أمين صالح
(البحرين)

خلال 73 دقيقة متلألئة على الشاشة، على حد تعبير الكاتب والمخرج الأمريكي بول شرادر، نرى شاباً قوياً ونشطاً يعتني بأمه المريضة، النحيلة والهشة والعاجزة عن الحركة، في ساعاتها الأخيرة، والتي تحتضر في استسلام لكن في ألم مبرّح نستشفه من تعابير وجهها، إيماءاتها الواهنة، أنفاسها المتقطعة، ولهاثها الثقيل.
منذ لقطة الافتتاحية، المديدة، نستشف العلاقة الحميمة بين الشاب وأمه، حيث نراهما مستلقيين جنباً إلى جنب، هو يتأملها في نومها ثم يبتسم ويهمس قائلاً: "البارحة رأيت حلماً.. كان غريباً". ويحكي عن شخص كان يتبعه في حلمه. وأمه، دون أن تفتح عينيها، تكمل سرد الحلم الذي رآه.

هما يعيشان معاً في بيت ريفي قديم، عار تقريباً، ومعزول.. ولا أحد غيرهما. هي ترغب في رؤية العالم أو بالأحرى المحيط الخارجي للبيت، للمرة الأخيرة، فيحملها بين ذراعيه الحنونتين، بسبب ضعفها وشدة مرضها. يخرجان من البيت. يضعها على كرسي طويل، يجعلها تتمدد. يتركها تستريح، ويبتعد ليجلب لها بعض الصور القديمة والبطاقات البريدية، لكن الكاميرا لا تتبعه بل تبقى معها، تنتظر معها، تصور وجعها الشديد وهي وحيدة إلا مع حفيف الريح.
يعود. يقرأ لها رسائل بريدية قديمة، بينما تمسح على شعره. ثم يحملها مرة أخرى، ويتجهان إلى الحقل الفسيح المكسو بالعشب، والذي يتاخمه شاطئ ممتد. يتحدثان قليلاً عن طفولته. يعبران معاً دروباً متعرجة بين كثبان رملية. كأنهما يعبران الحد الفاصل بين الحياة والموت. بين الفينة والأخرى يتوقفان ليرتاحا، ويمددها على العشب في حنان بالغ. والكاميرا تتابعهما عن قرب، ومن بُعد، ترصدهما، تصورهما وهما يبتعدان بين أشياء الطبيعة إلى حد تمازجهما مع عناصر الطبيعة، بحيث يصبحان جزءاً من النسيج الفيزيائي المحيط بهما. هي تشعر بالبرد فيعيدها إلى البيت. الأم تعترف له بخوفها من الموت، وتشفق عليه من المصير، من الألم والعذاب، الذي سيصادفه يوماً ما عندما يختبر ما تكابده الآن.

الأم تنام، وهو يخرج ويتمشى وحيداً، يكاد يندمج مع المنظر الطبيعي الذي يتواجد ضمنه. يرى من بعيد مركباً، فينشج. وعندما يعود إلى أمه يجد فراشة ميتة على يد أمه الناحلة، ويكتشف أنها ماتت. يبكي في حرقة ووجع، ثم يهمس لها: "انتظريني.. في المكان الذي اتفقنا عليه".
هذه هي "قصة" فيلم "الأم والابن" (1997) للمخرج الروسي العظيم ألكسندر سوكوروف، الذي يقول: "القصة هي عن علاقة إنسانية مثالية.. عن الحب والعاطفة العميقة بين أم وابنها. لا هي ولا هو أحبا شخصاً في هذا العالم مثلما أحب أحدهما الآخر. حبهما هو تقريباً ملموس وصريح جسمانياً. إنه الحد، المدى الأقصى للحب، لكن فقط وراء نطاقه يكمن شيء حقيقي. يبدو أن الاثنين هما الوحيدان من البشر الباقيان على كوكب الأرض. لا روتين، لا عجلة، لا نشاط صاخب، لا أشياء غير ضرورية، مجرد بيت خشبي في الريف حيث الأم، المريضة على نحو خطير، وابنها المحب الحنون، يعيشان حياة هادئة. إلى مدى معيّن، الأم والابن هما كائن واحد مغمور في العالم الغريب والجميل ذي الطبيعة السرمدية، العالم الذي لم يزره قط إنسان (بالتالي ظل على نقائه دون إفساد) أو الذي هجره الإنسان إلى الأبد منذ عهود طويلة".

