القصة القصيرة في الخليج العربي
(الكويت والبحرين)
دراسة نقدية تحليلية

البحرين 2000 م

القسم الأول

التغير قبل النفط

تتميز الفنون القصصية (القصة القصيرة - الرواية - المسرح) بقدرتها الكبيرة على خلق علاقات الواقع الاجتماعي العام ومزجه مزجاً صميمياً بعلاقات الواقع الجمالي الذي يبرز شكلها الفني .. أي أن خصائصها ووسائلها الفنية تنفرد بقابلية واسعة جداً يمكن بها استجلاء عناصر الواقع البشري واصطفاء سماته الإنسانية بقدر كبير من الحرية والحوارية ... وذلك بما تفرضه هذه الفنون من إمكانيات التسجيل والرصد لحركة الواقع .. وإمكانيات الوصف والعرض واللجوء إلى مختلف أبعاد الزمن لدى الإنسان توغلاً منها في واقعه وحقائقه .. وإمكانيات الخلق للنماذج البشرية المتحركة على أرضية واقعية حية .. تدفعها أحداث .. وتجذبها أحداث أخرى .. أو تبدأ بمواقف لتنتهي بمواقف أخرى .. أو تبدأ مهزومة لتنتهي منصورة أو بالعكس .. وتسير هكذا ضمن بنائها المعد لها في القصة . ثم بما تفرضه هذه الفنون من إمكانيات الخيال الواسعة التي تتيح بين يدي كاتب القصة مجالاً رحباً في التصوير والابتكار للأحداث والشخصيات بل وللرؤية الفنية في العمل القصصي .

كل هذه الإمكانيات تعتبر الأدوات الأساسية لعمالقة القصة أمثال : بلزاك وزولا وديكنز ودوستوفيسكي وتولستوي وجوركي وموباسان وتشيخوف وغيرهم من عباقرة كتاب القصة والرواية الذين جاء فنهم القصصي ليكون مسحاً شاملاً ودقيقاً للحياة الإنسانية في بيئاتهم التي عاشوا فيها وخاصة في صراعاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية .

وعلى هذا فإن المادة الأساسية للفن القصصي تأتي من واقع الحياة الإنسانية بمختلف تبدلاتها وتغيراتها وهذا مما يجعل من الصراع الاجتماعي أو لنقل من ) دراما الحياة ( نفسها جوهراً لمثل هذا الفن .. وليس في رأينا هذا أي نوع من المغالاة ما دامت طبيعة الخلق الفني في القصة تعتمد على صياغة أشكال ونماذج من الصراع التي تخوضها الشخصيات القصصية وتدفعها إلى تمثل الرؤية الفنية النهائية للعمل القصصي .. فارتباط العنصر الدرامي للحياة بفن القصة ليس ارتباطاً هامشياً أو سطحياً وإنما هو ارتباط يقتضيه الوضع الحسي المدرك لدى الكاتب الذي يعايش عملية الخلق وهي في ذروة إبهارها وتوهجها.. وهذا في الحقيقة ما يرفع من شأن تأثير الواقع المحيط بالكاتب في الفن الذي يمارس فيه تجربته ، ويؤكد أهميته الكبرى عندما يراد دراسته ونقده.

ولعل هذا ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن فن القصة القصيرة لم يكن لينشأ ويبرز في مجتمع البحرين والكويت ما لم يشهد هذا المجتمع تطوراً أو تغيراً في شبكة العلاقات الاجتماعية .. وما لم تتخلق في باطنه نطف كثيرة من عناصر الدراما التي تتوغل بها التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية نحو طبيعة الإنسان في الخليج العربي فتحدد سماته الإنسانية والفكرية وتجس نبض حياته وتصعد بها في سبيل رسم هوية هذا الإنسان العربي ورؤيته للحياة .. وصياغة أفكاره ومعتقداته وتطلعاته أمام مواجهات الواقع وأزماته المستمرة.

