القسم الثاني / الفصل الأول 4

فرحان الفرحان وامتداد البدايات الرومانسية

يمكننا القول أن فرحان راشد الفرحان هو القاص الوحيد في هذه الفترة الذي تستمر في إنتاجه القصصي مظاهر البدايات الأولى لظهور الرومانسية رغم أنه يتعايش مع جيل هذه الفترة ، ويشترك مع ممارساته الأدبية العديدة ، وكأن هذا الكاتب يؤكد لنا أن الانتماء الزمني للفترة ، أو التعايش معها لا يعد مناطاً في تحقق الانتماء الفني . أي أن النظرة الحاسمة في التفريق بين رواسب الرومانسية وبين امتدادها المتطور لا ترجع إلى الانتقال الزمني بل ترجع إلى الانتقال الكيفي في النظرة إلى الأدب والحياة .
لقد بدأ الفرحان تجربته الأدبية في القصة القصيرة مع بدايات الجيل المؤسس في الأربعينات والخمسينات، وأبرز ما كتب في ذلك الحين قصة " آلام صديق " مع بعض قصص أخرى (67)، ثم انشغل الكاتب بالعمل الصحفي حيث كان رئيس تحرير مجلة " الفكاهة " التي صدرت بشكل غير منتظم منذ عام ،1950 وتوقفت في عام 1958 عندما اصطدمت الحكومة الكويتية مع الصحافة ، وقد أدت به الصدمة التي تلقتها الصحافة والنشاط الأدبي والسياسي إلى الانزواء فترة من الزمن ، ظل منقطعاً عن الأدب حتى نشر أول قصة قصيرة بعد انقطاعه ثماني سنوات في أبريل 1966 وهي قصة " أحلام فتاة " .
وقد عبر في قصصه الأولى عن ميلاد كاتب رومانسي يسترفد منابعه الفنية من قراءاته لقصص " في سبيل التاج " و " ماجدولين ، والفضيلة والعفاف " وغيرها للمنفلوطي ، وأوضح الملامح الرومانسية التي بدأ بها الكاتب يمكن حصرها في تعبيره عن المشاكل الفردية ، وقلق العواطف ، وركونها إلى الاستستلام مع قوى القدر ومصائره الجسيمة التي أقامت لشكل القصة امتداداً واسعاً وطولاً نسبياً ، لا يعبأ كثيراً بضرورات الفن ، ولا يتخلى إطلاقاً عن محتوى الدرس الأخلاقي .

وتستمر هذه الملامح لتواكب ما نشره الفرحان بعد فترة الانقطاع من غير أن ندرك فيها اختلافاً أو تغييراً في نظرته الأدبية والفكرية ، بل لقد اضطرد اهتمام الكاتب بالسيرة العاطفية لشخصياته ، واحتفل بموضوعاته وطرقه التعبيرية الأولى ، بصورة جعلت إنتاجه القصصي في هذه الفترة يتميز بتورم رومانسي حصر موهبة الكاتب في نطاق فني ضيق وامكانيات فكرية محدودة ، ونعزو ذلك بصورة مباشرة إلى موقفه السلبي الذي آثر فيه الانزواء والتوقف واستمراء تلك القطيعة التي باعدت بينه وبين القضايا الجديدة في الفن والمجتمع . فهو لم يتوقف عن الانتاج الأدبي فحسب " بل وعن القراءة أيضاً مما كان له أثر سيء على إنتاجه فلم يتطور ولم يقدم شيئاً مذكوراً " (68).
