القسم الثاني . الفصل الثالث 5

الملاحق
رؤية توثيقية

أولاً
نماذج من البدايات الأولى للقصة القصيرة

منيرة
بين العدمين
حائرة
الشاعر

مجلة الكويت
الجزء 6 و 7 شهري جمادى الآخر
ورجب 1349ه المجلد الثاني

منيرة

1

تلك القوة المجهولة الخارقة الكامنة بين ذرات المغناطيس تجذب إليها القطع العديدة من المعادن : أشبه شيء بذلك الجسم الذي يمثل الشباب الغض والجمال الكامل فيجذب إليه حبات القلوب ونظرات العيون . تلك المجموعة الرائعة الجذابة مصوغة بصورة امرأة من البشر أطلق عليها أهلها اسم منيرة .
منيرة ؟ منيرة ! هي ما حاول الشاعر في غزله ونسيبه . والمصور في ريشته، والنحات في أزميله، أن يعبروا عنه فعجزوا، وأتى الخالق القدير فأبرزه في جسم بشري حي اسمه منيرة، وإن في تدفق ماء الحياة في أسارير المحيا، وفي غضاضة الصبي وطراوة البشرة، وسحر العيون وبريقها الخاطف والابتسامة الحلوة، والقد في اعتداله وميلانه وتثنيه، لمعان سامية دقيقة تقصر دونها تعابير البشر اللهم إلا إذا كان في الملائكة شعراء وفنانون فذلك ما لم نعلم عنه شيئاً بعد .

منيرة رمز الجمال وتمثاله ولكن الخالق الحكيم لا يعطي أحداً جانباً من الكمال الإنساني إلا وينقصه من جانب آخر لحفظ التوازن والإنسان طاغ بطبعه فلابد له من نقص يشعر به ليتعظ، ذلك الجسم الكامل الجميل يضم بين جوانحه قلباً ساذجاً ودماغاً مملوءاً بأنواع الخرافات وأصناف الأباطيل والترهات، عميق الإيمان بأحاديث العجائز والإماء، سريع التصديق، سريع الانقياد، ومنيرة كسائر أترابها أمية مكسال خرقاء شغوف بالزينة والتبرج علاوة على ذلك الجمال النادر الفذ، نشأت وهي تسمع حكايات الجان والشياطين، وكرامات الأولياء والصالحين، وخوارق الزار والمتعفرتات من بنات جنسها، فهي تضع على كل عضو منها حلية وتضيف إلى كل حلية عوذة ففي أحد الدمالج عوذة وفي الصدر دزينة من العوذ والحجب مختلفة الأحجام والمغازي وعلى الرأس وفي العضود وفي الخلاخل إلى ما شاء الله، هذا حجاب عن العين وذاك عن الحمي لتتفرغ لخياطة كسوة الولي مرزوق، وتطرز علماً لمزار الشيخ محبوب، وتصرف على ذبائح الخضر والمزارات وحفلات الزار أضعاف ما تصرفه في جميع مرافقها وحليها وزينتها، هي تلك النقية الطاهرة المشهورة بحب الأولياء والصالحين والعطف على الدراويش والمتقشفين، أمنية كل خاطر وجاذبة كل ناظر ولكن أدلة المؤمنين بنظرية الحظ والنصيب متوفرة في الشرق ومن أقواها أن منيرة من حظ ابن عمها الذي ولد قبلها بسنتين وكتبت في سجله منذ الأزل، تزوجته بلا استشارة وماذا تفيدها الاستشارة وقد نشأت وهي تسمع من أمها وأبيها أنها زوجة عبدالقادر فهي إذن راضية غير مختارة لا تحبه ولا تبغضه ومهما كانت الحالة فهو زوجها كما أن منيرة اسمها رضيت أو لم ترض ولكن جمالها الفتان تسلط على عواطف زوجها فأسلس لها القيادة وانصاع لأوامرها بما يشبه العبادة حتى ألفته ومالت إليه وتحولت الألفة إلى مودة والمودة إلى حب حقيقيي هو حجر فلاسفة العشق والحب الذي يسعون للحصول عليه .