إن فن القصة القصيرة وسائر الفنون القصصية ترتبط عادة بمظاهر التطور الاجتماعي الشامل وبالأشكال الصراعية المختلفة التي يفرضها المنطق الداخلي لهذا التطور . فالمسرح الإغريقي لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه من تأصل ورسوخ ما لم يكن يصدر عن واقع إنساني مركب يجمع بين التطور الكبير الذي وصلت إليه حركة الإقطاع ومظاهر التمرد والصراع التي بدأت تهز عرش الآلهة ثـم مظاهـر الصـراع الفكـري والفلسفي التي أخـذت تغـذي الدراما اليونانيـة وتثريها .

وإذا كان ذلك قد حدث مع المسرح فإن القصة القصيرة أيضاً قد ارتبط ظهورها في المجتمعات الأوروبية بالثورات الاجتماعية التي انتصرت فيها الطبقة البرجوازية ، فكما ) كانت الملحمة هي الصورة التي صاغتها الأرستقراطية المحاربة القديمة من مادة الفن القصصي الأصيلة ، فكذلك كانت الرواية الحديثة وأختها القصة القصيرة من بعد . هما الصورتان اللتان صاغتهما البورجوازية من تلك المادة نفسها ، وعبرت بهما عن أخلاق العصر الذي تولت زعامته(1).

إن القصة القصيرة بما هي رؤية للحياة وفلسفة لها فن حديث صاغته المجتمعات الحديثة بل إن تقنياتها ومواصفاتها الفنية تمثل دلالة واضحة على ارتباط هذا الفن بروح تلك المجتمعات وخاصة في اعتماد القصة على الربط بين الأسباب والنتائج وعلى التحليل والأخذ بالأساليب العلمية ونحو ذلك مما أفادت منه النظريات الاجتماعية والفلسفية التي رافقت تطور هذه المجتمعات الحديثة .

ومن هنا فنحن لم نكن ننتظر من المجتمع العربي في الخليج قبل التغير أن يعبر عن تجربته الإنسانية بشكل فني حديث كشكل القصة القصيرة. ذلك أن هذا المجتمع ظل منذ القرون الوسطى وحتى نهاية الربع الأول من هذا القرن وهو يرزح تحت سيطرة الأشكال التقليدية الجامدة في جميع أوجه الحياة المختلفة ، لأنه خلال هذه الفترة ظل يتوارث المفاهيم السائدة من عصور التخلف والضعف الـتي مـرت بهـا الأقطـار العربيـة . الأمر الـذي رسـخ لهـذه المفاهـيم وأوقـف الحيــاة على ما هـو مـوروث أو متعـارف عليـه مـن تقاليد أو مـن أشكـال الثقافة الشعبيـة الأخـرى.

لقد ظلت المجتمعات الصغيرة في الخليج العربي فترة طويلة وهي في مرحلة اضطراب سياسي وقلق مستمر منذ بدء انتشار الجماعات القبلية في هذا الجزء الشرقي من الجزيرة العربية واستقرارها فيه ، فقد كانت تعيش صراعاً قبلياً نقلته معها من قلب الصحراء وكانت تسود حياتها نزاعات وحروب تجر إليها أسباب الاستقرار والبحث عن المناطق الأكثر رخاء أو استدعاء لنوع أفضل من الحياة .. ولم تتمكن المعاهدات التي عقدت بين شيوخ الخليج العربي وبين بريطانيا من إنهاء هذه النزاعات بل ظلت سائدة إلى فترة متأخرة وكانت غالباً ما تأتي في شكل نزاع على الحدود بين مناطق الخليج العربي .

ولقد ساعد مثل هذا الوضع على الانشغال بشأن الاستقرار السياسي العام وعدم الاهتمام بتدعيم العلاقات بين الفئات والجماعات .. وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين الغني والفقير .. وبين العامل ورب العمل .. وظلت التقاليد المتوارثة والعرف القائم هو الذي ينظم علاقات الأفراد . ومع مرور الزمن أصبحت الأنماط الثقافية التقليدية هي التي تحكم بناء المجتمع العربي في الخليج . ومن هنا جاء إنتاجه الثقافي أيضاً ، وخاصة في الشعر معبراً عن هذه الأنماط والأطر التقليدية ومتعلقاً بها تعلقاً مباشراً .

