كتابة  : لويس ميناند    

                                                   

ترجمة: أمين صالح

 

 

 اللفظي

في أحد أيام مايو 1922، في باريس، طلب الدكتور فيكتور موراكس، طبيب العيون المعروف، من طالب الطب، بيير مريجوت دي تريني، أن يقوم على خدمة مريض يشكو من ألم في قزحية العين.

ذهب الطالب إلى شقة المريض، وهناك تفاجأ بمرأى مظاهر الفوضى تعم المكان: ملابس معلّقة في كل مكان، الأشياء الخاصة بالحمّام مبعثرة على الكراسي ورفّ المستوقد. ورجل يرتدي نظارة داكنة، ويتدثر ببطانية، جالساً القرفصاء أمام مقلاة تحتوي على بقايا دجاجة. أما المرأة فكانت جالسة قبالته. وثمة زجاجة من النبيذ، نصف فارغة، موضوعة على الأرضية بالقرب منهما.

الرجل هو جيمس جويس، الذي قبل شهور قليلة، في الثاني من فبراير، نشر ما اعتبره البعض آنذاك، وما يعتبره الكثيرون في الوقت الحاضر، أعظم عمل نثري في تاريخ الأدب المكتوب باللغة الإنجليزية.

المرأة هي نورا بارناكل، وكلاهما ارتبطا بعلاقة عاطفية، خارج مؤسسة الزواج، وأنجبت له ولداً (جورجيو) وبنتاً (لوسيا). كانت الشقة مكوّنة من حجرتين. لكن أحوال العائلة، من وجهة نظر طالب الطب، لم تكن نموذجية.

عُرف عن جويس أنه كان يعيش في ترف ورفاهية كلما توفّر المال، وهذا ما لم يحدث غالباً. كما اعتاد على حياة الترحال.

ولد في 1882، في رثجار، إحدى ضواحي دبلن، العاصمة الإيرلندية، في بيت مكتظ بالأطفال، حيث أنجب والداه عشرة أبناء، كان هو أكبرهم سناً. وقد غيّرت العائلة مكان سكنها تسع مرات خلال 11 سنة. وهذا الانتقال من بيت إلى آخر لم يكن دائماً إختيارياً، بل كانوا أحياناً يضطرون إلى الإنتقال ليلاً، مع مقتنياتهم المتضائلة التي يستغنون عن بعضها، هرباً من الدائنين، ولكي لا يلفتوا انتباههم.

جيمس كان الولد الأثير، المحبوب، عند والده الجذاب، المشاكس، الفاسق، المنغمس في الملذّات. وكان موضع إعجاب وافتتان إخوانه وأخواته، الذين سمّوه "جيم المشرق" لأن كل شيء يثير ضحكه. كان تلميذاً لامعاً حين يختار أن يتفوق، طفل المعجزة.

وعلى الرغم من المشاكل والصعوبات التي واجهتها العائلة في مسارها اللولبي - إهدار الأب للكثير من المال الذي ورثه - إلا أن جيمس حصل على تعليم جاد في المدارس اليسوعية. وعندما حصل على الشهادة الجامعية في دبلن، في العام 1902، كانت العائلة تعيش في الضاحية الشمالية من بلدة كابرا، في بيت بائس للغاية. وفي هذا البيت، في العام 1903، توفيت أمه، ماري، إثر إصابتها بسرطان في الكبد.

بعد عام، غادر جويس إيرلندا، وكان في الثانية والعشرين من عمره، لكنه أبداً لم يتخل عن نمط العيش الذي اعتاد عليه. مثل أبيه، كان بارعاً في سرد القصص والأخبار، وكثير التردّد على الحانات. كان يتمتع بصوت صادح ملفت (كما الحال مع أبيه)، ويحب الغناء والرقص. عندما لا يجد في جيوبه نقوداً، كان يقترض.  وما إن تتوفر لديه النقود حتى تبدو عليه مظاهر الإسراف والتبذير، فكان يحجز لنفسه ولعائلته غرفاً في الفنادق الفاخرة، ويشتري معاطف من فرْو لنورا وابنته لوسيا. كان سخياً بطريقة، مفعمة بالجرأة والحيوية، لا يفعلها إلا شخص أدمن على الإفلاس.