2

مضت على اقترانهما ست سنوات وهما ينعمان في قطف ثمار المحبة يانعة غضة سنوات مرت وكأنها ساعات قضتها منيرة في خيالات الحب وفي خيالات الخرافات نهاراً، لولا أن هناك أملاً كان يملأ وجهها بشراً وإشراقاً ثم انقلب في الأخير فأصبح خاطراً تنفر منه كلما مر بذاكرتها، وفكرة سوداء ظلت تكدر صفو هنائها وتنغص عليها عيشها كلما خطرت لها ببال، ست سنوات !! حولت الأمل إلى يأس، كالغذاء النافع يتحول بتخمره سماً زعافاً، وكلما خلت بنفسها ساءلتها : يا ترى أيبقى عبدالقادر على وفائه، وهو يرى ثروته الواسعة الضخمة لا وارث لها ؟ إن الجواب يفزعها ! بيد أن شغف زوجها بجمالها وما تراه من تعلقه بها يهدئ روعها نوعاً ولكن الأفكار المقلقة لا تلبث أن تعود إلى مخيلتها فتثير وساوسها وأوهامها.
هو ذا البيت وقد علت فيه زغردة النساء، وهي ذي أصوات وقع قبقاب الخادمة على السلم الأعلى صاعدة إلى غرفة منيرة وهي جالسة على متكأ بجانب الشرفة يطل على المروج الخضراء المطرزة بغابات النخيل، وعبدالقادر بجانبها يلاطفها ويداعب شعرها الفاحم الناعم بأنامله، وقد تعالت ضحكاتها لشيبة رأتها تلوح في مفرقه ) لن أدعوك بعد اليوم إلا بالشيخ عبدالقادر ( قالت ذلك والتفتت إلى الخادمة التي تلهث لإسراعها في صعود السلم خشية أن تسبقها سواها وهي تقول بصوت يملؤه البشر والسرور : ابشري ... ابشري ! سيدتي ! إن أختك عزيزة وضعت غلاماً ! ياله من خبر مبهج ! إن أختها الصغرى عزيزة المحبوبة وعمرها لا يتجاوز السابعة عشرة قد وضعت غلاماً من ابن عمها محمود الشاب .
ولكن هذه البشرى وقعت كالصاعقة على منيرة فاختنق صوتها وعلت وجهها صفرة الكآبة وتمنت أن لو كان عبدالقادر غائباً لتخلو إلى نفسها فتبرد غلها بقطرات من الدمع لعلها تخفف ما تجده من حرقة وألم، وكأن عبدالقادر أدرك ما يساور خليلته من هم وكدر وعرف السبب الذي حول البشارة المسرة إلى ما يشبه النعي، ولنعي عزيزة عند أختها أخف ويلاً من هذه البشارة التي كشفت الستار عن وساوس منيرة ومخاوفها أمام زوجها فحاول أن يخفف ما بها ولكنه بدوره عاد إلى تأملات عميقة استطرد فيها حالته منذ ليلة زفافه ورأى آماله تكاد تذهب هباءً منثوراً فأخذ يضحك ضحكاً جنونياً نبه منيرة من ذهولها ولكنها لم تطق الكلام فاستفهمت منه بنظرة كلها يأس وحزن
- ؟ ؟ ؟
- تذكرت صندوقاً صغيراً أعددته لولدي الموهوم وجمعت فيه كل ثيابه وألعابه !! أريتك لو رزقنا بولد منذ سنة زواجنا أما كان الآن يتعلم في المدرسة ونعلق عليه أكبر الآمال، وننعم بأحاديثه ولعبه ؟
- الله كريم !! و . . . .
- الله كريم ولكن . . . ولكن . . .
- أظن أن السبب في ذلك استعدادك للشيء قبل حصوله لاقتنائك ذلك الصندوق فجعلت مشيئتك قبل مشيئة ربك فعاقبك الله على ذلك بالحرمان .
- هذه سخافة، خرافة، ولكن الطب الحديث يقرر أن سر الحمل في المرأة فهي كالنخلة تحتوي على جرثومة الحياة وما الذكر إلا بمثابة لقاح الفحل يؤبر به النخل . فقالت بتلعثم وقد وقع عليها كلامه وقع الصاعقة .
- الحق أقول لك أنني سألت الشيخة أم صالح وهي من الأولياء المشهورين بالكرامات خصوصاً لطوالع الحبل والقران فقالت السبب أن زوجك عصري ملحد لا يعتبر الأولياء ولا ينذر للقبور
