الفيلم والفن التشكيلي

أمين صالح
(البحرين)

قبل شهرين تقريبا وفي ندوة سابقة تحدثت عن العلاقة بين السينما والأدب، وها انا الآن أتحدث عن العلاقة بين السينما والفن التشكيلي.
سواء أكان الأمر صدفة أو مقصودا وعن دراية، فان هناك توكيدا على ضرورة البحث في معنى السينما وماهيتها من خلال الكشف عن العلاقات التي تربطها بالأشكال الفنية الأخرى وإظهار الفروقات الجوهرية بينها، وذلك في محاولة لاكتشاف طبيعة السينما وجوهرها ولغتها وإمكانياتها.
لقد كان المخرج الروسي الراحل أندريه تاركوفسكي يعارض بشدة المفهوم القائل بأن الصورة السينمائية مركبة من عناصر فنية مختلفة، ويراه مفهوما خاطئا لأنه يدل ضمنا على أن السينما قائمة أو مؤسسة على خاصيات تابعة لأشكال فنية شقيقة، ولا تملك على الإطلاق شيئا خاصا بها. وهذا يعني إنكار حقيقة أن السينما فن.
كذلك كان تاركوفسكي يرى أن السينما لا تزال تبحث عن لغتها، وان مسألة ما يؤلف لغة السينما هي ليست بسيطة، كما أنها ليست واضحة بعد حتى بالنسبة للمحترفين.. وان ما يقرر ويحدد اللغة السينمائية مسألة لم يتم حلها بعد.

* * *

عندما يبدأ المخرج السينمائي في قراءة السيناريو فانه يشرع في رؤية الشخصيات والأحداث بصريا.. اي تشكيليا. ثم يبدأ عمليا ـ بعون من الكاميرا والعناصر الفنية الأخرى ـ في تحويل كل ذلك الى تكوينات بصرية، وفي تحقيق ذلك يوظف الضوء والظل والنسق اللوني، ويعالجها وفق تجربته وإدراكه وعاطفته وحساسيته الجمالية والفكرية.
عندما سئل انتونيوني: هل تعتقد بأن هناك صلة وثيقة بين الرسم والسينما؟ أجاب "لا. اعتقد بأن السينما قريبة من كافة الفنون. بمعنى أنها تضاهي كافة الفنون. أنها وسط أغنى وأكثر امتلاء"
واذا جئنا الى الفروقات فسوف نلاحظ بأن السينما فن يعبر عن الواقع بالواقع نفسه.. بأشياء ومواد وكائنات الواقع، وذلك بخلاف الفنون الأخرى، ومن بينها الفنون التشكيلية، التي تعبر عن الواقع بعدد من الإشارات أو الرموز.
وفيما يتصل بالمشاهدة نجد أن ثمة دائما مسافة بين اللوحة والمتفرج، مسافة مرسومة ومعينة التخوم سلفا. ثمة وعي أو إدراك لدى المتفرج بأن ما يوجد أمامه، سواء كان قابلا للفهم أو غامضا، ما هو إلا (صورة) للواقع ولا يمكن على الإطلاق مطابقتها مع الحياة.. حتى لو كانت شبيهة بالحياة أو تحاكي الحياة الواقعية بدقة تامة.
أما في صالة السينما المظلمة فان المتفرج يفقد إحساسه بمن حوله، بواقعه، ويتطابق مع ما يراه على الشاشة، بمعنى انه يجتاز المسافة التي تفصله عن الشاشة ليدخل فيها كما لو يدخل في حلم، مؤمنا بأن ما يراه هو شرائح من الحياة.
اللوحة الفنية تدعو المتفرج الى التأمل، فأمامه متسع من الوقت للمشاهدة وليدع انطباعاته وأفكاره وتخيلاته تتداعى بحرية، وبلا مقاطعة. لكن أمام شاشة السينما، حيث الصور تتعاقب على نحو سريع، فليس هناك مجال للتأمل.. فالمشاهد تتغير على نحو لا يمكن معه اللحاق بها. وأمام التغيرات المفاجئة والمستمرة تتعطل عملية تداعي الأفكار.
اللوحة تأسر الحركة والزمن، بينما ضمن الصورة السينمائية نشعر بحركة الزمن (سواء أكانت بطيئة أو سريعة) وهذا ما يوجد أو يشكل إيقاع الفيلم.

