القصة القصيرة في الخليج العربي
(الكويت والبحرين)
دراسة نقدية تحليلية

البحرين
2000 م

القسم الأول . الفصل الأول 1

التغير بعد النفط

ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى كان الخليج العربي يقبل على مرحلة جديدة تضج بعوامل التغير والتطور، وذلك بسبب اكتشاف النفط، فبعد هذه الحرب كانت البحرين قد بدأت بالفعل في إنتاج النفط إلى الأسواق العالمية، كما باشرت الكويت في إنتاج البترول بكميات ضخمة تفوق البحرين بمعدلات كبيرة، ومع اتضاح المردود الاقتصادي الهائل لهذا الإنتاج تكونت عوامل حاسمة في دفع المجتمع العربي في الخليج نحو التغيير .
وبدخول البحرين والكويت ضمن الدول المنتجة للنفط يكون الخليج العربي قد انتقل من مرحلة الاقتصاد التقليدي إلى مرحلة الاقتصاد الحديث الذي يعتمد على إنتاج البترول ومعامل التكرير والصناعات التي دخلت البلاد فيما بعد بسبب الوضع الاقتصادي النشط الذي أوجده النفط، وواجه المجتمع العربي في الخليج خلال فترة الأربعينات والخمسينات كثيراً من التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية الهامة التي دفعت بهذه المرحلة الأولى في نشأة القصة القصيرة إلى التوسع والتبلور .. كما تنوعت الكتابات القصصية واختلفت من حيث القوة والضعف لأن المجتمع أصبح يغذيها بصراعات عميقة، ويبسط لها كل ما تتفجر في باطنه من مشاكل وقضايا تستدعيها حركة التطور التي دفع بها اكتشاف النفط دفعاً قوياً .
كانت المتغيرات الجديدة عاملاً حاسماً في صياغة القصة القصيرة خلال هذه المرحلة . وإذا كانت المحاولات المبكرة التي كتبها خالد الفرج في مجلة )الكويت( ومحمود يوسف .. في جريدة )البحرين( قد جاءت محدودة غير متنوعة في اتجاهاتها وتجاوبها .. فإن الكتابات القصصية التي تمخضت عنها الفترة التي أعقبت اكتشاف النفط (الأربعينات والخمسينات)، كانت أكثر كثافة وغنى، وهي في الحقيقة تشعرنا منـذ الوهـلة الأولـى بأنها ترتـد إلى

واقع اجتماعي يشهد تغيراً عاصفاً بمرحلة تاريخية تواجهها كثير من الصعوبات ومشكلات التقبل الاجتماعي، وذلك بما تناولته قصص هذه المرحلة من معالجات وموضوعات جريئة تحاول فيها أن تهتك كثيراً من المواضعات الموروثة والتقاليد الثابتة .. وكأنها بذلك حرصت على التعبير عن روح المجتمع الجديد في صدامه مع الوعي التقليدي والراسب السلفي الذي ظل يوجه أنماط السلوك الاجتماعي ويؤثر في إمكانية ترسيخ القيم الجديدة أو في تقبلها .
وترجع كثير من الأسباب المباشرة في نمو المحاولات القصصية خلال هذه المرحلة إلى نمو المجتمع ودخول أنماط ونشاطات اقتصادية حديثة عليه أحدثت تغيراً شاملاً لكل القيم وطرائق السلوك ومظاهر الحراك المهني في مجتمع الخليج العربي، وجعلته يتبنى الكثير من القيم الجديدة والمفاهيم غير المألوفة من قبل .