لسنوات عديدة، بعد انتقاله إلى أوروبا، هو شق طريقه كاسباً رزقه كمدرّس لغة في مدارس برليتز، وهي المهنة التي كرهها. هو انطلق من بولا إلى تريستي ثم روما، بعدها عاد إلى تريستي، وأخيراً إلى زيوريخ. كان يغيّر أماكن إقامته، على نحو منتظم، أينما حلّ.. أحياناً تحت تهديد مسدس مالك البيت.

في 1920 انتقل إلى باريس، حيث لقي دعماً من مناصريه، وذلك في أواخر حياته، بما أن روايته "يوليسيس" كانت محظورة في الولايات المتحدة لمدّة 12 سنة، وفي بريطانيا لمدّة 14 سنة. خلال السنوات العشرين التي عاشها في باريس، غيّر عناوين سكنه 18 مرّة.

"رجل ذو فضيلة محدودة، يميل إلى التبذير والإسراف في تعاطي الكحول".. هكذا وصف جويس نفسه في حضرة كارل يونج. في طفولته، كان ضعيف البنية، يتجنب أشكال الرياضة التي تستدعي الإحتكاك المباشر، كلعبة الرجبي. وفي شبابه، تجنّب الملاكمة والعراك في الحانات. وفي أحوال كثيرة، كانت الأمراض والنوبات العصبية تطرحه أرضاً.

الآلام التى عانى منها بسبب إصابته في العين، أرغمته على الخضوع لسلسلة من العمليات الدقيقة، الموجعة. من حين إلى آخر، كان يفقد بصره. وعندما يكتب، عادةً وهو متمدّد على السرير، كان يرتدي سترة بيضاء، حتى ينعكس الضوء على الورق. ومع تقدّمه في السن، بدأ في استخدام عدسة مكبّرة، إضافةً إلى النظارة الطبية، في عملية القراءة.

بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، واحتلال الألمان لباريس، تمكّن جويس من الإنتقال إلى سويسرا. وهناك، في زيوريخ، توفى بسبب القرحة المخرّمة، في 13 يناير 1941، وكان في الثامنة والخمسين من عمره، مع أن مظهره يبدو كما لو كان هرماً جداً.

استغرقت كتابته لرواية "يوليسيس" 8 سنوات، وكتاب "صحوة فينيجانس" 15 سنة، حيث نشره في 1939. في رسالة كتبها إلى ابنه جورجيو، في العام 1935، قال: "عيناي متعبتان، ذلك لأنهما طوال نصف قرن، كانتا تحدّقان في الباطل، حيث وجدتا العدم الفاتن".

صادف جويس الكثير من سوء الحظ في السوق الأدبية: أربعة من دور النشر رفضت طباعة ونشر كتابه الأول، وهو عبارة عن مجموعة شعرية بعنوان "موسيقى الحجرة". وقضى تسعة أعوام وهو يحاول إصدار مجموعته القصصية "أهالي دبلن"، حيث رفضتها ثمانية من دور النشر. وعلى الأقل، 13 من عمال المطبعة رفضوا تنضيد وصفّ روايته الأولى "صورة شخصية للفنان في شبابه"، ما لم يقم بحذف أو اختصار بعض الفقرات. أما مسرحيته "منافي"، التي رفضت الفرق المسرحية في إيرلندا وبريطانيا تقديمها، فقد عرضت للمرة الأولى في ميونيخ، غير أن الجمهور أعرض عنها، ولم تلق إقبالاً، وسرعان ما توقف عرضها. وفي ما يتعلق بروايته "يوليسيس" فقد احتاج إلى عامين للحصول على أمر قضائي ضد النسخة الأميركية المطبوعة من غير ترخيص. إضافة إلى ذلك، طوال مسيرته الأدبية، واجه جويس مشاكل عديدة ومتواصلة مع الرقابة.. حتى مع كتابه "صحوة فينيجانس" الذي زعم الكثيرون بأنه كتاب يصعب قراءته ويستعصي على الفهم، وهو الذي جعل مسألة الفحش في الأدب موضع نقاش.

لكن جويس كان محظوظاً مع كتّاب السيرة الذاتية.

رتشارد إيلمان بدأ في كتابة سيرة جويس في العام 1947. هذا التوقيت أتاح له فرصة الإلتقاء بأفراد كانوا يعرفون جويس جيداً. كان إيلمان باحثاً نشطاً وكاتباً بليغاً، وكان متخصصاً في الأدب الإيرلندي. هو فهم جويس بشكل جيد.. "هذا الكائن الرائع والعجيب الذي حرّك الأدب واللغة من غير انقطاع". كما إنه فهم أعماله. ليس كل كاتب سيرة أدبية يسعى لما سعى هو في الحصول عليه.