لقد نشر الفرحان مجموعته القصصية " سخريات القدر " أواخر الستينات بدون تاريخ ، ضم فيها عدداً من القصص التي كتبها في بداياته الأولى ، ولكنه لم ينشرها في الصحف آنذاك ، كما ضمَّ فيها عدداً آخر نشرها جميعاً في مجلة " البيان " الكويتية ، ومحور الصراع الذي تقوم عليه حركة الأحداث ونمو شخصيات الكاتب ، يعتمد على مواقع الصدام بين الأحلام والآمال الفردية وبين قوى غاشمة تأتي على هذه الأحلام بالخيبة ونفاذ حكم التقاليد أو منطق القدر . وقد يبدو هذا المنطق أحياناً أنه التقاليد نفسها أو يبدو أنه الضعف البشري وفقدان القيم الفاضلة ، وفي جميع الأحوال يبحث الكاتب عن القيم الإنسانية المفقودة في المجتمع التقليدي المتخلف الذي جعل المرأة ضحيته الأولى بحكم تعارض أحلامها مع تقاليد المجتمع وسلطة الآباء . ويعتبر ذلك مما وقفت منه القصة الرومانسية - منذ الطور الأول في الخمسينات وحتى في هذه الفترة - وقفة تتسم بالثورة والاحتجاج لم تجد له وسيلة تعبيرية أكثر جهارة واستصراخاً من المحتوى التربوي أو التعليمي .
في قصة " أحلام فتاة " (69) يحوّل الكاتب أحلام أسرة من الطبقة المتوسطة إلى حطام تتحمّل المرأة وحدها جميع آثاره النفسية والاجتماعية السيئة . فقد عاشت الفتاة الجميلة مع أسرتها تحلم بزواج يحقق لها السعادة ، وكلما نامت عادت إليها أحلام بعيدة بذلك البيت الجميل والحديقة الغناء والأثاث الفاخر وتلك الخزانة المليئة بالثياب الفاخرة والمجوهرات التي لا تملكها سيدة أخرى. ثم تنام مع ذلك الزوج الوسيم المكتمل في رجولته ، وتستيقظ على حركة الخدم ، وفي وقت تحلق فيه مع هذه الأحلام يكون والدها قد اختار لها الزوج الذي طمع في أمواله ففرحت الفتاة ، وانتظرت مجيء الزوج بفارغ الصبر ، وعندما تم الزواج اكتشفت أنه كهل كبير السن ، واكتشف الوالد أنه لم يكن ثرياً. واستقبلت الفتاة مصيرها المؤسي وهي كما يقول الكاتب : " تدعو للمحرومات أمثالها ، وتستغفر للآباء أمثال والديها " .
إن الأحلام والأماني التي تعبر عنها شخصيات الكاتب هي المستوى الرومانسي الذي تلجأ إليه وتواجه به تقاليد المجتمع أو تعاليم الأب ، فهي تكتفي دوماً بالحلم من غير أن تقرن ذلك بالمقاومة ، ومن هنا تكون لقمة سائغة لحكم التقاليد واضطهاد الآباء ، وهي بعد ذلك تستقبل مصيراً رومانسياً يطرد في جميع القصص ، حيث تتجرع الآلام والأحزان بعد الأحلام والأماني فتكون ضحايا رضخت لقدرها واستقبلته في ضعف وتخاذل.
ولا تختلف أحلام المرأة ونهايتها في قصص الفرحان سواء كانت من الطبقة المتوسطة أو كانت من علية القوم . فهي غالباً تنتظر قدوم الزوج الذي سيخرجها من العزلة والحرمان إنها - مثلاً - في قصة " لم يفتها القطار "(70) من طبقة ارستقراطية عاشت بين الثراء والدلال والخدم وجميع المباهج ولكنها لا تختلف عن بطلة قصة " أحلام فتاة " في مصيرها المؤسي مع التقاليد ، وذلك أن أساس التناقض الاجتماعي عند الكاتب يكمن في موقع المرأة من المعايير التقليدية في المجتمع . وبطلة "لم يفته القطار " تعيش حياة ارستقراطية ولكنها تعاني الكبت والحرمان من التقاليد التي علمتها الامتثال والطاعة الكاملة لكل ما يقرره والدها. وهذا أساس مأساتها الاجتماعية فقد ظلت تتلقن هذه التربية السيئة حتى أصبحت فتاة يانعة تضج بالانوثة وتنتظر الزوج ، وحين يتكالب عليها الرجال يخطبونها يردهم والدها متذرعاً بالحجج التقليدية ومتمسكاً برغبته الخاصة في زوج ابنته الذي تصوره رجلاً يتفق مع نسبه وثرائه ومكانته الاجتماعية . وبات ينتظر هذه الصورة المثالية في الزوج بينما الفتاة تحترق في عزلتها وحرمانها إلى أن جاء وقت انفض فيه الرجل عن مطالب هذا الأب . وبلغت ابنته الثلاثين من عمرها ، فمضى أجمل العمر وأصبحت تنتابها حالات نفسية عصبية إلى أن أفرغت كل أحزانها لوالدتها . وفي هذه الفترة أصيب والدها بخسارة مالية كبيرة بددت ثروته وهبطت بحالته الاجتماعية ، وأدرك هنا ما فعل بابنته فأصابه الندم ، وجاء إليه أخيراً رجل فقير يطلب الزواج من ابنته فوافق من غير شروط .
