القسم الأول . الفصل السادس 2

خلق التجربة الموضوعية
في تصوير مكابدة الأسرة

* فاضل خلف
" رائد القصة الواقعية "

الاقتراب من الواقع ومن مشاكله وهمومه اليومية، قد يحسم الطبيعة الخاصة بالواقعية في القصة القصيرة . بحيث لا يصبح هذا الواقع نابعاً من التجربة الشخصية للكاتب بل إنه يكون عالمه الذي يخلقه، ويقيم سماته من خلال مقدرته في التصوير ومقدرته في الرصد لأبعاد المشكلة الاجتماعية القائمة وتحليل حضورها الموضوعي.

ويعد فاضل خلف أكثر من تمثل الحرص على تخليص القصة القصيرة من ارتباطها بالتجربة الذاتية، التي جعلت من القصة القصيرة صياغة والتقاطاً للمشكلة الجاهزة والعابرة بحياة الكاتب . وقد تمكن فاضل خلف من هذا الجهد وبخاصة في قصصه الأخيرة . فلقد انفرد من بين سائر كتاب القصة القصيرة في هذه الفترة بتصوير حركة الواقع المحلي للأسرة الكويتية، وما يضطرب فيه من مظاهر القلق والتمزق الاجتماعي.

ويُبرز الكاتب - في تصويره لواقع الأسرة - اهتماماً كبيراً بوضع المرأة، وربما كان ذلك نابعاً من إدراكه للدور الخطير الذي تقوم به في قيام الأسرة . فهو يعرض مكابدتها اليومية، وقدرها الحقيقي داخل هذا الكيان . وهو لا يفتتن بعواطفها بقدر ما تأسره مشكلتها وصورة حياتها التي قد تكشف عن وجه إيجابي، وقد تكشف عن وجه سلبي تعمل فيه سمات ضعف بشري أو سوية منحرفة.

إن المرأة في قصص فاضل خلف تتحمل كثيراً من الجوانب المضنية في حياة الأسرة، بل إن التمزق والتفكك الذي تتعرض له الأسرة إنما يرتبط أساساً بقلقها النفسي والاجتماعي . وطبيعة علاقاتها القائمة في هذا الكيان . فالمرأة في قصصه هي الأم، وهي الزوجة (ولكنها ليست المرأة العاشقة . النساء في قصصه لا يعرفن الحب، يشغلهن شقاؤهن الخاص عن التفكير فيه، وهو بذلك أقرب كتاب المرحلة إلى الواقعية) (13).
ويركز الكاتب غالباً على تأزم العلاقة بين الأم وزوجة الابن وما تؤدي إليه الغيرة بينهما من تمزق للأسرة . ونجد في قصة ) حنان أم ( صورة واقعية لتلك العلاقة التي تكون فيها الزوجة ضحية لقسوة الزوج، وقسوة أمه في آن واحد . لقد كانت (لطيفة) قبل الزواج في راحة واطمئنان في منزل أبيها، ولكنها الآن تزوجت رجلاً لم تجد منه العطف إلا في الشهور الأولى من الزواج، فما لبث أن انقلب عليها مع أمه التي استبدت بالزوجة المسكينة، وسامتها سوء العذاب، وألقت عليها جميع الأعباء، وحين تتوسل إلى زوجها في أن يضع حداً لآلامها يقول لها :(إنك لم تخلقي إلا للعمل في المنزل ... فلا تكوني لجوجة إلى هذا الحد ).

فهو ينطلق من أن هذه الزوجة ليست إلا من سقط المتاع، وهذا ما يضاعف من ألمها . وبخاصة حين تحرم من الذهاب إلى منزل أبيها . كما تحرم من تربية ابنها حتى شب على بغضها، وتمر الأيام فتأتي مناسبة زواج عبدالمحسن شقيق لطيفة، فاستعدت الأم (الحماة) مع بناتها للذهاب بينما طلبت من لطيفة أن تظل في البيت وتغسل الأطباق والقدور وتعد العشاء، فلم تجد مفراً من الثورة على هذه القسوة التي تعامل بها وتحرمها من الاشتراك في حفل زواج أخيها، فتأخذ عباءتها وتخرج من البيت إلى منزل أبيها، فلا يمضي يومان إلا وكان الطلاق قد تم.