وإزاء ذلك لم يكن المجتمع قابلاً لصياغة تجربته الإنسانية في أشكال فنية حديثة كالقصة القصيرة . وكان علينا والحال هذه أن نترقب ظهور عصر آخر تبدأ فيه حركة التطور والتغير من داخل المجتمع نفسه. ولذا يأتي اعتقادنا الذي يربط بين ما طرأ على مجتمع الخليج العربي من موجات التغير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وبين نشأة القصة القصيرة فيه .

ولعل أبرز ما يمكن أن نتلمسه من ملامح هذا الارتباط هو تبلور كثير من مظاهر التغير الاجتماعي في مجتمع البحرين والكويت وامتدادها بين الفئات الاجتماعية لتكون مادة أولية تصوغها القصة القصيرة في أشكال ورؤى مختلفة.

ولقد ارتبط التغير في مجتمعات الخليج العربي بعوامل اقتصادية ومظاهر اجتماعية وسياسية مختلفة . بل إنه ارتبط أيضاً بالأرضية التاريخية البعيدة التي كانت تحتم مجيء التغير منذ مطلع هذا القرن . أي أن التغير الذي نريد ترهينه بنشأة القصة في البحرين والكويت لا يرتد فقط إلى ظهور النفط وإنتاجه في منطقة الخليج العربي كما اعتقد كثير من الباحثين . بل إنه يرجع إلى الحتمية التاريخية أو التطور التاريخي للمنطقة نفسها .

وتعتبر الطبقة البورجوازية محوراً أساسياً دارت حوله كثير من مظاهر التحرك الاجتماعي والسياسي كما أن بروزها في المجتمع خلق الكثير من التناقضات الاجتماعية التي احتاجت إلى التعبير عنها بفن القصة القصيرة واستدعت صياغتها وأشكالها لنقل ما فرضته هذه الطبقة من قيم ومفاهيم جديدة على المجتمع .

وليس كثيراً على هذه الطبقة أن تضطلع بالدور الكبير في نشأة القصة القصيرة في البحرين والكويت ، ففي جميع المجتمعات ) ما إن تعي البورجوازية نفسها كطبقة ، حتى تبتدع لذاتها مأساتها ورسمها ((2) وكثير من الظواهر الجديدة في التجربة الأدبية والفنية للمجتمع.

ولقد لعبت هذه الطبقة دوراً هاماً في نشأة القصة في الخليج العربي حيث ارتبطت بها وبنشاطها الاجتماعي والثقافي والسياسي وبجميع مبادراتها وتطلعاتها في الحياة العامة .

وعندما نقف عند ذلك ندرك أن المحاولات الأولى المبكرة التي يرتبط ظهورها بنشأة القصة القصيرة ترجع إلى عام 1928 الذي نشر فيه خالد الفرج أول تجربة في القصة في مجلة ) الكويت ( لصاحبها عبد العزيز الرشيد .. وترجع أيضاً إلى المحاولات التالية لتجربة الفرج في جريدة ) البحرين ( التي صدرت عام 1939 .

وحين نتأمل ذلك ندرك أن هذه المحاولات المبكرة إنما يرتبط ظهورها بالفترة التي بدأت فيها البرجوازية تتضح لها بوادر هامة باعتبارها طبقة تستجد لها قسمات مميزة وتكشف لها أدواراً في حركة المجتمع من خلال ما تعلنه أو تقوم به من مبادرات وجهود لها خطورتها وأثرها البعيد في التركيب الاجتماعي بل وفي النظام السياسي .

إن بروز هذه الطبقة قبل تفجر النفط في كل من البحرين والكويت لم يكن يعني إلا أن التطور والتغير ) كان آتياً لا ريب فيه نتيجة لأسباب عدة . منها أن المجتمع العربي في الخليج ليس هو بالمجتمع البدائي ، فهو صاحب حضارة إسلامية عربية لها من القواعد والقيم والأعراف ما يمكن به أن تطور نفسها ، كما أن وجوده حول ممر مائي حيوي جعله يحتك بخبرات عربية وإقليمية وعالمية كانت ستقوده إلى التطور ، وقد بدأ بالفعل في عملية التغير عندما سمح بإنشاء المدارس بمجهودات أهلية ومبادرات تطوعية من الأهالي والأعيان بالتبرع وتمويل التعليم، ) وكذلك بناء المستشفيات عن طريق المؤسسات التبشيرية   (3) .

