قلق الصراع مع المشاكل الفردية

* خلف أحمد خلف
* علي سيار
* خليفة العريفي
* عبدالله خليفة
* عيسى هلال

تظل سنوات العقد السادس من هذا القرن مفعمة بكثير من أشكال السقوط ومصائر الانهزام أمام أرزاء الواقع الاجتماعي وتمزق علاقات الفرد ، ولعل مرد ذلك هو قرب عهد هذه السنوات بأحداث الخمسينات التي انتكست بآمال القوى الاجتماعية وجعلتها تتجرع آلامها الذاتية ، وتعاين المرارة التي أتت على تطلعاتها بالهزيمة ، وخاصة في أشكال المواجهة مع مشاكل الواقع الاجتماعي وتجارب الفرد الذاتية في أوساط الطبقة المتوسطة بوصفها أكثر الطبقات ارتباطاً بأحداث القلق الاجتماعي والسياسي طوال فترة الخمسينات.

وهنا تستمر القصة القصيرة في التعلق بالأشكال الرومانسية التي تقوم بنسج قسمات الانفصال والعزلة وعدم القدرة على المواجهة في الشخصية ، وقد أدى هذا التعلق بكثير من كتاب القصة القصيرة إلى أن يعيشوا قلقاً مزدوجاً بين عملية الاهتداء إلى الشكل القصصي وبين السمات الإنسانية العاجزة التي يبثها في الحركة العامة للحدث والشخصية .

وتتمثل جوانب من هذا القلق في قسم كبير من القصص القصيرة التي كتبت في الستينات وعلى الأخص لدى سليمان الشطي وحسن يعقوب العلي وسليمان الخليفي ثم خلف أحمد خلف الذي تتراوح مستويات القصة لديه في السنوات الأخيرة من الستينات ، ولا تستقر على شكل معين، فهي قد تكشف عن سمات شديدة الضعف ، أو تكشف عن سمات متطورة ، وهي بين الوصف والسرد التقلـيـدي أو الارتـداد إلـى الماضـي أو التأمل في النموذج البشري تأملاً خارجياً أو محاولة التوغل إليه بالتحليل كما وجدنا ذلك في قصتي " فداء للشباب " و " لم يكون هذا الموت ؟ " وهي ترتكز أيضاً - من وجهة النظر النفسي والاجتماعي - على نظرة قلقة منكفئة مع مصائر السقوط والانهزام وسلوك العجز والضعف البشري ، وكل ذلك ينبع من دوائر القلق الاجتماعي والفكري السائد " الذي يؤدي - كما يذهب جورج لوكاتش - إلى امحال صورة الإنسان والواقع المصور ، وإلى الهبوط به وتشويهه ، إنه يستبعد كل ما يقع خارج مجاله ، وعلى الأخص كل ما من شأنه أن يضفي على الإنسان وبيئته دلالة اجتماعية ، وهـذه نتيجة طبيعية لمنشئه "(19).

ولعل معالم من هذه الصورة القائمة التي يخلعها الكاتب من نوازعه الفنية والفكرية المضطربة قد انعكست على جزء كبير من تجربة الكاتب خلف أحمد خلف في القصة القصيرة .

في قصة " بلا استئناف " يحاصر كاتبنا بطل القصة بعقدة نفسية مريضة لا مفر له أن يعيشها بكل دلالاتها السلبية التي تعوق حركته في الواقع وترتد بسلوكه نحو الضعف والانطواء ، فهو يعاني من خجل شديد يتضاءل به أمام الآخرين ، ولا يستطيع أن يواجه أخطاءهم ، إنه يمر صدفة أمام رجل أعمى يؤذيه الأطفال فيتلقى ضربة قاسية منه ويقذفه بالسباب في حين يحاول أن يفهمه خطأه أو يتدارك الموقف ولكنه لا يستطيع ذلك فيذهب مع آلام الضربة نحو " دكان أبو علي " الذي تعوّد شراء حاجاته منه فيطلب دفتر حسابه منه ويراجعه ويستنكر ما عليه من مال فقد دفع بالأمس كل الحساب الذي عليه ، ولكن ما أن يحدجه " أبو علي " بنظرته الكريهة حتى يرتد إليه الخضوع والاستسلام . لقد أراد في هذا الموقف ، وفي موقفه مع الرجل الضرير أن يخرج من عقدته ولكنه لا يفلح في ذلك . وتظل عبارات صديقه الساخرة تمزق أعماقه المتخاذلة :
" أنت يا صديقي .. كأنك في حمام ، وقد غطى الصابون وجهك فأغمضت عينيك .. فدخل شخص ما .. ليفاجأ بك عارياً تماماً .. ولكنك لم تكن تعرفه.. فخرجت من الحمام وأنت تبحث في كل عين عن صورتك العارية فيها "(20).

