القصة القصيرة في الخليج العربي
(الكويت والبحرين)
دراسة نقدية تحليلية

البحرين
2000 م

المقدمة

إيغالاً في تحديد ميدان البحث، وحرصاً على التخصيص الذي لا شك أنه يفيد دراستنا النقدية ويبعدها عن الأحكام المضطربة ويجعلها محتوية أدق أوجه التماسك من الوجهة التاريخية والفنية، من أجل كل ذلك نتجه إلى دراسة فن القصة القصيرة في أكثر ما يتمثل لمجتمعـات الخليج العربـي مـن مظاهـر التطـور والتماسـك، وأوقع ما يشير إليه من سمات الحضارة والخصوبة وأكثر ما يترسب فيه من سياق التجربة الأدبية والثقافية، وهو الذي يتمثل لنا في كل من الكويت والبحرين، حتى أنهمـا ليكونـان - وخاصـة في مجـال الدراسـة الأدبية - مجتمعاً واحداً بخصائصه المحلية والإنسانية، حيث تنعكس ظروفهما المتكاملة على جميع أشكال التعبير في الأدب والفن فتبدو الجهود المنبثقة عنها - وخاصة في القصة القصيرة، متجاوبة، متواكبة، تضع بين أيدينا كثيراً من سمات التعاقب والنمو، والتطور التي تطمح هذه الدراسة إلى استبصارها وجلائها.
وهذا التحديد هو الذي يدفعنا إلى أن نستبعد عن ميدان الدراسة الجهود القصصية المتأخرة، المتواضعة التي بدأت لها بعض البوادر في السنوات الأخيرة في عمان، وقطر، والإمارات العربية، وذلك لأن هذه الوحدات السياسية الثلاث منيت بعزلة تاريخية شديدة أكثر مما منيت به الكويت والبحرين، فكانت أدعى لأن تسيطر عليها مظاهر المجتمع التقليدي المغلق وثقافته التي تباعد بينه وبين التعبير عنها بالفنون الحديثة كالقصة والمسرح.
لقد عاشت قطر، والإمارات وعمان، في عزلة عن العالم الخارجي وحين جاء الاستعمار البريطاني بوصايته المقيتة، وفرضه لسياسة التجزئة بين المجتمعات الصغيرة في هـذه المـنطقة، غرقت تلك البلاد في حالة بالـغة من

الجمود، بل إن اكتشاف النفط بدأ متأخراً عن البحرين والكويت، مما أدى إلى تريث شديد في تحديث المجتمع، وتحسين خدماته، وخاصة في حقل التعليم، ووسائل الاتصال . وكان من سوء حظ هذه البلاد أن توالت عليها ظروف حالت دون تقدمها ونموها وخاصة في مجال التعليم، ففي قطر حاول الشيخ عبد الله بن قاسم آل ثاني أن ) يستغل ثروة النفط الطارئة لنفسه على اعتبار أنها من ثروته الخاصة وجاء ابنه بعد ذلك فأساء التصرف في الثروة الطارئة، ولم يقبل إنشاء المدارس العصرية إلا في نطاق ضيق ابتداء من سنة 1956((1)، وفي (أبوظبي)، لم يقبل حاكمها
)شخبوط( إلا بعد صعوبات شديدة فتح مدرسة ابتدائية في سنة،1962 وفي عمان ) لم يكن هناك حتى عام 1970 إلا ثلاث مدارس ابتدائية للبنين فقط، الأولى أنشئت عام 1940، في مسقط. والثانية عام 1942 في صلالة، والثالثة عام 1955 في مطرح، وكان إلى جانب هذه المدارس الرسمية بعض الكتاتيب ومن الطبيعي أن تكون نسبة الأمية عالية جداً( (2). ومثل هذه العزلة التي تميزت بها تلك الوحدات السياسية، وأبعدت عنها فرص الاتصال بأسباب المعرفة وأوجه الحضارة، تجعل من المراحل الثقافية التي مرت بها متسمة بالتخلف والجمود، وهو ما بدأت الكويت والبحرين تتجاوزانه منذ الربع الأول من هذا القرن.