ويؤكد معظم الباحثين أن الطبقة البرجوازية كان لها وجود واضح قبل ظهور النفط في كل من البحرين والكويت بصورة خاصة، ولعل هذا ما يميز البحرين والكويت في تكوينهما الثقافي والتاريخي (4) ، حيث لم يكن ظهور النفط عاملاً جوهرياً في دخولهما عتبات العصر الحديث لأن هذه العملية كانت لها جذورها الممتدة وجهودها بين مختلف أفراد الطبقات في المجتمعين .

وكان من الممكن أن تتسع دائرة المحاولات القصصية المبكرة مع بروز هذه الطبقة التي أمسكت بزمام المجالات الثقافية خلال الفترة التي سبقت اكتشاف النفط وهي الثلث الأول من هذا القرن . ولكن حال دون ذلك ما كانت تتعرض له الجهـود الثقافيـة والإصلاحية وخاصة في الصحافة من تضييق مستمر ومعارضة واضحة من قبل الحكومات السياسية والنفوذ البريطاني ، فقد توقفت مجلة ) الكويت ( الأولى بعد عامين من صدورها .. كما توقفت جريدة البحرين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حين أدرك الإنجليز عدم حاجتهم إليها في بث أنباء الحرب . وحيث أدركوا أيضاً ما تركته من آثار بعيدة في توعية الشعب ويقظة وجدانه .

ولكن رغم ذلك فقد اقترنت تلك المحاولات المبكرة في القصة ببدايات تبلور الطبقة البرجوازية أواخر الربع الأول من هذا القرن . رغم أن المنطقة لم تدخل بعد مرحلة إنتاج النفط ، وهذا الاقتران يعتبر تطوراً تاريخياً مشهوداً في المنطقة إذ أنه كان نتاجاً لما فرضته البرجوازية من إصلاحات عديدة بدأت تنذر بهبوب رياح التغير بوسائل كثيرة . وكان أكثرها تأثيراً ، الاهتمام بالتعليم والاهتمام بالإصلاح السياسي . وهذا ما دفعها إلى الاصطدام بسياسة البلاد ونخبتها السياسية الحاكمة وبسياسة بريطانيا أيضاً في إدارة شئون البلاد إدارة مباشرة اتخذت طابع التضييق والحرمان والكبت السياسي والعزلة التاريخية والثقافية .

وهذا الصدام في الحقيقة رفع من شأن البرجوازية كثيراً وخاصة أمام الفئات الشعبية التي كانت تدرك مدى الفساد والإجحاف الذي تلحقه السياسة البريطانية بالبلاد .. لذلك توالت مبادرات هذه الطبقة ومعها توالت المتغيرات التي لمست بوضوح جانباً كبيراً من رقعة المجتمع في السياسة والثقافة واقتصاديات البلاد وهذا بلا شك ساعد كثيراً على تهيئة السياق الاجتماعي الملائم لفلسفة القصة القصيرة ولرؤيتها الحديثة .

ولعل اهتمام هذه الطبقة بالإصلاح السياسي يعتبر من الدوافع الأساسية للتغير الذي مر به مجتمع الخليج العربي في فترة مبكرة وقبل اكتشاف النفط . وهو الأمر الذي جمع بين جهود البرجوازية ونشوء حركة القوى الاجتماعية وانبثاق توجهها الإصلاحي في جميع المجالات .. سواء كان ذلك في التعليم.. أو في الخدمة الاجتماعية .. أو في التنظيم السياسي . وهذا ما أحدث دلالات عديدة بعيدة المدى في المرحلة الأولى التي نتحدث فيها عن نشأة القصة القصيرة في البحرين والكويت . ربما كان أوسعها وضوحاً هو صياغة الاتجاه الإصلاحي - التعليمي في القصة القصيرة . ليكون التعبير الحقيقي عن هذه المرحلة التاريخية التي تمر بها البرجوازية .

لقد أمسكت البرجوازية بزمام القيادة في جميع التحركات الوطنية في كل من البحرين والكويت وأرادت بذلك في صورة غير مباشرة أن تخترق السلطة السياسية يدفعها إلى ذلك ما كانت تجده من استشراء الفساد ، واختلال النظام وعدم قدرته على الإمساك بدفة البلاد وخاصة مع ازدياد الوعي لدى الأفراد واحتكاكهم بالأفكار الجديدة والمتحررة .

