القسم الأول . الفصل الرابع 1

القصة الاجتماعية
والمعالجة الإصلاحية لوضع المرأة

* فهد الدويري
* فاضل خلف
* أحمد كمال

رغم أن موضوعات المجتمع حول التقاليد والعادات تستأثر بالجـزء الأكـبر مـن تركيز كتـاب القصـة الاجتماعيـة القصـيرة (ذوي الاهتمام الفني) فإنها عند فاضل خلف، وأحمد كمال، وفهد الدويري بصـورة خاصة، لا تحصر نفسهـا في أثـر معـين من آثارهـا الاجتماعيـة، بل إنها تتجاوز ذلك، لتنشر صـورة آثارهـا البالغـة فـي نظـام الأسرة .. ووضع المرأة وعلاقتهـا مـع الرجــل.

ونجد ذلك فيما يعالجه الكتاب حول تقاليد الزواج حيث صوروا مساوئ الأسلوب التقليدي في إقامة علاقة الزواج ودعوا إلى خلق نوع من التفاهم والتقارب والتعرف، إيماناً بحرية الاختيار للرجل والمرأة.

ويتناول فاضل خلف وفهد الدويري هذه المشكلة، فيصور كل منهما ما تقود إليه من نتائج خطيرة في تكوين الأسرة ... وفي مستقبل الفرد ... بل في مصير المرأة بوصفها ضحية أخرى لهذه المشكلة . ولعل ذلك مما يعد اتجاهاً لإثراء العالم الدرامي للقصة الاجتماعية القصيرة. فالدويري في قصة ( رسالة ) يجعل شخصيته ترضخ للعمل بالفكرة التقليدية في اختيار الزوجة عن طريق الخاطبة، فيقبل بالمرأة التي تختارها الخاطبة بعد أن كذبت عليه في تلفيق صفاتها وأخلاقها وثقافتها . وفي ليلة الزواج يكتشف الحقيقة المرة ؛ فقد كانت زوجته قبيحة، عديمة الخلق، جاهلة لا تعرف شيئاً عن حياتها ولا تجيد سوى الحديث عن ثروة أبيها فلا يجد مفراً للتخلص من خيبة الأمل التي أفاق عليها بعد حلم لذيذ . إنه يبعد عن نفسه فكرة الطلاق إشفاقاً عليها كما أنه لا يلجأ إلى الزواج من أخرى خوفاً عليها أن تبتلي بالضرة وهـي التي لم تـجن عليه شـيئاً وأخـيراً لا يجد سوى الفرار والسفر .. وهـذه النـهاية شـــكل

من أشكال الهروب التي تعقب خيبة الأمل والانكسار يختارها الكاتب مصيراً لبطله في القصة ... فيكون - هذا المصير - مزيجاً من الاحتجاج الرومانسي والرغبة الواقعية في إصلاح الأسباب التي أفقدت الشخصية توازنها وارتباطها بالواقع

وتأتي الناحية التعليمية في معالجة المشكلة الاجتماعية في هذه القصة من أسلوبها السردي المباشر الذي جعله في شكل رسالة يكتبها بطل القصة إلى صديقه ويودع فيها نتائج مشكلة اجتماعية عامة لتكون رسالة موجهة إلى المجتمع بأسره، كما تأتي الناحية التعليمية من سخرية الكاتب ومن موقف بطل القصة إزاء ما وقع فيه .. ويمكن أن ندرك ذلك من خلال المقطع التالي الذي تتحدث فيه الشخصية القصصية من موقعها الساخر المحتج عن طرق الخاطبات في وصف المرأة التي يريدها الرجل :
(لقد حدثتني عنها حديثاً مسهباً مستفيضاً، وصفت لي عيونها التي كانتا كالفناجين، وفيها الذي يشبه خاتم سليمان، أما أنفها فقالت أنه (كسلة) السيف . وأنت تعرف أن الناس في البلد تعارفوا على أن هذه أوصاف جمال، مع أنها أوصاف قبح خالص، فبالله عليك كيف ترى العيون التي كالفناجين ؟ ... إن الفناجين قد تصلح لوصف أي شيء إلا العيون الجميلة، ومن المؤكد أن الخطيبة العزيزة كانت في تلك اللحظة التي استعرضتها الخاطبة مبحلقة عينيها لتزيدها اتساعاً، وجحوظاً وحسناً . وإذا سلمنا جدلاً أن الخاطبة قد رأت خاتم سيدنا سيلمان عليه السلام في أورشليم رأي العين، فمن المحال أن يشابه أي خاتم في الدنيا أي فم جميل، ثم ما رأيك في أنف ) كسلة السيف ( أجميل هو ؟ وكنت متأكداً من أن كلامها هذا مبالغ فيه . إن لم يكن كذباً كله، ولكن عندما سألتها عن علم الفتاة وثقافتها أجابتني بأنها متعلمة تعليماً راقياً جداً . وكان لهذا وحده تأثيره العظيم على نفسي) (42).

