القسم الأول . الفصل الخامس 3

صورة الشوق إلى مجتمع الفطرة والفضيلة

* علي زكريا الأنصاري
* فاضل خلف

قاد الشعور بالخيبة والتخلف الشديد في المجتمع إلى تمزق العواطف الفردية، فالشخصية تقف دوماً أمام إحساس كبير بالتناقض بين الصفاء ونقاوة المشاعر والظلم والقيود على الحرية والانعتاق . ثم تقف أيضاً أمام افتقارها وحاجتها الشديدة إلى الانسجام، وإقامة التوازن مع الواقع المحيط بها حتى لا يفلت منها الزمام وتغرق نفسها في اليأس والتشاؤم .

وندرك التناقض بين الصفاء والفطرة الإنسانية وبين الظلم والأنانية المستبدة في قصة .. ( الطفولة المعذبة) (35)، لعلي زكريا الأنصاري .. التي يصور فيها ما يتعرض له عالم الطفولة من إيذاء واضطهاد، وبخاصة من الآباء الذين يقوم الارتباط بينهم وبين الأطفال وفق شروط الامتثال والخضوع .

وتحتوي هذه القصة على احتضان رومانسي لمشاعر الطفولة، يحرص الكاتب في الوقت نفسه على أن يوجد لها منطلقاً واقعياً يتمثل في نقد الأسلوب التربوي المتخلف الذي يمارسه الآباء في تربية أطفالهم . فالأب في هذه القصة يضطهد ابنه ( محسن ) ويحرمه من المتع البريئة ويضربه ويحقره أمام الأطفال الذين يرثون له، ويكرهون هذا الأب القاسي . وتتولد مشاعر الحزن والخجل والانطواء وعدم الثقة في نفسه، وبخاصة حين يتمادى الأب في اضطهاده، ويذهب إلى مدير المدرسة ليخبره أن ابنه عاق يـتبع أبـناء السـوء، فيتـعرض الطـفل لظلـم شديد حـيث يضربه المـدير ضـرباً مبـرحاً ثم يودعه في غرفة مظلمة يوماً كاملاً ليكون عبرة لغيره من الأطفال، فيقرر بعد الخروج أن يهرب من والده، ويتجـه إلى بيـت خـالته مشحـوناً بالأمـل فـي أن يجـد الحـرية

والتربية التي يحلم بها ولكنه يضل الطريق، فيصادفه رجل يرجعه إلى بيت والده لتظل حياته كلها تحت وطأة الخوف والظلم وتكمن الملامح الرومانسية في هذه القصة في التعشق الشديد لمشاعر الطفولة وهي تعايش العذاب بفطرتها وصفائها ومدركاتها النقية النقيضة لمدركات سيطرة الإنسان في واقع الأبوة المتعجرفة . وتبلغ تلك المشاعر ذروتها عندما يتمزق في داخلها الإحساس بالأبوة، ويتحول إلى كره وبغض شديدين نحو الأب وبخاصة وهو يحمل في أعماقه الأحلام والآمال بالحرية عندما يرى ابن خالته ( عزيز ) الذي يربيه والده تربية جيدة ويقدم له الهدايا وينعم عليه بالعطف والحنان، فتنتشر في قلب الطفل مساحة عريضة من الإحساس بالظلم، والكره والرغبة في الانعتاق وبخاصة عندما يصوره الكاتب بعد خروجه من الغرفة المظلمة الموحشة، وقد امتزجت مشاعر الانعتاق مع ضخامة الإحساس بفداحة الظلم.

إن القيم الرومانسية هنا تتعلق برباط وثيق مع ما يريد الكاتب تصويره من انهيار المثل الصافية والأحلام الفطرية كما تنمّ عنها مشاعر الطفولة التي يشتاق إليها الرومانسيون . فلقد تعرضت الآمال البسيطة الفطرية عند محسن للاصطدام مع واقع الأب الظالم الذي يسيء تربية ابنه، في حين لم تتجاوز تلك الآمال عالم الطفولة ومشاعرها البريئة في اللعب بحرية . أو التوافق مع الأطفال الآخرين والانطلاق معهم في حلم بعيد كذلك الحلم الذي نفّس به عن حرمانه الشديد عندما تصور نفسه يلعب مع ابنة خالته ( وضحة ) لعبة الزواج، وكأنهما يحلمان بها عند الكبر .

ويبرز الظلم في هذه القصة باعتباره قيمة رومانسية تبعث على الخيبة والانهيار وتطيح بالأحلام الصافية، كما يكشف تصوير الكاتب لردود فعل هذه القيمة من الناحية النفسية لدى الطفل عن مقدرة فنية في التحليل النفسي، تمكن فيها الكاتب من أن يضفي لمسات واقعية على ما يثيره من مشاعر وأجواء رومانسية (36). خاصة عندما أوجد معادلاً لمعاناة الطفل تمثل في ابن خالته الذي يعيش أجواء العطف والحنان .. إن رصد هذا المعادل وردود الفعل والتفاصيل يمكِّن الشكل القصصي من الوضوح والتماسك بدون شك .