لقد ظل المجتمع في الخليج دون قوانين تنظم العلاقات الاجتماعية وتقود إدارة البلاد قيادة صحيحة حتى في فترة الخمسينات ، بل إن أحكام القضاء وفق الشريعة الإسلامية لم تكن تطبق بالإنصاف والحق . وبالنسبة للبحرين ظلت )حتى عام 1957 دون قوانين تنظم شئون الإمارة .

وبسبب ذلك وقفت الحركة الوطنية الإصلاحية في مواجهة الأوضاع السيئة التي يعيشها المجتمع قبل ظهور النفط ففي عام 1923بادرت إلى تقديم إصلاحات سياسية واجتماعية في المؤتمر الذي تم تكوينه باسم (المؤتمر الوطني) وكان أبرز مطالبهم في هذا المؤتمر إنشاء مجلس شورى يمثل كل أفراد الشعب . ولكن هذه الحركة قمعت على وجه السرعة بعد أن تدخلت بريطانيا فقامت بترحيل قيادات الحركة إلى الخارج (الشيخ عبد الوهاب الزياني الذي نفي إلى الهند) كما قامت بعزل الحاكم الشيخ عيسى بن علي الخليفة الذي احتضن المبادرة الإصلاحية لزعماء الحركة الوطنية .

وفي عام 1938 انفجر الوضع من جديد بصورة كشفت عن مدى الضيق والكبت الذي تعانيه القطاعات البرجوازية والشعبية من جراء خلو البلاد من الصحافة وعدم اهتمام السلطة بها فقد جعلت ضمن مطالبها في إنشاء المجلس التشريعي ووضع القوانين وإرساء التعليم .. الخ .. مطلباً آخر له أهميته وهو إصدار جريدة سياسية تنشر حرية الفكر وتتيح إمكانية نقد أعمال الحكومة .

وتعتبر هذه الإصلاحات التي طالبت بها البرجوازية في البحرين امتداداً طبيعياً للصدامات بين هذه الطبقة نفسها والسلطة السياسية الحاكمة في الكويت . فقد كانت الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية فترة اضطراب سياسي ومعاناة مريرة واجهها مجتمع الخليج العربي وفي كل من الكويت والبحرين بصورة خاصة وكانت أصداء الحركات الإصلاحية متجاوبة إلى حد بعيد بل متفقة في الأهداف التي ناضلت من أجلها ، فإذا كانت نخبة الإصلاح من البرجوازية في البحرين قد طالبت بمجلس الشورى والتنظيم الإداري ، فإنها في الكويت تنهض وتبادر إلى ذات الدعوة وهي إنشاء مجلس شورى في البلاد وهذا ما أفصحت عنه الحركة التي قادها ناصر بن يوسف البدر ويوسف بن عيسى القناعي وغيرهما من أعيان البلاد الذين اجتمعوا وقدموا للحاكم وثيقة تطالب بإصلاح الحكم وبإنشاء مجلس شورى يشارك الأهالي به في إدارة شئون البلاد.

وفي عام 1938 تطور الوضع السياسي والاجتماعي بصورة عنيفة في الكويت فقد التحم عامة الشعب وخاصة العمال وطلاب المدارس الذين خرجوا في مظاهرات مؤيدة لمطالب الإصلاح وتكونت كتلة وطنية رفعت مطالبها إلى الحاكم ومن هذه المطالب.. إقامة حكم دستوري ديمقراطي . ورفض معاهدة الحماية بين بريطانيا والكويت وتحسين أوضاع العمل كما طالبت بالوحدة القومية مع العراق . وكان من أهم نتائج هذه الحركة أن تشكل المجلس التشريعي في البلاد بالفعل ووضع الدستور عندما رضخ الحاكم لذلك ، واستمر المجلـس وخاصـة مـن خـلال الكتـلـة الوطنيـة ينجـز بعض المصالح لمدة نصف عام (5) إلى أن ألغي الدستور وحل المجلس وكان من أهم الأسباب في ذلك أن النفوذ البريطاني لا يزال نفوذاً مباشراً ، كما أن الحكام التقليديين لم يكونوا ليتنازلوا عن بعض امتيازاتهم بسهولة .