وفي هذه المرحلة - بعد دخول المجتمع مرحلة الاقتصاد الحديث - اتجه كل شيء إلى التوسع والنمو فالطبقة المتوسطة التي عرضنا من قبل لمبادراتها الأولى نجدها بعد النفط والتغير لا يقتصر بناؤها على الأعيان والتجار الذين يمثلون نخبة اجتماعية لها امتيازاتها بل إننا نجدها خلال هذه الفترة تتكون من شرائح اجتماعية متعددة . ورغم أن أسباباً اقتصادية كانت وراء هذا النمو فإن هناك سبباً سياسياً كانت وراءه بريطانيا فقد حرصت على توسيع رقعة البرجوازية في منطقة الخليج العربي وخاصة في البحرين التي واجهت فيها متاعب كثيرة بسبب تطور الحركة الوطنية . ولهذا سعت بريطانيا من أجل (خلق قوة سياسية تحفظ التوازن في الجزيرة، على أن تسعى شركة النفط إلى ذلك عن طريق إغراء رأس المال المحلي بإجراء عقود فرعية لتمويل مشاريع شركة النفط وتأمين متطلباتها، ولقد تحققت وجهة النظر هذه بالفعل عندما بدأت شركة النفط في الخمسينات بتسليم مشاريعها إلى مقاولين محليين، وبشراء بعض حاجياتها عن طريق تجار محليين (8)).
وبذلك فقد أصبح المجال فسيحاً لهذه الطبقة كي تثبت أقدامها في مشاركتها المباشرة في اقتصاديات البلاد وفي خدماتها الاجتماعية العامة .
وساعد على اتساع هذه الطبقة أيضاً - فضلاً عن السبب الاقتصادي والسياسي - أن هذه الفترة التي نمت فيها شهدت جني الثمار الأولى للجهود التعليمية المبكرة . فالتعليم يعتبر عاملاً أساسياً في تطور المجتمع لما يحدثه من تغيير ملموس في مواقع بعض الفئات الاجتماعية، ومواقف الأفراد وعاداتهم، وأنماط حياتهم السلوكية، وفي هذه الفترة ازداد عدد خريجي الثانوية . كما دفعت كل من البحرين والكويت بعدد من أبنائها للدراسة في الخارج . وهذا ما جعل البرجوازية تتميز بسمة جديدة وهي الثقافة العصرية والاطلاع على اتجاهات الأدب العربي الحديث، وخاصة من خلال ما ينشره كتاب و مفكرو مصر . ويمكن الملاحظة هنا أن معظم من مارسوا الكتابة في القصة القصيرة في البحرين والكويت خلال هذه المرحلة ينتمي إلى هذه البرجوازية المثقفة بوثبتها الإصلاحية ونزعتها القومية .
ومع التغير الاقتصادي حدث تغير في قوة العمل فلقد تركت الغالبية العمل في البحر وهجرته إلى العمل في شركات البترول التي كانت بحاجة إلى الأيدي العاملة. وبذلك تشهد هذه الفترة قيام الطبقة العاملة في الخليج التي سيقدر لها أن تلعب دوراً هاماً في النصف الثاني من هذا القرن . وكانت هذه الطبقة في البحرين أوسع منها في الكويت التي اقتضت ضخامة إنتاج النفط فيها إلى جذب أيدي عاملة من الخارج . وأياً كان الأمر فإن انتقال الغالبية من عمال البحر إلى العمل في شركات النفط لم يغير من الأمور شيئاً حيث ظل الاستغلال الاجتماعي نافذا حاداً .