صدر كتاب إيلمان "جيمس جويس" في 1959. وقد تحمّس له الروائي الإنجليزي أنتوني بيرجس (المتعصّب لجويس) واعتبره "من أعظم السير الأدبية في القرن العشرين".. هذا الرأي اتفق عليه الكثيرون.

وهناك كتاب آخر عن سيرة جويس كتبه جوردون باوكر بعنوان "جيمس جويس: سيرة ذاتية جديدة".. وهو عبارة عن تحديث وليس تنقيحاً. كما إنه لا يؤثّر في فهمنا لجويس أو أعماله.

كما هو الحال مع باحثين سبقوه في دراسة جويس وأعماله، حاول باوكر أن يجد التماثل بين أسماء وأحداث رواياته مع تلك التي من المحتمل مصادفتها في الحياة الواقعية، وهي محاولة، أو لعبة، مسليّة لكن ليست مثيرة للتحدّي، بما أن جويس عادةً يكاد لا يخفي، أو لا يفعل إلا القليل لإخفاء، أصول شخصياته. وهو غالباً ما يطلق عليهم الأسماء الحقيقية. كما يضفي الكثير من سماته الذاتية على عدد من شخصياته. وهذا أحد الأسباب التي جعلته لا يعود إلى إيرلندا بعد صدور "يوليسيس": العديد من الناس في دبلن قرروا مقاضاته بتهمة القذف والتشهير.

جويس لم يستخدم الأشخاص الواقعيين والأماكن الحقيقية من أجل تصفية حساباته، أو بدافع الثأر، أو لأنه يكتب سيرته المقنّعة، أو لأنه يفتقر إلى الإبتكار. العلاقة بين عالمه وروايته هي أغرب من ذلك.

في نوفمبر 1921، كتب جويس رسالة إلى عمته في دبلن يسألها عما إذا كان بإمكان شخص عادي أن يتسلق الدرابزون، الموجود في شارع إكلس رقم 7، إما من الطريق أو درجات السلم، حتى يدلّي نفسه من الجزء الأكثر انخفاضاً من الدرابزون بحيث لا تبعد قدماه عن الأرض أكثر من قدمين أو ثلاث، حتى إذا أسقط نفسه فإنه لن يصاب بأذى. ويضيف بأنه شاهد حدوث مثل هذا الأمر، لكنه كان رجلاً ذا بنية رياضية، بينما سؤاله يتصل بمدى استطاعة شخص عادي أن يفعل ذلك.

جويس إحتاج إلى هذه المعلومة لأنه كان يشتغل على فصل "إيثاكا" من كتابه "يوليسيس"، والذي فيه يحاول ليوبولد بلوم، بعد أن نسى مفتاح المزلاج، دخول بيته في شارع إكلس رقم 7 عبر الدرابزون. لقد خلق جويس شخصية بلوم، فلماذا لم يلجأ إلى اختلاق ارتفاع الدرابزون عن الأرض؟

جوردون باوكر لم يبدِ إلا اهتماماً نقدياً قليلاً نسبياً بما كان جويس يطمح إليه ككاتب.. وإذا أنت لا تهتم بهذا الجانب فمن المؤكد أنك لن تنتج سيرة مُرْضية جداً.    

في الكتابة يكمن الفعل والحركة. جويس عاش في أزمنة زاخرة بالأحداث، لكنه لم يعش حياة زاخرة بالأحداث. بعد أن انتقل إلى باريس، هو لم يقم علاقات إجتماعية مع الآخرين، واقتصرت علاقاته غالباً على أفراد عائلته. وبما أنه كان رجلاً نزّاعاً إلى الشك والإرتياب، عانى من عقدة اضطهاد غير حادة لكن متواصلة، فقد أحاط نفسه بحلقة صغيرة من الأصدقاء الموثوق بهم. كما إنه لم يرغب في كشف نفسه أمام الغرباء. كان يعرف معاصريه المشهورين - ييتس، إليوت، إزرا باوند، إرنست همنجواي - لكن موقفه تجاههم كان متحفظاً تماماً. إستغراقه في شؤونه الذاتية جعلته ينأى عن اتخاذ موقف أو سلوك فظ. الأشياء الوحيدة التي كانت تعنيه حقاً، وموضع اهتمامه الكليّ، هي عائلته وفنه.