* * *

رغم هذه الفروقات نلاحظ أن عددا من الفنانين التشكيليين المعاصرين ـ المحترفين منهم وغير المحترفين ـ اتجهوا الى الإخراج السينمائي ونذكر منهم على سبيل المثال:
الفرنسي موريس بيالا، الذي كان رساما وأقام عدة معارض ثم مارس التمثيل قبل أن يتحول الى الإخراج في الستينيات.. وقد حقق فيلما دراميا مهما عن فان جوخ.
البريطاني بيتر جرينوي الذي قال: احد الأسباب الفعلية التي جعلتني اهتم بالسينما هو ما يتيحه هذا المجال من فرص استثنائية للتلاعب بالصور والكلمات، وبالتفاعل بينها. أحيانا اشعر كما لو أنني لست صانع فيلم على الإطلاق بل كاتبا أو رساما تصادف أن اشتغل في السينما.. وهذا وضع من المفيد أن تكون فيه أحيانا لأنك، في هذه الحالة، تكون أشبه بالدخيل أو اللامنتم، وعندئذ ـ ودون أن تعي ذلك ـ تقدر أن تقوم بمجازفات تجريبية لا يجرؤ السينمائي أن يقوم بها.. فمثل هذه المجازفات ترعب المخرجين التقليديين، المحافظين، الذين يشعرون بأن هناك قواعد وقوانين لابد من الالتزام بها. أما انا فأنتهك تلك القوانين باستمرار.. ليس من موقع المعادي لها بل بالأحرى من موقع الدخيل الذي يتساءل: هل هذه القوانين والتقاليد ضرورية حقا؟"
والاميركي ديفيد لينش الذي بدأ رساما ودرس في أكاديمية الفنون التشكيلية في فيلادلفيا قبل أن يعمل في السينما في 1967 والذي يقول: بدأت رساما، والسينما هي امتداد لهذا الفن. في الرسم ابتكر قصة تنسجم مع الصورة، لكن هناك دائما في ذهني تلك الأصوات التي ترافق الرسم.. أفلامي عبارة عن لوحات سينمائية، لوحات تتحرك على شرائط السليولويد، ثم أقوم بتركيب الصوت لخلق حالة فريدة واستثنائية: تخيل موناليزا وهي تفتح فمها، من الفم تخرج الريح، بعد ذلك تستدير موناليزا وتبتسم.. سيكون ذلك غريبا وجميلا.. إن فهمي للسينما ينبع من خلفيتي التشكيلية حيث أنني أتخطى القصة الى حالة اللاوعي التي يوجدها الصوت والصورة".
وهناك الإيطالي انتونيوني الذي لم يحترف الرسم، والذي قال: انا لست رساما، بل انا سينمائي يرسم.
واذا عدنا الى البدايات فسوف نجد، مع انتشار السينما في العشرينيات من القرن العشرين، إن العديد من التشكيليين السورياليين كانوا يرون في السينما وسطا مثاليا لسبر واستكشاف عوالم أخرى. مان راي وهانز ريختر وفرانسس بيكابيا كانوا ضمن الفنانين الذين قاموا بمحاولات تجريبية مع الفيلم لغايات سوريالية. بيكابيا كتب سيناريو فيلم (استراحة) من إخراج رينيه كلير. وسلفادور دالي شارك بونويل في كتابة وإخراج (كلب اندلسي) إن هذا الانتقال من الوسط التشكيلي الى الوسط السينمائي يجعل هؤلاء الفنانين، وعلى نحو محتوم، يوجهون اهتماما وعناية اكبر بتكوين الصورة. عندما يأتي الرسام الى الفيلم فانه، بالضرورة يأتي حاملا معه نظرة التشكيلي الى التكوين واللون. ولابد أن وظائف الرسام والمخرج السينمائي تغذي بعضها البعض.