إن ما تتميز به كل من البحرين والكويت من مظاهر التفاعل الحضاري والتكامل في أنساق الحياة الاجتماعية والاقتصادية هو الذي يدفعنا إلى النظر إليهما مجتمعاً واحداً، يمثل نموذجاً منفرداً لمعطى الحياة العربية في ضفاف الخليج العربي، وإذا كنا على ثقة من تماسك ميدان الدراسة مع هذه النظرة فإننا نضع نصب أعيننا باستمرار أهدافاً لا يقتصر أثرها على دراسة القصة القصيرة، بل إننا لا نغادر في ملاحظاتنا ونظراتنا الظروف التاريخية المشتركة التي مر بها الجزء الشرقي من الجزيرة العربية كما لا نغفل الأحداث التاريخية المشتركة التي مر بها الوطن العربي بأسره في القرن الحالي. من أجل ذلك فإن هذه الدراسة تنطلق من أهداف عديدة لها أهميتها وضرورتها في مثل هذه الفترة، فهي تبحث عن جوانب واسعة من الإبداع الذي أنتجته الفترة المقترنة بالتطور الاجتماعي والاقتصادي في منطقة الخليج العربي. وهي تتجه إلى إزالة جدار العزلة الكبير بين أدب هذه المنطقة، وبين الأدب العربي الحديث، وتطمح إلى أن تكون مساهمة في تأصيل تقاليد فنية للقصة القصيرة، وترسيخ أساليبها التعبيرية الأكثر تمثلاً لمجتمع الخليج، خاصة في الفترة المتطورة من نمو هذا الفن.

ولأن هذه الدراسة تستمد نبضها من الاتجاه الواقعي الذي يصلها بتيار الحركة الأدبية الجديدة في البحرين فإنها تطمح إلى طرح بديل لما هو سائد من التجارب النقدية التي لعبت دوراً كبيراً في تشويه الأعمال الأدبية في الشعر والقصة والمسرح، وعبثت بقيمها الفنية فيما عالجته من تقديمات سطحية اعتمدت الأحكام الجاهزة، أو احتكمت إلى معايير خارجة عن العمل الأدبي (كالعلاقات الشخصية، أو التأثر المفرط بالانتماء الأيديولوجي والسياسي)، أو تردت في تفسيرات جزئية سريعة، تفصل الكاتب عن ظروف عصره، أو تفصل العمل الأدبي عن التجربة الأدبية عامة.

وحيث أن الفن القصصي في الأدب العربي الحديث يفتقر إلى الدراسة والنقد، إذ لا تزال تلح عليه قضية مواكبة النقد لمراحل هذا الفن وجهوده واتجاهاته المختلفة، فإن دراسة قضية من قضايا هذا الفن، أو ظاهرة من ظواهره، في الوطن العربي، تعد مساهمة فعالة في ميدان النقد الأدبي، والأمر يزداد أهمية وفعالية حين يكون موضوع الدراسة بكراً وفي منطقة كالخليج العربي، التي تعد فقيرة في مجال الدراسات الأدبية والاجتماعية وغيرها... في الوقت الذي تتجه إليها الأنظار على أنها بؤرة صراع ذات أهمية كبيرة في العصر الحديث.

لقد استأثرت منطقة الخليج العربي باهتمام الدارسين في التاريخ، وانعدمت أو قلت الدراسات التي تكشف عن التراث الأدبي لهذه الرقعة العريقة من الوطن العربي، أو التي تدرس نشأة تجاربها الأدبية الحديثة وتطورها في مجال القصة والمسرح. ورغم قلة الدراسات النقدية التي توجهت للإنتاج القصصي فإنها لا تكاد تتميز بنهج نقدي واضح، لأنها إما أن تكون جزئية مبتسرة، أو تكون بمنطلقات وأهداف ضيقة، أو تتذرع بوسائل نقدية متبسطة وتستند إلى وقائع تاريخية مضطربة، لا تضبط نظرتها إلى كثير من القضايا الهامة في نمو فن القصة القصيرة، فهذه الدراسات تختلف في طريقة التناول، ومحاولة تحييد دراسة هذا الفن في جزء من منطقة الخليج دون آخر، كما أنها تختلف من حيث الأهمية النقدية، ولكنها على أية حال تتفق في كونها دراسات غير كافية، وغير مكرسة في الجهد الذي تنشده الدراسة المنهجية الواضحة، ويمكن حصر هذه الدراسات على هذا النحو :
- الحركة الأدبية والفكرية في الكويت، للدكتور محمد حسن عبد الله، وهو كتاب يضم دراسات لألوان النشاط الثقافي والفكري في الكويت، خصص الكاتب إحداها لدراسة الفن القصصي - القصة القصيرة والرواية - ورغم موضوعية هذه الدراسة ودقتها المتأنية التي عرضت لمعظم كتاب القصة القصيرة في الكويت.. إلا أنها لم تسلم من التسرع في بعض الأحكام، كما أنها أعطت الاهتمام لكتاب دون آخرين لأسباب غير محددة، وخاصة حين قام الكاتب بتفريع الدراسة على ضوء أسماء كتاب القصة، وليس على ضوء ظواهر التجربة أو اتجاهاتها.

