل بين بني البشر ولو بعد حين .. وهو في ذلك يدين المظالم الشائعة في المجتمع بل إنه يدين صراحة مظالم هتلر والنازية كما أشار إلى ذلك في تقديم القصة(13). فالمغزى الذي يدور حول القيمة الأخلاقية العظيمة (العدالة) التي يؤمن بها المجتمع التقليدي، تعتبر من خلال هذه القصة أثراً من آثار الحرب العالمية الثانية على مجتمع يحمل إدانته للظلم بما يتعارف عليه وجدانه العميق من قيم لها مكانتها الكبيرة ورسوخها الشديد .

ويمكن أن نقول بعد ذلك أن الجانب الأساسي الذي يميز القصص القصيرة التي عرضنا لها هو (استعمال) صياغة الحكايات (أو السوالف) بوصفها ماضياً جامداً مجرداً من قابلية التعبير عن الروح المتوثبة المتعطشة للإصلاح والتهذيب، بل أنه أصبح بداية مضيئة يمكن أن يستفيد منها الحاضر ويقيم عليها أسساً في تجربته الإنسانية والحضارية .

وحيث كانت القصص الشعبية مصدراً للقصة القصيرة كما رأينا في النماذج السابقة فقد جاء ذلك انسجاماً مع الهدف التربوي والتهذيبي الذي أراده كتاب القصة والذي جعلهم يحرصون على توظيف المادة القصصية من أجله، فالمصلح، أو المربي يشرع جميع أسلحته في سبيل محاربة الخلل الاجتماعي، والزيف الخلقي والتأكيد على ضرورة التماسك والمحافظة على القيم الفاضلة في المجتمع . لذا فإن كاتباً مثل الدويري - وفي الفترة التي عاشها كاتباً قصصياً - لابد من أن يكتسب الكثير من الحكايات الشعبية ويجد فيها فضلاً عن الهدف التربوي، جوانب درامية وسمات مثيرة جديرة بالصياغة .

ويتفق كل ذلك مع ما اتبعته القصة العربية في مراحلها الأولى عندما طوعت التاريخ وقصص التراث وجعلت منه مادة أثيرة للقراء فاتجه إليها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في (أحلام شهرزاد) وتوفيق الحكيم في (شهرزاد) ومحمود تيمور في (حواء الخالدة ) والرافعي في (وحي القلم) وغيرهم . وتدخل قصص فهد الدويري، التي عرضنا لها في هذا السياق الذي دخلته القصة العربية، سواء أكان ذلك بدافع التقليد والمجاراة أم بدافع التعبير عن الجماعة البشرية وظروف العصر الجديدة . إذ ) أن قصاصي اليوم وجدوا أكثر من أديب كبير أرجع صياغته القصصية إلى أنماط خرافية فاحتذوا احتذاءه (كذا) سواء جرياً وراء عادة تقليد العظماء، أو خضوعاً لمبدأ النماذج العليا من حيث كونها تعبيراً عن قوى روحية كامنة في اللاشعور الجماعي ( (14) .

ويكفي أن ندرك بأن (جوته) شاعر ألمانيا قد (نظم حكاية الأفعى الخضراء و) حكاية زهرة السوس الجميلة ( ضمن مجموعة ألوان من حكايات الترفيه عن المهاجرين الألمان، ولم يكن الهدف ترفيهياً بقدر ما كان تربوياً أخلاقياً) (15) ومع الفارق الكبير بين كتاب القصة الذين نتحدث عنهم وبين ) جوته ( الذي أوصل الأدب الشعبي إلى مفهوم إنساني واسع يمكننا القول أن فهد الدويري وأضرابه استطاعوا تطويع هذا المصدر ليكون مصدراً مؤسساً للقصة القصيرة في بواكيرها الأولى.