مخرجون كثيرون تأثروا الى حد بعيد بالفن التشكيلي من حيث توظيف الألوان والإضاءة، ومن حيث التكوين:
السينما التعبيرية الألمانية استفادت من المذهب التعبيري في الرسم حيث التلاعب بالضوء والظل، والتكوينات التشكيلية، وحيث التنافر والتكثيف، الزوايا والمنظورات المحرفة، الأشكال ذات المظاهر والأحجام غير الطبيعية، الظلال الاصطناعية والإضاءة الانتقائية.
في أفلام الدنماركي كارل دراير نجد مصاهرة بصرية بين لقطاته وعوالم اللوحات الهولندية والدنماركية الكلاسيكية.
الاميركي روبن ماموليان تأثر باللوحات الأسبانية: موريللو وجويا وال جريكو وفيلاسكويز.
الاميركي الطليعي ستان براكهيج، وهو فنان تشكيلي أيضا، تأثر بالرسم التعبيري التجريدي، وقال: أسعى الى سماع اللون."
الإيطالي لوشينو فيسكونتي كان يستفيد من لوحات معينة في مراحل تاريخية معينة، مستلهما منها الأزياء بوجه خاص.
ستانلي كوبريك تأثر بالتقاليد الكلاسيكية والرومانتيكية، وبالرسام جوبا.
تاركوفسكي تأثر بالرسم الإيطالي في عصر النهضة.. دوشيو وبويتشيلي وآخرون.
ديفيد لينش تأثر بفرانسس بيكون وادوارد هوبر وهنري روسو.
ويقول المخرج تيري جيليام: فيلمنا (Jabberwocky) قريب جدا من رسومات بوش وبروجيل. هيرونيموس بوش كان مصدر الهام دائم."
المخرج الفيتنامي تران آنه صرح قائلا: فرانسيس بيكون هو رسامي المفضل. هناك بضعة أشياء من بيكون في فيلمي (Cyclo). انا متأثر به كثيرا وبالفكرة التي تتضمن بقوة في رسوماته: الوحشية بوصفها حقيقة.
المخرج البريطاني تيرنس ديفيز يؤطر كل لقطاته بعناية رسام. قبل أن يصور فيلمه (The Long Day Closes) عرض على مدير التصوير كتابا يضم لوحات فيرمير ورمبرانت وآخرين لدراسة تفاعلات الضوء والظل. وهي لوحات تأسر ـ كما يقول المخرج ـ الحالات والأحاسيس التي أراد أن يوصلها.
المخرج البريطاني الآخر بيتر جرينوي عبر عن افتتانه بإحساس فيرمير البصري، وهو يستهلم أسلوب فيرمير في التكوين حيث كل لقطة مركبة على نحو صارم ودقيق جدا. وهو في أفلامه غالبا ما يوجه تحية تقدير الى فيرمير ورمبرانت وبقية رسامي العصر الذهبي الهولندي.. ليس فقط من خلال التكوينات المقتبسة من أعمالهم، ومحاكاة تكوينات هؤلاء من حيث المظهر والكتلة واللون والإضاءة والحركة، لكن أيضا من خلال استخدامه لمصادر الإضاءة. وهو يقول: أحب لأفلامي أن تتحقق. بالطريقة التي فعلتها الرسومات الهولندية في عصرها الذهبي.. على المستوى الواقعي والمجازي. إن أفلامي يمكن تفسيرها على نحو مرض أكثر، ويمكن فهمها على نحو أفضل، عند تطبيق جماليات الفن التشكيلي عليها."

* * *

المستوى الآخر من تأثر السينما بالفن التشكيلي يكمن في إعادة الإنتاج البصري (السينمائي) للوحات عالمية من مختلف العصور والمراحل، إضافة الى الإشارات ـ أو الإحالات ـ الى لوحات كلاسيكية معروفة. هذا التنوع من الوعي التشكيلي يعكس رغبة المخرج في إعادة خلق الصور ذات القوة العاطفية وتعزيز كثافتها.
في فيلمه (فريديانا) جعل المخرج لويس بونويل مشهد العشاء يحاكي تماما لوحة ليوناردو دافنشي (العشاء الأخير)، من حيث شكل المائدة وأوضاع الأشخاص وإيماءاتهم. وعندما يعيد بونويل خلق هذه الصورة في الفيلم فانه يعرض مصاهرة مماثلة للوحه. لكن ثمة غاية هجائية هنا مع إبراز حالة عبثية: مجموعة من الشحاذين السكارى يحاكون سلوك وإيماءات شخصيات دينية وقورة.
عندما يعاد خلق لوحة مشهورة فان مثل هذه اللحظات ـ ذات البعد السوريالي أحيانا ـ تنزع الى تحطيم توقعات المتفرج بشأن ما ينبغي لهذه الصور أن تضاهي أو تشبه. مثل هذه الرؤية تصدم ذاكرة ووعي المتفرج. كذلك تسعى إعادة الخلق ـ شكليا ـ الى إضفاء خاصية جمالية على اللقطة. ومن جهة المحتوى فإنها تحمل طاقة إيحائية ومجازية.

