القصة القصيرة في الخليج العربي
(الكويت والبحرين)
دراسة نقدية تحليلية

البحرين
2000 م

الحركة الإصلاحية
ووضوح الشخصية المحلية

تعتبر حركة الإصلاح الوطني العامل الأساسي في بروز الشخصية المحلية ووضوح سماتها ونمو وعيها القومي . ويرتبط ظهور الشخصية المحلية ووضوح معالمها في سائر المجتمعات بنشأة القصة القصيرة والرواية ونموهما . ويمكن ملاحظة ذلك في نشأة الفن القصصي في أوروبا والوطن العربي أيضاً . ففي مصر كان ظهور الفن القصصي ) ثمرة للبرجوازية المصرية التي بدأت تهيمن على مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعقلية والأدبية جميعاً، وكل هذه المظاهر ترد في لبابها إلى نبع رئيسي، هو يقظة الوعي القومي بمصر، لم تكن الشخصية المصرية واضحة المعالم والسمات بل كانت ضائعة في غمار التيارات الأجنبية، ومن ثم اتجهت الأفكار إلى تقويم الشخصية المصرية ومحاولة بناء هذه الشخصية )(10) فجاءت القصة القصيرة في مصر لتصور معالمها وتصوغ تحولاتها الكبيرة التي وسمتها بالمظاهر الحديثة المستقلة بخصائصها الحضارية المختلفة .
وفي مجتمع الخليج العربي وخاصة في البحرين والكويت نجد أن وضوح الشخصية المحلية واستقلال خصائصها ارتبط من ناحية بمعطيات الحركة الوطنية التي استقلت داخل المجتمع، وارتبطت من ناحية أخرى بحركة التحرر القومي في الوطن العربي، ولم يختلف المصلحون والوطنيون في هذا المجتمع عمن سبقهم في الدول العربية وخاصة من حيث التأثر بالأفكار التحررية، وأشكال الديمقراطية الحديثة التي أرستها الثورات الأوروبية الكبرى، بل إنهم تأثروا كثيراً بالدعوات الإصلاحية التي ظهرت في مصر منذ أواخر القرن التاسع عشر، وكما استغرقت الشخصية العربية في مصر والعراق وبلاد الشام فترة طويلة بحثاً عن استقلالها وهويتها ويقظتها، كذلك حدث في الخليج العربي الذي تطلع الوطنيون فيه إلى منجـــزات حركات التــــحرر

العربية وحرصوا على ترسم معالمها من أجل الانتهاء إلى ما انتهت إليه .
وقد ارتبطت فكرة وضوح الشخصية المحلية وبروز وعيها القومي بقضية الديمقراطية وذلك لأن الإصلاح الوطني يسعى بطبيعته إلى هذه الديمقراطية ويضعها ضمن برنامجه الإصلاحي . فالمواطن الذي ينتمي إلى عامة الشعب لا يمكن أن يكون له تأثيره وقيمته إلا من خلال ما يناله من حريات، لذلك فإن الحركة الإصلاحية في الخليج العربي دأبت منذ بواكيرها في التأكيد على هذا المسعى حيث كانت تضع على رأس مطالبها في الإصلاح السياسي والاجتماعي وضع دستور يحكم البلاد أو تكوين مجلس شورى يشارك الأهالي فيه بإدارة الشؤون العامة . وهذا يشير بوضوح إلى أن الشخصية العربية في الخليج كانت منذ وقت مبكر تبحث عن نفسها رغم التخبط والعزلة والقهر السياسي .

ورغم العزلة الرهيبة التي فرضها الاستعمار البريطاني على الشخصية العربية في الخليج العربي وسياسة التفرقة الطائفية وتمجيد الحكم المطلق وتجزئة المنطقة وخلق مشاكل ذات حساسية قبلية بين العائلات الحاكمة على الحدود التي لا زالت آثارها واضحة .. فقد تمكنت هذه الشخصية بنضالها المستمر من كسر جدار هذه العزلة والاندفاع نحو التعبير عن رفضها واحتجاجها وغضبها، وهذا التعبير هو الذي بلور معالمها الشخصية والحضارية ووصلها بتراثها العربي كما ربطها بحياتها المعاصرة .