كاتب جويس المفضّل هو دانتي، المنفيّ الآخر، والذي خلق عالماً لفظياً سكن فيه مع رفاقه وأعدائه الفلورنسيين القدامى، كل منهم رُسم على نحو ساخر، بطريقة مبالغ فيها، وبإتقان شديد، لجميع الأزمنة. ووضع في مركز الكون المتخيّل امرأة وقع في غرامها بعد أن رآها في الشارع.. بياتريس بورتيناري.

بياتريس جويس كانت، بالطبع، نورا.. التي جاءت من جالوي، وكانت تعمل خادمة في فندق فين، في دبلن. عندما رآها جويس تسير "بتوءدة" (على حد وصفه) على طول شارع ناساو، بطريقة توحي أن بالإمكان الوصول إليها والتحدث معها، هو باشر بالإقتراب منها، وطلب منها تحديد موعد للقاء. هي وافقت، لكنها أخلفت  الموعد. فبعث إليها رسالة موجزة: "ذهبت إلى البيت وأنا مكتئب تماماً. أود أن أحدّد موعداً آخر لكن قد لا يلائمك ذلك. آمل أن تتعطفي وتقرّري اللقاء بي، إن كنتِ تتذكريني".

هذه المرّة التقيا، وتمشيا على الضفة الجنوبية من ليفي، حيث أدخلت يدها في بنطاله (وجعلت منه رجلاً.. كما قال في رسالة لها). كان ذلك في السادس عشر من يونيو 1904، وهو اليوم الذي عيّن فيه جويس إنطلاقة "يوليسيس".

قبل نورا، لم يكن جويس يعرف غير المومسات وفتيات الطبقة الوسطى. نورا مثّلت شيئاً جديداً، امرأة عادية عاملته كرجل عادي. البساطة الأخلاقية لما حدث بينهما يبدو أنها أذهلته. كان فعل حب أوّليّ وبلا مبرّر، والذي لم يتضمن تملقاً ولا خداعاً، كما لم يصاحبه شعور بالعار أو الإثم. تلك البساطة أضحت الأساس لعلاقتهما.

لا شيء أساسي على نحو محض في سلوكهما اليومي. المشاركة بينهما كان لها حصتها من التوترات. غالباً ما كانا يتشاجران. وفكرياً، لم يكونا منسجميْن. كانت تقرأ القليل جداً من أعماله، الأمر الذي كان يثير سخطه. وكانت تتمنى لو صار مغنياً. من جهته، كان يشعر بالغيرة من الرجال الذين عرفتهم في الماضي. شخصية مايكل فيوري، الذي يموت بعد وقوفه طوال الليل تحت المطر خارج نافذة جريتا، في روايته "الموتى" The Dead، هو نفسه مايكل فيني، أحد أصدقاء نورا.. (إثنان من أصدقائها ماتا، حتى أن الفتيات في الدير أطلقن عليها صفة قاتلة الرجال).

لكن جويس كان يكره فكرة أن يكون بعيداً عنها. وقد تزوجا أخيراً في لندن، العام 1931.. فقط لكي يصونا إرث أبنائهما.

جويس لم يكن يرى إلى الفن بوصفه بديلاً عن الدين، أو أن للفن منابع أو طاقات روحية. لم يكن يؤمن بالمعجزات، كان يؤمن بالمصادفات. قال مرّة إلى صديق سويسري، أثناء كتابته "صحوة فينيجانس": "الصدفة تزوّدني بما أحتاجه. أنا أشبه برجل يتعثّر. قدمي ترتطم بشيء ما. أتطلّع إلى الأسفل فأجد ما كنت بحاجة إليه".

كان جويس ضليعاً في البلاغة، كما كان بارعاً في المحاكاة، لكن تشبيهه المفضّل كان التورية، التلاعب اللفظي. التورية هي مصادفة لفظية: كلمة تصادف أنها تبدو أشبه بكلمة أخرى. بهذا الخصوص، رواية "يوليسيس" بأسرها هي نوع من التورية. إنها قصة عن أفراد وأحداث تدور في يوم واحد في دبلن، وهذه القصة، عندما تُروى بطريقة معينة، تبدو أشبه بأوديسة هوميروس.

من مهمة الفنان أن يروي القصة بتلك الطريقة الخاصة، ناسباً الأشياء الصغيرة التي يصادفها الرجل أو المرأة في الحياة إلى أماكنها في النظام الرمزي. الكاتب يبدأ بما هو اعتباطي، تصادفي، وغير هام، ثم يحوّله إلى شيء له غرض، مقصد، ودلالة (أوديسيوس، عندما يعود أخيراً إلى إيثاكا، يتوجب عليه أن يدخل بيته بواسطة حيلة بارعة) لكن ذلك تخيلي محض. هو ينظر في الباطل، ويجد هناك العدم الفاتن.