ويهمنا هنا أن نشير إلى أن الآثار الاجتماعية والثقافية لهذه الحركات الإصلاحية التي سبقت الحرب العالمية الثانية كانت تتضح بقوة وبجلاء على جميع المستويات فهي قد ساعدت كثيراً على اتساع الرقعة الاجتماعية للبرجوازية في مجتمع الخليج العربي الأمر الذي دفع بها إلى مضافرة الجهود في الثقافة والتعليم من أجل صياغة تجربتها وصراعاتها وتطلعاتها فوجدنا المحاولات القصصية تتضاعف وتتكثف بعد هذه الفترة وخاصة مع بداية ظهور الصحف بعد انتهاء الحرب .

ولم يكن ذلك غريباً فهذه الطبقة أصبحت ذات نفوذ كبير وقدرة على التحرك كما أخذت السلطة السياسية تنظر إليها بمنظار القلق والترصد لما تشكله تطلعاتها من خطورة . ويكفي أنها في هذه الفترة ساعدت كثيراً على تهيئة المناخ الفكري لبروز الفن القصصي بما دعت إليه من إصلاحات في شؤون التعليم والتنظيم الاجتماعي والسياسي ، وربما كانت فترة العهد النيابي التي نشأت في الكـويـت مـنـذ وقـت مبكـر مـن أكثر الملامح التي تدل على ذلك ، حيـث تميزت .. ) بحركة فكرية نشيطة فقد تأسس نادي كتلة الشباب الوطني وقام بنشاط كبير وسعى لنشر الثقافة وإفهام الناس معنى الحقوق الشعبية وأنظمة الحكم الديمقراطي وغيرها وسعى لغرس الفكرة العربيـة بين الأهـالـي بينمـا لم يكن هذا ممكناً فيما مضى .. وحققت بعض الإصلاحات في المجال الاقتصادي ومجال الإدارة والأمن . أما الإصلاحات التعليمية فقد اشتملت على ثلاث مدارس حكومية منها واحدة للبنات بالإضافة إلى مدرستين كانتا موجودتين من قبل ، وأحضر مدرسين من فلسطين ، كما أرسلت البعثات العلمية إلى بغداد والأزهر ( (6).

وكل هذه تعبر بصدق عن معالم التغير الأساسية التي حدثت في مجتمع الخليج العربي من خلال هذه الفترة ، والتي دفعت إلى صياغة القصة القصيرة تعبيراً عن روحها وآمالها وأفكارها . وربما كان تميز الكويت بالفترة النيابية من العوامل التي جعلتها تمتاز أيضاً بحرية صحافية نشطة منذ وقت مبكر كما جعل المحاولات القصصية خلال هذه الفترة تمتاز لديها بالكثافة والتعدد .

ولم تكن هذه الظروف وحدها هي التي شكلت عناصر التطور الاجتماعي قبل انتهاء الحرب الثانية وإنتاج النفط فنحن إذا ألقينا نظرة عامة على مجتمع الخليج العربي خلال هذه الفترة سنجده يعيش في أحلك فتراته ظلماً وبؤساً وتخلفاً .

وفي هذه الفترة كان المجتمع يعيش على موارد اقتصادية تقليدية تعتمد على ما يدره البحر وخاصة من اللؤلؤ الذي نشطت تجارته قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية ، وقد ساهمت هذه التجارة في توفير الاستقرار لمجتمع الخليج العربي ، ونشطت معها أنواع أخرى من التجارة كالاستيراد من الهند وسواحل أفريقية عن طريق السفر في البحر ، وهذا الاقتصاد التقليدي خلق بدوره علاقات اجتماعية حادة بسبب سيادة نوع من العلاقات الإنتاجية التي تتعرض فيها مجموعة إلى السخرة والاستغلال بينما تسيطر أخرى على الإنتاج الاقتصادي سيطرة تامة .. وذلك بحكم العمل الذي يقوم على ظهر السفينة حيث نجد العمال ( الغواصين ، وسائر البحارة ) يعملون لصالح رب العمل وهو مالك السفينة .. ويكون ربان السفينة (النوخذة) غالباً بمثابة الوسيط بين الطرفين ، ولا يحصل هؤلاء البحارة من إنتاج البحر إلا على مقدار ضئيل جداً يأخذونه في شكل ديون مستمرة (سلف) قبل بدء الرحلة إلى صيد اللؤلؤ . وحيث لا يوفي المحصول من الرحلة - وغالباً ما يحدث ذلك - بسداد تلك الديون التي يأخذها البحار ليعيل أسرته قبل أن يتركها فإنه يظل مرتبطاً برب العمل عن طريق هذا الدين ، ومن هنا تصل العلاقة الاستغلالية إلى درجة الاستعباد والاسترقاق .

