القسم الثاني . الفصل الثالث 4

التحليل بلغة تيار الوعي
والتقاليد القصصية الجديدة

سليمان الشطي

د. سليمان الشطيلقد ظلت الواقعية التحليلية في القصة القصيرة تبحث غالباً عن التناقضات الداخلية في الإنسان، فدأبت على رصد المعاني التي يثيرها الوضع الاجتماعي للبطل بجذوره المحلية وأطره الإنسانية العامة، وقد حاول علي سيار كما رأينا أن يستبصر المعاني المستلبة أو المستشرفة بأسلوب تحليلي تمكن به من خلق بطلٍ يعد نموذجاً للطبقة أو الشريحة البرجوازية، ولكن لم يستمر ذلك أسلوباً مطرداً في جميع قصصه، فهو في بعض القصص ينفذ إلى الحالة النفسية بعيداً عن نموذجيتها كما في قصة ) المعركة ( وقصة ) شمس لا تشرق كل يوم (، وهذا يعني أن النزعة التحليلية كانت مسيطرة رغم اهتمامه بالنقد الاجتماعي .

وتقوى الجهود المؤصلة للمنهج التحليلي في القصة الواقعية القصيرة حتى لتبدو مناط توجهها الواقعي لدى طائفة من الكتاب الذين تزداد تجربتهم الأدبية نضجاً ورسوخاً، وتستفيد من ثقافة العصر ومن المعرفة الخبير بقضايا الشكل القصصي، ومن هؤلاء سليمان الشطي، وسليمان الخليفي، وعبدالعزيز السريع. وفي قصص هؤلاء تبدو النزعة التحليلية عميقة التأثير بفعاليتها في التصوير وقدرتها الفنية في النفاذ إلى صميم قضايا الواقع، مما يتيح لهذا النهج سيطرة وشيوعاً، حتى يمكن القول باطمئنان شديد أن مما أسفر عنه تطور القصة القصيرة في الخليج العربي منذ أواخر الستينات، هو استقرارها لدى مجموعة كبيرة من الكتاب بأسلوبها الفني التحليلي . هذا الاستقرار الذي استمد جانباً من ثباته وتماسكه عبر انحدار الوسائل الفنية في التحليل من الرومانسية الأولى، ثم من استمرارها في الفترة الثانية . ولا يصعب على الباحث أن يجد معالم القدرة التحليلية في بعض قصص سليمان الشطي الرومانسية كقصتي ) الهاجس والحطام ( و ) قصة حب عادية ( مما يؤكد لنا الدور الكبير الذي تلعبه تراكمات التجربة واتساعها وخصوبتها .

وليست خصوبة التجربة وتماسكها لدى كاتب مثل سليمان الشطي هي المدار الذي يستمد منه النهج التحليلي تطوره وتوسعه فحسب، بل إن خصوبة الحياة الاجتماعية نفسها كما يحيط بها منظور الكاتب هي الأكثر قرباً والتفافاً بالتطور نحو الشكل الواقعي لأنها ألزم به وأكثر ارتباطاً بقيمه الموضوعية، وذلك أن ) الكاتب ينبغي أن يعيش حياة غنية خصبة حتى يستطيع أن يقدم ما هو نموذجي بحق ( (15). ونعتقد أن ما ينبغي تسجيله هو أن سيطرة النهج التحليلي قد باعدت ببعض الكتاب كالشطي والخليفي والسريِّع عن خلق النموذج الذي يحمل إدراكاً كلياً أو شاملاً رغم أن المجتمع حولهم يمر بتجربة عنيفة تهز كثيراً من قيمه وتقاليده، وتصيب أنظمته العامة وعلاقاته الاجتماعية بكثير من مظاهر القلق، وخاصة مع ارتباطها بسرعة التطور وتلاحق ضرباته العميقة.