وفي قصة ( المتشائم ) لعلي زكريا الأنصاري .. يشتاق بطل القِّصة إلى عالم الطهر والبراءة والفطرة، مؤكداً البعد الشديد بين هذا العالم والحياة الواقعية بكل ما فيها من نوازع محطمة لطموح الفرد . إن بطل القصة هنا يشعر بجسارة الواقع وفوضوية الحياة الإنسانية . فتنطوي حياته على نفسية متشائمة تقطع كل صلاتها بالرجاء والتفاؤل، معللاً ذلك بأن التشاؤم وسيلة من وسائل مواجهة أرزاء الواقع، حيث يكون الفرد أكثر قدرة على تحمل المصائب بينما التفاؤل يجعله عرضة للصدمة والانهيار، ومن هنا فهو يرتضي لنفسه أن يدعى من قبل زملائه بالمتشائم، وأن يواجه رسوبه في الدراسة بتشاؤم آخر، وأن يستقبل الامتحان بأفكاره السوداوية . فلا يكاد يدخل القاعة حتى يكتشف أن الطلبة يقدمون الامتحان في مادة أخرى غير مادته، فيخرج مشيعاً بنظرات الرثاء .

إن الكاتب في هذه القصة لا يحلل لنا نفسية المتشائم كما فعل مع (مشاعر الطفولة)، بل إنه يترك ذلك لطبيعة الحدث الذي يكشف عن نتيجة فكرة التشاؤم، ونهايتها الطبيعية المؤدية إلى الخيبة والسقوط . فالبطل شخصية جاهزة في إطارها النفسي العام . وحين أراد الكاتب أن يقرأ لنا أفكاره ( المتشائمة) وهو في طريقه إلى الامتحان، كشف لنا عن شخصية تنعى على المجتمع مدنيتها وفوضويتها . فهو يرى البسطاء في الطريق ويتصور أن حياتهم خالية من القلق نظراً لبعدها عن هموم المعرفة والفكر وانشغالها بتوفير الحياة وسبلها . ويكشف لنا في خواطره هذه عن صورتين : الأولى سلبية المثقف الذي لا يدرك حقيقة السعادة، ومعنى تناقضات الحياة، بل يفترض أن المعرفة والوعي والثقافة عبء، لأنها تجعل الإنسان موجوعاً بالحياة وما يجري فيها، بل إنها تسبغ شيئاً من التعالي على الشخصية.

أما الثانية .. فهي صورة الشوق الرومانسي إلى حياة الفطرة والطهر والبراءة فهو يشعر بنوع من الفوضى والقلق فيقول في نفسه :
( والمسؤول الوحيد عن هذه الفوضى التي تسود العالم هي (المدنية) وهي من صنع الإنسان، فبسببها يجب على الأفراد أن يخوضوا في غمار المتاعب ليسايروا ركبها، والويل للأمة التي يتخلف أفرادها عن الركب، فهناك الذل والعبودية والخنوع، وكأن الإنسان وهو ينجرف بهذا التيار يشقى وهو يحسب أنه يسعى إلى السعادة، ويتأخر وهو يشعر بأنه يتقدم ويظل يوهم نفسه بهذا التقدم، فكأن المدنية إذن شر لا بد منه . ولو خير الإنسان - أو محمود على الأقل - بين هذه الحياة التي يحياها بشرورها ومشاكلها، وبين حياة البداوة والبساطة والطبيعة، لما تردد في أن يختار الحياة الثانية) (37).

ولا ريب أن هذه الخواطر تعبر عن تعطش صاحبها إلى حياة أكثر صفاء وطهراً وهو ما يأتي غالباً في القصة الرومانسية في ذروة من ذرى الشعور بالخيبة والانهيار . ورغم أن الكاتب في هذه القصة لا يتمكن من الربط بين صورتي السلبية والشوق إلى الفطرة، وبين صورته المتشائمة،فإنه يكشف عن محاولة جادة في تقديم صورة رومانسية لقلق الشخصية المثقفة، فهي نموذج برجوازي تخلخله ضخامة التخلف الاجتماعي والاقتصادي فتقع في دوامة من القلق والتردد بين المشاركة في الإصلاح .. أو التهرب منه، وتفصح قصة (المتشائم) ذريعة هذه البرجوازية في إنسلاخها من دورها التاريخي، واختيارها الهروب والخضوع لأسباب واهية لتؤكد أن وعي الفرد وفكره إن هما إلا عبء يقود إلى القلق والتراجع .