ويردد الكاتب هذه الصورة في بداية القصة ونهايتها لتعبر عن حالة الحصار التي يعيشها هذا النموذج البشري مع أزمته الذاتية ، بل إن أسلوب الكاتب في المواجهة بضمير المخاطب وما ينطوي عليه عنوان القصة " بلا استئناف " من دلالة يؤكد لنا حتمية الحكم النهائي بالانطواء والضعف الذي جعل محاولة الخروج منه نوعاً من العبث .

إن الإحساس بعدم القدرة على مواجهة الواقع الخارجي أو الواقع الذاتي يعد إطاراً رومانسياً مغرقاً يحاصر به الكاتب جميع شخصياته ، ويجعلها تحتضن ما يعقب محاولاتها اليائسة من مصائر الخيبة والانتهاء ، فهي إشارة إلى وجود ذلك العالم المغلق في ذات الكاتب الذي يباعد بينه وبين انتزاع الثقة ، واستشراف المستقبل .

إن النزعة الرومانسية لدى خلف أحمد خلف تجعل المصائر المؤسية في قصصه تصدر في شكل أحكام مسبقة ، ويوحي لنا بذلك ما ينهجه الكاتب غالباً من وسائل في الشكل القصصي تعتمد على انتزاع النماذج البشرية ، واصطفاء حركتها الخارجية كي تعكس في نهاية الأمر مشكلتها الداخلية "الانتهاء" من غير أن ندرك لها منطقاً يحمل دلالة موازية تفسيراً أو تأويلاً.

فالبطل يندفع في قصة " إنه يحاول الانتحار "(21) إلى التخلص من الحياة بعد أن أحاط به إحساسه بالعجز والعنف أمام التركة التي خلفها والده (أولاده الأربعة عشر ، وزوجاته الثلاث) حين فاجأه الموت ، وجعلنا بذلك ننتهي مع يقينه بعدم إمكان مواجهة الفرد للواقع . ولا يتميز منطق الحدث في القصة الذي يدفع إلى هذا اليقين بشيء سوى ذلك المحتوى التعليمي الذي يجسم خطأ انسياق الآباء مع تقاليدهم وقيمهم في الزواج ، أو تربية الأبناء بطريقة تجعل منهم جيلاً غير قادر على معالجة مشاكله ومواجهتها.

وربما حملت بعض نماذجه البشرية معاناة سطحية للقلق كما في قصة " لمن تعب هذا النهار "(22) التي لا تعدو كونها موقفاً طارئاً تضعف دلالته الفنية نظراً لرتابة الصورة الخارجية التي يقوم عليها ، والتي تنقل إحساساً ذاتياً سريعاً لذلك الزوج الذي لا يرضيه أن تذهب نقوده مقابل التسريحة العالية لشعر زوجته ، ولكنه رغم ذلك لا يستطيع إظهار عدم الرضا .

لقد وقع خلف أحمد خلف في بداية تجربته مع القصة القصيرة في اسار التعبير عن قلقه بشتى الأساليب والموضوعات ، وإن كانت مغرقة في استهلاكها . ولعل نزعته الرومانسية الأولى كانت سبباً في خلق هذا الاسار، فهي أحياناً تدفع - كما رأى فيشر - للاعتقاد بعدم وجود موضوعات ممتازة "فكل شيء يمكن أن يكون موضوعاً للفن "(23).

وهذا ما يفسر لنا عدم استقرار الكاتب على شكل فني يحقق له ما أراد من التجاوب مع الواقع (24) الذي يحيط به ، وليس التجاوب مع واقعه الذاتي المحاصر بنزعات الضعف والعجز .