- النثر المعاصر في شرقي الجزيرة العربية، رسالة دكتوراه، لعبد الله المبارك، ويدرس الكاتب القصة القصيرة والرواية معاً في جزء لا يتعدى 25 صفحة معتمداً على أسلوب العرض التاريخي المبتسر، ومنحصراً في نماذج ضيقة محدودة.

- التعريف بالحركة الأدبية الجديدة في البحرين، وهو كتيب أعدته أسرة الأدباء والكتاب بإشراف أحمد المناعي، وجاء في بضع صفحات منه دراسة سريعة للقصة القصيرة، تتسم بأحكام نقدية جاهزة، تفتقر إلى التحليل، والتفسير بنماذج قصصية واضحة.

- اللغة العربية وآدابها في الخليج العربي تراث حضارة وعنوان أصالة، يضم الكتاب الذي أصدره مركز دراسات الخليج العربي في جامعة البصرة دراسة بعنوان ) ملامح القصة القصيرة في الخليج العربي ( للدكتور عمر محمد الطالب، وهي دراسة تعتمد اعتماداً مسرفاً على الكتابات السابقة وتدور ملاحظاتها في إطار ما توفر للكاتب من مصادر محدودة جعلت استقراءه وتتبعه النقدي موسوماً بالضيق الشديد، بل إن هذه الدراسة وقعت بسبب عدم استقلالها، وتخيرها للنماذج في تعميمات قفزت برصدها بين فجوات لم ينظر فيها إلى الظروف التاريخية للمنطقة.

- الأدب المعاصر في الخليج العربي، لعبد الله محمد الطائي، وقد ركز المؤلف في هذا الكتاب على فن الشعر والتفت فيما يقرب من الأربع صفحات للقصة في الخليج... جـاءت بمثابـة الإشـارات العارضة التي لا تـغـني ولا تسـمـن مـن جوع.

- وهناك دراسات أو مقالات نشرت في الصحافة الكويتية أو البحرينية منها ما كتبه سليمان الشطي عن القصة في الكويت في مقدمة مجموعته القصصية )الصوت الخافت( ومنها دراسة نشرها إسماعيل فهد إسماعيل في مجلة البيان الكويتية ) عن القصة في الكويت ( (3) ومنها دراسة لعبد الله علي خليفة عن القصة القصيرة في البحرين، نشرت في مجلة ) الموقف الأدبي ( السورية وغيرها من الدراسات (4)، التي يتسم بعضها بعرض الملاحظات العامة، أو ذات الاهتمام الذي يمس جوانب محدودة ممّا تطمح له هذه الدراسة.

ومثل هذه الدراسات تشكل - بسبب قصورها واضطرابها - دافعاً أساسياً لتجاوزها، لا من حيث الجهد النقدي في دراسة نشأة القصة القصيرة وتطورها فحسب، بل من حيث المنهج النقدي الذي تتوجه على ضوئه هذه الدراسة لكشف الجدلية القائمة بين الفن القصصي والمجتمع، وتحليل الصورة الديناميكية للانعكاس القائم بينهما، نظراً لأن مثل هذا المنهج يتمثل كثيراً لطبيعة الإبداع الفني في القصة القصيرة، ولعل أبرز ما نعتمد عليه في هذا الـمـنـهـج هـو عـدم الفصـل بـين الشكـل والمضمـون، أو بـين المـادة والشكـل لأن ) المادة والشكل والتعبير متساوية في الأهمية. ويعتمد كل منهم على الآخر، ومن المحال فهم أي من هذه العناصر، أو تقديره إلا في داخل الكيان الكلي الموحد الذي هو العمل الفني ( (5)، ومثل هذه النظرة تفرض أن يكون التوجه النقدي منصباً على النص الأدبي بتركيباته، وقيمه المختلفة، إذ أن ) النص يجب أن يستأثر بكل انتباه الناقد ودراساته، كما يجب أن يكون كل شيء لدى الناقد وقرائه على السواء ( (6)، ونحن نستظل بهذه الأسس، فلا ندرس النص من زاوية وسائله التعبيرية فحسب، بل ندرسه باعتباره عملية إعادة خلق كاملة للواقع، هذه الإعادة التي تقوم بتشكيل الموقف الخاص والرؤية الشاملة المرتبطة بظروف العصر وضروراته التاريخية.