إن أسلوب النقد وملامح السخرية والتهكم في هذه القصة لا تنبع من صوت الكاتب وتعليقاته المقحمة كما وجدنا ذلك في النص السابق، بل إنه ينبع من وضع الشخصية وموقعها الفني بوصفها راوية للحدث، وهذا ما أتاحه أسلوب القصة نفسها الذي جاء في شكل رسالة.

ولا يبتعد فاضل خلف عن هذا الأسلوب عندما يعالج مشكلة اختيار الشباب لزوجاتهم حين يأتون حاملين في صدورهم صـورة مثالية للزوجة المختارة ولكنهم يصدمون بالواقع الذي يدفعهم إلى مجـاراة التقـاليـد نظـراً لقـيـود الفصـل الشديـد بين الرجل والمرأة في مجتمعـهـم ... كـمـا حـدث لعبدالرحمن بطـل قصـة (أحلام الشباب ) (43) الذي يصوره في صراع بين رغبته النفسية العنيفة في الزواج وبين أن يضل طريقه فيرتكب المعصية تلبية لرغباته ... فلا يجد حلاً إلا أن يتزوج بالطريقة التي أرادتها أمه . ومنذ الأيام الأولى من الزواج يفيق الرجل من ذهوله على صدمة عنيفة .. فقد جاءت المرأة وهي تحمل كل الطباع المنافية لطبيعته، عديمة الخلق، مبذرة متحاملة على الدنيا ومن فيها، تعامله معاملة نابية متكبرة .. فضلاً عن قبح منظرها . ويظل معها بضع سنوات ثم لا يحتمل الحياة معها فيطلقها حامداً لله على أنه لم ينجب منها ولداً.

والكاتب في مثل هذه القصة يلح على مسألة اجتماعية هامة، وهي القناعة الواعية بالخلل الشديد الذي يحرك القيم والتقاليد في المجتمع، فهو بطريقة غير مباشرة يدين القيود التي تفصل بين الرجل والمرأة وينتقد ما يشيع في المجتمع من أن الدين يحرم رؤية الرجل للمرأة، ويجعل الكاتب مصير الطلاق بكل ما يعنيه من تفكك وتمزق لأواصر العلاقة الزوجية، نهاية حتمية لتقاليد سيئة جائرة في حق الأفراد وحرياتهم، ويجمع الكاتب مع الموعظة التي يثيرها مثل ذلك المصير صورة بازغة للمفهوم الجديد الذي يحمله جيل الأبناء حول فكرة الزواج . يعرضها الكاتب في أسلوب تعليمي تقريري على لسان بطل القصة، وبخاصة حين بيّن لأمه التي تريد تزويجه باختيارها موقفه على هذا النحو :
(إن رؤية الشاب لزوجته قبل الخطوبة واجب اجتماعي ... وبين لها أن الدين لا يتنافى مع ما ذكره، وإنما رجال الدين هم الذين طوحوا بالمجتمع إلى الحضيض، وشوهوا سمعته بين الناس ) (44).
ولا ريب أن هذه النظرة تكشف لنا جانباً من التغير الاجتماعي الذي يتمثله الجيل الجديد بما طرأ على أفكاره ومعتقداته من تحرر وإصلاح . يأتي بها الكاتب في حالة صدامها مع جيل الآباء ... ثم في حالة صدام أعنف مع المجتمع - عندما ظل بطل القصة ينتظر تحقق حلمه في زواج يقرره باختياره هو، ولكنه لم يجد المجال الذي يعرفه على فتاته، فالمجتمع يضج بالقيود بين الرجل والمرأة، فيرضخ من أجلها لما لا يؤمن به ... وهذا الانتهاء الذي وصل إليه البطل عمّق من حقيقة الصدام في الحالة الأولى وفتح لها آفاقاً تعليمية، رحبة، تحقق هدف الكاتب ولكنها تبعده عن معالجة الصدام في الحالة الثانية (الصدام مع المجتمع) وتأتي منضوية بخفاء في سياق الصدام بين الابن وأمه، وكأن الكاتب يعطي للتناقض بين جيل الآباء والأبناء أثراً أكبر تفرضه حقيقـة القيود فـي العلاقة بـين الرجـل والـمرأة، وغياب أجوائها الصحيحة.

