فيلم مصنوع لكي ينفجر بين أيدي أعدائه

أمين صالح

أمين صالح في الفترة من 1926 إلى 1928 عمل السينمائي الأسباني لويس بونويل كمساعد مخرج مع جان ابشتاين وماريو نالباس. في 1928 حقق أول أفلامه "كلب أندلسي" Un Chien Andalou مع صديقه الفنان سلفادور دالي، وهو فيلم قصير مدته 24 دقيقة.
عن التعاون المشترك بين الاثنين، قال بونويل أن تعاونه مع دالي كان تاماً ومن المستحيل معرفة أو تخمين أي العناصر يمكن أن تنسب إليه وأيها تنسب إلى دالي. ربما يمكن إيجاد الفوارق في الموقف تجاه الصور المختلفة في إسهامات معينة.
بعنوان غريب ومثير يستهل بونويل مسيرته السينمائية.. يقول بونويل (كتاب: Art in Cinema,1947، تحرير: فرانك ستوفاكر): "عنوان الفيلم ليس اعتباطياً، أو نتاج مزحة ما. إنه يمتلك علاقة لا واعية، حميمة، مع الموضوع. من بين مئات العناوين الأخرى اخترنا هذا العنوان لأنه الأكثر انسجاماً وملاءمة. نستطيع أن نضيف بأنه سبّب حالات استحواذ عند بعض المتفرجين، الشيء الذي لا يمكن أن يحدث إذا كان العنوان اعتباطياً".
هو وسلفادور دالي اعتمدا على مبدأ التداعي الحر، واستبعاد أية صورة أو حدث يعتقدان أنه منفتح على تفسير أو تأويل منطقي.

يقول بونويل (المصدر نفسه): "هنا يقف صانع الفيلم، للمرة الأولى، على مستوى شعري – أخلاقي محض. في رسم الحبكة، استبعدنا كل فكرة ذات استغراق عقلاني، جمالي، أو ذات ارتباط بأمور تقنية.. لأنها لم تكن تعنينا ولا علاقة لها بما أردنا أن نفعله (..) حين كنا نعمل، أنا وسلفادور دالي، في كتابة السيناريو، كانت لدينا قاعدة واحدة: أن نحتفظ فقط بالصور التي لا نستطيع تفسيرها عقلانياً (..) النتيجة كانت، بشكل مقصود ومدروس، فيلماً نقيض ما هو تشكيلي وما هو فني، وما تبجّله المعايير التقليدية. الحبكة هي ثمرة آلية نفسية واعية. إنها لا تحاول أن تسرد حلماً، مع أنها تستفيد من الآلية المماثلة لآلية الأحلام".
هذا لا يعني إنكاراً للمعنى أو الدلالة بل هو ببساطة رفض لكل ما هو غير جدير بالاهتمام من معانٍ تمليها التداعيات والتعاقبات المنطقية والعقلانية. الفيلم، في المحصلة الأخيرة، ينتج العديد من القراءات الحافلة بالمعنى.
لكن بونويل لا تعنيه هذه التأويلات.. يقول: " النقاد اخترعوا ألف تأويل للصور. الفيلم، في الواقع، كان تحذيراً يائساً، لفتاً للأنظار تجاه العنف والجريمة. تاريخياً، هذا الفيلم يمثّل رد فعل عنيف ضد ما كان يدعى آنذاك بالسينما الطليعية، التي هي موجهة – بشكل خاص – نحو الحساسية الفنية وإلى عقل المتفرج، بتلاعبها بالضوء والظل، بالمؤثرات الضوئية، وبانشغالها التام بالمونتاج الإيقاعي والبحث التقني، وأحياناً تنزع إلى عرض حالة معقولة وتقليدية تماماً".
عن ولادة الفكرة.. يقول بونويل: "بدأت الفكرة بحلمين توأمين لي ولدالي. هو حلَم، بشكل استحواذي، بنمل يدبّ في راحة يد. وأنا حلمت بمدية تشقّ مقلة عين. قمنا بتوحيد الصور وحذف تلك التي تحمل دلالة سياسية أو تاريخية أو جمالية أو أخلاقية" (مجلة نيويورك تايمز، 11 سبتمبر 1973)
الفيلم لا يعتمد على حبكة واضحة أو بناء متماسك أو أحداث مترابطة منطقياً، بل يتخذ من منطق الحلم أساساً له، معتمداً على الغرابة والدعابة.
يقول بونويل: "أنا ودالي استعرنا وجهتي نظرنا من صورة في حلم، وهذا الحلم بدوره سبر أحلاماً أخرى بالطريقة نفسها حتى اتخذ شكل سيناريو. حين تظهر صورة أو فكرة مستمدة من حالة تذكّر، أو من نموذج ثقافي، كنا ننبذها ونقصيها على الفور. نقبل فحسب تلك الصور الفعالة التي، رغم أنها تحرّك مشاعرنا بعمق، ليس لها أي تفسير. كنا نختار الدعابات والأشياء التي تخطر في أذهاننا، رافضين بلا شفقة أي شيء يمكن أن يدلّ على شيء. كان أمراً طبيعياً أن نتحرر من قيود الأخلاقية المألوفة والمنطق. محرّك الصور كان لا عقلانياً على نحو محض. إنه خفي، غامض، وغير قابل للتفسير.. ليس بالنسبة للمتفرج فحسب، بل بالنسبة لنا أيضاً. لا شيء، في الفيلم، يرمز إلى شيء. المنهج الوحيد لاستقصاء الرموز قد يكون بطريقة التحليل النفسي".
الفيلم محمّل بطاقة شعرية ثرية وفعالة.. يقول (كتاب: Art in Cinema, 1947 ، تحرير: فرانك ستوفاكر): "المنابع التي منها يستل الفيلم إلهامه ويستقي إيحاءاته، هي منابع الشعر.. متحرراً من ثقل المنطق والتقاليد. هدفه أن يثير لدى المتفرج استجابات غريزية من الانجذاب والنفور، والتجربة برهنت على أن هذا الغرض قد تحقق بشكل كامل".