ولعل في اهتمام الكاتب بعنصر المفاجأة أو الصدفة ما يشكل عاملاً من العوامل التي تجذبه نحو انتزاع الهواجس الذاتية التي تباعد بينه وبين حركة الواقع الاجتماعي ومجراه الشامل . إذ تأخذه الأحداث المفاجئة نحو حركة الآثار الفردية من غير أن تبرز واقعاً له دلالته الاجتماعية البازغة في ملامح الحدث وملامح الشخصيات ، ولقد اعتمدت معظم ما عرضنا له من قصص الكاتب على " الصدفة " كقصة " فداء للشباب " وقصة " بلا استئناف " وقصة " إنه حاول الانتحار " وأخيراً قصة " الطفل الغريب "(25) ، وجاءت الصدف في هذه القصص لتخلق للكاتب مجالاً رحباً يهوي به نحو الهموم الفردية . أي أنها تفتح له سبل الاتصال بالذات الرومانسية التي تعايش المحاصرة والقيود الداخلية من عجز أو خوف أو خضوع . وربما اكتسبت من هذه الناحية وظيفتها الفنية ، وخاصة في غرابة ارتباطها بالشخصية ، ففي قصة " الطفل الغريب " أثارت الصدفة مشاعر بعيدة من الخوف والوجل في مجموعات النساء اللاتي تواجدن في الحديقة . فقد تدحرج طفل صغير قرب الحديقة بعد أن صدمته سيارة مسرعة جعلته يتكوم بشكل لا إنساني . واندفعت النساء يبحثن عن أطفالهن من أثر الخوف والفزع . ويصور الكاتب أثر هذه الصدفة على (سمية) . التي ظلت وحدها في النهاية تبحث عن ابنها الصغير حتى اعتقد الجميع أن الطفل الميت هو ابنها . وخلال ذلك يحيل الكاتب هذه الصدفة إلى خوف مجهول غامض يبرز بمنطق قدري ليحاصر شخصياته جميعاً بالخوف والوجل.

إن الكاتب يصطنع جميع الوسائل الفنية التي تحقق له مقدرة على الدخول إلى العالم الذاتي الذي يتصل بهموم الفرد ، وقد وفرت له الصدفة شيئاً من ذلك ، كما حققت له مواقف الاحتضار والانتهاء رجوعاً إلى الماضي المهزوم كما رأينا ذلك في قصة " لم يكون هذا الموت ؟ " وهو حين يربط هذه المواقف بالتوجه السردي المباشر عبر ضمير المخاطب أو المتكلم يحقق نوعاً قريباً من المناجاة الداخلية التي تنزع إلى ذاتها بكل ماهي عليه من انتكاس في المشاعر ، وانكفاء على الذات .

ونجد ذلك مثلاً في قصة " تخريفات " التي خلق للشخصية موقفاً حافلاً بامكانية التعبير عن الذات بصورة مباشرة .. فالبطل على فراش المرض وأمامه أبناؤه الذين يستمعون إلى تجربته الشاقة في الحياة ، أو لنقل تجربته المهزومة مع ذاته . فهو قد تزوج المرأة التي يحبها (أم أولاده) والتي كان يرى في عيونها سحراً وبريقاً ولكنه منذ الشهر الأول من الزواج أحس بفراغ عواطفه نحوها ، وفقد إحساسه بذلك البريق والسحر والضحكة الجميلة . ويكشف لنا هذا الإحساس عن رؤيته العبثية التي بدأ ينظر بها إلى زوجته وإلى الحياة ، كما يدل هذا التحول على شذوذ عواطفه التي تنتقل من أنانية فردية إلى مثالية بعيدة تؤدي به إلى عزلة داخلية. فقد كانت أنانيته وحبه لذاته يباعدان بينه وبين الحبيبة التي أصبحت زوجته . فهو يقول :
" زوجتي .. حبيبتي بالأمس .. ماذا كان فيها يسحرني ، ولماذا لا تسحرني اليوم .. لماذا ؟ لقد أمست زوجتي مجرد امرأة .. امرأة كغيرها .. ليست لها خصوصية واحدة .. وما أفظع ذلك .. وها أنتم الآن أمامي يا أبنائي ، اعترف أمامكم بأن ليس هناك حب .. إنما هناك مثالية نحياها في داخلنا .. وتلقي انعكاساتها على أول إنسان مصقول .. (قابل لتلك الانعكاسات) .. كنت حقاً أحب ولكني لم أكن أحب أمكم .. بل كنت أحب نفسي .. وهكذا كل منا في هذه الدنيـا لا يحـب إلا نفسـه ولا يخاطـب إلا نفسـه تمامـاً كما أفعـل الآن "(26).