جويس كان يعرف كارل يونج، فقد سبق أن أرسل إليه إبنته لوسيا ليعالجها في زيوريخ من النوبات العنيفة التي كانت تعاني منها. يونج لم يستطع أن يفعل لها شيئاً، فقد كانت مصابة بالإنفصام في الشخصية (شيزوفرينيا)، وقد اضطر جويس إلى إدخالها في مصح، الأمر الذي أثّر كثيراً فيه، وسبّب له حزناً شديداً. في الواقع، كان يونج يظن أن جويس نفسه مصاب بالإنفصام. أما جويس فقد كان ينظر إلى التحليل النفسي بإزدراء.

يونج، على نحو مثير للدهشة إلى حدٍ ما، اعتبر "يوليسيس" رواية مزعجة، مربكة، ومعقّدة. وقد وجد صعوبة في إتمامها. وفي مقالة له عن الرواية، كتبها في 1932، حاول أن يعبّر عن ردة فعله تجاه الرواية، وقال: "ما هو مربك بشأن رواية يوليسيس، واقع أن خلف ألف حجاب لاشئ يكمن متوارياً. وهي لا تتجه نحو العقل ولا نحو العالم، بل هي فاترة مثل قمر يطل من فضاء كوني، تاركةً لدراما النمو والوجود والإنحلال أن تسلك مسارها وتتبع مجراها".

كان ذلك استبصاراً استثنائياً رائعاً في غرض جويس. وجويس أخبر صديقاً، أثناء اشتغاله على فصل "إيثاكا"، الذي يفضّله على فصول الرواية الأخرى، أن بلوم وستيفن "يصبحان جسميْن سماويين، يهيمان مثل النجوم التي يحدّقان إليها".

من وجهة نظر معينة، قد تكون وجهة نظر إله أو فنان، يصبح ستيفن وبلوم مجرد أشياء في الكون. إن امتلاكهما لحيوات باطنية، حيوات مليئة بذكريات وأحاسيس، كونياً لا يعني شيئاً. مرئييْن من ذلك البُعد الشاسع، فإنهما يمارسان فحسب ما يمارسه أشباههما: بلوغ درجة من الوعي، إعادة الإنتاج، الموت.

جويس كان مغرماً ببيت للشاعر أوفيد يقول فيه: "كل شيء يتغيّر، لاشيء يضيع". هو كان يعتقد أن، من مسافة فسيحة فوق بشرية، الناس في "يوليسيس" يشبهون تماماً الناس في أوديسة هوميروس. إنهم يتتبعون الأنماط نفسها، يسيرون عبر الأدوار نفسها، يكافحون من أجل إيجاد المجموعة نفسها من العلاقات: الزوج والزوجة، الأب والأم، الإبن والإبنة.. والذين سوف يصبحون، في أوانهم، أزواجاً وزوجات، آباءً وأمهات.

كتاب "صحوة فينيجانس" محاولة من جويس لإعطاء هذا المفهوم عن الحياة الإنسانية تعبيراً تخيلياً. الكتاب بأسره قائم على التلاعبات اللفظية (التوريات) وإدماج كلمتين في كلمة واحدة.

"صحوة فينيجانس" ليست قصيدة نثرية، مع أن الكثيرين يرغبون في قراءتها على هذا الأساس. العمل ذو طابع قصصي واقعي. لكن الواقع الذي يصوّره هو واقع الليل، حياة الحلم، والذي يقتضي، حسب اعتقاد جويس، إبتكار صيغة جديدة للّغة. البناء العادي للجملة مصمّم لواقع خاضع للقانون، واقع هو منظّم زمنياً ومكانياً وسببياً. في الأحلام، هذه القوانين تكون معطّلة، وهذا يعني أنه لكي تصوّر حياة الحلم، ينبغي أن يكون البناء العادي للجملة معطّلاً أيضاً. والصور في الأحلام يمكن أن تمثّل شيئين في الوقت ذاته، كما يحدث عندما نحلم بشخص ما بينما نعرف طوال الوقت أنه شخص آخر. لهذا السبب تكون التورية هي لغة الليل.

