أمين صالح، تجربته متعددة وإسهاماته رصينة
من "هنا الوردة.." إلى "رهائن الغيب"

عمر شبانة
(الأردن/ الإمارات)

أمين صالحهناك كاتبان في البحرين، شاعر وقاص، يحفران إبداعياً في الفضاء المكاني والزمني نفسه تقريباً. ولولا بعض الفروقات التفصيلية لقلت إن قاسم حداد الشاعر وأمين صالح القاص والروائي يكتبان نصين ليشكلا نصاً واحداً في النهاية، فهما يكتبان مدينة المحرق وفضاءاتها وبيوتها وأحياءها من زاوية النظر نفسها تقريباً. ومن يقرأ رواية أمين صالح الجديدة "رهائن الغيب" وكتاب قاسم حداد "ورشة الأمل" سيكتشف أنهما نصان يقدمان المكان نفسه والبشر أنفسهم، باختلاف الأسلوب وبعض العناصر هنا وهناك.

1

من هذا المدخل أقف مع أمين صالح الذي منذ مجموعته القصصية الساحرة "هنا الوردة هنا نرقص" التي صدرت في النصف الأول من السبعينات برز بوصفه كاتب قصة من طراز رفيع وصوتاً من أقوى الأصوات القصصية العربية وأعذبها آنذاك، وكان من الأصوات الخليجية القليلة التي فرضت حضوراً عربياً مميزاً بقدراته الإبداعية ورصيناً في نتاجه المتعدد. ثم راحت عطاءاته تتعدد، فكتب الرواية والشعر والمسرح وسيناريو الفيلم السينمائي وترجم الكثير مما يتعلق بالسينما العالمية. وهو يعد اليوم واحداً من كبار المبدعين الخليجيين والعرب القلائل الذين قدموا مثل هذه الإسهامات الإبداعية المتعددة والرصينة. لكنه ظل طوال مسيرته قليل الظهور في المحافل الثقافية والأدبية العربية، دون أن يعني ذلك أنه كان في الظل، بل هو في وسط المشهد الإبداعي ولكن عبر إبداعاته لا عبر شخصه الهادئ والرقيق وكثير الصمت. ولذا ربما كان من الكتاب العرب الأقل حظوة بالمتابعات النقدية الجادة والمعمقة.

ومنذ ذلك الحين كتب أمين صالح القصة والرواية والشعر والنصوص المفتوحة العصية على التصنيف والواقعة بين السرد والشعر والخاطرة الأدبية الراقية، كما كتب سيناريو الفيلم وترجم عدداً من الكتب السينمائية، وكانت آخر إبداعاته هي الصادرة حديثاً والمتمثلة في روايته "رهائن الغيب: والذين هبطوا في صحن الدار بالأجنحة" التي سنحاول هنا التوقف معها ملياً. كما سنمرّ على بعض كتاباته الأخرى من خلال الكتب التي توفرت لنا وهي "ندماء المرفأ ندماء الريح"، "العناصر"، "ترنيمة للحجرة الكونية"، و"مدائح".

في نهاية كتابه "ندماء المرفأ. ندماء الريح"، في الجملة الأخيرة من آخر نص فيه، يقول "أعلن للجميع أني محبرة اليأس وأن حديثي حديث حالم"، يأس وحلم. هذه الثنائية الصراعية هي إحدى الثيمات التي تحكم كتابة أمين صالح. وهي كتابة أول ما يميزها في اعتقادي هو قسوتها وقسوة العوالم التي تتناولها واللغة والمفردات التي تعالج بها موضوعاتها، تلك القسوة التي يراد منها تعرية الخراب والفساد والمفسدين والطغاة، تعرية البؤس والكشف عن جذوره وأسبابه، والدعوة إلى الانتفاض والثورة والتغيير.