لقد حملت المرأة في هذه القصة حلمها في انتظار الزوج ولكن التقاليد وتعاليم الأب أجهضت هذا الحلم . فهي لا تختلف عن سابقتها في قصة " أحلام فتاة " التي كانت ضحية تعاليم والدها . كما لا تختلف عن بطلة قصة " وداعاً يا قلبي "(71) التي انتظرت حلمها في الزواج من ابن خالتها المسافر للدراسة في الخارج ولكن تشاء الظروف أن تتلقى صدمات متتالية ، فقد توفت والدتها وتركتها في فراغ كبير ، ثم تزوج والدها امرأة قاسية تهينها وتعاملها بمذلة . ثم تفاجأ بوالدها يرغمها على الزواج فتعيش صراعاً بين الامتثال لأمر والدها أو الوفاء لعاطفتها وانتظار الزوج ، ولا يطول بها ذلك ، إذ سرعان ما ترضخ للمشيئة الأبوية فتزف بالحزن والدموع ، ويسوء المصير بعد ذلك ، فقد طلّق والدها زوجته وانتقم شقيق زوجته هو الآخر بأن طلق ابنته ، وحين يعود ابن خالتها تستعطفه فيرفضها بعد ما عرفه عن زواجها ، ولكنه يعود إليها بعد أن تصاب بمرض شديد فتموت بين يديه .
إن النموذج مضطرد في تصوير صراع المرأة مع التقاليد . فهي ضحية الأب ، مجهضة الحلم . وهي لا تدرك حقها في الرفض والقبول لأنها أضعف من أن تكون في خيار بين التمسك بأحلامها أو التمسك بتقاليد أسرتها ، ومن ثم فإن الأساس الرومانسي للحبكة أو الصراع الذي يعقده الكاتب في بناء شخصياته يقوم على إضفاء كل مظاهر الضعف الإنساني في المرأة . وإسباغ كلّ مظاهر القوة والتحكم في التقاليد أو المشيئة الأبوية ، ومن ثم لا يمكن أن يسفر هذا المنطق عن مواجهة تنزع فيها المرأة إلى تأكيد وجودها ومكانتها في الأسرة لأنه منذ البداية يصوغ لنا بناءاً نفسياً ضعيفاً مستلباً يبدد حركة الحدث ولا يكثفها .
ولا يخفى ما في هذا المنطق من أهداف تعليمية وجوانب أخلاقية ، فالكاتب يحمل تعاطفاً شديداً مع المرأة ، والمرء يستخلص من مصائرها وأحلامها المجهضة ثورة على المنطق المجحف للتقاليد الذي يسيّر أقدار المرأة ، ويستلب حريتها واطمئنانها ، ولذلك فهو يثير عواطفنا واشفاقنا نحوها ، ويجعلنا أمام يقين رومانسي يحيطنا بما يلف حياة المرأة من كبت وحرمان وفراغ اجتماعي ووجداني . وكل ذلك يؤكد دعوة الكاتب لمنح المرأة قدراً من الحرية الاجتماعية ، فهو في قصة " لم يفتها القطار " لا يخفي هذه الدعوة وراء المواقف الفنية بل إنه ينتهك السياق الفني حين تلتهب نقمته على التقاليد فيقول بأسلوب تقريري عن بطلة القصة التي تعيش حياة مرفهة تحقق لها كل شيء سوى الحرية :
" كانت مكبلة بكثير من قيود التقاليد البالية والتي توارثتها هذه العائلة بنوع خاص - عن آبائها وأجدادها منذ زمن بعيد - فكانت تلك التقاليد بصرامتها ورجعيتها نوعاً من الاستعباد للمرأة وخنق حريتها وحقها في الحياة "(72).