إن هذه ( الأنا ) التي تشكل خيبة البطل تنطوي في حقيقتها على مثالية متورمة أو حالة عصابية مستعصية جعلته يتصور أن عواطف الحب سر إلهي لا يرقى إليها البشر ، وأمام ذلك يتضاءل موقعه الإنساني إلى حد الشعور بالانتهاء . فقد انتهى الحب بالنسبة إليه وانتهت زوجته ، بل إن كل ما تعنيه المرأة في حياته قد انتهى بسبب غموض ( الأنا ) وهوّتها العميقة في نفسه.

لقد أوحى الكاتب برغبته الجادة في التحليل النفسي ، وحاول تفسير حالة الخيبة والنكوص من وجهة نفسية ، لكنه على الرغم من ذلك يسبغ على شخصيته في هذه القصة كثيراً من المشاعر الرومانسية اليائسة التي تكشف عن قلق ذاتي متأصل في تجربته ، وتسفر عن أمكنة فارغة تستقطب آثار خيبة مريرة تبدو له من العالم حوله ، ومن ثم تفقد شخصياته صلابتها وتماسكها وتعلن عن هزيمتها بالدخول اختياراً في مصيرها.

إن القصص الأولى لخلف أحمد خلف تعد علامة بارزة فيما جاءت عليه بدايات المرحلة الجديدة التي تدخلها القصة القصيرة في الخليج العربي منذ بداية الستينات ، فهي قد استنفذت كثيراً من مظاهر القلق في الشكل والموضوع ، حيث تعلقت بالرواسب الأولى التي تجاوزتها المرحلة السابقة ، كما عبرت عن التطلع الفني الجديد ، والنزعة المتحررة الضافية ، ولم ترتبط هذه الظاهرة بخلف أحمد خلف فحسب ، بل هي ترتبط بمعظم الكتاب الذين بدأوا تجربتهم الرومانسية في القصة القصيرة خلال الستنيات . ثم انتقلت بهم هذه التجربة نحو تشكيلات الواقعية وتداعياتها .

ويشير كل ذلك إلى طبيعة المرحلة الجديدة التي تمر بها القصة القصيرة ، فهي من الوجهة التاريخية تعد مرحلة انتقالية متطورة تنعكس حتى في قصص بعض الكتاب الذين ينتمون إلى الجيل الأول " المؤسس " ثم يواصلون الكتابة في هذه الفترة ، ويمكن أن نعد علي سيار نموذجاً لذلك فهو عندما سدت عليه جميع الطرق بعد أحداث الخمسينات في البحرين وذهب إلى الكويت وعاود الكتابة في صحافتها مع بداية الستينات ، جاءت كتاباته أول امتداد لقصصه في الخمسينات ، ولكنه لم يلبث أن تجاوزها - أيضاً - نحو توظيفات الواقعية.

ويمكن أن نقف هنا مع قصتيه " السيد " و " في يدي جماجم " اللتين تربطانه برومانسية الفترة الأولى أكثر من غيرهما . في القصة الأولى نجد بطل القصة ضحية المجتمع الذي يسوقه إلى الجريمة والانحراف رغماً عنه ، والمجتمع هنا يتمثل في سلطة الأب والنماذج البشرية الأخرى التي تفتقد الفضيلة وتزج به نحو شر لا يعلم عنه شيئاً ، فهو منذ كان طفلاً يواجه التشرد بسبب والده الذي طلق أمه وأخرجها مع ابنها من البيت ليلقيا بنفسهما على جدته العجوز ، ولا يجدان وسيلة للعيش سوى أن تعمل الأم في بيوت الآخرين وتخدمهم ، وكذلك صبيها الصغير ، ولكنه حين يكبر يستغني عنه البيت الذي يعمل فيه فيهيم على وجهه باحثاً عن العمل ، وفي غمرة بحثه الشاق يستغله أحد التجار ليورطه في العمل مع عصابة في تهريب المخدرات ، ولا يدرك ذلك في بداية الأمر ، ولكن عندما انهالت عليه حياة مادية جديدة مليئة بالمباهج والملذات أدرك ما وقع فيه ، ولم يستطع الرجوع عن أمره لأنه وقع تحت تهديد من معه ، ولا يستمر طويلاً في ذلك إذ سرعان ما تقبض عليه الشرطة وتودعه السجن ليتلقى بعد ذلك نبأ وفاة أمه من أثر الصدمة.