ولقد شهد عام 1943 بداية الصدامات الحادة بين العمال المحليين في البحرين وشركات النفط حيث بادر العمال في هذا العام إلى ترك عملهم احتجاجاً على الحالة السيئة في العمل وتدني الأجور وقدموا مطالب محددة، ولكنها رفضت وتلقي المضربون ضربة قوية زعزعت صفوفهم واعتقل بعض قادتهم وفصل منهم الكثير . ومع نشاط الحركة الإصلاحية واهتمامها بأوضاع العمال فيما بعد وخاصة في الخمسينات تكررت مثل هذه الإضرابات المتذمرة الغاضبة على الأوضاع الاستغلالية السيئة . ولكن رغم ذلك فإن هذه الحركات العمالية لم تنعكس في أدب القصة القصيرة لأسباب موضوعية حاسمة، فالفترة التي شهدت بداية هذه الأحداث ما بين 1943 - 1946 لم تكن توجد فيها صحافة في البحرين أو الكويت .. حيث توقفت مجلة ) الكويت ( وأوقفت جريدة ) البحرين ( وخلا الجو الثقافي من الصحف نظراً للسياسة الاستعمارية الخانقـة التي كـانت تديـر شـؤون البـلاد وتبالـغ فـي عزلها ثقافياً عـن الوطـن العـربـي، وعندما عادت الصحف إلى الصدور في النصف الثاني من الأربعينات وخلال الخمسينات لم تتمكن القصة القصيرة من استيعاب الصدام العنيف الذي بلورته الطبقة العاملة لأنها لازالت في مرحلتها الأولى وهي مرحلة النشأة والنمو، وكانت تشغل كتاب القصة موضوعات اجتماعية تتعلق بالقيم الجديدة التي أتى بها التطور. ومحاولـة إصلاح الوعي الاجتماعي وإيقاظـه ودفعـه إلـى التخلص من ربقـة التقاليـد، وتصوير مظاهر البؤس والشقاء التي خلّفها المجتمع التقليدي قبل ظهور النفط .
وفضلاً عن ذلك فإن استيعاب تلك الأحداث العمالية في القصة القصيرة يحتاج إلى مرحلة تاريخية متطورة فنياً وفكرياً . فهو يحتاج مثلاً إلى رسوخ التفكير العلمي ووضوح النظرة الاجتماعية والوعي الطبقي، ويحتاج إلى تأصيل واضح في مفهوم الواقعية في القصة القصيرة وإدراك لما يعنيه من مواقف اجتماعية وإنسانية . وكل هذا لم يتمكن كتاب القصة القصيرة في هذه المرحلة من الوقوف عليه، بل لقد كانت تسيطر عليهم مفاهيم مختلفة عن الواقعية تلقفوها من رواد القصة العربية في مصر بصورة خاصة، لذا لم تتمكن القصة القصيرة على أيديهم من صياغة المشاكل المبكرة للقوى الاجتماعية .
ولكن القصة في هذه المرحلة تمكنت من تلمس مظاهر المعاناة الاجتماعية لدى أبناء الطبقة الفقيرة المعدمة وصورت حياتها المؤلمة وبؤسها الإنساني ووقفت في ذلك موقفاً معادياً لسلطة الأغنياء واستغلالهم، وكأنها أرادت توعيتهم بضرورة التكافل الاجتماعي، وهذا ما نجده في قصص أحمد كمال وفهد الدويري وفاضل خلف وغيرهم من كتاب هذه المرحلة الأولى .
وعلى أية حال فإن ظهور الطبقة العمالية الصغيرة في الخليج العربي ساعد على اتساع رقعة التذمر السياسي . فبعد أن كانت مقصورة على الطبقة المتوسطة وفئاتها المتعددة أصبحت تشمل هذه القاعدة الشعبية العامة، ومن هنا فقد استغلت البرجوازية في قيادتها للحركة الوطنية هذه الطبقة العاملة وحرّكت عن طريقها الجماهير العريضة فأصبحت مبادراتها ذات أثر فعال ينذر بالخطر .
ونستطيع القول أن مما ساعد على تطور حركة الإصلاح الوطني فضلاً عن بروز الطبقة العاملة فيها هو طبيعة التناقضات الاجتماعية والسياسية التي خلقها إنتاج النفط في الخليج العربي فالفئات الشعبية التي انتقلت من اقتصاديات البحر إلى اقتصاديات النفط لم تشعر بتحسن أحوالها الاجتماعية لذا استمر تذمرها وازداد حدَّة واكتسب وعياً جديداً . لأنها كانت تحت وطأة شكوى ملحة وهي تدني الأجور وسوء المعاملة وخاصة من قبل الإنجليز الذين يحتقرون ما يرونه من مظاهر الجهل والتخلف للأيدي العاملة المحلية، وفوق ذلك فقد كانوا يُستغلون استغلالاً فاحشاً من شركات النفط حيث يشتغلون أكثر من الساعات المقررة للعمـل . ولم تكن لديهم عطلـة أسبوعية بل كانوا يعملـون طـوال أيام الأسبوع.