وهذا الأسلوب بسماته التقريرية ونزعته التعليمية يسيطر على معظم القصص في مجموعة الكاتب ، وهو يعبر إما عن ثورة على التقاليد أو عن دروس أخلاقية حول التناقضات الاجتماعية التي تثيرها قيم التقاليد فتتحرك شخصياته بأسلوب نمطي بين وجهتي الخير والشر . وفي كلتا الحالتين يفقد الكاتب سلامة البناء الفني لأنه لا يحرك قيمته التعليمية من خلال الموقف القصصي بل يلجأ إليها على سبيل الاقحام والتدخل المباشر ، ومن هنا تكثر المواقف الخطابية في قصصه، فتأتي مرتبطة ارتباطاً مباشراً بنظرة الكاتب بينما تكون منفصلة عن نظرة شخصياته . تلك الشخصيات النسوية غالباً التي أدركنا عجزها وعدم قدرتها على المواجهة ، أو رفض القوانين التقليدية في المجتمع ، ويعتبر ذلك من التقاليد الموغلة في القصة الرومانسية التي جعلت من الكاتب معلماً أخلاقياً يختلق المآسي والمصائر الحزينة ثم يدعو إلى إنقاذ ضحاياها وتخليصهم من عالمها .
إن الكاتب لا يبتعد عن هذا الدور إذ أن جميع شخصياته ضحايا يستدر نحوها العطف والرحمة ، ويدعو لها بالخلاص من قيودها الاجتماعية أو الذاتية . وعندما صاغ لنا شخصية رافضة للتقاليد في قصة " ثمن الوفاء " لم يخلصها من رؤيته المثالية ولا من ذلك المحتوى الأخلاقي البازغ الذي ينعكس بالخلل والتفكك للقيم الفنية في القصة ، ففي مجتمع يفرق بين السادة والعبيد والغني والفقير ينشأ حب جارف بين فتاة جميلة هي الابنة الوحيدة لوالدها الثري العريق المكانة ، وبين خادم الأسرة الذي آواه الثري كما آوى والده الفقير من قبل عندما رآه متشرداً بلا عمل . ولكن هذا الخادم لم يستجب لحب الفتاة الثرية وفاءً لسيده الذي أنقذ والده من قبل ، وظلت الفتاة تعيش حبها في عذاب نفسي متصل . فقد ابتعد الخادم عنها رغم أنها تعرض نفسها عليه بذل وحرمان . ويدرك الأب هذه العلاقة يوماً فيضرب الخادم ويضطهده ويطرده من البيت ، ثم يصب جام غضبه على ابنته ولكنها لا ترضح له بل تضع والديها بين الزواج من الخادم أو الفرار من البيت أو الانتحار . وبعد سلسلة من المواقف الميلودرامية يقبل الأب زواج ابنته من الخادم بعد أن اقتنع بأن ذلك هو سعادة ابنته ، وبعد أن رأى مقدار الوفاء في خادمه .
