القسم الثاني . الفصل الرابع 1

البعد الاجتماعي والأيديولوجي
للواقعية النقدية

نعتقد أن المنهج النقدي الذي ترسمته القصة الواقعية القصيرة في الخليج العربي منذ أواخر الستينات وحتى الفترة الحالية، يعد من معالم تطور المفهوم الفني والفكري للواقعية الفنية التي أصبحت في السنوات الأخيرة قاسماً مشتركاً للعديد من كتاب القصة القصيرة، وذلك انطلاقاً من أن أكثر ما يحدد المسار الواقعي لامتداد اللحظات التاريخية هو الموقف التقدمي من حركة القوى الاجتماعية، والاتجاه إلى أكثر المفاهيم الأدبية قدرة على صياغة ذلك الموقف، بما يشف به من مشاركة حقيقية في بناء الواقع والرغبة في تغييره، ولذا يأتي المحتوى النقدي أكثر تجسيداً لذلك المنطق من تنويعات المحتوى التحليلي السابق، حقاً لقد كانت القصة التحليلية عند علي سيار وسليمان الشطي وسيلمان الخليفي وعبدالعزيز السريع تقدم نقداً بيِّناً للواقع، ولكن رغم ذلك فقد كانت الصبغة الأساسية التي تميزت بها هو توظيفاتها وأدواتها الفنية المتعمقة التي جعلت من تحليل الشخصية أو الدلالة الاجتماعية والنفسية، غرضها الأساسي الذي تحرر به ميلاد الشكل الفني للقصة القصيرة . وتستفيد منه في جميع التركيبات التي توقظ الاهتمام بذلك الغرض . الأمر الذي أبعدها نوعاً ما عن تحديد الانتماء المباشر إلى الطبقات العريضة من المجتمع، كما لمسناه من بعض مواقف التحفظ في صياغة النماذج البشرية المطحونة، وهي مواقف لم تسلم من الالتواء والميوعة في سبيل تقديم محتوى متكامل للتناقضات الداخلية في المجتمع .
وكل ذلك لأن القصة التحليلية أرادت أن تكتفي بتفسير وتحليل المعنى الإنساني، واستشفاف جوانبه بدقة، في حين أن مهمة الكاتب الواقعي تتجاوز تلك العملية، إذ تؤكد على ضرورة المشاركة في تكويناته الخلاقة، والدخول مع ما تستكشفه قوانين التناقضات الاجتماعية من مصائر تثير السؤال، وتدفع للمشاركة بالصورة التي يحددها ) روجيه جارودي ( حين يبين أن الإنسان الواقعي )مطالب ككل إنسان آخر، لا بالاكتفاء بتفسير العالم، ولكن بالمشاركة في تغييره ( (1). من هنا فنحن نرد لكتاب القصة الواقعية القصيرة جانباً هاماً من جوانب التطور في استيعاب بعض الأسس الجمالية في الواقعية الفنية، وذلك حين لم يكتفوا بتفسير الواقع أمامهم كما هو كائن بل إنهم بدأوا ينظرون إليه نظرة نقدية لا تسلِّم بانهياراته، أو تقبل معانيها من غير تساؤل ومواجهة، أي أنها لم تقصر اتجاهها على رفض ما استغرقت فيه الرومانسية من خيال وأوهام فردية فحسب بل إنها قامت برفض الواقع الاجتماعي الراهن من غير مداهنة، أو تحفظ .
لقد بدا اتجاه الواقعية الفنية عند كثير من الكتاب في السنوات الأخيرة تطوراً حقيقياً للموقف من المجتمع والفن الذي كانت عليه الواقعية في ظل تنويعات النهج التحليلي، لقد أصبح ذلك الاتجاه بمفهومه النقدي للواقع يتبنى موقف الطبقات الشعبية، وحركة القوى الاجتماعية الناهضة، وهو ما جعل القصة القصيرة تكتسب تماسكاً ونضجاً في رؤيتها الفنية، وخاصة فيما يتصل بصياغة )النماذج( أو )الأنماط( التي تعبر رغم فرديتها عن عالم كامل تترامى حدوده وإمكانياته بما تنبثق عنه من علاقات اجتماعية تنم عن كلية الواقع، أي أن القصة القصيرة هنا تتجه إلى تحقيق ) المعيار الرئيسي للأدب الواقعي وهو النمط، ذلك المركب الغريب الذي يربط الخاص والعام معاً بطريقة عضوية في كل الشخصيات والمواقف ( (2) وهو ما يجعلها أكثر قدرة على تمثيل الواقع ومعالجة قضايا الطبقات الاجتماعية .