- ) باشمئزاز ( أي شيخة ؟ أتلك البلهاء المجنونة ؟!! تلك العجوز الورماء ؟!! أبلغ بك الجهل إلى هذه الدرجة ؟
- قف عند حدك !! ) قالت ذلك بكل حدة ( وقد تحمست لشيختها وكبر عليها أن يهينها وقد اعتادت منه أن يحتمل منها كل غضب ودلال ويجاوبها بالخضوع والاستغفار والقبلات الحارة، ولكن سرعان ما تجهم وجه عبدالقادر وقال :
- العتب علي ! فقد صبرت عليك واحتملت جهلك ونزقك وهذا عمري مضت زهرته ولم أر فيه وارثاً بعد موتي ومساعداً لي في شيخوختي والله يقول فاحكوا ما طاب لكم مثنى وثلاث ورباع !
يالها من بشارة محزنة أظهرت كوامن القلوب وكشفت عن غوامض الأسرار . عندها قام عبدالقادر بلا مبالاة ودخل مكتبه وانطرح على مقعد طويل وأخذ يناجي نفسه : حسبي اندفاعاً وراء هذا الجمال الفارغ إنه أشبه شيء بالقار المطلي بالذهب المطرز جمال ! ثم ماذا ؟ جهل فاضح ! عادات سيئة ! دلال لا يطاق ! دماغ محشو بالخرافات والأوهام ! قلب ساذج لا يفهم للرابطة الزوجية معنى ! ومع ذلك كله عقم ! هذه أختها لم تتزوج ابن عمي إلا في العام الماضي فرزقا بولد - تأوه - وماذا حصلت أنا من جمالها سوى اللذة الزائلة، وماذا جنيت منها سوى تقييد عقلي واندفاعي وراء تصديق خرافاتها، وما هي عقبى من غلب هواه على عقله أنها لعقبى سيئة ! ثم ماذا ؟ وهب أنني اصطبرت وأرقت مائي في انتظار سراب الآمال فما هي النتيجة ؟ وهب أن دجاليها نجحوا في حيلهم فحبلت فما الفائدة من طفل ينمو في هذه البيئة الجاهلة وينشأ بين أولاد العجائز والإماء وجيوش الدراويش والدجالين ؟ كفى كفى فلا فائدة من الندم وعليك أن تتلافى ما فات . آه إن بنت السيد خليل جميلة ومتعلمة وفي ثروتي الطائلة ما يخول لي أن أخطبها آه ! أتذكر مجاملتها لي وتوددها ! أوه نعم . نعم . ليلة عرس عزيزة قرأت في عينيها سطور الإعجاب بي بل والهيام بحبي ولكن وا أسفاه لقد ران حب منيرة على قلبي فأعمى بصري وجعلني أنظر إلى تلك السور نظر القدماء إلى رموز الهيروغليف ؟ لكن لا بأس فها شانبوليون قد فك تلك الرموز وهي لحسن الحظ لا تزال فتاة لم تتزوج بعد ولم تقبل يد أحد لأنها على ما أظن متدلهة بحبي، ومنيرة، ستبقى عندي وسأتمتع بجمالها وأضحك على سذاجتها .
يا لها من خطة طالما أرعبت منيرة وأقلقتها، وطالما أزعجها الكابوس بأشباحها فأيقظها من رقادها، وأسهرها الليالي الطوال وقد تحققت مخاوفها، وليس أصدق من شعور القلب الساذج كأنما هو الهام الهي .
ترك عبدالقادر مقعده وفتح باب المكتب بعنف ووقف على باب الغرفة بلا مبالاة وقال كفى يا منيرة كفى ! فقد تلاعبت بعقلي وضحكت عليّ فلا أرينك بعد اليوم تدعين أحداً إلى بيتي من هؤلاء الدجالين المخرفين، والعجائز الماكرات ولا تتركي عتبة بابك إلى الزيارات والزارات . وأنت يا سلمى (الخادمة) إياك أن تدعي أحداً من غير أقاربنا يدخل على سيدتك وإلا نكلت بكما جميعاً اسمعي . اسمعي . ها ؟ . . وخرج فاسترسلت منيرة بالبكاء واشتعلت فيها نيران الحزن والهم واصطدمت بمصيبة لم تعهد مثلها فانحطت قواها وهاجمتها الحمى بجران هائل وأخذت تهذي وتصيح إلى أن أصبح الصباح . وأول ما سألت عنه . هل جاء عبدالقادر ؟ فكان الجواب سلباً ! وماذا تصنع ؟ ليس عندها سوى البكاء تستمطره ليروي غلتها ويطفئ لوعتها ولكنه في بعض الأحيان يكون بنزيناً ملتهباً يزيد جمرة الحزن اشتعالاً .