وتعتبر فكرة القومية العربية التي ضج بها الشعب العربي خلال الأربعينات والخمسينات بمثابة الدفعة القوية التي وضعت للشخصية المحلية خلاصاً فكرياً وطريقاً نضالياً واضحاً . فكما ساعدت هذه الفكرة على وضوح الشخصية العربية في مصر وسوريا والعراق نجدها تقوم بنفس الدور في صياغة خصائص هذه الشخصية في الخليج العربي، فعندما قويت الحركات الوطنية في الوطن العربي في نضالها ضد الاستعمار ودعوتها إلى حب الوطن وخاصة إبان أحداث اغتصاب فلسطين وجدنا بعض الشباب المتعلمين في الكويت يقبلون ) دعوة وجهت إليهم للنضال ضد المستعمر محلياً، مما يخدم الحركة العربية في كل مكان، فكان أن زار عدد من الشباب الكويتي كلاً من العراق وسوريا واتصلوا بكثير من مراكز الشبيبة (*) في بغداد ودمشق، وتفهموا الأفكار التي ينادي بها هؤلاء، سواء المتصلة بالاتحاد أو بالحرية، فلما عـادوا إلى الكويـت بـدأوا يعـربـون عـن غضبهـم مـن الوجـود البريطاني عن طريق اعتراضهم على تعيين الموظفين الأوروبيين والهنود في البلاد ونادوا بالإصلاح ((11) لذا فقد أثر المد القومي العربي في الحركات الإصلاحية تأثيراً كبيراً . ويمكن ملاحظة فعالية هذا المد في حركة عام 1938 في الكويت التي طالبت برفض معاهدة الحماية بين بريطانيا والكويت أما في فترة الأربعينات والخمسينات فقد عبر المد القومي عن وجوده بصورة قوية من خلال الكثير من الصحف التي تبنت هذا الاتجاه علانية وأخذت تبث أفكارها عن القومية العربية بشكل مستمر .

وفي البحرين واجه النفوذ السياسي صعوبات كثيرة في كبح جماح تيار القومية العربية وتغلغل المبادئ السياسية الحديثة بين الصفوف . فقد أضرب العمال عام 1947 وهاجموا منشآت بعض الشركات الأجنبية، ) وبعد تقسيم فلسطين من قبل الأمم المتحدة وقيام الكيان الصهيوني في جسم الوطن العربي عام 1948 تفجرت المشاعر الوطنية .

وكان سخط الشعب العربي في الخليج وخاصة في البحرين والكويت على الإنجليز سخطاً مبيتاً وعنيفاً في الوقت نفسه لأنه تجرع لفترة طويلة العسف والجور ومكابدة العزلة والتخلف . وعندما وقع العدوان الثلاثي على مصر وجد الفرصة للتعبير عن هذا السخط في أرجاء المنطقة كلها ) وترددت أصداء العدوان الثلاثي في البحرين بشكل ليس له نظير في الإمارات الأخرى، فلم يقتصر الأمر على المظاهرات المعادية للإنجليز بل تجاوز العمال ذلك، فدمروا أنابيب البترول على نمط ما فعله عمال سوريا (12) .

وأشاعت فكرة القومية العربية بين نفوس شعب المنطقة نوعاً من التآلف والمحبة ودفعتهم إلى التماسك الاجتماعي، وزعزعت بعض القيم البالية بل إنها ساهمت في القضاء على النزعة الطائفية عندما وحدت مشاعرهم نحو الوطن، وأثارت فيهم النخوة العربية التي عملوا بها على محاربة الهجرة الأجنبية، وسياسة تفضيل الأجانب في سوق العمل .

وكل ذلك كان يعني بالدرجة الأولى أن الشخصية العربية في البحرين والكويت بدأت تعثر على نفسها بين التراكمات المزمنة التي كانت تحجب تطلعاتها منذ فترة طويلة . وذلك بعد أن انبثقت معالمها الذاتية من داخلها ومن خلال تأثرها بالتيار القومي، وإذا كانت لم تتمكن في نضالها من التحرر بالقوة من الاستعمار والتخلف فإن ذلك لا يرجع إلى ضعف شخصيتها النضالية ولكنه يرجع إلى الظروف السياسية الشائكة والمعقدة التي تحيط بمنطقة الخليج العربي وتجعله بؤرة مقيمة للقوى الاستعمارية في العالم. وهكذا فمن خلال هذه التحولات السياسية أصبح للشخصية العربية في البحرين والكويت هوية محددة تمكنت من خلالها أن تعبر عن الكثير من قضاياها وتجاربها في السياسة والأدب والصحافة، وكما ظهر الشعر الوطني وبرز بروزاً واضحاً في هذه الفترة وجدنا أيضاً أن القصة القصيرة تنمو محاولاتها ويزداد عدد كتابها، والحق أن اتساع المحاولات القصصية في هذه الفترة إنما يدين إلى وضوح الشخصية المحلية وشعورها العارم بذاتها العربية وإحساسها بالقدرة على صنع نفسها، خاصة وأنه قد رافق هذه المشاعر قيام الثورة العربية المصرية في 23 يوليو 1952 ثم نجاح قيامها في العراق أيضاً .

إن معظم كتاب القصة القصيرة في هذه الفترة، فهد الدويري، وجاسم القطامي وعبدالعزيز محمود، وفرحان راشد الفرحان، وفاضل خلف من الكويت وأحمد كمال وعلي سيار، ومحمود يوسف من البحرين، كل هؤلاء الذين يمثلون الرعيل المؤسس لفن القصة القصيرة في الخليج العربي، ينتمون إلى تلك الفترة التي شهدت وضوح الشخصية المحلية وبروز الطبقة المتوسطة وهم بحكم انتمائهم إلى بدايات هذه الفترة شاركوا فيها بفعالية كبيرة، وأكثر مشاركتهم تأثيراً في ميدان الصحافة كتابة وفي ميدان القصة القصيرة تأليفاً.