ولا ريب أن تطور الاتجاه الواقعي على هذا النحو لم يكن إلا انعكاساً لتطور البنى الاجتماعية وخاصة في البحرين التي طرأ عليها القدر الأكبر من تغير ميزان القوى الاجتماعية في سنوات الفترة الثانية . ذلك أن قيمة الاتجاه الأدبي تبرز مع وضوح تعبيره عن الطبقة أو الشريحة الاجتماعية التي تلعب دورها في تشكيل تناقضات الواقع، وهذا ما ارتبطت به الصبغة النقدية في القصة الواقعية القصيرة .
ويمكن لنا أن نلمس مدى التغير في حركة المجتمع عندما ننظر إلى سنوات الفترة الأولى ( الثلاثينات، الأربعينات، الخمسينات ) لنجد أنها كانت سنوات ازدهار الطبقة المتوسطة، وطبقة الأعيان التي اكتسبت القوامة والنفوذ الاجتماعي عن طريق قيادتها لحركات الإصلاح الوطنية، مما كان يجعل التناقض الاجتماعي قائماً بينها وبين الأنظمة الاجتماعية والسياسية، بينما حين نأتي إلى الفترة الثانية ( الستينات والسبعينات ) سنجد أن ذلك الواقع الاجتماعي يتخذ له امتدادات جديدة، وتتشكل منه تناقضات عميقة الأثر، فالطبقة البرجوازية السابقة أصبحت ذات نفوذ اقتصادي كبير في هذه الفترة بعدما حققته لها من الإصلاحات واستحداث خدمات الدولة - وخاصة في الكويت - الكثير من الامتيازات التي ساعدت على التحول في حياتها الاجتماعية، وفضلاً عن ذلك فإن ) اعتماد المجتمع الكويتي على الأعمال التجارية قد سهل التحول السريع من برجوازية تجارية إلى برجوازية الأعمال، كما أن الآفاق الجديدة المتشعبة في ميدان الأعمال قد وسعت من قاعدة الطبقة عددياً، وزادت من شرائحها، بل يمكن القول أن كثيراً من وظائف الدولة تحول أصحابها إلى طبقة برجوازية متوسطة أو عليا ((3) وبهذا الوضع الجديد أصبحت هذه الطبقة حليفة لأرستقراطية الأعيان والأسر الغنية ذات الامتداد القبلي، إذ ارتبطت جميعها بمصالح مشتركة، ومصالح الشركات الأجنبية، واستمدت سلطتها الاستغلالية النافذة سواء في الكويت أو في البحرين بحصولها على الأراضي الشاسعة، ونشاطها في التجارة العقارية . وفي مقابل ذلك بدأت تنمو برجوازية صغيرة أخرى أحرزت ظهورها عن طريق انتشار التعليم الثانوي والجامعي، حيث تخرجت فئات من الأطباء والمهندسين والمحامين والمدرسين والصحفيين والإداريين والموظفين، تميزت باهتماماتها السياسية وقلقها الاجتماعي الخاص، وانفتاحها على التيارات الفكرية المعاصرة .
وأبرز التحولات في ميزان القوى الاجتماعية يأتي مع وجود فئات اجتماعية عريضة من المسحوقين مع التطور الاقتصادي في هذه الفترة، فحاجة هذا التطور إلى الأيدي العاملة دفع إلى الاستفادة من الهجرة الخارجية مما أدى إلى ظهور طبقة عمالية مهاجرة كبيرة في الكويت بصورة خاصة في الوقت الذي أصبح حجم القوى العاملة المحلية يشكل نسبة ضئيلة من المجتمع .
ونظراً للإمكانيات الاقتصادية المحدودة في البحرين عند مقارنتها بالكويت فقد وجدنا المجتمع يستقطب أكثر الطبقات استغلالاً وانسحاقاً في حياتها الاجتماعية سواء بين صفوف العمال المحليين أو المزارعين في القرى أو صغار الموظفين، وهذا يعني أن ما سيعتمل في هذا المجتمع من تطور هو أكثر ما ستقوم عليه الواقعية الفنية من أبعاد اجتماعية وأيديولوجية في هذه الفترة.
والجانب الذي ينبغي التأكيد عليه في صدد البحث عن أبعاد اجتماعية للاتجاه الواقعي النقدي هو أنه قد رافق تلك التحولات وعي اجتماعي واضح، وخاصة بين أوساط المثقفين، وصفوف الطلاب مما خلق نظرة مختلفة للطبقات الشعبية المغمورة تقوم على تبني مواقفها ومطالبها الاجتماعية . ويقترن هذا الوعي بالدور الذي تلعبه الفئات العريضة في المجتمع، إذ لم تعد مغفلة عن حركة المجتمع بل لقد تأكد لها دور واضح في النضال الاجتماعي المستمر مع مواقع الاستغلال في المجتمع .
