أمين صالح

أمين صالحأقام كيارستمي العديد من المعارض للصور الفوتوغرافية الخاصة به في الكثير من دول العالم.
ابتدأ هذا الشغف بالتصوير، عند كيارستمي، منذ حوالي ثلاثين سنة، أي في العام 1978.. وهو يتحدث عن تلك الفترة قائلاً: "اهتمامي بالتصوير الفوتوغرافي بدأ في الواقع عندما أردت شراء كاميرا لصديق، كان ثمنها حوالي ألف دولار، وقررت أن أشتري أخرى لنفسي. كانت الثورة في بداياتها، وكان لدي الكثير من الوقت الفائض الذي أردت أن أشغله بالتقاط الصور، إذ لم يعد مسموحاً لنا صنع الأفلام السينمائية، وصرنا في غاية الإحباط والوحشة. لذلك كنا نغادر المدينة، بين الحين والآخر، للتغلب على تلك الحالة المحبطة ولالتقاط صور الطبيعة (..)
في الواقع، أنا لم أتعلم قط التصوير الفوتوغرافي. كنت أهرب من المدينة، وأجد الملاذ في الريف. هناك بدأت ألتقط الصور، التي أصبحت أشبه بهدايا ينبغي أن أحملها إلى الناس في المدن. كان بإمكاني أن أتقاسم المنظر الطبيعي معهم من خلال التصوير".

في ذلك الوقت – كما صرّح مرّة – حلّ التصوير محل الرسم كشكل من أشكال العلاج النفسي الشخصي.. "التصوير الفوتوغرافي يعبّر عن أحاسيس إبداعية، وهي وسيلة لإيجاد السلام والطمأنينة. ثمة نقاء نادر في هذا الحقل (..) أحب أن أنظر إلى الأشياء. النظر في صمت، خصوصاً إلى الطبيعة. عندما تحب شخصاً فإنك تلتقط صورة له: أنظر فحسب إلى ألبوم صور العائلة. ألبومي حافل بصور الطبيعة".
وهو يفسر سبب اهتمامه بالتصوير الفوتوغرافي، في قوله:
"إن تأمل سماء غائمة وجذع ضخم لشجرة تحت ضوء سحري هو أمر صعب عندما يكون المرء وحده. عدم القدرة على الإحساس بالمتعة لمرأى منظر طبيعي جميل ورائع مع شخص آخر هو ضرب من التعذيب. لهذا السبب بدأت في التقاط الصور الفوتوغرافية. أردت - بطريقة أو بأخرى - أن أجعل تلك اللحظات من الولع والألم تصبح أزلية".
ويقول أيضاً: "صورة واحدة هي أم السينما. هناك بدأت السينما، مع تلك الصورة الواحدة".
في بحثه عن أفكار وعن مواقع، يقوم كيارستمي برحلات قصيرة نحو الأرياف المحيطة بالعاصمة، أو يتنقل عبر مناطق إيران. من بيته الكائن في طهران ينطلق مسافراً شمالاً في اتجاه بحر قزوين، أحياناً إلى كردستان قرب الحدود العراقية.

يقول: "لسنوات عديدة كنت أهرب من المدينة، وكنت أشعر عندئذ بأني في حال أفضل حقاً. الرصد هو بمثابة المسكّن بالنسبة لي.(..) أنا أفضّل الريف على المدن. هذا ينطبق أيضاً على أفلامي: لقد حققت أفلاماً في المجتمعات الريفية، في القرى، أكثر من المدن".
في البداية لم يفكر في إقامة معارض خاصة، كان يلتقط العديد من الصور ويحفظها عنده.. "عندما كنت أذهب إلى الطبيعة، وأصادف كل ذلك الجمال والسمو، أشعر بأن ترك كل هذا وحده أمر لا يطاق ولا يمكن احتماله. لذلك شرعت في التقاط الصور، هذه الصور التي كنت أخزنّها في علبة خاصة، دون أي نيّة في عرضها للجمهور. لكن بعد عشر سنوات أو أكثر، قررت أن أعرضها للناس".
في صوره الفوتوغرافية يشرع في تقطير ورشح المشهد إلى جوهره الغنائي الأبسط. إنه يعتبر التصوير الفوتوغرافي وسطاً أنقى من الفيلم بما أنه متحرّر من عبء السرد أو الترفيه.
في أعماله، يقوم كيارستمي بالتعديل والتكييف وفق الحالة التي يجدها في الطبيعة. ذلك يزوده باحتمالات متنوعة، يحدّد تنويعات الصور، التي تنشأ من التغيّر في الفصول، تحوّل ونوعية الإضاءة.
صور كيارستمي الفوتوغرافية هي أعمال كاملة بذاتها، لا هي صور ثابتة ولا رسوم صارمة لقصة الفيلم، بل تعمل من خلال عناصر تركيب مماثلة، وتبقى مع ذلك مستقلة بذاتها. إنها تصور أماكن نائية ومثقلة روحياً.
يقول كيارستمي: "مع أن التصوير الفوتوغرافي ليس بالضرورة دعوةً إلى الحلم أثناء يقظة المرء، إلا أنه يمكن أن يكون كذلك. إذا الحلم يتألف من الفرار من المدينة وكوابحها، إذا الحلم يعني العودة إلى المنابع - وبالتالي إلى الطبيعة – فإن تصوير الطبيعة يمكن أن ينظر إليه كتحريض على الحلم".