لقد بنى الكاتب شخصية المرأة هنا ثم عقد المصالحة الاجتماعية بين الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة في محتوى تعليمي ورؤية أخلاقية مثالية ، فالمرأة تتعلق بالخادم الوسيم لأنه يمثل لها قيمة أخلاقية عليا لم تجدها في أبناء طبقتها، حيث تمثلت فيه نبل العاطفة وطهارة القلب ووفائه، وباتت تنطلق في رفضها لتقاليد الأب من ذلك الأساس الذي ارتبطت به ثورة الرومانسية غالباً وهو أن السعادة البشرية تقوم مع قيم الحب والخير ولا تناط أبداً بالفارق الطبقي المادي. ونستطيع أن نلمس إشادة الكاتب بهذه الفكرة المثالية في قول الفتاة وهي تقنع والدها :
" خير لي أن يقول الناس تزوجت فقيراً وهي غنية ولم تأبه للمال ، ذلك أجدى وأشرف من أن يقولوا افتقرت وانفض من حولها الخطاب .. ولو كان الفقر وصمة يوصم بها الإنسان لانتحر أكثر الناس تخلصاً منه ، الملوك يا أبت تخلوا عن عروشهم وركلوها بأقدامهم في سبيل السعادة ، والسعادة هي المحبة "(73) .
وكذلك الأمر مع الخادم الذي آمن الكاتب بطبقته من خلال نظرته السابقة ، فقد جعله نموذجاً لصفاء السريرة وسموها ونبل العاطفة والوفاء ، فالفتاة تطلب منه أن يقبلها أو يعانقها ولكنه يقول لها : " معاذ الله يا سيدتي .. دعيني أقبل قدميك على أن لا أكون متلبساً بخيانة ، إنني لست من أولئك الذئاب الجاحدة حتى أتنكر لوالدك فأعبث في شرفه متلصصاً وهو الذي انتشل أبي من هوة عميقة وحفظ لنا كرامتنا .. "
ويمتلىء الحوار بين الخادم والفتاة بهذه المعاني المتنازعة والمتجاذبة المشاعر ، وتطول جمله وأفكاره التي تؤكد باستمرار على الجوانب المثالية والخلقية التي يتمسك بها ابن الطبقة الفقيرة فتصبح كلتا الشخصيتين تصبان من رافد رومانسي واحد . ففي حين ينتصر الخادم لقيمة الوفاء تنتصر الفتاة لقيمة الحب فيكونان صدى متجاوباً لعنصر الخير والفضيلة الذي جعله الكاتب مناط الإشادة بالطبقة الفقيرة .
إن في هذه المثالية الرومانسية ثورة على أخلاق العصر دون شك ، فقد نقضت الفكرة السائدة التي تفرق بين الأغنياء والفقراء ، وجعلت مكانة الإنسان في أخلاقه وليس في موقعه الطبقي ، وقد سقنا جوانب من قصة " ثمن الوفاء " لا تخلو من الجهارة التعليمية التي تمثل سمة أسلوبية طاغية في قصص الفرحان . تماماً كما لم تخل منها قصة " لم يفتها القطار " و " وداعاً يا قلبي " و " الليالي الحمراء " وغيرها .. ومشكلة الكاتب هنا أنه يحتفل بهذه الناحية ويغلبها في أسلوبه القصصي في الفترة التي بدأ كتاب القصة القصيرة يتخلصون من رواسبها ، ويكتشفون عدم ملاءمتها للفن ، وكأنه بذلك لايدرك أن " القيمة الأخلاقية للفن لا تتمثل في اسداء النصائح أو توجيه المواعظ بل في إيقاظ وعينا " (74) وفي ذلك يكمن أحد الخطوط الفاصلة بين رومانسية هذا الكاتب التي ترتد بنا إلى الفترة الأولى وبين الرومانسية المستمرة مع الجيل الجديد في هذه الفترة .
إن القيمة التعليمية التي سيطرت على الكاتب أفقدته الكثير من الجوانب الفنية في بناء القصة ، فهي تدخل في الحوار فتقضي على وظيفته الفنية وتجعله مجالاً للحشو اللفظي والخطابية المسرفة . وهي تدخل في العرض والسرد القصصي فتجرده من بهائه ورونقه الفني لتكسبه اللغة التقريرية جفافاً مملاً ، بيد أن هذه القيمة التعليمية من ناحية أخرى منحت الكاتب كثيراً من مواقف الدفاع عن المرأة والتعاطف مع مأساتها الاجتماعية ، وهي مواقف لا يتخلى عنها الكاتب الرومانسي غالباً .