لقد آثر أولئك الكتاب البحث المستمر عن المعاني الإنسانية التي دلت عليها تلك التجربة العنيفة سواء كانت متبدية في شكل إيجابي أو سلبي، وهو بحث لم يلجأ إلى الارتباط بنهضة القوى الاجتماعية ونضالها من أجل التغيير، وإنما لجأ إلى الارتباط بما يشف به التطور الاجتماعي من تناقضات، قد تكون لها صلتها بجوهر التطور وديناميكيته الباعثة لإطار الحياة الاجتماعية، وقد تفقد هذه الصلة . وذلك أن مناط التحليل هو الحياة الداخلية للإنسان . أي الوجود النفسي والذهني بالنسبة له . ومثل ذلك لا يحدد ارتباط القاص ) التحليلي ( غالباً بطبقة اجتماعية معينة ولا حتى بأيديولوجيا مباشرة .

من هنا نجد أن سليمان الشطي لا يحفل كثيراً بصياغة الشخصية ) النموذج (، ولا يرصد حركة الصراع الاجتماعي من خلال الإيمان بطبقة اجتماعية، وإنما يحتفل أساساً بما تبثه الشخصية من دلالات وتناقضات إنسانية، إنه يتوغل إلى خصائصها الصغيرة الشأن متعاضداً مع رهافة حسها الإنساني من غير أن يتجاوز وجودها الخاص، أو من غير أن يتخذ من التحليل وسيلة أساسية للنقد، وهذا ما أتاح له إمكانية واسعة في تطوير مقدرته الفنية والتحليلية على حساب رؤيته وموقفه الاجتماعي .

ويحتفظ الشطي بهذه القدرة في جميع قصصه لتعبر عن مدى استيعابه للتقاليد السردية والتعبيرية في فن القصة القصيرة، كما يحتفظ من جانب آخر بقدرته على استبطان المعنى الإنساني من خلال متابعاته للتفاصيل الداخلية والخارجية مهما قل شأنها .

نجده في قصة ) الأصابع المقطوعة ( (16) يكسب تلك المتابعة عمقها النفسي باستعمال مساحة اللاوعي أو حلم اليقظة، فالبطل طفل صغير تنطوي سيماؤه الفنية على تركيبة نفسية تضج بالمشاعر المتوقدة مما يتلقاه حوله من تخويف واستفزاز لعواطفه البريئة، فهو يسير مع أمه في طريق يلتهب بحرارة الصيف حتى إذا مر بسور القصر الكبير الذي تحرسه مجموعة من الجنود، فيضحك الطفل عندما يرى الحارس يداعب بخيلاء شاربه الصاروخي، ويشير إليه، ولكن أمه تسكته وتحذره من الإشارة بالإصبع لأن الجنود يقطعونها . من هنا يدخل الطفل في حالة نفسية قلقة تستنكر وترفض قطع الأصابع بهذه الطريقة الظالمة، لقد أصبح ) مستسلماً شارد الذهن بعيد الأفكار، يسير وسط غابات من الأصابع المقطوعة ( وتزداد مشاعره استغراقاً في الخوف من ذلك الحارس والذعر من الأصابع المقطوعة وخاصة حين يجلس بين النسوة ويبصر إصبع العجوز مقطوعة ملفوفة بعد أن أوهمته أن الحارس هو الذي قطعها . وهذا ما جعله يستسلم لمشاعر انتقامية يعبر عنها بحدة شديدة في اللاوعي، كما يبدو في عالم اليقظة الذي يرى فيه نفسه تنتقم لجميع الأصابع المقطوعة من صاحب الشوارب، وحين يفيق من عالمه هذا يظل متوثباً بشعوره الانتقامي محدثاً المرأة العجوز ) غداً سأنتقم لك . ولإصبعك ولكل الأصابع المقطوعة .. سأعود .. وسيكون معي الكثير ممن يكرهون قاطعي الأصابع ( .