وتكشف القصة الاجتماعية القصيرة جوانب لها خطورتها البعيدة في وضع الأسرة، وخاصة من خلال ما يضعه المجتمع التقليدي من معايير تتحكم في حياة المرأة وتشكل نسقاً اجتماعياً ثابتاً في محيطها . ومن هنا تقوم هذه القصة ضمن الدور الإصلاحي الذي عايشت أهدافه ومطالبه بدور النقد والتقويم لتلك المعايير والتقاليد التي وجهت مستقبل المرأة وقادتها إلى مزيد من المعاناة والقلق والإحباط.

ويحاول بعض الكتاب مع هذا الدور أن يعطوا صورة شاملة للآثار الاجتماعية التي يخلفها استغلال الرجل للمرأة من خلال قوامته عليها سواء أكان أباً .. أم زوجـاً، إذ أن ذلـك لا يـكـوِّن مـشـكـلـة بالـنسبة للمرأة وحدها ... بل إنــه مشكلـة بالنسبة لكيان الأسرة ونظامها الاجتماعي الذي تعرضه للتمزق والانهيار التام.
وربما كان الطلاق هو أكثر ما يعرض الأسرة إلى التفكك، كما يعرض المرأة للضياع والإذلال، فالمرأة في مجتمع تقليدي كمجتمع الخليج العربي، ترعبها فكرة الطلاق وتجعلها ترضخ رضوخاً ذليلاً للرجل . إذ أن مشكلة الطلاق نفسها في المجتمع المتخلف يترتب عليها مضاعفات أكثر إذلالاً للمرأة وأكثر إرباكاً للمجتمع منها في البلدان المتقدمة، ذلك أن المرأة في البلدان المتقدمة غالباً ما يكون لديها إمكانيات العمل ومواجهة نفقات الحياة مما يحفظ لها شخصيتها وكرامتها . في الوقت الذي يؤدي طلاق المرأة غير المؤهلة للعمل ذاتياً أو بحكم تقاليد المجتمع إلى اعتمادها على الآخرين . مما يفقدها قيمتها واستقلالها في نهاية الأمر مضطرة للموافقة على سيطرة الرجل بشكل أو بآخر (45) وتكون هذه السيطرة بمثابة الأمر الواقع الذي تستسلم له وتستقبل من خلاله كل النتائج وردود الفعل السيئة التي تتحملها المرأة وحدها.