ويضيف: "لشخص كان قد وُلد في شقة واعتاد على المباني الشاهقة، السيارات، الاختناقات المرورية، الأنفاق الكائنة تحت الأرض، لغة الإعلان، والذي حياته تقع أسفل سماء رمادية وغائمة، لشخص كهذا، الطبيعة لها مغزى ودلالة أخرى. في رأيي، الطبيعة هنا تكون نقيض البشري وحاجاته. نحن غالباً ما يكون لدينا نزوع لنسيان هذا الواقع".
شارك كيارستمي في العديد من المعارض الفردية والمشتركة أو الجماعية. من أهم المعارض الفردية التي أقامها، والتي حملت عناوين مميّزة:
طرقات وأشجار (1978 – 2003)، ثلج (1978 – 2003)، أشجار وغربان (2006)، مطر (2006 – 2007).. إضافة إلى أربعة مشاريع فيديو: نائمون (2001)، أكبر بعشر دقائق (2003)، ظهيرة صيفية (2006)، سجاد (2006).
في معرضه "طرقات وأشجار" نجد صوراً لأشجار وطرقات متمعجة تشق، كما في حلم، مناظر للريف الإيراني الوعر. سلسلة أخرى من الصور المأخوذة من خلال الحاجب الزجاجي للسيارة، والمنقّط بقطرات المطر، والتي تحوّل الأشجار والسيارات الأخرى إلى أطياف مجرّدة.
هذه الموضوعات لا تكف عن إثارة اهتمامه، يقول: "موضوعان على الدوام يغريان كاميرتي ويحرضاني على التصوير: الأشجار والطرقات".
في معرضه "ثلج"، الذي يحتوي على صور فائقة الجمال، بالأسود والأبيض، هو يسبر موضوعاً واحداً، فكرة رئيسية واحدة: أشجار في الثلج وعلى الأنماط التي تشكّلها ظلال الأشجار على سطح الثلج الأبيض العاري. كل صورة توحي بحالة عاطفية، مستحضرة جواً من العزلة والتأمل.
يقول كيارستمي: "صوري الفوتوغرافية ليست نتاج عشقي للتصوير الفوتوغرافي، بل ثمرة حبي للطبيعة".
في نوفمبر 2007 تم افتتاح متحف ساوث إيست للتصوير الفوتوغرافي في فلوريدا بأمريكا، وقد عرضت فيه صور لعدد من المصورين المشهورين في العالم، من بينهم كيارستمي.

كذلك أقام معرضاً خاصاً يحتوي على صور للمطر في مختلف حالاته ومظاهره، عن هذه التجربة يقول كيارستمي:
"فكرة تصوير هذه السلسلة من صور (المطر) نبعت منذ وقت طويل. لقد قضيت سنوات وأنا أتطلع من خلال الحاجب الزجاجي الأمامي للسيارة، معجباً بالمناظر الريفية، مأخوذاً بقطرات المطر والتأثير الذي يُحدثه الضوء عليها. حاولت أن ألتقط صوراً لها من خلال الحاجب الزجاجي، لكنني في ذلك الوقت كنت أستخدم الفيلم، لذلك لم أستطع الحصول على المؤثر الصحيح والمناسب للإضاءة، والذي يجعل الصورة مقنعة. فقط بعد وصول الكاميرات الرقمية (الديجيتال) قلت لنفسي: الآن بوسعي أن أعود إلى تلك الفكرة. باستطاعتي أن أعمل مع القليل من الإضاءة، وبينما أقود السيارة. كنت أقود السيارة بيد على المقود، وبالأخرى ألتقط الصور. ربما لا ينبغي أن أعترف بهذا الفعل الطائش، إذ لا أريد أن أبدو وكأني أشجّع على السياقة السيئة.

غالباً ما ألاحظ أننا لا نكون قادرين على النظر إلى ما يوجد أمامنا إلا إذا كان بداخل إطار. لذلك أعتبر حاجب السيارة إطاراً، وأقوم بإيقاف ممسحة الحاجب عن الحركة حتى لا تمسح المطر، بحيث تبقى قطرات المطر على الزجاج. كل ما نستطيع أن نراه في الصو الفوتوغرافية – اللون الوسط بين البني والأصفر، الأخضر، الأسود – نحن مدينون به للضوء. إنه انعكاس الضوء على قطرات المطر الذي يمنح الصور تلك الفوارق الدقيقة في اللون، وتلك الجمالية الآسرة.