لقد اهتم الكاتب في هذه القصة - وخاصة في مشاعر الحلم وتحفز النهاية السابقة - بإثارة بعض دلالات القلق من خلال فكرة عابرة تنفذ في عقل الطفل لتخلق لها لحظات مليئة بالدلالة، والتميز، وعلى الرغم من عفويتها وبساطة حجمها بين علاقات الواقع، فقد استطاع الكاتب بما فجر حولها من تفصيلات نفسية واجتماعية دقيقة أن يجعلها تلم بالتكوين الداخلي للطفل حتى بدت الأصابع المقطوعة رمزاً لهوة نفسية سحيقة تفصل اتصال الناس بسور القصر الذي يحرسه الجنود، ذلك أن الكاتب يستشف الجانب التخويفي المتذعر الذي يكتنف العلاقة بين العامة من الناس وسلطة القصور، وإن جاء ذلك على نحو من التحفظ والغموض والمواربة التي تنم عن موقف يؤثر النبض الموحي لا البوح المباشر .
والتحليل عند سليمان الشطي يتابع التفاصيل من غير أن يحصرها في شخصية واحدة لأنه يهدف إلى استجلاء المعنى أو الدلالة من الواقع مباشرة، وهو غالباً ما يجسم اتصاله المرهف بذلك عبر التواءات الواقع وارتباط الشخصيات المتعددة به، ويمكن ملاحظة ذلك في قصة ) الشيء الجديد ( (17) ففيها تتجمع نماذج بشرية متعددة على ساحل البحر تنتظر قدوم السفينة التي تأتي لهم بالماء من ) شط العرب (. ونظراً لوجود أكثر من شخصية رئيسية في القصة فقد أصبح الزمن يحرك موقفاً محشوداً بالجوانب الواعية ذات الدلالة. تتضافر جميعها بصورة ائتلافية من أجل استبطان حضورية الواقع المأمول ) الشيء الجديد ( لدى الشخصيات جميعها . ) أحمد ( ينطلق بصفيحته فوق رؤوس الجميع وصوت الأمل في داخله مع صوت أمه الذي يردد ) كتفاك يا بني هما سلاح الانتصار فاذهب يا أحمد ( . وأم سالم المرأة التي لم يكن يراها أحمد تخرج مندفعة مع صفيحتها إلى الأمام، وأبو علي يضاعف من سرعته نحو الشاطئ حاملاً قربته المرتمية على كتفه . والطفل الصغير وأبو سعيد، الجميع يتطلع إلى السفينة القادمة حاملين آمالاً كباراً من وراء الارتواء بالماء، ورغم أنهم يبصرون السفينة وقد تحطمت باصطدامها مع السور وذهاب كل الماء لكنهم ظلوا في نهاية القصة يتطلعون إلى أمل جديد بدت بوارقه مع إطلالة شراع أبيض آخر يصفق له الطفل بفرح غامر .
ومن خلال هذه الشخصيات المتعددة يتابع الكاتب فكرة تجدد الواقع وحركته الأمامية البازغة فيجعلها منبجسة من طبيعة الموقف القصصي بما يعنيه من تقدم واندفاع وانتظار، بل إنه يحيل هذه الحركة إلى واقع مأمول متخمر في الموقف بأكمله . ومن هنا يتناغم الأمل مع خطو الجميع حتى ليبدو إيقاعاً داخلياً يتلمسه الكاتب مع تطور الموقف، فأحمد ) يسرع الخطى وأمل دائم متجدد يجدده صدى صوت أمه المتهدج (، وتجري خطواته أكثر اندفاعاً، ) وأمل آخر جديد يجري، ) وأبو علي ( بائع الباقلاء ) يخرج إلى الماء ويترك ) قدر الباقلاء ( يوزع ضحكات الأمل المنغمة . بهذه الصورة ارتبط الأمل في الصدور بالماء الذي يهرع إليه الجميع . حتى أصبح الماء الذي ينتظرونه رمزاً لطلب الحياة واحتواء واقعها المأمول . وقد استطاع الكاتب بمهارة فنية أن يربط فكرة انتظار الماء بالواقع الاجتماعي المأمول عبر العلاقة المنحدرة من الماضي بين أم سالم، وأبو علي اللذين يلتقيان بعد عشرين سنة حال فيها فقر أبو علي دون الظفر بأم سالم . وحين يعيد إليهما انتظار الماء اتصالاً جديداً يلمح الجميع ذلك، فيردد أحدهم عبارة تنطوي بإيحائها الشديد على معنى الارتباط المشار إليه، حيث يقول معلقاً على ما ظفر به أبو علي : ) أرأيتم كيف عاد الماء لأصله ( .
لقد رصد الكاتب في هذه القصة فكرة تجدد الواقع في موقف يحمل أكثر من شخصية واحدة، ومع ذلك فقد ظلت الدقة التحليلية نابعة من تماسك الفكرة وتدفق معانيها بإحكام، وفي حركة يمكن الإحساس بها بمقدار مرور الزمن، ويمكن تلمسها أيضاً في انعكاس معنى مفردة الماء في مجمل حقل التفاصيل القصصية التي يعرض لها الكاتب بمهارة .
ويظل محتوى ذلك الرصد محاطاً بتحفظ الكاتب من توظيف المنهج التحليلي في القصة القصيرة لإثارة الموقف الناهض مع القوى الاجتماعية، ولا يعني هذا التحفظ نكوص الكاتب وتبدد رؤيته الواقعية، ذلك أنه يظل مقتدراً في اشتقاق معاني العداء ) للسلطة ( في قصة ) الأصابع المقطوعة ( ومعاني التبرم من التناقض الاجتماعي التي صاغ بها شخصية أبو علي في قصة ) الشيء الجديد ( . وهو في ذلك يظل منحازاً لأهداف الفن الواقعي رغم ما يتوارى به من تحفظ . إذ أن كل فنان أصيل كما يقول جورج لوكاتش : ) قد يستطيع أن يتخذ موقفاً حيادياً، وقد يلوذ بالريبة بل بوسعه حتى أن يعتقد أنه محافظ . لكن انتفاضته الأصيلة ستشع إلى بعيد فنياً حين لا تنقلب، نتيجة غموض فكري واجتماعي كبير جداً إلى رجعة رومانسية معادية للتقدم الإنساني عامة ( (18).