إن فكرة انطلاق مأساة البطل الرومانسي من ظاهرة الطلاق وصدمتها النفسية استهلكتها قصص الخمسينات ( فاضل خلف - أحمد كمال - فهد الدويري ) حيث تنتشر أبعاد هذه المأساة فوق حياة عريضة مليئة بالأحداث المتلاحقة لتنسج من كل ذلك تشكيلاً قصصياً ميلودرامياً ونموذجاً بشرياً بريئاً ، ولكن تشاء بعض القوى في المجتمع أن تطارد براءته وصفاءه الإنساني لتجعل منه فريسة جرمها ورذيلتها ، وهذا ما تحتويه قصة " السيد " من خلال أحداثها التي تلخص عمراً زمنياً في حياة البطل لتقدم تناقضات الحياة بين الفضيلة والرذيلة أو الخير والشر ، ولتضفي أجواء من مشاعر الحزن والاشفاق ، وخاصة حين تبدأ القصة من مفارقة رومانسية هي في حقيقتها نهاية الأحداث ، فقد زج بطلها في السجن ، واستقبل فيه يوماً جديداً يطلق عليه مجتمعه (الآثم في نظره ) (يوم الأم) في الوقت الذي يتلقى نبأ وفاة أمه ، ويمكن لنا أن نستشف المشاعر الرومانسية التي لا تخلو من إحساس النقمة على المجتمع من بداية القصة التي تمثل في تكنيكها وسياقها السردي نهاية الحدث :
" بعد ساعات قليلة تشرق شمس يوم جديد ، يوم سميتموه يوم الأم، ومن غرائب الصدف أنني ولدت في هذا اليوم قبل خمسة وعشرين عاماً . وفي هذا اليوم سأروي لكم قصتي وأنا قابع في ركن مظلم رطب من أركان الزنزانة 147من السجن الذي يجثم على أطراف المدينة اللامعة .. المدينة التي تحتفلون فيها هذا اليوم بعيد الأم ... ومن الكوة الصغيرة أستطيع أن أرى الأضواء وأرى بركة النور التي تسبح فيها مدينتكم المتوهجة .. ومن هذه الكوة أيضاً أستطيع أن أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون بل وأكاد أحس لفحة الزفرات الحارة تطلقها بعض الصدور وهي على مشارف يوم جديد تطلقون عليه يوم الأم .. ولكن لماذا أبدأ القصة من آخرها .. ؟ ذات يوم .. يوم أسود.. دخل أبي إلى البيت وكان الوقت ظهراً.. قال لأمي في برود عجيب .. اليوم يجب أن ينتهي كل شيء ... "(27)
بهذه الصورة يبدأ الكاتب قصته .. حيث تجري الأحداث بعد ذلك في تلاحق عجيب يصبح البطل راويتها منذ عبارته " ولكن لماذا أبدأالقصة من آخرها " التي تفتح إمكانية كبيرة لقيام أسلوب السر التقليدي طوال القصة ومن زاوية نظر حادة ومؤثرة.

وتعود هذه العبارة نفسها لتلقي بنفسها ثانية في القصة الأخرى " في يدي جماجم " لتجعل من القصتين نموذجاً واحداً لتقنية السرد ونمطيته ، وإذا كان البطل قد أطل في بداية القصة السابقة من زنزانة السجن فإنه في قصة " في يدي جماجم " يبدأ رواية أحداثه المؤسية من مستشفى الأمراض العقلية بعد أن اقتيد إليه مجنوناً ، وفي كلتا الحالتين يعبر الكاتب عن ذلك الاضطهاد القدري الذي يهدد رغبة الانسان في الحلم والاستمرار في الحياة . لقد ذهب بطل هذه القصة إلى دراسة الطب في انجلترا ليحقق حلمه الرومانسي في أن يصبح طبيباً يدخل السعادة والأمل في قلوب المعذبين على الأرض من أبناء وطنه . والكاتب هنا يفسح مكاناً كبيراً لانتشار هذا الحلم في صدر بطل قصته ، فارتباط هذا الحلم بعذاب الآخرين يقابله ارتباط ذاتي يتصل بتحقيق أمنية أمه في أن يعود إليها ابنها طبيباً ، فالأم بالنسبة إليه تعني مشاعره ووجدانه الأكثر صفاء وإيغالاً في حياته ، وحين يعود بعد غربة السنوات الطويلة وحنينها الشديد حاملاً شهادته وأحلامه ، تستقبله المفاجأة القدرية ، فقد وجد أمه مريضة على الفراش تنتظره منذ سنة كاملة كي يقوم بعلاجها ، وبذا يقدر له أن تكون أمه أولى تجاربه مع الطب فيحتضنها في موقف تتجمع فيه مشاعر الخوف والحلم، حيث تطرق مسامعه كلماتها الماضية.. (غداً تعود إليّ طبيباً)... ولكن المرض كان قد تمكن منها فماتت وماتت معها جميع أحلامه وأمانيه ، وأخذ يتساءل : " ماذا بقي لي من شوق السنوات السبع وعلم السنوات السبع " لم يجد شيئاً يمكن أن يربطه بالعالم فاحتضنه الشارع ليهيم فيه مجنوناً مطارداً حتى يتم القبض عليه ليودع في مستشفى الأمراض العقلية.