3

بعد أسبوع عادت المياه إلى مجاريها نوعاً ولكن عبدالقادر لم يعد ذلك المحب الولهان فقد تشبعت أحاديثه بالخشونة والتهكم ولم تكن مجاملته هذه إلا ليخفف عن ابنة عمه بعض ما تجده .
وقفت منيرة أمام المرآة ذات يوم فارتاعت لذبول زهرتها وتبدل سحنتها وزوال رونقها فازداد الطين بله . آه رباه ماذا جنيت رحماك ربي، ربي إني أتوسل إليك بأوليائك الصالحين، وعبادك المتقين، نذراً عليّ لوجه الله إن عاد قلب عبدالقادر إلى سابق صفائه لأنحرن لمزار الخضر عشرين خروفاً ومائة ديك أفرق . آه ليت الشيخة أم صالح هنا ليتها تعود من متعبدها فهي التي تستطيع أن تنقذني وتخلصني من هذا المأزق الحرج وتكتب لي الحجب وتنظر بختي عند أحد الأولياء عجل الله أوبتها فبدونها لا يقر لي قرار . وبعد ثلاثة أيام عادت أم صالح وأتت تمشي على عكازها وقد رفعت رداءها بكوعيها ورأسها المنحني فصارت أشبه بغطاء عربات الأطفال وكانت لا تعلم بالأوامر الصارمة الجديدة وعلى حين غفلة من سلمى دخلت على منيرة وكأنها في نظرها ملك نزل من السماء لإنقاذها فقد علقت كل آمالها عليها فاستقبلتها بما يستقبل به الوثنيون أصنامهم بكل خضوع واحترام وقبلت رأسها ويديها وقدميها وأجهشت بالبكاء وقصت عليها مجريات الحوادث الأخيرة فطمنتها ووعدتها خيراً وضربت لها موعداً في بيت أبيها حيث لا سلطة لعبدالقادر خوفاً أن يجرح كبرياءها .
وفي الموقت المضروب أتت ذليلة وقالت لقد ذهبت إلى الولي الأبكم في غابته على ساحل البحر الغربي فقال أنه عالم بحالك وأنك ولابد قد قصرت في حقوق أحد الدراويش أو المزارات ووجدته حنقاً عليك ولكني توسلت إليه ونفضت شيبي على قدميه فقال سأصفح عنها ولكن لابد من مجيئها صاغرة ذليلة في منتصف ليلة الأربعاء الآتية عندما يكون القمر في برج السرطان ولن ترجع إلا وقلب عبدالقادر بيدها ببركات شيخنا معروف .
- وكيف أذهب يا شيختي ؟ إن الغابة بعيدة وظلام الليل حالك ولا أجرأ على الذهاب .
- تذهبين معي ولا خوف عليك وسأشتري حمارين يوصلانا إلى طرف الغابة .
- وعبدالقادر ؟ ماذا أصنع إذا فقدني لأن الرجوع غير ممكن قبل الفجر وهو لن يبقى أكثر من منتصف الليل .
- عبدالقادر !! - بازدراء - إنك لن تعودي من عتبة حضرة الولي إلا وقلبه بيدك تصرفينه كما تشائين وسترينه غداً كالخروف الوديع يصدقك في كلما تقولين واختلاق العذر أمر بسيط .
- ومكاني ؟ كيف أتركه وأخشى أن تلعب به أيدي الخدم إذا فقدوني .
- أثمن ما عندك مجوهراتك وحليك فاستصحبيها معك في حقيبة وسأحافظ عليها كما أحافظ عليك .
- حسن فمتى نذهب ؟
بعد أن نصلي العشاء في مسجد العابدات وراء الشيخة زهراء ونخرج إلى رأس البر وهناك الحمير في انتظارنا ولن يأتي موعد الشيخ إلا ونحن عنده .