وتقل مواراة الكاتب ومحافظته كما يقطع الشكل القصصي عنده حدود المغامرة والتجريب في قصة ) الصوت الخافت ( (19) حيث تبدو مقدرة الاستبصار لمظاهر القبح في المجتمع أكثر اقتراناً مع تماسك أسلوبه السردي والتحليلي، فبطل القصة يمكن أن نعتبره نموذجاً لطبقة اجتماعية مسحوقة، يعاني الاضطهاد والنفي والتشويه من آلية المجتمع، لقد كان يعمل في مصنع فقد فيه ذراعيه بين آلاته الهادرة، فأصبح مرفوضاً من العمل يبحث عنه فلا يجده لأنه لم يعد في نظر المجتمع البرجوازي قادراً على الدوران مع عجلة الإنتاج بسبب ذراعيه المفقودتين، وهذا ما يجعله يعيش إجهادا اجتماعياً عميقاً يندفع بسببه إلى بيع )بشته( الذي يستر به تشوهه فلا يجد من يشتريه حتى تقوده نهاية القصة إلى موقف تتضاءل فيه قيمة الإنسان فيبدو الاضطهاد متكالباً عليه من الحياة الشاملة . وعالم الناس الذين يزدحم بينهم لينهالوا عليه ضرباً وتحقيراً بعد أن ظنت ) أسماء ( التي كانت تمشي أمامه أنه قد مد يده بين فخذيها، وحين يسقط على الأرض وينزاح ) البشت ( من فوق كتفه يبدو للجميع جسداً بلا ذراعين، وقد جعل الكاتب لهذا الموقف الأخير صورة متكررة للموقف الذي صرخ فيه بعد أن فقد الذراعين في المصنع، وذلك كي يؤكد أن مجتمع الناس أكثر آلية وسخرة من حركة آلات المصنع، ولهذا كانت صرخته وصرخة ابنته من شرفة البيت ) صوتاً خافتاً ( أمام هدير آلية المجتمع بأسره )نفس زحام الأصوات حين صرخ تلك الصرخة في المصنع وفقد ذراعيه بعدها لا فرق بينهما .. صراخ .. صراخ ( .

ونعتبر قصة ) الصوت الخافت ( أنضج قصص الكاتب وأكثرها استيعاباً لموقفه الاجتماعي من ناحية، وأسلوبه التحليلي المتطور من ناحية أخرى، فالنقد السابق لآلية المجتمع لا يتلقنه الكاتب تقليداً ومجاراة لبعض أساليب الواقعية الفنية لأنه يبتعد عن تقاليدها وأطرها الجاهزة، ويمنح نفسه قدراً كبيراً من الحرية والمغامرة، وخاصة من أسلوب تيار الوعي، والقصة ) التعبيرية ( و ) التجريبية (. ولعل إفاداته المتعددة هذه هي التي أكسبت تقنيات السرد والتحليل ثراء وقوة تختلف عنها في القصص الأخرى .