وتنتهي القصة بالجنون كما انتهت إليه العديد من قصص النماذج البشرية في الخمسينــات ، وهـو هنـا لا يتعـدى موقـع الاحتجـاج الـفـردي الـذي يـلـقـى سـؤالاً لا مجدياً في مصير الشخصية، إنـه يصـرخ فـي نهايـة القصـة " هـل أنا مجنون حقاً.. ؟ " أنا الذي سلخت من عمري سبع سنوات لأمنحكم الصحة والعافية .. أتحول في نظركم بين لحظة وأخرى إلى مجنون خطر تطاردونه في كل مكان ؟ كذابــون - كلكـم كذابون .. أنا عاقـل عاقـل جداً وأقسـم لكـم باللـه العظـيم علـى ذلــك .. "(82).

وهذه المعاني والمشاعر الرومانسية التي صاغت لنا بعض شخصيات القصة عند علي سيار تدخل في سياق العديد من التجارب القصصية الأولى للجيل الثاني من كتاب القصة القصيرة ، الذي تعايش مع الاجواء المفعمة بأصداء الخيبة ، وتطلع بالأحلام الجديدة في سنوات الستينات . فالشخصيات تخرج لديهم في محيط كبير من القلق .. قلق التغير وقلق الظروف السياسية ، وقلق الخيبة والنكوص (فضلاً عن القلق الفني الذي يصوغها والذي تمر به بواكير التجربة الأدبية عادة )، ومن هنا تقع أغلب النماذج فريسة لأخطاء لم ترتكبها ، أو تندفع للجريمة بدوافع ذاتية متأزمة محاصرة بعناصر العجز والتحلل البشري كما في قصة " الوجه الذي تأكله الديدان " (29) لخليفة العريفي ، وقد مزج الكاتب في هذه القصة بين زاويتين من الزمن الماضي تحمل الأولى علاقة البطل بالعاهرة التي يقتلها ، وتحمل الثانية علاقته بالزوجة التي خانته مع مدير السجن ، ويمتزج الزمنان لأنهما يحملان رائحة واحدة من الخيانة والاحباط .

إن الجريمة والانتحار والموت والجنون والحيرة دوائر تبدأ منها الشخصيات الرومانسية وتنتهي إليها أيضاً ، والكتاب يحيطونهم بها إحاطة شاملة من أجل التعبير عن عدم الرضا بالحياة السائرة في عصرهم ، فكأن تلك المصائر هي الخلاص والفكاك من إسار تلك الحياة ، التي تبدو تناقضاتها الهائلة لغزاً كبيراً لا يمكن تبديده . وهذه هي مأساة البطل الرومانسي كما تعبر عنها الشخصية في قصة ( الحلم ) لعبدالله علي خليفة حين تتساءل بمرارة شديدة : " كيف يستطيع المرء أن يكون فقيراً وشريفاً في نفس الوقت ؟" .

وتجيب طبيعة الحلم الرومانسي الذي خرجت إليه شخصيتا القصة على ذلك . فهما يعيشان على هامش الحياة منفيين فقدا سعادة الماضي ولم يجدا وسيلة تؤمِّن لهما العيش غير المغامرة والسرقة ، إنها وسيلة للابقاء على الحياة والنقمة عليها أيضاً . فكلاهما سدت في وجهه الطرق بعد أن أضناه البحث عن العمل الشريف ، أحدهما طرد من المدرسة ، وتبرأ منه الأب والاصدقاء والمرأة التي يحلم بها أيضاً ، ولم يبق له إلا أن يرغم نفسه على الحياة . والآخر قتله الفقر والافلاس وطمح في السعادة والثراء . يجتمعان كلاهما في حلم واحد عبر مغامرة يقدمان عليها نحو سرقة الطائرة المحطمة على شاطىء البحر بعد أن عرفا ما تحويه من أدوات ثمينة ستحقق لهما ثروة كبيرة ، وبين مشاعر الخوف وتطلع الحلم يندفع أحدهما نحوها في غفلة من الحارس ، ولكن لا يلبث القمر أن يخرج من بين السحب الداكنة فيضيء مكانه ويكشفه للحارس الذي يطلق عليه النار ليبدد لهما كل شيء في الظلام .