وعن الدور السوريالي في إنتاج العمل، يقول (المصدر السابق): "لولا الحركة السوريالية لما وُجد هذا الفيلم، ذلك لأن أيديولوجيته، باعثه النفسي، والاستخدام النظامي للصورة الشعرية كسلاح للإطاحة بالمفاهيم المسلّم بها، تتوافق مع خصائص أي عمل سوريالي حقيقي. هذا الفيلم لا يهدف إلى افتان المتفرج أو إمتاعه وإرضائه ، بل على العكس تماماً، إنه يهاجمه لانتسابه إلى مجتمع بينه وبين السوريالية حالة حرب. هذا الفيلم مصنوع ومعد للانفجار بين أيدي أعدائه".
يبدأ الفيلم برجل (يؤدي دوره بونويل نفسه) يشحذ موسى الحلاقة، ثم يسير حتى الشرفة الكائنة في الطابق العلوي. هناك، تحت ضوء القمر، مع مرور غيمة تبدو كما لو تشق وجه القمر، يقوم الرجل بشق مقلة عين امرأة جالسة، مستسلمة بكامل إرادتها. هذه الصورة أصبحت من بين أكثر الصور السينمائية شهرة في تاريخ السينما.
بعد ذلك ينتقل الفيلم زمنياً، قافزاً ثمان سنوات إلى الأمام، ليرتد بعدئذ 16 سنة إلى الوراء.
صور الفيلم، القوية والغريبة، بتجاوراتها وارتباطاتها وتداعياتها، لا تزال تدهش المتفرج وتصدمه. العديد من الصور، الشبيهة بالحلم، تعكس فكرة النشاط الجنسي بوصفه دفاعاً استحواذياً.
في سيرته الذاتية، يشير بونويل إلى أنه كان يملأ جيوبه بالحصى لكي يرميها على من سيحاول مهاجمته من أفراد الجمهور.