ومثل هذه المشكلة تلفت انتباه كتاب القصة الاجتماعية القصيرة فليجأون إلى نقدها وبيان أضرارها البالغة، فالدويري مثلاً في قصة (الزوجة الثانية) (46) يبين لنا ما تعرضت له الزوجة المسكينة من مهانة ومذلة عندما بدأ زوجها يعلن ضيقه بها ورغبته في الزواج من أخرى، تحقق له متعة وقتية، وتنجب أولاداً أكثر من هذا الولد الوحيد الذي أنجبه من الأولى .. وتظل هذه صابرة على ضيق زوجها ومشاجراته خوفاً من الطلاق ... حتى يأتي لها بالضرة . (الزوجة الثانية) فتتعرض لمذلة مضاعفة، وتكون النتيجة أن يخسر الزوج أمواله بسبب هذه المرأة الجديدة وإسرافها ... ويجعل الكاتب من ذلك موعظة حقيقية للنزوة الفردية التي تحكم تصرفات طبقة الأغنياء وتدفعهم إلى استغلال حقوقهم التقليدية بصورة تأتي على إنسانية الآخرين وكرامتهم.

وأسوأ ما تتعرض له المرأة من صور الاستغلال في المجتمع التقليدي حين ينظر الرجل إليها بوصفها متاعاً يباع ويشترى وتكشف قصة (صفقة خاسرة) (47) لأحمد كمال جوانب مهمة من هذه النظرة فالبطل فيها هو الأب الذي يريد أن يزوج ابنته، وفقاً للتقاليد ... ولنزعة انتفاعية واضحة تتدخل في قبول أو رفض الزوج، فهو يقبل لابنته الوحيدة (حمدان) صائغ الذهب البخيل الماكر، ويرفض) مصطفى (الشاب الذي تريده الفتاة وتحبه لأنه ألفها منذ الصغر، وبذا يسعى الأب نحو المال والاكتساب عن طريق زواج ابنته، وتفرح الأم بذلك بينما عاشت البنت مأساتها وحيدة، ولا يلبث (حمدان) الصائغ أن يكتشف لعبة الأب في ابتزاز أمواله مقابل خطبته وزواجه من ابنته، فيفاجئه في ليلة عقد القران بإرسال ورقة يرفض فيها الزواج ويطلب فيها من الأب أن يسدد ما أخذه من أموال وهدايا.

وتنتهي القصة بانهيار حلم الأب وسقوط انتهازيته تعبيراً عن الخلل الكبير في السلوك الأخلاقي، وتحمل هذه النهاية مع تقويمها لأحد المعايير الاجتماعية السائدة دعوة إلى إعطاء الفرصة كاملة للمرأة كي تحقق ذاتها في اختيار الزوج الذي تريده حتى لا تكون عرضة لاستغلال من الأب أو الزوج، وتقع بعد ذلك في خيبة الأمل الكبرى التي تأتي على حياتها . فالصفقة الخاسرة هي الإدانة والتعرية لهذا الاستغلال . وهي التي أوضحت ضرورة رجوع الأب إلى رغبة ابنته وإرادتها في الاختيار.

إن المرأة هي الضحية الحقيقية في المجتمع التقليدي، لأن هذا المجتمع يعطي الرجل كل المبررات التي تتيح له استلاب المرأة، والتي تجعل من تعاليمه المنطق الأعلى الذي يجب أن ترضخ له صاغرة متخلية عن إرادتها وحقها في الاختيار، وهذا ما ينتبه له كتاب القصة الاجتماعية القصيرة في هذه الفترة، إلا أنهم يفقدون المرأة قدرتها على التمرد والرفض لقيود السيطرة الاجتماعية، فهي دائماً مستسلمة ليست لديها القدرة على أن تعلن موقفاً نقيضاً لما تراه حولها من امتهان واستلاب، هي وحدها المقصودة بها.

وربما عبر ذلك عن إيقاع من الرومانسية التي تداخلت في نسيج النظرة الإصلاحية لدى كتاب القصة القصيرة، فالوضع الخانق المكبل الذي يحيط بالمرأة ويثير في شخصيتها الخضوع واليأس، إنما هو منطلق حقيقي للمعالجة التعليمية في القصة القصيرة، لأنه يثير اشتياق كتابها إلى ضرورة تخليص المرأة من ذلك الوضع ويدفعهم نحو الدعوة إلى تحريرها كما دفع غيرهم في الحقل الاجتماعي والسياسي.