هذا الكتاب حيّر العديد من معجبي جويس، الذين رأوا أن جويس يبدّد وقته في تأليف ما لا قيمة له. هذا الأمر أثار استياء جويس، الحسّاس للغاية، وهو الذي أحبّ كتابة الكتاب، حتى أن نورا اعتادت أن تسمعه يضحك وحده أثناء الكتابة. لقد تطلب منه تأليف الكتاب الكثير من الجهد والطاقة، وعندما انتهى من كتابته، بدا مستنزفاً للغاية.. جسمانياً وروحياً. مع ذلك لم يرضِ أحداً، فالأصدقاء أبدوا انزعاجهم، والخصوم الحقودين استقبلوه بالسخرية، لكنه ظل صادقاً مع نفسه.

إنتقال جويس إلى سويسرا، خلال الحرب العالمية الثانية، كان عملاً محفوفاً بالمخاطر. هو رفض أن يحصل على جواز إيرلندي، والذي بمقدور حامله أن يغادر فرنسا في أمان. بدلاً من ذلك، هو قدّم طلباً للحصول على تأشيرة دخول إلى سويسرا، لكن الطلب ظل عالقاً، على الأرجح لأن السلطات هناك اعتقدت أنه يهودي. في الأخير، حصل على التأشيرة، وانتقل مع نورا وابنهما وحفيدهما (بينما بقيت ابنتهما لوسيا في المصح الفرنسي) حيث وصلوا إلى جنيف في الرابع عشر من ديسمبر 1940. وبعد أقل من شهر، مات جيمس جويس.

طلبْ نورا بإعادة جثمانه إلى إيرلندا قوبل بالرفض من قِبل القائم بأعمال السفارة الإيرلندية في باريس. في الواقع، رواية "يوليسيس" لم تُمنع أبداً في إيرلندا. الأهالي هناك، الذين كرهوا الكتاب، لم ينزعجوا مما اعتُبر "فحشاً"، لكنهم لم يحبوا صورهم التي رسمها الكتاب، لقد رأوا أنفسهم في الرواية بصورة بشعة أثارت غضبهم.

جورج برنارد شو أطلق على لغة الرواية صفة البذاءة، وقال أن يده لا يمكن أن تخط مثل تلك الكلمات، مع إنه سلّم بأن الرواية تحفة فنية. برنارد شو نفسه عاش شبابه في دبلن، وتعرّف في الرواية على المدينة التي كان يعرفها. لقد أخبر صديقاً له بأن "يوليسيس وثيقة.. نتاج شغف بالتوثيق الذي هو أساسي كما الشغف الفني (..) إذا رفع رجل مرآة أمام جوهرك وأظهر لك كم هو يحتاج إلى الغسل - وليس التمويه - فليس من المفيد كسر المرآة".

عندما علم جويس أن عمته جوزفين رفضت أن تقرأ روايته "يوليسيس"، قال: "إذا كانت روايتي غير صالحة للقراءة، فإن الحياة غير صالحة للعيش".

جويس استمر في ما كان يسميه "منفاه الإختياري" من أجل أن يكتب بالطريقة التي يريدها. هذا يعني اضطراره لتحمّل الرفض المتواصل له، وتقبّل الإساءة النقدية. كتاباته كانت، على نحو متكرّر، تخضع للرقابة. أهم أعماله صدرت في فرنسا، حيث كان عمال المطبعة الفرنسيون ينضّدون عمله، فيتخلّل النص عدد هائل من الأخطاء المطبعية.

في الولايات المتحدة، في 1933، قدّمت رواية "يوليسيس" إلى المحاكمة بتهمة الفحش، وعندما حكم القاضي جون وولسي ببراءة الرواية معلناً أنها ليست فاحشة، استأنفت وزارة العدل الدعوى، لكن محكمة الإستئناف رفضت الدعوى وصدّقت على الحكم. وبهذا ساهم جويس في ترسيخ مبدأ حرية الفنان، وحقه في امتلاك الحرية الكاملة في العمل مع العالم الذي يصادفه، العالم كما هو.

مقابل ذلك دفع جويس ثمناً باهضاً. بعد العام 1912، لم ير دبلن مرة أخرى، مع إنه لم يكتب قط عن مكان آخر غير دبلن، وحتى أواخر أيامه كان يشعر بحاجة ماسة لأن يعرف كل شيء عن دبلن وأهلها. كما إنه اضطر إلى ترك أغلب أفراد عائلته هناك، ولم يتمكن من حضور جنازة والده.

 

 

 

المصدر:

The New Yorker, July 2012