4

وهكذا أنفذت الخطة وخرجت الجوهرة من صدفتها والواقف في ذلك الظلام يرى امرأتين خرجتا من المسجد في طريق رأس البر إحداهما منيرة وما كادت تصل إلى الحمير إلا وقد أخذ الإعياء منها كل مأخذ لولا أن العجوز أخذت بضبعيها واضطرت إلى نصب قامتها المنحنية مكراً وحيلة ولولا سذاجة منيرة وجهلها لفطنت لذلك التصنع واسترابت ولكنها لو فطنت لأولتها على الكرامات والبركات، وازداد التعب بمنيرة فاضطرت أن تخفف حملها فسلمت حقيبتها للشيخة أم صالح فأركبتها حماراً وامتطت الآخر وبعد لأي ما وصلتا إلى أطراف الغابة فنزلتا ودخلتا بين أدغال الأشجار وأوحال المستنقعات وكأن الظلام فنان جهنمي يأخذ أشباح الأشجار فيصورها بأزميله بصور شياطين ومردة تتخيلها منيرة المسكينة فترتجف خوفاً وهلعاً تزيدها أصوات السباع وفحيح الأفاعي والحشرات هولاً على هول ورعباً على رعب وبعد أن وهت قواها من التعب والخوف خارت عزائمها لولا أن لاح لها بصيص ضياء كنور الحباحب وسمعت هدير أمواج البحر الغربي تتكسر على صخور الساحل كأنها تحاول جرها فتعود صاخبة غاضبة لتعيد سيرتها الأولى وما عتمت أن أبصرت نفسها أمام كوخ مبني من أخشاب الغابة وقد غطي بالحشائش والطين كسائر أكواخ صيادي السمك وقد جلس فيه شيخ إلى جانب نار ضئيلة يحرق فيها بخور المصطكي واللبان وله لحية بيضاء طويلة وحاجبان متدليان على جفنيه وغضون وجهه أشبه شيء بتموجات الرمال بعد العواصف الهوج وبيده سبحة طويلة وهو يهمهم ويدمدم .
الله هو . الله هو . الله هو . سبوح قدوس رب الملائكة والروح . سلمت أم صالح فلم يرد السلام لاشتغاله بالذكر فجلستا في جانب من الكوخ وانتفض الولي فجأة انتفاضة المتواجد وخرج من الكوخ خروج الطلقة من المدفع السريع وساد صمت مهيب والظلام حالك يزيده بصيص تلك النار وحشة وإرهاباً فضاقت الأرض على منيرة بما رحبت وندمت على مجيئها إلى هذا المكان وتمنت لو أنها تركت الأمور تجري في أعنتها ولكن ثقتها بأم صالح عمياء وكأن العجوز قرأت أفكارها فخوفتها من إطلاع الولي على ما يجول بخاطرها فازدادت ثقة بالشيخة واعتقاداً ودخل درويش من دراويش الشيخ وبارك بضيوفه فقبلت منيرة يديه ورجليه وقرأ عليها ما تيسر وبشرها بانقضاء أملها وأن الشيخ في غيبوبته في الكوخ الثاني يهذي بألفاظ تدل على نجاح مقصده وأنه قد وكل بها طشطرائيل من مردة سليمان بن داود وأنها سوف تحبل فتلد طفلين توأمين ولتسم الأكبر معروفاً والثاني جنيداً فاستبشرت وأشرق وجهها وخرج الدرويش وبعد هنيهة أتى درويش آخر وقال اتبعيني لأبخرك ببخور البركة حتى تطهري وتتتهيئي للسلام على الشيخ فأدخلها في كوخ مظلم ووضع أمامها مجمرة من الخزف عليها قليل من اللبان وجرة فيها ماء وأوصاها أن تختلي بنفسها فتتوضأ وتستجمر بذلك البخور إلى أن يأتيها ليقدمها للشيخ . توضأت منيرة وتبخرت وانتظرت وطال بها الانتظار وكلما سمعت عواء بنات آوى يدوي في الغابة زادت وحشتها، وكلما طرق سمعها حفيف الأشجار ظنتها خطوات الدرويش إلى أن طلع الفجر وأقبلت تباشير الصباح وأخيراً ذر قرن الشمس فلم تطق اصطباراً وخرجت تنادي أم صالح !!! أم صالح !!! فلم يجبها سوى الصدى ورأت نفهسا وحيدة فعرفت كل شيء، الحقيبة وفيها كل المجوهرات والحلي عند أم صالح ! ذهبت الحقيبة ؟ ماذا تقول لعبدالقادر إذا قدر لها الرجوع واستعادت في ذاكرتها ساعة البشارة وسمعت كلماته ترن في أذنها : ( أي شيخة ؟ تلك البلهاء المجنونة ؟ تلك العجوز الورهاء ؟ أبلغ بك الجهد إلى هذه الدرجة ؟) توالت عليها الأفكار من كل جانب ودب اليأس إلى قلبها وزادها السهر والتعب ضغثاً على ابالة فأخذت تلطم وجهها كالمجنونة وخرجت تعدو إلى ساحل البحر ففتحت كفيها وقالت اللهم عفوك ومغفرتك ورمت بنفسها في اليم ولو كنت واقفاً أمام ذلك المنظر المؤلم لرأيت كلاب البحر وكوسجاته يتسابحن بسرعة وهكذا كانت الخاتمة .

القطيف في 4 شعبان ( لها بقية )
ذكرت الصحيفة بأن للقصة بقية . ولكن
خالد الفرج لم ينشر شيئاً بعد هذا النص
جريدة البحرين
29 ذي القعدة 1360 هـ
18 ديسمبر 1941م
بين البداية والنهاية