وإذا كان معظم كتاب القصة الرومانسية يقتادون أبطالهم إلى الخيبة من خلال انهيار القيم الإنسانية . أو من خلال سلطة التقاليد وقهرها لحرية الفرد، فإن فاضل خلف في قصة ( السهم الأخير ) يفجر مشاعر الخيبة والحزن والتشاؤم من داخل الأسرة الصغيرة، عندما تتفكك علاقاتها وتتمزق أواصرها، فتنتهي إلى المأساة والفجيعة .

إن بطل القصة هنا يواجه مشكلته بين زوجته، وأمه . ويروي سارداً لصديقه ما فعلت به هذه المشكلة من تدهور وسقوط وتمزق . فهو ما إن تزوج تحت رغبة الأهل حتى وقعت المشاجرات بين الزوجة والأم، كل منهما تريد السيطرة عليه، فلا يطيق الحياة ويضطر إلى الانفصال عن بيت أهله . ورغم ذلك يقع في مشاجرة مع زوجه الحامل، فيضربها ضربة طائشة وينتابه الإحساس بالجرم والتأنيب الشديد، ويتضاعف كل ذلك عندما تتوفى زوجته أثناء إجراء عملية إخراج الجنين منها، فيستسلم لليأس والحزن والتشاؤم وعذاب الضمير .

ولا يقدم الكاتب في هذه القصة تحليلاً كافياً لنكبة البطل من خلال مشاكل الأسرة، وإن كان قد وضع أيدينا على بعض خيوط الاتصال بها، ومن أجل ذلك فهو يسبغ عليه شعوراً مؤسياً من أن القدر هو الذي قاده إلى نكبته وتدهوره وحزنه فهو يقول لصديقه :
( لقد طعنتني الأقدار في الصميم، وضربني الزمن ضربته القاضية فأصبحت ضاري الجسم، محطم القلب، أهيم على وجهي في متاهة الحياة لقد كنت فيما مضى ألوم المتشائمين في الحياة وأسخر من ادعاءاتهم ... وأعجب من الباكين الذين يذرفون الدمع غزيراً مدراراً. أما الآن فقد عرفت السر في وجوم السواد الأعظم من الناس، الذين قست عليهم الأيام آه يا صديقي لو كنت أستطيع الترفيه عن قلوبهم المقروحة... إذن لكنت أسعد الناس ) (38).

هذه صورة رومانسية من صور الضياع والخيبة، تذكرنا بتهويمات المنفلوطي مع مشاعر الحزن والتوق إلى قيم الفضيلة، والشوق إلى المثل التي تنقل ضياع الفرد . فالرومانسيون يبحثون دوماً عن مجتمع بلا بؤس .. بلا شقاء .. بلا أحزان .. يبحثون ويتمنون أن يكون بأيديهم تحقيقه، لكن مأساتهم تكمن في عجزهم، وفي إحساسهم بأنهم يبحثون عن ذلك في مجتمع يمتلئ بمظاهر الحزن والسقوط والخيبة والتشاؤم . وهذه كلها معالم بارزة في تمزق العواطف الذاتية، وتحللها في مواجهة بشاعة الواقع الاجتماعي .

إن أغلب الكتاب الذين عرضنا لهم ومنهم فاضل خلف في القصة الأخيرة (السهم الأخير ) يصورون شخصياتهم وهي في حمأة المواجهة تحت تأثير قوى ميتيافيزيقية غامضة، فالقدر هو الذي يثير مصائر الخيبة والإحباط، وهو الذي يصوغ حياة الفرد مجرداً من الاختيار والموقف والمشاركة، وهذه نزعة من النزعات الهروبية المتفاقمة في القصة الرومانسية رغم أن بعض الكتاب لا يعدم محاولة تلمس الأسباب والدوافع، كما رأينا في ما أبرزته بعض القصص من زيف التقاليد وضغط الحرمان والكبت والقيود الشديدة على المرأة، والشوق إلى المجتمع الفاضل . ولكن يظل هذا التلمس متأثراً بالركون إلى قوى القدر، ومنطق الصدفة ومظاهر المعالجة الرومانسية التي لم تكن تواجه الأسباب الحقيقية لقلق المجتمع في كثير من الأحيان .

وأخيراً فإن أكثر ما حققته الرومانسية خلال هذه الفترة من ترسيخ للأصول الفنية في شكل القصة القصيرة، يمكن الإمساك به في قصة ( أشباح الليل ( لعلي سيار، وقصة ) الطفولة المعذبة ) لعلي زكريا الأنصاري . ففي هاتين القصتين نجد سمات فنية تحليليلة ناضجة، وكلتاهما جعلت ملامحهما الرومانسية صادرة عن الواقع الاجتماعي . فصورت الأولى قلق المرأة في المجتمع التقليدي، وصورت الثانية صراعاً بين نزعتين : الظلم والتوق إلى مجتمع الطهر والصفاء كما رأينا فيما سبق من تحليل لهما .