وهو يستفيد من تلك الأساليب منطلقاً من ركائزه الفنية السابقة مما يؤكد أصالة التقنية التحليلية وثباتها في محتوى تجربته بصورة عامة . ويمكن ملاحظة أن أبرز ما تنطلق منه تلك القصة هو تمزيق الموقف القصصي وتكسيره فوق خطوط متعددة متعرجة تبدو ملامحها مع حركة أكثر من شخصية واحدة كما رأينا ذلك في قصة ) الشيء الجديد (، وقصة ) حكاية للآخرين ( ولكنه في هاتين القصتين احتفظ بوحدة الموقف النفسي والمكاني، في حين أنه يبث في شخصيات ) الصوت الخافت ( مسارات ممزقة غير ملتقية من حيث الموقف النفسي، فالبطل يقطع الطريق متوجهاً إلى بيع بشته والبحث عن عمل، مع متابعة دقيقة لمعاناته الداخلية، ولكنه مع حركة الطريق تتحرك معه شخصيات أخرى .. ابنته التي تنتظره .. والمستأجر الذي يلح في طلب إيجار منزله من العجوز، وأسماء التي تخرج من البيت بفتنتها ليلحق بها ) جميل ( بعد أن ضحكت له بين الزحام ..

ومن هنا أصبحت القصة منطوية على أكثر من بداية وأكثر من مسار، نجد جانباً منها في خروج الرجل من عند زوجته وابنته لبيع البشت .. وجانباً آخر في انتظار ابنته من ) شرفة ( المنزل، وجانباً آخر مع المستأجر والعجوز، وجانباً آخر مع ) أسماء ( .. ينتقل الكاتب بينها جميعاً بصورة تبدو غير منظمة ومألوفة في حين أنها تجول وراء نظام دقيق ونهاية محكمة المعنى، محكمة بعناية شديدة وربما أوحى لنا هذا التمزق والتعرج ) التعبيري ( في شكل القصة وحركة الشخصيات بالمنطق الإنساني المفقود في تكوين العلاقات الاجتماعية، فالشخصيات تتحرك طوال رصد الكاتب من غير أن يجمعها منطق محدد حتى إذا وصلت جميعها إلى موقع الزحام بدا المنطق المضاد الذي ينتقده الكاتب، حين أخذ الجميع يضرب الرجل المقطوع الذراعين، ليكون هو الموقف الذي تتجمع فيه أبلغ المشاعر المصفاة من كل ما سبقها من مواقف ممزقة، وذلك بما دفعه الكاتب فيها من لحظات المفارقة التي تحتوي حيوية درامية بالغة التأثير .
لقد تمكن الكاتب بأسلوبه ) التعبيري ( أن يصل بعدائه لآلية المجتمع ومفارقاته الهائلة إلى أعماق بعيدة، حيث جعل جميع ما تشيعه القصة من أجواء ووسائل فنية، وتفاصيل هامشية تتضافر من أجل هذا الإيصال . ومنها حادث الكلب الذي هشمته السيارة وجاءته أنثاه لتعضه بأسنانها وتنشله من الشارع إلى الرصيف، هذا المشهد عبر فيه الكاتب عما يفقده عالم البشر لأنه يتمّ في نفس الوقت الذي يتم فيه المشهد الذي يسقط فيه الرجل المقطوع الذراعين بين قسوة الجميع واحتقارهم .

وقد استمدت لغة الكاتب في هذه القصة من التعبيرية ما يطور خاصية التحليل والرصد الداخلي، فلم تعتمد كما رأينا على بناء فني مألوف من أجل تحقيق قدرة أكبر في تجسيم التمزق والمفارقة المأساوية، كما أنها لجأت إلى استعمال اللقطات الموحية التي تنتشر في القصة بذكاء يحتفظ لها بالتأثير حتى آخر موقف فيها، وعلامة ذلك أن القارئ لا يكاد يدرك أن البطل مقطوع الذراعين إلا في نهاية القصة التي ادخر فيها كل ما يستجلي الإيحاء العفوي العابر .. أو المأساوي المبهم ولعل هذه الخاصية ) التعبيرية ( تفسر وتدفع ما وصمته بعض المعالجات النقدية لهذه القصة من غموض وتجريد (20).