ولأن كتابة أمين صالح ثائرة ومتمردة، فهي تحتفي بالمتمردين والثوار والنبلاء، كما تحتفي بالعشاق الباسلين من البشر، ففي نص له بعنوان "الخسوف" نقف على المرأة العجوز التي يصفها السارد بأنها ستموت في يوم غائم بين مزامير أحفاد غائبين. وحين نتابع شخصية العجوز، نجد أنها من سلالة نادرة في قوة حضورها أينما حلت. وأنها حين تزوجت رفضت كل العروض المقدمة لها واختارت "الأنبل والأقوى"، وهو الذي سيتبين لنا أنه الرجل "المطارد، البالغ الجسارة، المغسول بالكبرياء، قال كلاماً أغضب الدرك القساة، هجموا عليه فصرع واحداً، تكالبوا عليه وطاردوه من وحل إلى وحل يبغون قطع لسانه".

هي كتابة تستحضر الربابنة الشجعان الذين يجرون كلاب البحر من خياشيمها ويثيرون الفتن في المستعمرات، الأمر الذي يحيل إلى ما يدعوه السارد بـ"كتاب الاحتلال وأيام المجاعة والجواسيس"، هذا الكتاب الذي نجده شديد الحضور في كتابات أمين صالح، فهو في كثير من كتاباته يتوقف ليشرح ويكشف ويعري من يسميهم "سماسرة يقامرون بالدول في حلبة المراهنات". ويضع في مواجهتهم أناساً "مدججين بالعصيان".
ولعل قارئ نصوص أمين صالح المبكرة يستقرئ قدرة لدى الكاتب على استشراف الخراب القادم، ففي نهاية نص "الخسوف" نجد في ما يشبه الصرخة الشعرية ولكن الواعية التي يرى صاحبها ما سيأتي فيصرخ:
"الخسوف وشيك
والعالم، هذا المساء، سيخلع تضاريسه
ويتشظى دونما جلبة".
وتتصاعد وتيرة الصراخ لما يتراءى للكاتب من "مظالم" في العالم، فنقرأ في نص "دم الطريق" صوراً شديدة القسوة والبشاعة. نقرأ عزفاً لجوقة في جنازة لأشلاء المحاربين، ولقباب الرخام، ولثرثرة المنابر، وعصف الحلبات، لخصومة الطرق، وحديد المظالم..، ثم

نقرأ "فاتحة الانهيار: عتال يأكل لحماً بشرياً/ خاتمة الانهيار: نزوح جماعي نحو البحر"، حيث البحر هو المنقذ، و"من كان بلا بحر تقتلعه قبضة الخراب".

2

عالم فانتازي أو سرياليّ يطل علينا من كتاب "العناصر"، يبدأ بمشهد شبه واقعي لبائع بالونات بائس، ثم تتوالى المشاهد على نحو سينمائي شديد الغرابة، لكنه يعبر عن رؤية عميقة للعالم الذي يتحرك فيه "بطل" الحكايات التي نراها في الشارع أو في الحي الذي يتحرك فيه أبطال قصص أمين صالح، الحي البائس غالباً، والذي تجري فيه صراعات مريرة بين فئات وطبقات متفاوتة. عالم من البؤساء الذين يتعرضون للاضطهاد والقهر والاستغلال، عالم من الأطفال والنساء والغرباء.
عالم البؤس هذا ينسجه الكاتب من الواقع، لكنه يغلفه بغلالات شفيفة من الرمزية حيناً والسريالية حيناً آخر، وفي لغة شاعرية في كثير من الأحيان، فنرى الأرض "تذرف مجزرة لأنفاسها رائحة طين مطعون بالدم"، ويتساءل السارد "لماذا ساحات الفقراء لا تتزين سوى بجثث أبنائها؟ وحدها يغتالها النصل بغتة"، وثمة مشاهد شديدة القسوة، منها مشهد "نوتي مشروخ الرأس بمجداف"، أو سائس هزيل "مشنوق بحدوة" هو الذي كانت اليمامة "تلتقط من راحته القش.. وكان رحيماً كالرغيف، وهاهو يتدلى مهجوراً حتى من رفيق يرشق موته بالصلوات والهذيان، وبعيداً يتناثر الأطفال أكواماً فرائس الطعنات الأولى..". وتتكرر مشاهد العنف فنرى رجلاً يحمل بين ذراعيه شاباً و"يسكب دمعة على شرخ في جبين الشاب.. ضربة فأس لا ريب.. والذي بين ذراعيه صار نزفاً وصدى"، وعلى هذا المشهد تشهد الشجرة التي تطلق صيحة عنيفة وتستل جذورها من بين تصدعات التربة وتهتز بطريقة ترعب المحيط.