ونجد هذه الصورة المستسلمة للزوجة في قصة ( الزوجة الثانية) لفهد الدويري وصورة الفتاة الراغبة في الزواج في قصة (صفقة خاسرة) لأحمد كمال، كما نراها أيضاً في قصة ( سر المطلقة) لفاضل خلف.

ولقد جعل الكاتب بطلة هذه القصة - سر المطلقة - تقوم بدور الراوية المسيطرة على زمام الموقف القصصي، فهي التي تحكي قصتها وترسم صورتها من خلال موقعها في المشكلة، مما أتاح للكاتب أن يبرز معاناة المرأة، وبخاصة من القيود التي تفرض عليها بوصفها امرأة لا شأن لها بحياتها قبل الزواج، ويأتي سياق السرد القصصي ليفصح لنا أن الكاتب ينطلق من حقيقة المشكلة التي تواجهها المرأة وهي التقيد بالتقاليد والاستسلام لها، إذ أنه يبدأ بالنهاية التعسة التي وصلت إليها حياة البطلة وكيف فقدت كل الآمال والأحلام عندما رفض أهلها جميع من تقدم للزواج منها، وحين يوضح السرد " الذاتي " أسباب هذه النهاية يقف الكاتب معها ليكسبها نغمة تربوية صريحة ويقول :
(وأخذت الفتنة تتوارى ليحل محلها الحزن والكآبة، إذ أن كل فتاة يسرها أن تزف إلى شريك حياتها قبل أن تعشش الأمراض النفسية في قلبها الهادئ الخفاق . لا سيما بعد أن ترى الشباب يتهافتون عليها ويخطبونها بينما أهلها سادرون في أحلامهم اللذيذة لا يعلمون من أمر فتاتهم شيئاً، لا يعلمون عن قلقها ولا يعلمون عن حنينها إلى الزوج المنتظر ولا يشعرون بآمالها وأحلامها، ومن ثم يقودونها إلى هوة سحيقة من اليأس والقنوط، مالها قرار، فلا ينتبهون إلا وابنتهم قد مسها طائف من الجنون أو هصرها المرض بأنيابه القاتلة) (48).
وتأتي نهاية القصة بعد ذلك، حين اختارت المرأة الطلاق رغم ما فيه من مرارة وضياع ليجعل منها الكاتب موعظة، واتهاما في وقت واحد ...
(وجاء يوم أسود، أجريت فيه مراسيم الطلاق، يوم أسود سطرت فيه نهاية فتاة لو تبصَّر أهلها قليلاً لكانت في دنياها سعيدة مطمئنة البال وبذلك تحطم القلب . وتلاشى الأمل ) (49).

وكما بحث الكاتب في هذه القصة عن صورة الحرمان والشقاء واليأس التي تقود إليها التقاليد المتخلفة في المجتمع التقليدي ... فإنه قد بحث من جانب آخر عن مشكلة الطلاق بوصفه مصيراً يكلف المرأة كرامتها الباهظة . ويُرجع حقيقة هذه المشكلة إلى نفس التقاليد التي حرمت عليها الاختيار . فالمرأة بذلك ضحية الرجل وضحية التقاليد المتخلفة بينما الرجل في قصة ( نزوة ) لفاضل خلف التي عرضنا لها منذ قليل كان ضحية للتقاليد وحدها.
إن القصة الاجتماعية القصيرة تقوم بدور كبير في تعميق الاتجاه نحو تحرير وضع المرأة من مظاهره الشديدة التخلف، وإذا كانت المشاكل التي عالجتها لم تخرج عن دائرة الأسرة الصغيرة (الزوج، الأب، الأم) فذلك لأنها هي الدائرة التي تنبعث منها دوائر الحرمان جميعها، ولأنها هي الواقع الذي يفيق عليه كاتب القصة القصيرة قبل غيره، ويلمس منه حضوراً وتمثلاً يومياً دامغاً.
لقد تذرعت كل المجتمعات التقليدية بمبدأ المحافظة، ولكن مجتمع الخليج العربي يسرف في التعلق بذلك حتى وقت متأخر، ويظل بحكم المحافظة الشديدة يحمل إرثاً أحال هذه المحافظة إلى امتهان وحرمان واستلاب لأبسط الحقوق . بل لقد دفعت هذه المحافظة الشديدة بالأهالي في مجتمع الخليج العربي إلى أن يبنوا بيوتهم بطريقة تمنع على المرأة حتى النظر إلى الخارج ... فهي تبنى مثلاً بدون (منافذ على الطريق لتخلل الهواء ودخول الشمس إلا ما ندر، وفتحها عندهم عيب كبير لأنه يسمع منه صوت المرأة ) (50).