وفي بيت أبيها أحست بالحرية، وبعد أشهر تقدم لها شاب عرف بالأخلاق الحميدة فقبلت الزواج منه، ولمست الفرق الكبير بين حياتها الحاضرة وما كانت عليه في الماضي، ولكنها أحست بالحنين إلى ابنها فحاولت مع زوجها أن تراه دون فائدة، وحين ذهبت تنتظر رؤيته عند منزل زوجها السابق فر منها مذعوراً وتركها في حالة حزن وانكسار.

وندرك في هذه القصة جوانب لم نألفها في كثير من القصص تعمل جميعها على بلورة الواقعية لدى الكاتب، فهو يوظف اختياره للمشكلة الاجتماعية لا من أجل التعبير عن نزعة ذاتية، أو تجربة خاصة به بل من أجل إلقاء الضوء على مشاكل الأسرة وهمومها اليومية الشاملة.

والمشكلة التي يقف عندها الكاتب لصيقة بالواقع، وقائمة فوق شبكة من العلاقات الاجتماعية التي خلفها الوضع التقليدي للأسرة منذ قرون طويلة والتي أصبحت منها المرأة ) عبداً إضافياً تستخدمه الأسرة في مجال الخدمة والإنتاج، ولا شك أننا نذكر كيف كانت الأم تفاتح ابنها برغبتها في تزويجه (يا ولدي أنا تعبت وهات لك وحدة ثانية تخدمك وتخدمني) هذه البداية لوجود المرأة في محيط الأسرة، وهي التي تحدد أبدية هذا الوجود ) (14).
الكاتب إذن ينطلق من حسِّه الواقعي بهذا الوضع الذي يحيط بوجود المرأة (زوجة) في داخل الأسرة، فقد تحولت الزوجة بالفعل إلى جارية تقوم بخدمات المنزل في الوقت الذي تحرم من مباهجها وحقوقها، أما الزوج فيكون مأسوراً بقدسية حبه ورعايته للأم التي لا يستطيع أن يرفض لها طلباً، وبذا يتظافر المنطق التقليدي في موقف الأم والزوج في تشكيل قضية المرأة داخل الأسرة.
غير أن الموقف الذي تتخذه المرأة (لطيفة) يكشف عن مفهوم واقعي في معالجة الكاتب، فهي عندما بلغ بها حرمانها وألمها درجة كبيرة، لم تستسلم وترضخ لمشيئة الأم وسخرتها، وإنما خرجت من بيت الزوج مؤثرة الانتهاء إلى الطلاق على جحيم ذلك البيت الذي سلبها الراحة والاطمئنان . وقد جعلها هذا الموقف في صورة إيجابية لأنها بدأت بعد ذلك في تشكيل حياتها من جديد، فتزوجت من آخر حقق لها ما كانت تريده وتفتقده.

ولكن لا يخفي الكاتب تشاؤمه رغم هذا الموقف المضيء في حياة المرأة، فهي قد تحققت لها السعادة، ولكن ظل في داخلها قلق دفين يختلج من فراق ابنها وحرمانها منه، خاصة حين يصورها الكاتب في نهاية القصة على هذا النحو :
(ابني .. عزيز .. حبيبي عزيز .. أنا أمك .. هلم إليّ أسرع .. أسرع .. عزيز عزيز .. عز .. يز).

ولكن الابن النزق ما كاد يراها حتى فر من أمامها كما يفر الحمل من الذئب، أسرع إلى المنزل وأغلق الباب خلفه بعنف، وترك أمه يذوب قلبها كما يذوب السمن على النار .. وسمعت عمته من الداخل :
- ماذا يا عزيز ؟ وما الذي أفزعك هل تبعك أحد الأولاد، يريد إيذاءك .. فأجابها :
- لا .. لا .. إنها (لطفوه) الملعونة .. إنها (لطفوه) الملعونة تريد أن تأخذني منكم . وظلت لطيفة برهة مأخوذة من هول الصدمة، ثم كرّت راجعة، وهي ترفع يدها إلى السماء وتتمتم بضراعة وانكسار :
(كلا .. كلا .. لست الآن أسعد حالاً من ذي قبل ).

واحتواها الشارع الفسيح (15).