* * *

عندما أراد هيتشكوك أن يجسد على نحو سوريالي حلم البطل في فيلمه (المسحور)، فقد استعان بالرسام سلفادور دالي لتصميم مناظر مشهد الحلم. وجاءت صور دالي لتشبه تلك الصور التي نراها عادة في لوحاته، والحافلة ـ هذه الصور ـ بالخطوط المتعرجة والظلال الطويلة والإحساس الحاد بالمنظور.
غير أن المشهد لم ينجح سينمائيا لأنه بدا نتاج حلم رسام أكثر من كونه حلم مخرج سينمائي. لقد أعاد دالي خلق سوريالية الكانفاس فقط. لكن بسبب الواقعية المتأصلة والمتجذرة في الوسط السينمائي فان الفيلم يحتاج بالضرورة الى منهج مختلف للتعبير عن الحساسية السوريالية.
وفي هذا الخصوص يقول هيتشكوك: السبب الحقيقي الذي جعلني استعين بسلفادور دالي هو أنني أردت أن انقل الحلم بحدة بصرية عالية. أردت دالي بسبب الحدة المعمارية في أعماله. دي شيريكو لديه الخاصية ذاتها، اعني الظلال المديدة اللامتناهية والبعد وخطوط المنظور التي تلتقي عند نقطة واحدة.
بعد سنوات، يوظف هيتشكوك أسلوب دي شيريكو في تحفته السينمائية (Vertigo) (دوار) عندما يصور البطل وهو يلاحق البطلة في مواقع مختلفة (معرض تشكيلي، ومقبرة وكنيسة وبيت قديم) حيث الظلال المديدة وعمق المنظور وفراغ الأمكنة..
والبطلة تنتقل عبر المناطق كما لو في حلم.
بالنسبة للألوان (أطفال الظلال.. كما سماها ليوناردو دافنشي) فان الأفلام توظفها جماليا (من ناحية التناسق والتكوين) أو رمزيا (كتعبير عن رؤية ذاتية للواقع والأشياء) أو دراميا للتعبير عن الحالة العاطفية والنفسية والذهنية للشخصيات.
يقول انتونيوني: أود أن ألون فيلمي وكأنه لوحة وارغب بأن احقق فيه مزاجي اللوني الخاص. أود أن اخترع علاقات لونية ولا أريد أن أقيد نفسي بألوان تصويرية طبيعية(..) اللون بالنسبة لي يمتلك وظيفة نفسية ودرامية(..) على المخرج أن يستخدم في فيلمه الألوان المناسبة للقصة وان يستبعد الألوان الأخرى."
الكثير من مصوري السينما استفادوا من اللوحات التشكيلية في كيفية توظيف الألوان والإضاءة، وفي تبني إضاءة رامبرانت المجهولة المصدر لغايات درامية. المصور الإيطالي فيتوريو ستورارو استفاد كثيرا من أعمال كارافاجيو وفرمير وآخرين في تعزيز الثراء التشكيلي للصور السينمائية.
والمصور العالمي نستور الميندروس يقول في كتابه (رجل وكاميرا) (A Man With a Camera): عندما احضر لفيلم ما فإنني عادة أفكر في رسام معين أو مدرسة معينة في الرسم. في فيلم تروفو (الإنجليزيتان) وجهنا عنايتنا الى الرسم الفيكتوري دون أن يغيب عن بالنا الانطباعيون الفرنسيون. الفيلم تدور أحداثه في مطلع القرن العشرين. كيف بامكاننا أن نعين هوية تلك المرحلة؟ باللوحات. بتأمل تلك اللوحات يدرك المرء أن الألوان الصافية في الملابس وأوراق الجدران وغير ذلك لم تكن موجودة في ذلك الحين.. ربما بسبب استحالة التحضير التقني للأصباغ(..) وفي فيلم (ركبة كلير) أراد المخرج اريك رومر المظاهر التي تبدو في لوحات جوجان حيث الأسطح ثنائية البعد والألوان الصافية."
ويكشف الميندروس عن تأثير فيرمير في استخدام الإضاءة والتي تأتي جانبية من خلال النوافذ. ويقول الميندروس: هناك بضعة رسامين كانوا دائما مصدر عون لي لأنهم استخدموا الضوء من اجل إعطاء إحساس ثلاثي الأبعاد بالمرئيات. فيرمير مع الأجزاء الداخلية النهارية، لاتور مع الأجزاء الداخلية الليلية المضاءة بمصدر ضوئي كاللهب، رامبرانت وكارفاجيو مع طرائقهما في توزيع الضوء والظل، إضافة الى مونيه ورينوار وغيرهما من الانطباعيين.
وفي حديث للمخرج كاريل رايس عن فيلمه (عشيقة الملازم الفرنسي) قال: في المشاهد التي تدور في العصر الفيكتوري لجأنا بوعي تام الى استخدام النوع الأكاديمي من الإضاءة، ذلك النوع الذي تراه في اللوحات الفيكتورية. كذلك استخدمنا الإضاءة الأمامية والإضاءة الجانبية في رسم الشيء كما كان يحدث في أعمال ما قبل الانطباعية."
كذلك يشمل التأثر بالأعمال التشكيلية مجالي الديكور والملابس حيث يتم العمل بوحي من القواعد الكلاسيكية لاستخدام اللون إضافة الى التوظيف الدرامي له.