بين العدمين

(إليك أيتها الشعلة التي انبثقت أمامي حينما كنت في مبتدأ معمعة الحياة، إلى منبع الوجود .. إليك . ف . م )
(رفع الستار لليلة قدرها خمسين عاماً)
ها أنذا قد جئت فماذا أرى، عالم وهياج وازدحام وتقاتل، ما معنى هذا، ماذا تريد مني، آه ما أحلى العدم .
في طريق الحياة . وجدت أشواكاً ذات رؤوس حادة، عندما اقتربت منها أحسست بوخزاتها، وسمعتها تقول : ها أنت تسير في طريقي، لقد اكتنفتك بظلماتي من كل جانب فيك، والسعادة التي تتغنى بها كما يتغنى غيرك، شيء وهمي . أما الحقيقية فهي مرَّة، مرَّة بالتصور واللمس، ألا تحس بوخزاتي .
كنت أعتقد بأني سأسير في طريق الحياة على نمط واحد، لا تغيره الأشكال ولا تقدمه التفاريق . وانظر من حولي فأجد السعادة حلوة صافية بلون لا يعتريها كدر (!) . ولا تغير طعمها الأعوام . عندئذ آمنت بأن الحياة ذات طريق واحد لن تتبدل .. ومع ذلك فإن هناك حلقة مفقودة ...
مضت أيام صباي بتؤدة حيناً، وبسرعة مدهشة أحياناً، وأحسست بدم الشباب يغلي وبركان من جحيم لا أدري منبعه . وهناك عرفت حقيقة ذات صبغة خيالية حلوة وصرت وسط ذلك الجحيم الهائل، والعجيب في أمري أني كنت في هذا السير أصيح بواد من خيال لذيذ حلو وبقيت في الظلمة الدكناء يكتنفني شيء لا أعرف سره . وبعد ذلك فهمت الحقيقة الثانية من حقائق الحياة وهي أن الطريق تتشعب . وكان هناك شيء ناقص فيّ أيضاً .
وساد الظلام مرة أخرى بكثافة لم أعهدها حين فهمت الحقيقة العليا للوجود وأساسه حقيقة (كذا) هي التي أقامت الحياة وأقعدتها، وبنت المجتمع، و(هدمته) بيدها، حقيقة يراعيها كلا الجنسين . ويزدريها الجميع، حقيقة قامت كي تنمي البشر، وتكثر نسل هذا الإنسان المسكين، حقيقة نعمرها نحن، ونخربها نحن أيضاً .
حقيقة بكى عليها الفيلسوف، وضحك لسمعها المجانين من أرباب حب الدماء . حقيقة، طالما سفكت عليها الدموع، واستهتر بها الفوضويون، حقيقة أودعها الباري كسلالة لهذه البشرية المسكينة .
وفي هذا الدور بدأت الظلمات تضيق عليّ الخناق تدريجياً وعندما انقشعت كنت أؤمن بأن هناك شيئاً ناقص (كذا) بالنسبة لوجودي .
وعندما بدأت أفهم ذلك تبددت الظلمة عن شعلة . شعلة كانت كالشمس عند بزوغها وكالحقيقة النورانية لأذهان أهل العقول الباحثة . والتقت الشعلة من حولي ثم هجمت عليَّ . فشعرت بها وأحسست بالدم الفوار يجري كالسيل الجارف من جسمي ومن خلال خطوطها الذهبية التي ظهرت لي، برزت فنفذت من دياجير الظلام الحالك.
كنت أعرف أني ناقص ذلك لأن أبي الأول من قبل كان يعرف من أول يوم خلق أنه ناقص أيضاً . والقدرة الإلهية هي علمته نقصانه، وأفهمته الشيء التكميلي له، كنت أعرف أني ناقص لأن الدم الجياش كان قد تسرب إلى عروقي بشكل واضح جعلني أعرف الحقيقة كما لو كنت أعرفها من قبل ومن خلال النور جاءت المنقذة ومع ذلك كنت لا أعرف شكلها البتة لأني أبي الأول كان لا يعرف شكله الناقص، نعم أعرفها كما صورها لي الذين جربوا الحياة في (الليلة) الماضية، حين كنت أنا في إحدى ضواحي العدم، ولكنها لم تكن كما صورها ذلك المصور، لأنه أوضحها لي بشكل كان من ضروريات الحياة، ولكنه غير تام بالطبيعة اللاهوتية الحقة، وتوالت على شبابي الأيام فعرفت الصورة الحقيقية وحللت رموزها، وفهمت معجماتها .
كنت أظن أنها شيئاً اعتيادياً (كذا) يرمي إلى زيادة النسل ولكن حقيقتها كانت تفوق ذلك، أكبر وأنزه شيء آخر (كذا) بجانب ما كنت أتصوره .
إليك يا من حملت أمامي مصباح الحياة الوضىء .
إليك يا من كنت أعرفها أول ما خرجت إلى هذا العالم، إليك أيتها الزوجة الصالحة، إليك يا من زادت في إيماني بالخالق، وبالحياة، إليك أيتها التي أنقذتني من شرور الوحدة، بعد ما استلمني القنوط، إليك أيتها الطاردة عني أشباح الآثام والفجور، إليك يا من أوردتني مناهل القلم ودفعتني إلى السير الحثيث وراء الآمال والأماني، إليك يا من أدخلت في قلبي الحرية فأرتني من خلال ضوئها الوهاج طريق الحب الصادق .
إليك أسوق هذه الحقيقة الهائلة ..
منذ خلق العالم وأحداثه، كانت هناك نهاية واحدة للجسم لا تتغير مهما كانت الأشكال وهذه النهاية تتكون من بداية واحدة وهي الوجود . للإنسان في هذه الحياة أن يسير إلى طريق تمتد من الوجود والعدم . وبين تلك وهذه شئ واحد عرفته بعد أن عرفتك أنت وعرفت أنه أساسهما المتين .
ودارت الأيام دوراتها فإذا منقذتي تصرخ وإذا من حولها أناس يجيئون ويذهبون وألتفت فرأيت بصيصاً من نور لم يلبث أن تحوّل إلى وهجة حمراء، ومن خلال فجواته أطلّ شيء جميل مفرح، شيء هو أساسي وأساسك وأساس العالم أجمع واستبنته فإذا هو وجه طفل، طفل تكسوه البراءة والدعة والاطمئنان ودارت عيناه على محور واحد وحول كل شيء في تساؤل، ثم استقرت فالتقتا بعين أمه .
وبقيت أنا هكذا صامت كالتمثال، كنت أفكر في خالقه وقدس اسمه وقطع عليّ حبل تفكيري لأول مرة عنه إذ سمعته يقول بتساؤل من عينه ها أنذا قد جئت فماذا أرى، عالم وهياج وصمت، ما معنى هذا ماذا ترون مني .
سمعتها تجيبه : ذلك ما قاله والدك من قبل حين كان مثلك الآن وها أنت أيتها الثمرة الطيبة، لتلك البذرة الطاهرة، بدأت تسأل .. فلسوف تفهم كل شيء ولكن انتظر ..
(أسدل الستار على الفصل الأول)
وأقول بأن الطفل انتظر كما أمرته أمه ومرت أيام طفولته عليه كالحلم الجميل ودارت الأيام وإذا الفجر يتنفس ونوره يبتسم وإذا ذلك الطفل شعلة وهاجة من شباب وإذا بالدماء تجرفه جرفاً قوياً فقد آن أوان الأحلام .
وعندها رفع الستار ثانية عن مشهد هو بعينه ما كان في الفصل الثاني بتغيير قليل وفي المساء رأيت الشمس تنحدر إلى المغيب بشكل يأخذ بمجامع الأفئدة.
وتوارت الشمس وراء التلال، على فرش من دلال وتغنُّج، وعاد الراعي يزمِّر بأغنية الرجوع إلى صومعته فسمعته الغنم وهرعت إليه، وفي نفس الوقت كانت الرواية قد تمت فصولها ومناظرها ولم يبق منها سوى المنظر النهائي، منظر يجمع الكل ويخصم الكل ويعيد الكل ..
شيء يعرف بأن الزمن الحق قد آن . والساعة التي لا شك فيها قد قربت، لحظة هي التقديم لما قدم وأخر، وعرفت أن الشيء الأخير قد بدأ وأن نهاية الحياة قد آنت فسمعتها تقول : ألم يحن وقت رحيلك، وإن هذا أجلك قد تم . فهيا ارحل عني فإني سمعتك، لقد عشت أكثر ما كنت أقدره لك، هيا ارحل لأستقبل مكانك أضيافاً جدداً غيرك فأجبتها بصوت ترتعش له الأبدان والأرواح )ليت عندي من القوة ما يمكنني من تحريك القلم حتى أشرح سهولة الموت ولذته ).
ولكن على الأقل دعيني أقول :
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. آه .. آه ..
قال صاحبي ذلك ثم لفظ نفسه الأخير بين يدي
قلت : الحقيقة مرة . مرة بالتصور فها أنذا أحس بوخزاتها .