وهذا المشهد الأخير من القصة يكشف عن وعي الكاتب بآثار المشكلة التي يعالجها، فتمزق الأسرة بخروج الزوجة منه، يخلف تمزقاً آخر بين الأم وابنها، الذي استلب منها، وأرغم على كرهها، ومن هنا يكون شعورها (بأنها ليست أسعد حالاً من ذي قبل) نابعاً من حقيقة تواجد المشكلة الاجتماعية ذاتها . كما أن هذا الشعور يمثل سؤالاً ومواجهة، فالمرأة إذا كانت قد تمكنت من الخروج عن إطار مشكلتها الدائرة مع حماتها وزوجها القاسي، وشكلت حياتها من جديد، فإن إيقاع القلق والحزن في تلك النهاية رغم رومانسيته يضفي حضوراً منطقياً في المعاناة الواقعية للمرأة، لأن الحرمان من الابن في هذه النهاية هو رمز الإبقاء على جوهر المشكلة وحقيقتها وأبديتها.

إن الغيرة بين الأم والزوجة في محاولات الاستئثار بالرجل إبناً أو زوجاً، تعتبر من المشاكل التي تهدد وضع الأسرة بالتفكك والانحلال، فالأم ) تنظر بحسد إلى تلك الزوجة التي أصبحت خطراً يتهددها بعد أن كانت ترى فيها المنقذ لها من الشيخوخة، والعجز ولا شك أن المجتمع قد عانى كثيراً بين مطلب الزوجة في الاستقلال وبين رغبة الأم في استمرار الاضطهاد العائلي للزوجة ) (16) ويرسم فاضل خلف هذه المعاناة بصورة دقيقة في قصة ) أم جاسم وكنتها ).
ويضع الكاتب أيدينا على جوانب دقيقة من حياة الأسرة في تصويره للصراع بين الأم والزوجة . فالأم من واقع الأمومة التي تربطها بالابن تحرص على أن تجعل مشيئتها واختيارها من مشيئة الابن واختياره لأنها هي التي اختارت له الزوجة في بداية الأمر . ومن هنا لا تتورع هذه الأم أن تقول لزوجة ابنها مهددة ) إن لم تسيري حسب ما أمليه عليك فسأطلقك، وأزوج ابني فتاة تشبه القمر ).

وهذا الموقف الذي تقف وراءه الأم هو ما يرعب الزوجة دوماً ويدفعها إلى أن تسلك كل الطرق في المحافظة على الزوج، وإبعاد الأم عن طريقها . وهنا يفتح الكاتب الأعماق النفسية للزوجة بعد أن سمعت منها كلمة الطلاق فيقول محللاً وضعها :
) إنها لا تتأثر بالشتم والسباب مهما كان نوعهما، وتتقبل كل كلمة تصدر من حماتها . ولكن كلمة الطلاق تحمل في حياتها معنى كريهاً ترجف أوصالها عند سماعها، وخير لها أن تمزق إربا إربا وتحرق بالنيران من أن ترجع إلى بيت أبيها مجلببة بالحزن والعار . وهي لا تطيق سماع كلمة الطلاق لأنها شهدت منذ عامين طلاق أختها الكبرى ورأتها كيف تعود إلى منزل أبيها كئيبة شاحبة الوجه . وظلت الأسرة عاماً كاملاً مسربلة بجلباب الحداد على الحادثة المؤلمة. وشهدت كيف تحول المنزل إلى كهف موحش غابت فيه البسمات وهجرته المسرات . فهل تنكب هي الأخرى أسرتها من جديد ؟ صحيح أنها شرسة الطباع تنقصها الأخلاق الفاضلة ولكنها لن تعيد تمثيل المأساة في منزل أبيها مرة أخرى مهما كلفها الأمر. ولن تخرج من منزل زوجها إلا على أكتاف المشيعين(17).
والزوجة بما هي عليه من شراسة الطباع - كما يصفها الكاتب - تسول لنفسها القيام بوضع مادة من النفط في الطعام الذي تقوم الأم بطبخه لكي توغر في صدر الابن من أمه، فيتبرم الابن ) جاسم ( من ذلك، ويكتشف أن زوجته حين تطبخ الطعام لا تأتي إليه رائحة النفط، فيزداد حبه لها، بينما يزداد نفوره من أمه، فينكسر قلبها وتصاب بالحزن الشديد، وأخذت تفكر في رائحة النفط، وتساورها الشكوك حول ) شريفة ( زوجة ابنها، حتى كشفتها يوماً . فقد أرادت أن تضع النفط فشبت النار في القدر، ووصل اللهب إلى السقف وصاحت تنادي حماتها، وعندما جاءت أدركت سر الرائحة في الطعام كما أدرك ابنها جاسم.