فيلم لا يعتمد على قصة، لا يقوم على "حبكة" بالمعنى التقليدي أو المتعارف عليه، لا يعتمد على المقومات التقليدية للسرد، بل يرتكز على كثافة المشاعر، والعواطف المتقدة، بين كائنين يوحّد بينهما حب بالغ وألم لا يوصف، وحس المشاركة العميقة والحميمة بينهما تفضي بهما إلى أن يتقاسما الأحلام نفسها.
طوال الفيلم هو يلبي لها ما ترغب ويمنحها كل ما يستطيعه من حنان وعون ومساندة وعناية ورعاية. يطعمها، يقرأ لها، يتحدث إليها، يمشط شعرها. الحب هنا لا يجد تعبيره في الكلمات، بل في كل نظرة وإيماءة وحركة وصمت.
هي تحرك جسمها بصعوبة شديدة وبوجع أشد، مختبرة لحظات من الرعب، من خشية الموت، وتخاف عليه أن يمر بالتجربة ذاتها ويتألم مثلها. وكاميرا سوكوروف ترصد إيماءاتهما، تعابير وجهيهما، تلاحمهما، كأنهما يحتميان من الموت الوشيك.

لموت حضوره الطاغي في هذا الفيلم. إنه محسوس طوال الوقت في صوره، مناظره الطبيعية، أصواته، حواراته، إيماءاته، في العلاقة الإنسانية نفسها. لكن الحياة أيضاً لها حضورها الطاغي بالتساوي.
الموت – أو التخم الفاصل بين الحياة والموت، تلك المنطقة الغامضة والملغزة – عنصر أو ثيمة حاضرة ومهيمنة في العديد من أفلام سوكوروف وهو يشرح سبب غلبة ثيمة الموت على أفلامه، فيقول: "الموت ليس ثيمة من ابتكاري أو مقتصرة علي. الموت هو أحد الموضوعات الرئيسية في فن العالم القديم الكلاسيكي. ومع أنني شخص عصري، إلا أن جميع جذوري مطمورة في تقاليد العالم القديم وتشكّل جزءاً لا يتجزأ منها. بالنسبة لي الحياة والموت ليسا مآزق مرتبطة بالمواقف والبيئات العاطفية أو الفلسفية، إنما هي أسئلة في الفن. (..) الفن يهيئ الفرد للموت. إنه يساعد المرء في عقد الصلح مع حقيقة الفنائية.. كل شخص عرضة للفناء. لو أننا لم نواجه الفن يوماً مع الإحساس بالموت - في الأفلام، أو في صفحات الكتاب، أو في اللوحة – فعندئذ، عندما يجابهنا واقع الموت، لا نعود قادرين على التكيّف مع ذلك والتعايش معه، لا نعرف كيف نتصرّف، لا نعرف كيف نحمي أنفسنا. أرواحنا سوف تنهار من فرط الأسى".
يعتمد سوكوروف في أسلوبه على الإيقاع البطئ، شعرية الصورة، الحركة البطيئة، الإيقاع البصري الذي يحل محل السرد التقليدي، اللقطات الطويلة زمنياً، توظيف الصوت بشكل يتعارض أو لا يتناسق مع الصورة على النحو المعتاد، اعتماد لحظات الصمت الطويلة، الاستخدام غير الطبيعي للألوان.

هو، في أفلامه، يسعى إلى تصوير الحالة وجوهر الشيء. تهيمن على الفيلم حالة من الصفاء والسكون. لقطات ساكنة مديدة. لحظات صمت طويلة. الحوارات قليلة جداً. مثل هذه اللقطات ترغمنا على تركيز انتباهنا تجاه ما نراه، تجاه ما هو أساسي وجوهري، والتأمل في ما "يحدث" أمامنا عبر العناصر البصرية والسمعية المتاحة لنا، وليس عبر العناصر التقليدية في البناء والسرد.. الغائبة هنا.
هنا نرى، كما في اللوحات الكلاسيكية، مناظر طبيعية أخاذة بجمالياتها. وفي تصوير هذه المناظر الآسرة ثمة خاصية تشكيلية رائعة. ثراء في اللون والضوء، براعة في التكوين. ويبدو جلياً تأثره بالرومنتيكية الألمانية في النصف الثاني من القرن 19، وتحديداً بأعمال الرسام الألماني كاسبر ديفيد فريدريش، إضافة إلى الواقعية الروسية في تلك المرحلة، وأعمال الرسام الإنجليزي تيرنر. (يقال أنه، قبل الشروع في تنفيذ الفيلم، أخذ مصوره، أليكسي فيدوروف، في جولة إلى المعارض الروسية والألمانية).

الطبيعة حاضرة بقوة وبشكل ملموس، بكل عناصرها ومظاهرها، بصرياً وسمعياً. ثمة توظيف مجازي للمنظر الطبيعي.. إنه يعطي انطباعاً بالأبدية، باللاتناهي، بحالة سرمدية، بمكان أخروي، بزمن لا ينتهي. منظر قاحل. السماء ملبّدة بغيوم قاتمة، كثيفة، ثقيلة، تعزّز الإحساس بالأسى، بالفقد الوشيك، بالموت.