واتخذت حركة الإصلاح الوطني من هذه الأوضاع المزرية للعمال منطلقاً لنشاطها السياسي واستطاعت من خلالها أن تضرب على المواقع الحساسة والفعالة.
وإلى جانب ذلك فقد كانت السلطة السياسية - وهي تعني في هذه الفترة النفوذ البريطاني - تعرض عن مطالب الجماهير، ولا تحاول الاهتمام بتخفيف أعباء المعاناة والتضرر الاجتماعي . وإنما كانت تقف بين الحكام وعامة الشعب. وتحول دون تنفيذ ما يراه الحكام من مبادرات تقربهم إلى زعماء الإصلاح وعامة الناس.
لقد تناقض الموقف بين مصالح بريطانيا ومطالب الحركة الإصلاحية خلال هذه الفترة، حيث كانت سياسة بريطانيا تقوم على التدخل المباشر في إدارة شؤون السياسة الداخلية وسائر الخدمات العامة للبلاد، وتطورت هذه السياسة حتى أصبحت بالنسبة للبحرين تورطاً واضحاً تؤكدها إشارة يذكرها الدكتور محمد الرميحي ) للسير براي ( لدى زيارته للبحرين يقول فيها : ) إن التورط البريطاني في البحرين قد وصل إلى أبعد مما يجب فهناك مستشار مالي بريطاني، ومشرف بريطاني على البوليس، ومدير بريطاني للجمارك، لقد أصبحت البحرين بذلك بريطانية أكثر مما هي ) كاتال (، الولاية الواقعة على الحدود ((9) ولم يكن ذلك كثيراً فبلجريف الذي ظل يمثل السلطة البريطانية بصفته مستشاراً خلال الأربعينات والخمسينات ) تركزت بيده السلطة فأصبح قومنداناً للشرطة، ورئيساً للقضاء، ومشرفاً على جميع الدوائر كالصحة والمعارف والأشغال العامة والطابو والجمارك والبلديات وحتى الحدائق العامة . لذا أصبح هذا المستشار رمزاً سيئاً في تاريخ البحرين وهدفاً لحركة الإصلاح الوطني التي طالبت بطرده من البلاد في 1956 بعد أن ازداد تعسفاً وتمييزاً للأجانب على أبناء الشعب.
وقد دفعت كل هذه التناقضات السياسية الحادة إلى مضاعفة جهود الإصلاح والتغيير فتوالت حركات الإضراب والانتفاضات العمالية بين فترات متقطعة في عام 1938 ثم في عام 1943 ثم في عام 1947 الذي هاجم فيه العمال منشآت شركة النفط . ومنذ بداية الخمسينات وحتى عام 1956 بلغت سلسلة الإضرابات والمظاهرات ذروتها .
وإذا لم يكن بالإمكان صياغة هذا الصراع السياسي وتصوير ملامحه وأبعاده الاجتماعية بدقة في القصة القصيرة خلال هذه المرحلة بسبب ضعف بدايات القصة وتشدد الرقابة على ما يكتب سواء في القصة أو في المقالة أو غيرهما حتى كانت بعض الصحف كالقافلة والوطن تصدر وقد مسحت منها أجزاء كبيرة بسبب تطاول الرقابة على الصحف، إذا كان الأمر كذلك فإن هذا الصراع ساعد في الحقيقة على بلورة المعاناة الاجتماعية بصورة خاصة لدى كتاب القصة القصيرة وكتاب المقالة الاجتماعية أيضاً . فقد اتجهت القصة القصيرة بشكل ملحوظ إلى تصوير الواقع الاجتماعي البائس الذي كان يدفع هذا الصراع ويشكل أبعاده ومنطقه الداخلي في المجتمع . فمما لا ريب فيه أن الوعي السياسي قد دفع إلى معرفة الكثير من الأوضاع الاجتماعية الدقيقة . كما حفز الكتاب إلى نقد السلطة بمعناها الاجتماعي المطلق .