ولا شك أن ما يعرضه علينا فاضل خلف في مثل هذه القصة من جوانب المكابدة داخل الأسرة، يحمل دلالة واضحة على اهتمامه برصانة الأسلوب الواقعي، وهو يحيط بأبعاد المشكلة الاجتماعية التي يعالجها في ذلك الأسلوب الذي يحرص على اختيار المواقف المتأزمة والحرجة في حياة الشخصيات ويحللها بموضوعية.
وفي قصة ) عاصفة في قلب ( يعتمد على موقف من المواقف النفسية التي يواجهها الزوج الفقير من زوجته حين تجهده بمطالبها الكثيرة من غير أن تقدر وضعه الاجتماعي المسحوق، فقد رأت أن يشتري لها زوجها عباءة حريرية غالية الثمن، الأمر الذي يكلف الزوج أعباءاً مادية ويرهق نفسه ويعرضها للحرج حتى ليذهب إلى صديق ميسور الحال ) فهد ( متردداً قلقاً . وحين يعتذر له يصدم بالخيبة من تنكر الصديق، ولكنه حين يذهب إلى صديق آخر في مثل حاله يجد لديه حاجته فلا يشتري عباءة حريرية من النوع الجيد لأنه قال في نفسه أنها لم تلبس الحرير ولن تدرك الفرق، وما أن رأت زوجته العباءة حتى ثارت عليه وألقت بها في الموقد لتلتهمها النيران.

إن الكاتب في هذه القصة يجسد كثيراً من النوازع النفسية والاجتماعية في حياة الشخصية . فهو يصور القلق النفسي الذي يكتنف العلاقة بين الزوجين بسبب وضعهما الاجتماعي . ولعل الحركة النفسية المتنقلة التي يصورها الكاتب في شخصيته لا ترتد إلى شيء بقدر ما ترتد إلى إحساس الشخصية بفقرها الشديد، وشعورها المؤلم بالفوارق الاجتماعية . ذلك الشعور الذي ينتشر فوق مساحة عريضة من قلقه الدائر، ويجعله يبغض رئيسه في العمل الذي كان يثور عليه حين يتوسل إليه في زيادة راتبه، كما يجعله يتألم لتنكر الصديق الغني ) فهد ( ويوقن بحب صديقه الفقير، الذي وفر له حاجته من المال، فهو يقول ) آمنت حينذاك أن الفقير هو الذي يرق للفقراء، أما الغني فلا يشعر بما يعانيه جاره . ويتناسى أنه يبيت على الطوى).

إن الإحساس بالفارق الاجتماعي هو الذي يشكل معاناة الزوج، وأزمته النفسية التي يصوغها الكاتب طوال القصة، ولعلنا نجد صورة هذا الإحساس منذ البداية :
(قالت زوجتي وأنا أهم بالخروج من المنزل : جاراتي فاطمة وعائشة وبدرية وغيرهن يتمتعن بأعبية حريرية وأنا أحضر لي هذا المساء عباءة حريرية يجب أن تكون حريرية .. لأني ما زلت متسربلة بعباءة قديمة تنقص قيمتي وتخدش كرامتي).
وسامحها الله كأنها تتناسى أن زوج فاطمة موظف كبير في الحكومة يزيد دخله على راتبي الضئيل بعشرات المرات . وزوج عائشة تاجر يربح في الشهر أضعاف ما أربحه في السنة أما بدرية فزوجها عامل فني يدر عليه عمله مئات الروبيات شهرياً .. أما أنا ... أنا المسكين الذي يلقي إليّ رئيسي مائة روبية شهرياً كما يلقي القصاب قطعة من اللحم الفاسد إلى الكلاب فكيف أستطيع أن أعطيها ما تريد، وأسعدها كما يسعد الآخرون زوجاتهم) (18).
ولا يخفى بعد ذلك ما في هذا الأسلوب من روح انتقادية، فهو كما نرى ينتقد سلوك الزوجة عندما حمَّلت زوجها أعباء نفسية ومادية بسبب مطلبها التافه الذي تلجأ فيه إلى تقليد غيرها من النساء الغنيات دون أن تقدر وضعها الاجتماعي البائس، ولا يضيرها بعد ذلك أن تكلف زوجها وترهقه وتلقي بكل ما بذله في النار . وهو أيضاً ينتقد تنكر الأغنياء للفقراء، واحتقار الرئيس للمرؤوس في العمل، وهذا ما جعل من القصة تستقطب جوانب مهمة في حياة الشخصية، وفي وضعها الأسري، والمادي وعلاقتها بالعمل.