* * *

ولا شك أن للسينما أيضا تأثيرا على الفنانين التشكيليين، إذ يقال أن سلفادور دالي كان كثير التردد على دور السينما طلبا للإثارة والإلهام (على عكس ماتيس الذي كان يشاهد الأفلام لينسى همومه).
ومن مظاهر التأثر نجد اقتراب اللوحة من المشهد السينمائي، أو محاولة إبراز المنظور من زوايا مختلفة وأحجام متفاوتة كما تفعل الكاميرا.

* * *

السينما، طوال تاريخها، قدمت العديد من الأفلام عن الرسامين، بعض هذه الأفلام يحتفي بالفنان بوصفه عبقريا معذبا، رائيا، والذي يتخطى ظروفه الاجتماعية المباشرة مثل (شهوة الى الحياة) 1956 عن فان جوغ. وأفلام أخرى، أبرزها فيلم تاركوفسكي عن رسام الأيقونات أندريه روبليف 1966 تسعى الى عرض المرحلة التاريخية والاجتماعية التي عاش فيها الفنان. وهناك أفلام مثل (كارافاجيو) للمخرج ديريك جارمان 1986، تعيد بناء أو تركيب علاقة الفنان بواقعه من خلال مزيج من الحقائق والتخيلات، وبالتالي فان هذه الأفلام لا تحرص على تصوير التجربة الحياتية للفنان، ولا تقدم بورتريها واقعيا أو سيرة ذاتية للفنان، بقدر ما تهتم بخلق عوالم بديلة، وبتقديم رؤية شخصية. وهناك أفلام تتيح لنا أن ننفذ الى عملية الإبداع وسر الخلق الفني، دون أن يكون الفيلم درسا في الفن أو في تاريخ الفن. إن التركيز على فعل الخلق والبحث عن عناصر ادراك الفنان التي رافقت تحقيق اللوحات، هي محاولة لكشف الصلة بين حياة الفنان وتعبيره الجمالي، اي أن يكون الفنان نموذجا لسبر واستكشاف مسألة سيكولوجية الإبداع الفني.

* * *

أخيرا، فان ثمة مجالا لا يمكن التغاضي عنه، وهو مجال الرسوم المتحركة، حيث فيه تتأسس العلاقة الحميمة بين السينما وفن الرسم، وحيث يكون حضور التشكيل بارزا وقويا. وقد أشار روبير بنايون في كتاب له صدر في العام 1961 الى الصلة الوثيقة بين بعض أفلام الرسوم المتحركة وأعمال كاندنسكي وخوان ميرو وايف تانجي. وبيّن الى اي مدى استفادت بعض أفلام التحريك من امكانات الخط أو الرسم التخطيطي أو الألوان أو تنفيذ الحركة أمام خلفية فارغة.
وينبغي ملاحظة أن منفذي أفلام الرسوم المتحركة هم من الرسامين أساسا، الذين يحملون أساليب ورؤى مختلفة، بل أن بعضهم حقق نجاحا ملفتا عندما انتقل الى مجال الأفلام الدرامية الطويلة مثل الياباني كون ايشيكاوا والبولندي فاليريان بوروفشيك وغيرهما من الذين حملوا معهم تأثراتهم بمجال التحريك من حيث توظيف الألوان والتعامل مع الشاشة كما لو أنها لوحة تستقبل تكويناتهم الجديدة، والتعامل بطريقة مغايرة في السرد والبناء والمونتاج، واعتماد الغرابة والإدهاش.

نص الورقة التي قدمها الكاتب في ندوة بعنوان (السينما والفنون الأخرى) في مسقط- فبراير - 2004