لقد بحثت هذه الدراسة عن ردود الفعل القائمة في النص الأدبي نتيجة لاستيعاب المنشئ للأسس الجمالية، والظروف التاريخية، وحصيلة القيم الاجتماعية والسياسية، فاتجهت إلى استبصار ظواهر الاتجاه الأدبي عبر انعكاس تلك الأسس والظروف والقيم في العمل الأدبي، وليس إلى استبصارها من انتشار أفكار نظرية، لأن القصة القصيرة في الكويت والبحرين لم تعرف المذاهب الأدبية، وخاصة في الفترة الأولى، ولكنها انضوت في كثير من ظواهرها البارزة التي عبر عنها تطور أدوار المجتمع في القرن الحالي.

إن الثقة بالعمل الأدبي وليس بمنشئه جعلتنا ننظر إلى النص باعتباره عالماً مستقلاً لا يمكن عزله - رغم طبيعته الذاتية - عن تجربة الكاتب عامة، أو التجربة الأدبية للمنطقة بأسرها، ولمتابعة مثل هذا السياق (الخاص والعام في آن واحد) تجد هذه الدراسة في نهجها الذي يبحث في العلاقة المتفجرة بين المجتمع والوسائل الفنية ما يضبط القبض على الظواهر والقضايا فنية كانت أم سوسيولوجية، راصدة في ذلك موقف العمل القصصي من قضايا العصر، فكرية كانت أم فنية، أم سياسية، أم اجتماعية، ذلك الموقف الذي تستضيء به دراستنا وتضع له شأناً كبيراً وهي تقوم بتحليل قسمات النمو والتطور في القصة القصيرة، وتفسير أطواره تفسيراً علمياً دقيقاً. وما ذلك إلا لأن العلاقة الأساسية بين الخلق الجمالي والمؤلف أو المجتمع تتحدد بالموقف الذي يتبناه الكاتب من قضايا العصر ذلك الموقف الذي يتخلق منه الموقف العام للعمل الأدبي، وتنعكس منه كثير من المسائل المتصلة بالبناء الفني، حتى بات من الواضح أن ) لكل جهد تبذله شخصية من الشخصيات الأدبية - في القصة أو في المسرحية - معنى تجاه الموقف العام في العمل الفني ( (7)

ورغم الصعوبة الشديدة التي اصطدمت بها هذه الدراسة بسبب عدم توفر مادة البحث من الأعمال القصصية التي تكاد تصبح مجهولة نظراً لضياع مصدرها الأساسي وهو الصحف - صحف الفترة الأولى بوجه خاص - أو اندثارها، وعدم اهتمام المراكز والمؤسسات العلمية بالبحث عنها والمحافظة عليها.. رغم ذلك فقد تمكنا من مجاهدة ذلك بالبحث والتنقيب الذي سيلاحظه القارئ والدارس في متابعة النصوص من مصادرها الأساسية وخاصة الصحافة المحلية منذ بداياتها وحتى مراحلها الأخيرة الأمر الذي مكن الجانب الببليوغرافي لهذه الدراسة وعزز قدرتها على الإمساك بزمام الجانب التحليلي لكثير من النماذج الأدبية في القصة القصيرة، ولعل اهتمامنا بالتحليل هو الذي يرد هذه الدراسة إلى الضخامة النسبية التي قد تبدو عليها، بسبب إطالة الوقوف مع النصوص التي من شأنها أن تبصرنا بمجمل الظروف التي أحاطت بالمجتمع، أو النزعات التي سيطرت على طبيعة موقف الكاتب منها، وفضلاً عن ذلك فإن حاجة موضوع هذه الدراسة إلى وسائل التحليل والتركيز والتدقيق، ذات ضرورة كبيرة لكونه موضوعاً يكاد يكون قاحلاً من الاهتمام والدراسة.. وهو ما يجعل تلك الضرورة ماثلة أمام اضطلاع هذه الدراسة المنهجية بالتوجه المتكامل، المتأني لفن القصة القصيرة.

ورغم ذلك فإن هذه الدراسة تطمح إلى أن تحقق غاية عزيزة على القائم بجهدها، وهي أن تجد توجهاً مطرداً يولي اهتمامه بالأدب القديم والحديث لمنطقة الخليج العربي، ذلك أن هذه الدراسة تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن القصة القصيرة في هذه المنطقة لم تكن في معزل عن مختلف التيارات الأدبية والفكرية القائمة في الأدب العربي الحديث. رغم أن الظروف السياسية - خاصة - كانت تفرض بعض أشكال العزلة السياسية والثقافية. ولذا كان من اللازم أن ينظر الباحثون والنقاد إلى أدب هذه المنطقة بنفس الاهتمام الذي يوجهونه لدراسة روافد الأدب العربي الحديث الأخرى.