الضوء هو أعظم رسام ومصوّر من بين الجميع. في كل لحظة من حياتنا نرى صوراً مختلفة، لوحات مختلفة.
يقال أن في البدء كانت الكلمة، لكن بالنسبة لي، الصورة هي دوماً البداية. عندما أفكر في المحادثة، فإنها دائماً تبدأ بالصور. وما أحبه بشأن التصوير الفوتوغرافي أنه نقش أو طبع للّحظة الواحدة. إنه سريع الزوال. أنت تلتقط الصورة، وبعد لحظة واحدة، كل شيء يتغيّر.
في مارس 2009 أعاد إقامة معرض "أشجار وغربان" في دبي، وهي حصيلة لصور وافرة التقطها وهو يتجوّل في أرجاء قصر ساداباد بطهران، بكاميرته الرقمية (الديجيتال)، لمدة أربع سنوات، موثقاً التفاعل بين الأشجار والغربان.
يقول كيارستمي: "القلق هو الشعور الجوهري للحالة الفنية. القلق هو جذر الإبداع. إنه قانون الخلق. عندما يكون لديك هذا الإحساس، تجد نفسك مجبراً على إنتاج شيء ما. هذا مماثل جداً للولادة بالنسبة للمرأة. هل تستطيع أن تطلب من المرأة أن تختار بين أن تلد أو لا تلد عندما تكون حبلى؟ إنها عملية جدلية: هي تعاني من آلام الحمل وبهجة الولادة وإنجاب الطفل.
في حفلة أقيمت مؤخراً، رأيت واحداً من أكثر الرسامين الإيرانيين نجاحاً والذي لم أره منذ سنوات. كان محبطاً جداً على الرغم من كل إنجازاته. سألت المضيف عن سبب اكتئاب الرسام فقال لي: إنه لا يعمل.
كيف يمكنك أن تقول عن شخص أنه وجد حالة من السلوان والراحة وهو في تلك الحالة؟ هذا هو الموت".
ويضيف كيارستمي: "ليس ثمة موضع تستطيع أن تقف عنده وتقول: ها قد أنجزت كل شيء. ليس للفن غاية، ولا شيء هناك ينتظر الانجاز والتحقق، بالتالي ليس هناك أي اعتزال. الفن مثل الشجرة.. هي ليست هناك حاملةً هدفاً ما. الشجرة ليست موجودة هناك لتخدم الناس. الشجرة لا تعرف أن ثمارها تحتوي على فيتامينات، أو أن لأزهارها أريجاً. حالة النمو عندها ليست مسألة اختيار. والفنانون الحقيقيون يشبهون تلك الأشجار: إنهم لا يعرفون ما الذي سوف ينبجس من نتاجاتهم".

الأشجار، في نظر كيارستمي، فنانون حقيقيون، محاورون، ورفاق. ضمن مجموعة الأعمال التي قدمها تظل الأشجار فكرة ثابتة لا يستطيع الخلاص منها.. "واحدة من ذكرياتي المبكرة تعود إلى الوراء ثلاثين أو أربعين سنة، إذ كنت في سيارة مع جدتي وقالت لي: أنظر إلى تلك الشجرة. نظرت ورأيت شجرة وحيدة ومنعزلة في سفح تلة.. قلت لها: وما المثير فيها، إنها مجرد شجرة؟.. جدتي لم يكن لديها أي تفسير. لقد رأت شيئاً أثار اهتمامها، ولم تستطع أن تعبّر عن إحساسها بالكلمات".

إنه يتحدث عن الأشجار كما يتحدث عن أصدقاء مقربّين، عن أفراد من عائلته.. بحميمية: " منذ صوري الفوتوغرافية الأولى التي التقطتها بكاميرتي الأولى، أدركت أن للأشجار دلالة ومغزى، بالنسبة لي، أكثر من الكائنات البشرية. أحب دوماً أن أستشهد بكلام ابن عربي (1165 – 1240) الذي يقول: الشجرة هي شقيقة الإنسان.
عندما تزهر الشجرة فإنها تؤدي وظيفة التقويم الطبيعي، في أي مكان من العالم توجد فيه. هي تقول للناس: إني أعلن لكل من يشاهدني اليوم أن هذا هو اليوم الأول من موسم الربيع. هي غير مقيّدة بأوقاتنا وتواريخنا. إنها من أكثر التقاويم دقةً".
وفي موضع آخر يقول: "الأدب الفارسي أيضاً يتحدث عن الأشجار الرائعة والعجيبة، الأشجار التي لها صفات بشرية. الشجرة وحياة الإنسان مرتبطتان على نحو لا ينفصم لأن الشجرة تجذّرت في حياتنا اليومية، في ثقافتنا، في أرواحنا، في أساطيرنا.. مثلما فعلت في أسرار وألغاز كل الأديان".

من جهة أخرى، يبدي كيارستمي استياءه من الإصرار على تصنيف الأشكال الفنية المختلفة، ويرى أنها ممارسة عبثية وغير مجدية.. يتساءل: "لماذا نحن دائماً نحاول أن نعرّف أو نحدّد السينما على نحو منفصل عن التصوير الفوتوغرافي أو الموسيقى؟ إنها أشكال متصلة ببعضها.. تتمازج وتتحابك. لم نحن نحب أن يكون الشيء الذي لدينا معيّناً ومحدداً جداً؟ إن كان الأمر كذلك، فينبغي إذن أن نمنع الشخص الذي يحب السينما من الذهاب إلى معرض فني، والعكس بالعكس".