وكما لعبت تعليمية الكاتب دورها الكبير في فنه ، فإن إيمانه بالقدر ، يلعب دوراً وافراً في تشكيل أفكاره ونظراته ، وفي بناء الحدث الفني ومواقفه الممتدة منذ بداية القصة حتى نهايتها . ويلمس ذلك جميع من تتبع تجربة الكاتب في القصة القصيرة . فالناس في قصصه يحبون ويفترقون ويلتقون بالقدر وبفعل المصادفة، وهذا يعني ضعف الحيّز الممنوح للتعليل والتحليل ، أو يعني " أن الكاتب يهتم بالسرد والحكاية أكثر مما يلتفت إلى منطقية التركيب "(75).
وأسوأ ما يخلفه ترديد الكاتب لفكرة القدر هو الاتساع بكمية الأحداث وتعدد خطوطها ومواقفها ، فالكاتب غالباً ما يسجل حياة كاملة تستوعب حوادث كثيرة يعللها بمنطق القدر وحده . فهو في قصة " وداعاً يا قلبي " يجعل من القدر قوة جائرة تطارد بطلة القصة طوال حياتها وتبدد جميع أحلامها وأمانيها إلى أن تسلم الروح . حتى يبدو أن الكاتب يتمثل القدر في جميع القوى التي تحيط بشخصياته أو تحبط أحلامها . فهو يراه في " الفعل " الذي تقوم به الشخصية كأن تحب مثلاً . وهو يراه في قسوة الآخرين عليها ، وهو يراه في الموت والمرض والطلاق ، وأخيراً فهو يراه ممثلاً في التقاليد عندما لم يكن لها أن تمتثل لرغبة والدها في الزواج . بهذه الصور تتشكل المادة القصصية عند الفرحان فتتخذ لها سمتاً حكائياً مفتعلاً ، كما تركن نحو رؤية رومانسية متطرفة في تواكلها مع قوى الغيب ومصائرها المجهولة . ويمكن أن ندرك الدور الذي يلعبه القدر مع هذه الرؤية في قصة " لم يفتها القطار ". فالأب الذي مارس سلطته التقليدية على ابنته وحرمها من أحلامها حتى وصلت إلى سن اليأس يكون القدر له بالمرصاد ، إذ تنتقم قوة القدر منه ، وتوقظ وعيه وتصحح موقفه السلبي . لقد " أعد القدر لوالد الفتاة درساً فيه عبرة، فضرب ضربته القاسية وطوح بجميع ما كان يملك، وإذا به يفتح عينيه فلا يرى من ثروته سوى ذلك الأصل والنسب اللذين كان يتبجح بهما "(76).
إن الرؤية القدرية التي تعلل الأحداث والمواقف لا تضبط للكاتب نظرة محددة حول تناقضات المجتمع كما حدث في القصة السابقة عندما وضع الكاتب مُثُل الطبقة الغنية أمام اختبار صعب فأصبح رجل الطبقة الكادحة منقذاً لها بمنطق القدر في حين أن هذا المنطق يبرر خيبة أحلام المرأة في قصة " أحلام فتاة " فكأنه - عن طريق القدر - يخرج من التناقضات الاجتماعية بالمصالحة والتفاؤل تارة ، وبالنظرة المغلقة المفعمة باليأس والخيبة تارة أخرى ، ولا نزعم بأن مرد ذلك إلى فكرة القدر والمصادفة وحدهما، لأنه غالباً ما يمزج هذه الفكرة بنظرته المثالية حول الخير والشر أو السعادة والشقاء . وكلتا الفكرتين تصلانه برواسب الحكاية الشعبية أو تؤكدان إخلاصه للرومانسية المنفلوطية بصورة خاصة .