لقد تحركت شخصيتا القصة طوال هذا الموقف بمشاعر مزدوجة نجدها في احساسهما الكبير بالحلم واحساسهما الكبير بالخوف من القدر . وقد عبر الكاتب في احساسهما الأول عن مدى الحرمان الاجتماعي الذي ينطلقان منه نحو الحلم فقد تجسد لهما في هذه المغامرة شعور طاغ بالانتصار على وضعهما المدقع حتى أصبحت في نظرهما طريقاً نحو الخلاص الاجتماعي ، إذ يقول أحدهما:
" آه لو حققنا ما نحلم به ؟ سوف نشتري أشياء رائعة فعلاً سوف نشتري بيتاً بأكمله ، سوف أعيد ذكريات قديمة ، سوف أشتري لأمي سجادة وثوباً جديداً ، سوف أتزوج من التي رفضني أهلها لأني لا أملك حتى الحصير ... " (30).

إن الكاتب هنا يعبر عن رغبة في تغيير الواقع ، ولكنها رغبة تنطلق عبر التناغم الفردي الذي لا يصدر عن وعي بالأسباب الكبرى في الحرمان والفقر وإنما يصدر عن إيمان بقوى القدر التي تقف في وجهها وتخيب آمالها باستمرار ، فكأن مغامراتها ثورة على القدر نفسه وليس على الواقع ، لذا يتساءل أحدهما "عن سر هذا القدر اللعين الذي يقف في دربه بهذا الشكل . هو فقير وابن فقير ولا يريد سوى أن يثرى ، ولا يريد سوى حياة أفضل ، فلماذا تقف الأشياء في وجهه بهذا الشكل ". والشخصية الثانية أيضاً تحدث نفسها " كيف يستطيع المرء أن يتزوج دون أن يدفع في وجه القدر قبضة حديدية ؟ ". وكل ذلك يجسد لنا الإحساس الثاني الذي يحرك الأسلوب الرومانسي لدى الكاتب وهو الخوف من القدر . ذلك الذي لم يكن ثمة مفر من مواجهته عندما تسلل القمر بكل هدوء من بين السحاب كي ينتهي بالحلم نهاية بالغة القسوة . وبذا تكون هزيمة الرغبة في التغيير نابعة من الحدث القدري . من ذلك القمر الذي بثه الكاتب كثيراً من المشاعر الرومانسية الحزينة الكئيبة في بداية القصة فغلف الجانب المكاني فيها بما يتلاءم مع غنائية الحلم الداخلي في شخصيتي القصة.

إن رغبة الكتاب في تغيير الواقع تصدر في بدايات هذه الفترة من مشاعر القلق والحيرة ذات المحتوى الوجداني والعبثي ، رغم قلة بزوغها في العالم الرومانسي الذي يجول فيه كثير من كتاب القصة القصيرة في الستينات . ونجد ذلك في حيرة بطل قصة (أرض الأجداد ) لعبدالله خليفة في حلمه بتغيير الواقع ، كما نجده في قصة " وردة حمراء " لعيسى هلال التي تتناغم فيها تلك الرغبة مع الموقف الرومانسي ، فالبطل في هذه القصة يعيش الحيرة والسأم والفراغ القاتل، ولا يستطيع كل يوم أن يتحاشى المنظر المشؤوم لتلك المرأة المغمورة بعباءتها السوداء التي تقف في الخارج تطلب العطف والمسألة . ولكنه في أحد الأيام يصمم على أن يضع بعض النقود في يدها ، وحين يقوم بذلك تقدم له وردة حمراء . وينتظرها ثانية كي يعرف سرها ، ولكنه يجد مكانها امرأة أخرى تقدم له وروداً أخرى فيتركها للبحث عن تلك المرأة . وفي غمرة سؤاله عنها يعرف أنها قد توفيت بعد أن صدمتها سيارة .