وإذا كان الاتجاه الواقعي النقدي قد وجد امتداده الاجتماعي بين تلك التناقضات والمواجهات، فإنه يجد امتداده الأيديولوجي عبر اقترانه بالوعي الاجتماعي وارتباطه بالتحرك الذي عمق الإيمان بالطبقات الشعبية، وعبر عن قلقها وآمالها، وجعل من الانحياز إليها منطلقاً فكرياً للنماذج النضالية الناهضة في القصة القصيرة .
لقد لعبت حركة القوى الاجتماعية في العقدين السادس والسابع من هذا القرن دوراً كبيراً في تأصيل الاتجاه الواقعي الذي يتبنى موقف الفئات الشعبية، فقد ساعدت على ازدياد الوعي الاجتماعي والسياسي، وفتحت العيون على أسباب الاستغلال والاستلاب في المجتمع، وأبرزت أسس التناقض مع الأنظمة السياسية والاقتصادية، بل إن الواقعية لدى كثير من كتاب القصة القصيرة في البحرين تكاد تكون انتماء حقيقياً للتركيبة الأيديولوجية التي تقوم عليها أهداف القوى الاجتماعية، وهو الأمر الذي ساعد على وضوح الرؤية الفكرية وتماسكها في الأعمال القصصية، نظراً لاعتمالها من تجارب ومواقف تقدمية، وصدورها من واقع تضطرم فيه موجات القلق السياسي والاجتماعي .
وقد اتضح الأثر الكبير لتطور حركة القوى الاجتماعي في تأجيج نوازع الصراع الاجتماعي وقلق الطبقات الشعبية بعد أحداث 1965 التي أبرزت إلى الوجود بطولة شعبية نابعة من أكثر الفئات الاجتماعية اتساعاً في المجتمع وهم (العمال والطلبة)، وهو ما دفع إلى الاتجاه إليها في التجربة الأدبية باعتبارها قاعدة بعيدة الأثر في قضية المجتمع وحركة تطوره .
وبهذه الصورة يمكن أن نعتبر تطور حركة القوى الاجتماعية هو الامتداد الأيديولوجي للواقعية الفنية، سواء في صياغتها النقدية التقليدية عند محمد عبدالملك وعبدالله علي خليفة وغيرهما، أو في صياغاتها التجريبية الحديثة عن خلف أحمد خلف وأمين صالح، حيث تنعكس في أعمالهم القصصية العديدة مؤشرات واضحة تترجم هذا الامتداد بما يؤكد الأثر الكبير الذي خلقه تطور تلك الحركة، وخاصة فيما اكتسبته الواقعية الفنية من تماسك التجربة الفنية ووضوح الرؤية الفكرية .
ويمكن القول بعد ذلك أن الامتداد الأيديولوجي السابق قد عبر عن أثره في تشكيل التيار الواقعي في الحركة الأدبية الجديدة بوجه خاص من خلال قيام )أسرة الأدباء والكتاب في البحرين ( عام 1969، إذ أنها جاءت ترسم صورة ذلك الامتداد من خلال الممارسة والتجربة الأدبية التي ظلت محاطة بظروف سياسية واجتماعية عسيرة منذ سنوات . أي أن قيام هذه المؤسسة الأدبية جاء معبراً عن صيرورة قادمة من ظرف تاريخي حاسم، ينبثق من تيار المواجهة الشامل مع جميع أشكال التخلف والرجعية في الأدب والفكر، ومن هنا ينطلق المنهج الفكري لأسرة الأدباء والكتاب من إيمانه بالفكرة التقدمية الملتزمة بقضايا الإنسان، ونضاله الاجتماعي (4) .
كل ذلك - في نظرنا - يدل على أن الامتداد الأيديولوجي التقدمي هو المنبع الثري للاتجاه الواقعي النقدي في سنوات هذه الفترة، وإن كان هذا الامتداد لم يسلم عند بعض كتاب القصة القصيرة من الالتواء والانحراف إلى ما تستدعيه الرؤية السياسية من تغليب الهدف الدعائي السياسي والاجتماعي الأيديولوجي واستبعاد النزعات الفنية المتطورة، واتخاذ مواقف عدائية من هواجس التجريب والمغامرة الفنية كما سنوضح ذلك في الفصول القادمة.