ورغم نشاط التجارة في اللؤلؤ فإن النظام السياسي لم يضع قوانين عادلة يلجأ إليها البسطاء حين يتعرضون إلى ظلم ملاك السفن ومن هنا أصبح الاستغلال فاحشاً بدرجة كبيرة . ولم تكن المحاكم التقليدية التي تقام للمنازعات منصفة بل كانت مع الأكثر امتيازاً في المجتمع والأكثر قدرة على التلاعب لتبرير ما يقوم به من استغلال .

من كل هذا يمكن أن ندرك صورة واضحة للتناقضات الاجتماعية في مجتمع الخليج العربي بين النخبة التقليدية التي ينضوي مفهوم السلطة في داخلها والجماعات الأخرى ذات الامتداد القبلي الموالية لها وكبار التجار وهم الذين أتيحت لهم حيازة الأراضي وتجارة اللؤلؤ . وفي مواجهة ذلك تقف غالبية الشعب التي تنضوي في داخلها طبقة عمالية صغيرة تتكون من عمال البحر بصورة خاصة .. ) وهذه المجموعة الثانية كانت حتى ظهور مفعول القرارات والقوانين الإصلاحية في العشرينات تتعرض باستمرار إلى أنواع شتى من الاضطهاد والظلم ( (7).

وأمام هذه التناقضات الاجتماعية تزداد الأوضاع العامة بؤساً وشقاءً حيث تغذيها الأزمات الاقتصادية عندما تضعف بعض مواسم صيد اللؤلؤ .. أو عندما تتعرض البلاد لظروف سياسية وتناحرات عائلية تفرض من جرائها الضرائب العديدة في التجارة والجمارك وعلى أصحاب السفن .. وهذا ما كان يلح على الفئات البرجوازية بضرورة الإصلاح والتحرك الجماعي .

كل هذه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية كانت تقود الطبقة المتوسطة إلى التعبير عنها في كافة المجالات وكانت تساهم في استجلاء خصائص هذا المجتمع بصورة فعالة ونجد في هذه المرحلة أن القصة القصيرة توجهت إلى صياغة هذه الأوضاع والتعبير عن روح الشخصية العربية وهمومها المثقلة بالأرزاء . وخاصة هموم البسطاء الذين يشتغلون في البحر ضمن أوضاع وعلاقات اجتماعية جائرة . وتعبر الكتابات القصصية المبكرة لجاسم القطامي ، وخالد خلف ، التي رعتها مجلة البعثة الكويتية وغيرها عن هذه الهموم والأوضاع تعبيراً مباشراً . فلقد دعت هذه الكتابات إلى ضرورة الإصلاح الاجتماعي لأوضاع المشتغلين في البحر (البحارة) وضرورة وضع القوانين المنصفة لأحوالهم الإنسانية .

وظلت التناقضات الاجتماعية التي يخلقها مجتمع البحر ذات خصائص درامية مثيرة لخيال كتاب القصة في هذه المرحلة وكأن هذه التناقضات لم تجد لها شكلاً أدبياً يصوغها كما وجدته في القصة القصيرة . أما فيما عدا ذلك من أشكال الأدب فلم نجد لمجتمع البحر وتناقضاته آثاراً واضحة إلا في بعض المأثورات الشعبية كالموال ونحوه .. بينما تظل القصة هي الشكل الفني الوحيد الذي استوعب التعبير عن المجتمع التقليدي قبل ظهور النفط وسجل له كثيراً من تفاصيل الحياة اليومية رغم قلة المحاولات القصصية المبكرة التي عاصرت هذا المجتمع قبل النفط .