ولعل هذه القصة الأخيرة التي عرضنا لها ( عاصفة في قلب ) تؤكد لنا ريادة الكاتب فاضل خلف للواقعية النقدية في القصة القصيرة فقد جعل فيها الإحساس بالفارق الاجتماعي بوتقة أساسية في معاناة الشخصية، وفي بؤسها وقلقها النفسي، والكاتب أيضاً يُبقي نزعته التعليمية خفيَّة في هذه القصة.
والملامح الفنية فيما عرضنا له من قصص فاضل خلف التي تصور الوضع الاجتماعي للأسرة، تؤكد لنا أن الوعي بالأسلوب الواقعي يعد إمساكا بكثير من السمات الفنية المتطورة في الشكل القصصي، وبخاصة إذا رافق ذلك استيعاب جيد للتأثر بالقصة العربية والأجنبية، كما حدث بالنسبة لفاضل خلف الذي عرفنا له بعض الاهتمامات بالترجمة عن القصة الإنجليزية (19).
إن لغة السرد في قصص فاضل خلف هي المسيطرة، ولكنها تستمد حيويتها من تماسك الحدث والبناء الفني في القصة، بل إن الكاتب يحاول أن يتخلص منها بالانتقال المفاجئ إلى الحوار الذي يعانق اللغة السردية في القصة، ويتوغل بدلاً منها في الموقف القصصي . بل إننا في قصة (حنان أم) نجد الكاتب ينهيها بمشهد حواري، وكذلك في قصة(أم جاسم وكنتها). وهذا يؤكد لنا الوظيفة الفنية للحوار التي بدأ الكاتب يدرك أهميتها في قصصه الواقعية الأخيرة.

ويكتسب الحدث واقعيته في القصة من جانبين : فهو يرتبط بمظاهر المجتمع المحلي ونماذجه البشرية القلقة المتعبة، وهو يتشكل، ضمن دوافع وأسباب منطقية، الأمر الذي جعل فاضل خلف يهتم كثيراً بالدوافع النفسية لفعل الشخصية . فالمرأة في قصة ) حنان أم ( لم تخرج من بيت الزوجية إلا بعد أن حرمت من ابنها، ومن الخروج لأخيها في ليلة عرسه، وهي في قصة ( أم جاسم وكنتها) لم تضع النفط في الطعام إلا بعد أن قذفت بها كلمة الطلاق في مظاهر شتى من الخوف والقلق.

إن الاهتمام بالدوافع النفسية يعد من السمات البارزة للقصة الواقعية التي تبدأ بوادرها في الاقتران بنمو تجربة كتاب القصة القصيرة في الخليج العربي . إذ لم يعد الافتتان العاطفي، أو تسجيل التجارب الذاتية، وصياغة الأحداث المتسعة معوّلاً - وحده - في تشكيل القصة القصيرة.

وفي حين يؤثر فاضل خلف الأسلوب التحليلي لمشاكل الأسرة نجد كاتباً آخر وهو أحمد كمال يجسم بعض أمراض الأسرة في أسلوب ساخر ينبثق من مفارقة تقترب كثيراً من روح الكوميديا ومواقفها اللاذعة فقد نشر قصة (حماقة أم ) (20)، وصور فيها سلوكاً شاذاً للأم . فقد بعثت ابنها لكي يحضر المغزل من جارتها، ثم نسيت ذلك، ووجهت لعناتها للزوج وعرضت ابنها للإيذاء الشديد.

وتتميز هذه القصة من بين قصص أحمد كمال ببعدها عن الافتتان العاطفي والفواجع الإنسانية، والأحداث العريضة ذات الخطوط المتعددة، فهي تلتقط الحالة المركزة أو الموقف السريع الذي ينطوي على الحالة الاجتماعية . وتشير القصة إلى تأثر كاتبها ببعض أساليب الواقعية التي تعنى بإثارة السخرية حول النموذج البشري الذي يكشف عن سوية منحرفة، كما رأينا ذلك في الصورة التي رسمها الكاتب للأم . فقد جعلها ضعيفة التذكر، سريعة الانفعال، سليطة اللسان، وهذا ما أدار حولها المفارقة الساخرة التي وقعت فيها.

إن الكاتب في هذه القصة لا يخرج عن الاهتمام الذي يوليه كتاب القصة الواقعية في الوقوف مع الشخصيات المريضة، التي تتكشف حدود الانحراف والشذوذ فيها من خلال موقف قصصي ينفذ إلى صميم حالتها المريضة، فيجعل الانطباع النهائي في القصة مليئاً بالرفض وعدم التقبل .