الكويت
فهد اليوسف المنيس
جريدة البحرين
13 نوفمبر 1941
من عدسة الحياة التائهة

حائرة

( إلى التي أنا مدين لها بالكثير مما أكتب )
في الحجرة المجاورة لي كانت تقطن فتاة في غاية من الجمال والحسن . والجمال ذو أثر عظيم في نفوس الأدباء والكتاب فهو الذي يهيب بهم ويحفزهم إلى مسك الأقلام والتحبير بها موضوعات من الأدب والفن تدل دلالة واضحة على مبلغ تأثر الكاتب وتقيسه بذلك النوع من السحر .
فكانت هذه الفتاة الحسناء تخرج في الصباح الباكر ثم تعود إلى مأواها عند الغروب أو قبيله، وكثيراً ما رأيتها وحدها في الأيام الأخيرة في تلك الغرفة تقضي سحابة يومها دون أن تخرج إلى الهواء الطلق للنزهة أو التفرج، أو لشراء شيء من ضروريات الحياة . كما هي الحال عند سائر الفتيات في تلك الأرجاء.
فأدهشني ذلك الانزواء وتلك الوحدة لمثل هؤلاء الغانيات اللائي لم يخلقن إلا لترويح النفوس البشرية ومواساة القلوب المكلومة التي أفجعتها الحياة المادية الغاشمة، والترفيه عنها بما يحملنه من خفة ودلال وجمال، يبدينه في كل لفتة من لفتاتهن المغرية وفي كل عطفة من عطفاتهن الخلابة : وفي عيونهن اللاتي لا يفتأن يصوبن سهامهن ونبالهن إلى القلوب فيقتنصنها ثم يجفلن كالمهاة المذعورة .
وقد أخذ هذا الدهش مني مأخذاً لم يأخذه من قبل، آلمني ما كان يبدو على ملامحها في الأيام الأخيرة من سحابة دكناء تحجب صفحة ذلك الوجه الجميل فيبدو ما يكنه ذلك القلب من لواعج وآلام يراها ويلمسها كل من قاسى هموم الحب وعذابه في يوم من أيام حياته وفي ليلة من ليالي الشتاء الموحشة ذات البرد القارص، في حوالي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل عندما كان الناس في مضاجعهم يحلمون في سباتهم العميق وقد فارقوا الحياة كأن لم يكونوا من أبنائها في تلك الساعة عندما كان الهدوء والسكون مخيمين على العالم في تلك الساعة الرهيبة من الليل استيقظت فجأة على إثر صوت ناعم رخيم تتفتت له القلوب حسرة وتتطاير له الأكباد حناناً .
فقمت على الفور بخطى ثقيلة موزونة وتقدمت إلى الحائط المجاور وأرهفت أذني علني أسمع شيئاً ولكنني لم أسمع غير الأنين والبكاء فهالني الأمر وراعني وقلت : لعل طارئاً من طوارئ الظلام أو شبحاً من أشباح الليل ألم بهذه الفتاة المسكينة فأوحشتها الوحدة فأخذت تفتش في أطراف الحجرة وزواياها عن مؤنس تأنس له فتطرد غادية الوهم وكابوس الخوف من بين جنبيها . فلم تر ما كانت تفتش عنه فأخذت تستذرف الدموع . والدموع هي البلسم الناجع لغليل القلوب الملتهبة يسكبها أصحابها في ساعات وحدتهم وانفرادهم حين لا يجدون من هذه الحياة مواسياً ومعيناً . فرثيت لها وأتيت إلى ثيابي فارتديتها ثم خرجت شطر غرفتها وطرقت الباب بخفة لا يكاد يشعر فيها إلا من كان مرتقباً ذلك بفارغ صبر وبعد برهة وجيزة أظنها كانت تجفف دموعها فيها وتستجمع قواها خلالها قالت بصوت متهدج أكسبه الحزن والبكاء سحراً ينفذ به إلى صميم القلوب فيصيبها : من أنت ؟
فقلت : جارك . . .
فقالت : تفضل !
فدخلت وسلمت ثم جلست على كرسي أمامها وبدأت : أرجو ألا أكون أزعجتك بهذه الزيارة في مثل هذه الساعة ويعلم الله أني لم أقدم على هذا الإزعاج والإقلاق إلا لأتمكن من إسداء قسط من الواجب المقدس حرمة للجار ! إذا تفضلت فسمحت لي بذلك ! فأجابت إنني أشكر لك هذه الأريحية وكل ما أرجوه هو أن تستمع لما سأسرده عليك . ثم زفرت زفرة تخالها النار المتأججة تخرج من أنفاسها وقالت :
أنا فتاة من فتيات . . . أرسلني والدي إلى المدرسة الابتدائية ثم الثانوية . وقد حصلت على الشهادة الثانوية منذ سنتين تقريباً وبعدها بأسابيع بدأت عملاً تدريسياً في إحدى مدارس البنات هنالك . وكان لي ابن عم يتعلم في أوروبا وقد رجع إلى بلاده بعد أن أتم دراسته،فلم يكن من والدي إلا أن أرغماني على الزواج به فقبلت مكرهة ولم أكن أعرف عنه إلا اليسير من عاداته وأخلاقه، وذلك قبل سفره إلى أوروبا ولم أكن لأقف على شيء من أمره إلا بالنزر القيل وبعد بضعة أشهر من قدومه تم العقد ولحقه الزواج وذلك منذ أسبوعين تقريباً . . وقد حملني إلى هذه العاصمة في هذا النزل لتمضية شهر العسل على زعمه ولكنني أدركت منذ اليوم الأول أن الحياة بدأت تتنكر لي وظهر لي من أمر هذا الرجل ما كان خافياً عليّ ولكنني مع كل هذا كنت أتعزى بالمستقبل والمستقبل عظيم الغور . لا تصله يد الإنسان، حتى أن خرج صباح يوم الأحد الماضي لشراء بعض ما يلزم من أثاث منزلي، يتحفني به في هذه العاصمة .
ولكن ويا للأسف . . . - وهنا انحدرت من عينيها الواسعتين عبرة أغزر معنى من معاني الحب والوفاء - . . . ها قد مضى أسبوع على ذهابه ولم أعثر على خبر منه وأنا وحيدة في هذه الديار لا مؤنس لي فيها ولا معين . فكنت أعلل النفس بشتى الأماني وأهدئ ثائرتها من حين إلى آخر بالوعود المعسولة التي كثيراً ما يخدع الإنسان بها نفسه إلى أن جاءني المكتوب (التالي) فانقطع بذلك آخر خيط من خيوط الأمل، وهوى آخر نجم من نجوم السعادة : ثم مالت إلى اليمين وتناولت الرسالة المشؤومة وأخذت تقرأ :
حبيبتي . .
. . . لك أن تختاري من تشائين من الرجال، لأنني لست زوجاً لك وهذا هو آخر عهد بيني وبينك، والسلام عليكم من الجاني عليك الراثي لك . . .