لكن مثلما تعطي الطبيعة إيحاءً بالموت، كذلك هي توحي بالحياة. هي ذات ملمح مزدوج: جميلة وأخاذة ومهيبة، في الوقت ذاته هي مهدّدة ومنذرة بالشر. السماء تكون ملبدة بالغيوم مع صوت الرعد، وفي الوقت ذاته نرى أشعة الشمس تتخلل الأمكنة وتضيء مساحات الأرض. الطبيعة، بشكل عام، تبدو مألوفة وغريبة في آن.
العالم اليومي نراه بعيداً جداً، في الامتداد الفسيح للطبيعة، حيث يمر قطار لا نكاد نراه لكن يعلن عن نفسه، أو عن مروره، من خلال الدخان الأبيض الكثيف.
الصورة السينمائية تشكّل، في نظر سوكوروف، "حياةً أخرى"، عالماً وسيطاً، سطحاً بين المادي (الفيزيائي) والما ورائي.

وثمة توظيف رائع للصوت. قبل اللقطة الأولى من الفيلم، ومع نزول الأسماء نسمع أصواتاً نستطيع أن نميّز من بينها: صيحات النوارس، هدير أمواج البحر، هبوب رياح، أصوات أخرى للطبيعة نجدها تتكرر طوال الفيلم. أحياناً نسمع صوت الطبيعة دون أن نرى المصدر، على سبيل المثال: نسمع صوت البحر لكن دون أن نرى بحراً.
يقول سوكوروف: "الصور هي ساقاي، والصوت روحي. على الصوت أن يمضي من تلقاء نفسه.. مثل العشب في الحقل، عليه أن ينمو من تلقاء نفسه. في "الأم والابن" استخدمت الصوت على نظام دولبي، لكنني لم أحب ذلك لأنه تجاري. كان علينا أن نكافح التقنيين لأنهم دوماً يريدون للصوت أن يكون عالياً. كنت أقول لهم، لا.. يجب أن يكون الصوت أكثر خفوتاً. الصوت جزء هام جداً من عملي. أحاول أن أرتّب عملي بحيث يعمل الفيلم على مستويين. لذلك فإن "الأم والابن" هو في الحقيقة فيلمان مختلفان.. أحدهما فيلم بصري والآخر فيلم صوتي. يحسن بهما أن يكونا قادرين على الوجود منفصلين عن بعضهما البعض. لو أنك أصغيت إلى الصوت على الفيلم، فينبغي أن يكون هذا كافياً بذاته".

هنا، في هذا الفيلم، ومنذ اللقطة الأولى، يتلاعب سوكوروف بالصورة تشكيلياً، محرفاً المنظور، ويجعله مائلاً أو ملتوياً قليلاً، ممدداً أو متقلصاً، وذلك باستخدام وسائل بسيطة: ألواح زجاجية، عدسات وفلترات خاصة، مرايا محرّفة موضوعة على جانبيّ الكاميرا، زجاج ملوّن يدوياً بالفرشاة موضوع أمام عدسات خاصة، مع توظيف للإضاءة المنعكسة، من أجل خلق تأثير خاص يظهر العالم المصور في بؤرة لها مسحة حلم أو مكان غير أرضي، حيث تبدو الطبيعة والأشياء والأفراد مضغوطةً إما رأسياً أو أفقياً.. وذلك دون أن يلجأ إلى تقنيات الكومبيوتر المركّبة والمعقدة، الخاصة بمؤثرات التحريك.

وقد شرح سبب لجوئه إلى هذه التقنية بقوله: "أنا لم أرد حيزاً ثلاثي الأبعاد، بل مجرد سطح، لوحة. أردت أخيراً أن أكون صادقاً وأميناً، وأقول: إن فن الفيلم يصبح أكذوبة إذا أكد على استطاعته إنتاج حيّز ثلاثي الأبعاد. يصعب إحراز أو تحقيق الحيّز الثلاثي الأبعاد على الشاشة".

باستخدامه لهذه الوسيلة الفنية، يقوم سوكوروف باستحضار المحسوس لا المرئي، وتمديد أشكال الجسد والمناظر ضمن الكادر. يقول سوكوروف: "أنا أدمر الطبيعة الواقعية وأخلق طبيعتي".
إنه فيلم متقشف، بسيط في إنتاجه. لكنه سخي في صوره، باذخ في تعبيره عن المشاعر، غني في شاعريته وغنائيته، جميل في تكويناته البصرية، آسر في إيقاعه كما لو في حالة حلم.. نموذج للسينما في أنقى وأصفى وأجمل حالاتها.