وكما كانت التقاليد حتف الآمال الفردية كذلك كان القدر حتفها ومصيرها بل إنه أصبح القوة الغامضة التي تقف وراء مصائر البؤس والحزن والشقاء واكتسبت شخصيات الكاتب من وراء ذلك مظاهر السلبية والضعف والتطامن مع ما تشاؤه تصاريف الأحكام القدرية ، وبخاصة في القصص التي صورت تجارب الحب . فهي تنساق مع عواطفها المجنحة اعتقاداً بأن القدر قد شاء لها أن تحب وتشقى مع من تحب ، وفي قصة " سخريات القدر " (77) يقول البطل بعد أن تجرع خيبة حبه :
" - هكذا نحن أغلب الناس نتهافت على من يكرهنا ولا يهوانا ونكره من يتهافت عليها ويهوانا - ياله من قدر مكابر ، ماذا عليه لو أحببت هذه وكرهت تلك .. ".
وهو يسلِّم لمثل هذا اليقين بعد أن فقد المرأة التي أحبها وخدعته مع أهلها رغم أنها ليست من بلده ، وفقد المرأة التي أخلصت له وأوفت بحقه رغم أنها من بلده. وقد خرج من الأولى بعاطفة ممزقة بين الاعتقاد بزيفها أو الاعتقاد ببراءتها . بينما خرج من الثانية بعاطفة جياشة نحو بني وطنه جعلته يرى فيهم " نفوساً تحمل أسمى آيات الوفاء والإخلاص .. ".
وقد استطال الإيمان بالقدر في هذه القصة بمواقفها مداً وجزراً حتى يمكن أن ندرك بينهما أكثر من بداية ونهاية تستخرج جميعها شخصية أقعدتها الآمال والعواطف عن العمل والمثابرة ، وبطل قصة " فاتن " (78) لا يختلف عن ذلك ، لأن الكاتب ينطلق دوماً من اقتران القدر بانسجام عواطف الحب أو تمزقها ، من غير أن يكون للشخصية أي دور فيها .
إن نموذج الشخصية الغالب في قصص الحب عند الفرحان ينطلق مع الأحلام والعواطف بمسار سلبي يقوده ويضخم صورته ثم يفجره بالخيبة المريرة . ويطرد ذلك مع مشاكل الواقع التي تحاصر شخصياته بالآلام والأحزان حتى باتت لا تتشكل من صراعها مع الواقع أو التقاليد أو خيبة الحب وقسوة الحبيب بل تتشكل من صراعهما مع القدر ، وإذا أراد الكاتب أن ينقذ هذه الشخصيات من براثن القدر جعلها تتعلق في نهاية القصة بالقيم المثالية التي يعتبر بها الرومانسيون .. كالشرف الذي تمسكت به الفتاة في قصة " في سبيل الشرف "(79) بعد أن حرمها القدر من أبيها وجعل أسرتها عرضة للضياع . ذلك أنها رغم فقرها يرضى بها رجل يعمل محامياً كي تكون زوجة له بعد أن أسرته فيها تلك القيمة الأخلاقية . وفي قصة " كلمات صغيرة " (80) تبدد قيم الوفاء والصداقة ما جعله الكاتب قدراً نافذاً بين صديقين متحابين رغم الفارق الاجتماعي بينهما ، فحين يقدر لزوجة أحدهما أن تكون عقيماً ينتصر الزوج على ذلك بوفائه وإخلاصه . وحين تتسبب بعض كلمات صغيرة في تكدير العلاقة بين الرجلين تتجاوزها عواطف الصداقة بينهما ، وتجدد الرباط بينهما وبين زوجتيهما .
ويمكن القول بعد كل ذلك أن فرحان راشد الفرحان أكثر الكتاب قرباً من التقاليد التعبيرية والسردية الأولى في فن القصة ، ولعل قربه من روح الخطابة وبواكير القصة الرومانسية أبعد وأكثر جلاءاً ، إذ أنه يشتق منها أدواتها في تشكيل المادة القصصية بمنطق القدر أو بالمحتوى التعليمي ، كما أنه ينتزع من ملامحها الصراعية التي تجري بين عنصري الخير والشر أو الغنى والفقر خصائص سلوكية عديدة ، وإذا كان الفرحان يبتعد في ذلك عن جيل الفترة الثانية من كتاب القصة القصيرة فإنه على أية حال لا يبتعد عن قلقهم وثورتهم الناقمة على تقاليد المجتمع وأخلاقه .