وتصبح هذه المحافظة مع مرحلة التغير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي تعيشه البلاد، واحدة من المعضلات أمام دعاة الإصلاح والتهذيب، وقد أدركنا من القصص التي عرضنا لها كيف تشكلت هذه المعضلة فناً وفكراً وانصبت رؤيتها نحو هدف واحد، بل إن بعض الكتاب ينتبهون لبعض المسائل الدقيقة في المعالجة التعليمية ويتفقون فيها بنسقٍ واحد من المعالجة .. فحين يـؤكـد جـاسـم القطامـي مثلاً في بعـض قصصه ( زواج بحـار) و (الصـورة الجديدة ) على أن الدين لا يمنع من رؤية الرجل للمرأة قبل الزواج، نجد فاضل خلف في قصة (نزوة ) يردد ذات الفكرة ويتيح لها بروزاً وتأثيراً.

إن أجواء المحافظة الشديدة التي تعيشها المرأة في مجتمع الخليج العربي تخلف أصداء واضحة في القصة الاجتماعية، وفي القصص السابقة يصور معظم الكتاب مظاهر تلك الأجواء في قضية الزواج أو من خلال العلاقة بينها وبين الزوج، بينما تنفرد قصة ( الانتقام الرهيب ) (51) لهيفاء هاشم بتصوير أثر حرمان المرأة من التعليم في سن مبكر من حياتها، وكيف يقذف بها هذا الحرمان إلى هوة كبيرة من الفراغ واليأس والإحباط، خاصة إذا رافق ذلك سلسلة من الاضطهاد الشديد في الأسرة، كما حدث لبطلة هذه القصة (لولوه) التي أخرجها أخوها الأكبر من المدرسة بعد أن أنهت الشهادة المتوسطة، متعللاً بأن ذلك هو أكثر ما ينبغي أن تأخذه الفتاة من التعليم . ثم يسومها سوء العذاب، يحرم عليها الخروج أو النظر إلى الخارج، ويأخذها الشوق يوماً إلى مدرستها، فتخرج نحوها وتضل الطريق ولا تهتدي إلى البيت إلا بعد جهد كبير . وهنا يتلقاها أخوها بالضرب الشديد الذي يفقدها الوعي، وبعد أن تفيق في الصباح تحرق نفسها وتحرق البيت معها.

ومثل هذه القصة تعد امتداداً للدعوة الاجتماعية إلى تحرير المرأة لأنها تسرد لنا كيفية الإقناع بضرورة إعطاء المرأة حقوقها .. كالتعليم والخروج من البيت، فلقد كان الكثير من أفراد المجتمع يتمسكون بفكرة أن التعليم لا يفيد المرأة شيئاً لأن مصيرها الحقيقي أو مردها الأخير هو بيت زوجها الذي لا تحتاج فيه إلى اكتساب المعرفة . وقد واجه المصلحون في البلاد خلال الأربعينات مشكلة كبيرة من جراء سيطرة هذه الفكرة . إذ عزفت أسر كثيرة عن المدارس التي افتتحت لبناتهم ... وحتى عندما باشرت هذه المدارس وجودها ظل الإقبال عليها قليلاً، لذلك نشطت الدعوة إلى تعليم المرأة وجعله إلزامياً في جميع المراحل، وبخاصة في العقد الخامس من هذا القرن، وحيث يعايش كتاب القصة القصيرة مثل هذه الدعوة فإنهم لا يجدون مفراً من التعبير عن أهدافها، وبخاصة بعد أن أدركوا حقيقة ما يجر إليه الجهل من مشاكل اجتماعية كبيرة، وقد أشارت قصة ( منيرة ) لخالد الفرج وقصة ( التميمة ) لفاضل خلف إلى بعض هذه المشاكل التي يقود إليها جهل المرأة، وخلو حياتها مما يحميها من النزوع للخرافات والإيمان بأساليب الشعوذة.