لقد حاول الكاتب أن يجعل من الوردة الحمراء صورة للرغبة الداخلية العارمة في التغيير والخروج من الحيرة. ولكنها تظل مجرد رمز للاتصال الوجداني بهذه الرغب ة، ذلك الاتصال الذي يكشف عن أزمة ذاتية غير محددة المعالـم.. فهـو يقــــول :
" باقة ورد أحمر ، أخذ يرددها على لسانه أكثر من مرة ، وهو ينظر إلى البحر من خلال نافذة الاتوبيس المتوجه إلى مدينة المنامة .. يا رب ما سرّ الورد الأحمر ولكن الحقيقة التي لا يستطيع أن ينكرها أن كل وردة حمراء .. تبعث فيه الرغبة للانطلاق .. وتغيير واقعه ، سأل نفسه يا رب أهذا ما كانت تهدف إليه .. ولماذا ؟؟"(31).

إن هذه المشاعر بما فيها من اتصال بالرمز في " الوردة الحمراء " تفصح عن أجواء الحيرة والقلق التي لا يستطيع البطل أن يدرك ملامحها ، ومن ثم فهي تهوى في قرار سحيق ، ومناخ وجداني مهيأ للضياع والحيرة ولإطلاق الأسئلة الصعبة التي لا يجيب عليها إلا القدر، أو الحتميات التي تقررها ظروف الواقع.

ومنطق الصدفة القدرية هو أكثر ما يغلف حياة الرومانسيين باليأس والعزلة والإحساس بالضعف والغموض أمام قوي الواقع وأزمات الذات ، وقد جاءت هذه الصدفة في قصة " الوردة الحمراء " لتستلب الاحساس الجديد في ذات البطل ولتجعله أكثر حيرة وانطواءاً . وفي قصة " سخرية وجود "(32) تأتي الصدفة القدرية لتجرد البطل من الإحساس الحقيقي بمعنى الحياة ولتنطوي به في اسار عزلته وعذابه واحساسه بتعاسة الحياة ، فقد شاء منطق القدر أن تفارق أمه حياتها في يوم ميلاده ، مما يجعل الجميع يطارده بالادانة والذنب لأنه كان سبب وفاة أمه ، وخاصة والده الذي كان يضطهده بشدة في الوقت الذي لم يكن يشعر بذنب حول وفاة أمه لأنه لم ير وجهها ، وقد دفعته حالته المحاصرة بهذا المنطق الظالم إلى عزلة عميقة إذ انتهى بعد كل ذلك إلى أن أمه هي التي أذنبت نحوه حين قدمته إلى هذا العالم المزيف ، ويعد ذلك قمة الشعور الرومانسي الذي يمكن أن يحرّك شخصيته في القصة ، فقد جعله الكاتب يشعر أنه كان فارس خلاص لأمه وأنه لم يكن شؤماً ونحساً كما أدين بذلك من المجتمع ، لأنه أنقذ أمه من تعاسة الوجود . وتنتهي القصة بهذه النهاية الموغلة في الاحباط والخيبة إذ يناجي أمه بقوله :
" أماه .. ها أنذا أتعذب بالنيابة عنك .. وأعيش تعاسة الوجود ومرارة الحياة ".

كل ذلك يؤكد الصورة السلبية الساخطة للبطل الرومانسي ، ويرسم الوجه الممزق القسمات الذي يواجه به أزمته الفردية ، ومشاكل الواقع من حوله مواجهة غير متكافئة القوى ينقاد فيها بارادة غامضة ، تتضاعف سلطتها عليه من فرط إيمانه بالقدر ، وإذعانه للقوى التي تستلب حريته ، رغم شوقه إليها ثم انسياقه في محيط الخلل والقلق الدائر ، رغم رغبته في الاندماج مع وحدة جماعية تحقق له حريته وتخلصه من عناء الظلم الذي لا يستطيع أن يدرك مصادره تماماً كما لا يستطيع بطل قصة " نفوس معذبة "(33) لعيسى هلال من أن يدرك غربة والده وضياعه الذي أدى إلى ضياع الأسرة جميعاً . وكما لم تستطع سائر الشخصيات الرومانسية في قصص الستينات خاصة من أن تدرك قضية انهزامها أمام قوى الواقع ، وتتخلص من مصائرها الثقيلة الوطء.