المحرق - محمود يوسف
جريدة البحرين
1 يناير 1942
من عدسة الحياة التائهة

الشاعر . . !

(إليها، ذات الثوب الأرجواني)

. . . . . . كنت أختلف مساء كل يوم إلى منزل صديق لي، حيث كنا نمضي السهر بضروب من السمر منوعة، وأطراف من الحديث شيقة، وفصول من المداعبة متباينة ومتغايرة وكنا نسلك طريق الجد تارة والهزل أخرى، ونلج ساحة الحب طوراً - ولا غرابة في ذلك - فالحب والغزل والسمر إن هي إلا نزوة من نزوات الشباب وأحلامه . فكان ذلك دأبنا وتلك سيرتنا، حتى تدق الساعة الحادية عشرة والنصف من الهزيع الأول، فيختتم الجلسة الممتعة شاب وقف نفسه لهذا اللهو النزيه بأسطورة مضحكة أو فصل هزلي لا تلبث أن تتصاعد على أثره ضحكات الشباب الحالمة، ممزقة سدول الليل وهدوئه، آخذة طريقها في جوف الظلام إلى الملأ الأعلى .
وكنا نؤوب إلى بيوتنا بعد تمثيل هذه الأدوار المختلفة، وقد امتلأ كل منا غبطة وسروراً ما عليهما من مزيد، وبهذه وأمثالها، نزيل عادية العمل المنهك، وندرأ ما يعتورنا من الضنى طيلة يومنا العملي، وإنها لجلسة حميدة، تغاير جلسات الآخرين وسهراتهم، حيث لا تتعرض لنقائض الناس وسوآتهم، ولا تنال من أعراضهم وكرامتهم، ولا تحط من أقدارهم وقيمهم كما هي الحال في جل المجامع وأغلب الأنية ثم نقوم في الصباح الباكر كل إلى عمله، غاية في النشاط والخفة .
فبحكم التكرار والترداد، كانت تسوقني قدماي إلى هذا المنزل العتيد مساء كل يوم دون أي إرادة أو تعمد إليه، ولكنها خدعتني مرة حيث أخذتني إلى طريق مقفر من المارة كله هدوء وسكينه، لا غاد فيه ولا رائح ولا حركة، كأنما هو مهجور من مئات السنين وكأنما الطبيعة الجائرة أنزلت معاولها منه فصيرته قاعاً بلقعاً فيه الطيور الكواسر، وتأوي إليه الجوارح الضارية، وما هو بذلك، غير أنه بعيد عن المدينة فلا يسلكه ولا يعبره إلا من رشق قلبه بسهم من الحب يلوذ بالوحدة ويأوي إلى الانفراد - في هذا الشارع ليفرغ بينه وبين نفسه وينزوي عن ضوضاء هذه الحياة الصاخبة المتوفرة في المدن ساعة من ليل يتسنى له القيام بمغازلة من يهوى على متن الأثير .
دخلت ذلك الشارع الخافت وبدأت أمشي الهوينا، كأنما أفتش عن شيء مجهول بدافع، نفساني، فصرت ألتفت يمنة ويسرة وأماماً وخلفاً كالمشدوه، لعلني أعثر على ضالتي مع جهلي بها، وبقيت على ذلك مدة طويلة اجتزت خلالها معظم الطريق وابتعدت عن المدينة وصخبها دون رغبة فيه أو سعي إليه وإنما خوالج النفس الكامنة وعوالج الحب المقبورة هي التي حملتني على كل هذا، فما أعظم سلطان كيوبيد، وما أشد سطوته ونفوذه .
جلست على صخرة كبيرة في هذا القفر لأستريح من وعثاء المسير، ولأحدق فيما يحيط بي من حياة واجمة دكناء، لا أكاد أستشف من بينها تلك الآمال الجسام، التي لعبت بها الأقدار ردحاً من الزمن فطوحت بها في هذا العالم اللانهائي، حيث كتب لها الرسوب والاستقرار . ولأتطلع إلى ما يحيق بي في عالم الحب والهوى من أنواء وأعاصير، عصفت بتلك البقية الباقية من ذلك الطموح الذي طالما قصفت به رياح البين على صخور الموت فأودت به ووأدته.
رفعت بصري إلى السماء فهالني منظر الفضاء الواسع وقد زركشت سماؤه بالنجوم المبعثرة التي لا تفتأ ليلها ونهارها تحقق خفوق القلب المفجوع فترنو إلي الأفئدة المنكوبة بنبرات ملؤها التسلية والحنان .
أجلت الطرف وسرحت النظر فرأيت القمر ليلة أطل من عليائه وقد أرسل إليَّ شعاعه الضئيل من وراء الغيوم المتلبدة فأنار لي عالماً غريباً من الحب والشعر والخيال ثم أخذ هذا الصديق يختفي فيظهر ثم يختفي خلف السحاب المتراكم كأنه يداعبني بظهوره واحتجابه ليرفه عن نفسي المكومة ويدرأ وحشة الوحدة وآلام الجوى .
شكراً لك أيها الصديق الأبر الذي تحدثت إليك في هجعة من الليل وقد هجرني أحبائي في الحياة وشكراً لك على ما ترسل إليّ من نور أزلي ينير لي جوانب الحياة المتداعية عندما أجلس إليك أبثك أشجاني وأحزاني وقد رقد الناس .
وبينما أنا مستغرق في هذا الحلم الهانئ اللذيذ وقد استسلمت لسلطان من الخيال : فإذا العالم قد تغير ولبس شكلاً جديداً لا عهد لي به وإذ أنا في أرض غير هذه الأرض وبين أناس غير هؤلاء الناس فمر بي شيخان يتهادان في مشيتهما وقد بسط كل منهما ذراع الآخر كأنهما حبيبان في وقدة الحب وبداءته.
قال لي أحدهما وهو ضرير :
(أأنت في انتظار أحد مّا أيها الغريب ؟)
فحاولت إنكار ذلك وقلت :
كلا ! لست في انتظار أحد مّا أيها الشيخ !
ولكنه ابتسم ابتسامة الشيخوخة الوادعة وقال :
ليس هذا العالم كما تعهد يا ابني ! وإنما هو عالم حقيقي آخر تنكشف فيه الأسرار والغوامض على ضوء من الجمال وتشع فيه كوامن النفس المخبوءة من وراء الأحقاب والأجيال فتأتي ناصعة وضاءة، يقرؤها كل فرد في هذا المجتمع دون أن يتكلف عناء البحث والتنقيب اللذين هما من مميزات الحياة الفانية .
ثم تابع رفيقه الكلام وقال :
وليس هذا العالم كذلك العالم الذي تركته وهجرته تصطخب فيه المفاسد والآثام، وتنكر فيه المطامح والآمال على مديح الشهرة الخرقاء والظهور الأجوف وإنما هو عالم صادق تبزغ فيه شموس المطامح والآمال على حياة من السعادة والكمال يكتب فيها الخلود .
فقلت في نفسي يا لهما من شيخين يضربان على وتر القلوب فيهزانه طرباً وفرقاً . ولكنني تابعت الحديث وقلت :
هلا أعلمتماني عمن تكونا أيها الشيخان الجليلان وجعلتماني بذلك جد شكور ؟!
فقال الشيخ الضرير وقد هم بالانصراف :
ليس بوسعنا أن نجيبك على سؤالك يا بني ! ما دمت راجعاً إلى عالمك الأرضي عما قليل ولكنني أستطيع أن أقول لك إذا كنت في حاجة إلى معرفتنا فاقرأ ما تكتبه في الطبيعة : وهنا وقف عن الكلام برهة ثم قال :
(حيث ترى الجبال الشامخة تصارع الموت وتنازله، فيملأ قلبك الخشوع والرحمة والحنان )
( حيث ترى الوديان الساحقة تلتوي في جوف الأرض، فيحدوك ذلك إلى التفكير في هذا العالم ).
( حيث ترى المياه والأنهار تجرف أدران البشرية إلى بحر الفناء فيستولي عليك وينسيك الحياة ).
( حيث ترى البحار الهائجة تقتلع سفن المطامع المزيفة فيقفك على كثير من مساوئ الناس !).
( حيث ترى الرياح والزوابع تقصف بالأرض، فتغسلها مما علق بها من شوائب الكذب والنفاق والرياء والمصانعة ثم تجلوها فتجعلها طاهرة نقية أمام عينيك !).
( حيث ترى المزارع والحقول تجشم (كذا) في جيد الطبيعة وحيث ترى الورود والزهور تخلع عبيرها وشذاها على البسيطة فتعطرها بعدما أزالت الأعاصير آخر نكهة فيها ! وحيث ترانا في كل ما يحيط بك وفي كل ما يولد في نفسك الشعور بالجمال ! . . . . . . . . وما إن وصل في حديثه إلى هذا حتى حال صوت السيارة التي مرت بجانبي وأنا على تلك الصخرة بيني وبينها فإذا أنا وحدي . . . فيممت شطر البيت حيث كنا نجتمع كل ليلة .

المحرق - محمود يوسف