ورغم أن القصة الاجتماعية القصيرة تتمكن - ضمن الدور الإصلاحي الذي يتمخض بها - من أن تمسك بكثير من مشاكل المجتمع الذي يعيش قلق التغير... واضطراب الرغبة في اللحاق بالنهضة الحديثة ... فإن اهتمامات الكتاب بقضايا الشكل القصصي تظل محصورة بل ضيقة جداً، وإذا كانت القصص الأخيرة التي تعرضنا لها قد تجاوزت بعض الأساليب البدائية التي وقع فيها عدد من الكتاب كالتعليق الموازي، والإقحام المباشر، والاستعانة ببعض الحكم أو ببيت من الشعر (52)، تدعيماً للفكرة التعليمية فإنها تظل رغم ذلك مشدودة بحبل وثيق نحو الأسلوب التقريري، أو الجمل الوصفية الطويلة، أو العبارات الخطابية، مما يتصل كل الاتصال بموضوعاتهم الاجتماعية التي عالجوها.
وأخيراً فإن أكثر ما قلَّل من شأن القصة الاجتماعية - من الناحية الفنية - هو افتقار موضوعاتها أو معالجاتها إلى الخيال، ونحن ندرك هذا الفقر فيما نهجته من أساليب وطرق لتخير المواقف القصصية وصياغتها . إذ أنها في الحقيقة مواقف جاهزة يلتقطها الكاتب من الواقع ... ويتلقاها بما هي عليه من حجم وتأثير، ويدل على ذلك العبارات التي يصدرون بها القصص مشيرين فيها إلى أن أحداثها من صميم الواقع ... أو أنها قد حدثت بالفعل.

ولا ريب أن لذلك تأثيراً كبيراً على الشكل القصصي، لأن هذا الشكل لابد أن تعمل فيه لمسات الخيال الفني . فهو يلعب دوره الأساسي في عملية الخلق برمتها، ويقوم بتشكيل العلاقات الداخلية في العمل الفني فيساهم في تكثيفها أو الاتساع بها، أو جعلها موحية أو شفافة أو رامزة أو مصورة .. فكل هذا يمكن أن يستجلي الحقيقة الفنية في القصة القصيرة.

وأقصى الضرورة في فن القصة القصيرة هو أن تقوم بتشكيل الواقع تشكيلاً جديداً، وبحساسية فنية خاصة . وهنا لا بد من الإدراك بأن ( إعادة خلق الواقع بدقة أمر غير ممكن بدون مخيلة ) (53)، لأن هذه المخيلة هي الفعالية الأكيدة في التخير والانتقاء من الواقع الاجتماعي، إنها الأداة التي تصوغ التفاصيل الصغيرة والكثيرة وتحكمها في بناء يجسِّم الأحداث والنوازع والانفعالات والأفكار في هيكل فني متماسك.

إن القصة الاجتماعية لم تكن تطمح في إعادة خلق الواقع، تلك الإعادة التي تعتبر من أسس الواقعية الفنية، ولكنها أرادت إصلاح الواقع من خلال عملية الرصد والتسجيل لمظاهر المشكلة الاجتماعية وآثارها المتورمة التي تقترن مباشرة بأسباب التخلف أو سمات الوسط الاجتماعي التقليدي.