وكما تميزت اللقطات والمشاهد بالإيحاء تميزت الجمل والعبارات بالإيحاء أيضاً فجاءت سريعة متلاحقة الإيقاع أو بطيئة ذهنية نلمحها أحياناً مع تداعي الوعي الداخلي، فهو عندما يسمع حديث الدفع والقبض بين المؤجر والمستأجر العجوز تجول في صدره ضحكة يعبر عنها بهذه السخرية : ) كل العالم يدفعون ويقبضون .. كلهم ما بين دافع وقابض، وانفجرت ضحكته على شفتيه، ليس كل دافع قابضاً وهذا هو المهم .. ( . ولا يخفى ما في هذه العبارات الذهنية من معاني تعمق الإحساس بالمفارقة التي يتحرك فيها الكيان الداخلي للمجتمع .

وكما استفاد سليمان الشطي في القصة السابقة من تقنيات التعبيريين ما مكنه من مضاعفة الجهد التحليلي في القصة القصيرة، فإنه يستفيد كثيراً من أسلوب )تيار الوعي( في معظم قصصه، وخاصة قصتي ) حكاية للآخرين ((21) و ) عبور النهر إلى ضفة واحدة ((22). وفي القصة الأولى يتوغل في حالة العداء بين )البحار( و ) النوخذه ( التي تدفع الأول إلى الانتقام ببيع مؤونة السفينة، ولكن النوخذه يكتشفه فيوثقه بالسلاسل ويضربه أمام البحارة ثم يضعه أسفل السفينة. وقد دخل الكاتب في تحليل حالة العداء وتفسير سلوك البحار بدوافع نفسية واجتماعية أثارت حوله تعاطفاً واضحاً، خاصة مع ما أشاعه ) المنولوج الداخلي ( طوال القصة من اتصال وتقارب شديدين مع أعماق هذه الشخصية وإن دلت على سلوك غير سوي .

أما قصة ) عبور النهر إلى ضفة واحدة ( فأبرز ما استمده الكاتب فيها من أسلوب تيار الوعي هو قدرته البارعة على المزج بين الزمن الماضي والحاضر . فالبطل يرفض التصديق بسقوط الضفة الغربية بعد الحرب ( حرب 1967) ويندفع بمثابرة نضالية إلى العبور نحو الضفة الأخرى ممسكاً بيد عجوز (وهي رمز للعبور بالماضي من هزيمته ) وهنا ينبعث الماضي من تلك الرحلة الأولى قبل عشرين عاماً ( ربما كان ذلك في حرب 1948) عندما فقد والده، واضطرته جنود الاحتلال إلى الرحيل عن مدينتهم وبياراتهم .. تمتزج هاتان الرحلتان في آنية واحدة فيبدو الزمنان مثقلان بالهزيمة والسقوط . مما يعمق حركتهما الشعورية، ويوحدهما في تجربة واحدة أوثق الكاتب عراها بتداعي الوعي الداخلي، في صورة محكمة سجل من خلالها عملية التحول نحو المثابرة والنضال الثوري بعد أن أحدث ذلك التداعي تفريغاً لمرارة الإحساس بالهزيمة، وتطهيراً لاحباطاتها المثقلة .

ويمكن القول بعد كل ذلك أن سليمان الشطي كما بحث عن ردود الفعل الاجتماعي، بحث عن المعنى الخاص في الشخصية الإنسانية، وخاصة في القصص التي يسيطر عليها أسلوب تيار الوعي، وقد حقق له ذلك تنوعاً وثراء فيما عالجه من موضوعات وشخصيات تتميز غالباً بخصوصيتها الثقافية المحلية ودلالاتها الإنسانية المؤثرة .

ولعل أهم ما انتقلت إليه القصة القصيرة عند سليمان الشطي هو أنها بدأت تخطو بوضوح نحو التجريب، فهي تستفيد من ) التعبيرية ( ونحوها من المفاهيم الحديثة في الأدب والفن . وقد جاء ذلك معبراً عن تطور المقدرة التحليلية وازدياد المعرفة بقضايا الشكل القصصي ومغامراته بعد ثبات التوجه نحو الواقعية *.