3

أما كتابه "ترنيمة الحجرة الكونية" فينطوي على صور أخرى للبؤس والخراب، حيث "مذبحة تلد على عجل مذبحة أخرى" في ليل أغسطس الذي يشعل في الكاتب "منابر الحداد، وبقايا سلالة باذخة، كانت قبل ساعات تخيط بالمصابيح سهرة عامرة بقهقهات اللذة، وأخرى يناوشها النوم في استحياء"، وحيث الشخص يصرخ "كم بأساً نحتاج لنجتاح هذا الهول ونبرأ؟/ كم يأساً نحتاج لتخومنا المرحة؟".
هنا تبدو النقلة من مجتمع الخليج ما قبل النفط إلى ما بعد النفط، إلى زمن "الوفرة" كما يسميه الكاتب، هذه الوفرة التي يرى أنها ذهبت في اتجاه لا يحسب حساب الإنسان، وهو لا يحمل النفط مسؤولية هذا الأمر "لا نوجه توبيخاً لك أيتها الوفرة، لكن الرياح توبخ السفن إن انزلقت في الضلالة"، ويبدو أن سفن الوفرة قد غرقت في مثل هذه الضلالة. وفي هذه الضلالة يرى الكاتب "طغاة يدحرجون - مدى الحياة - أوطاناً بحجم النارنج، ومع قنافذهم المضيئة، البارعة في إثارة الفتن، يتنزهون في معسكرات تضج بالمسوخ".
وفي كتابة أمين صالح ثمة دائماً هذه المواجهة مع "الدخيل"، سواء كان الدخيل على الحي - أي القادم من أحياء أخرى داخل المدينة نفسها والوطن نفسه، أو الدخيل الذي يجتاح الوطن كله، وفي كلا الحالين فالمواجهة تكشف عري الذات إلى جانب كشفها عن همجية الدخيل، فالذات الهزيلة المطمئنة بضعفها وخوائها هي ذات قابلة للغزو والمحاصرة. ولكن الكاتب لا يقول ذلك مباشرة، وهو يكرره في غير موضع من كتبه، لكنه يقوله كل مرة بأسلوب وبلغة وباستعارات مختلفة "أبوابنا المطاطية،

المنطفئة منذ القيلولة، أطلقت ابتهالات زائلة وأقسمت كذباً أنها لم تسمع وقعاً مريباً" هذا في حين كان الحصار يأتي عدواً و"القناص الملوث بكبريت المستنقع، لقيط الرماد، يسيّج رخاوة أحواضنا بالدنس ويرمي شباكه ليصطاد شرفاتنا الثملة..".
أو أن الكاتب يسخر من الذات بأسلوب آخر منادياً الأعداء "هلم أيها الدخيل، هات صواعقك القاهرة في خلاء أرواحنا واقصف بلا رأفة مرابطنا المشؤومة، أخاديدنا أضحت سالكة، فلا تصفح عنا ولا ترفق براياتنا البيضاء كمسحوق الحكمة، ستكون لظلك الجهوري حظوة بيننا، نحن المتخمين بالانشقاقات وحليب التفسخ". بهذه اللغة المبطنة بالاستعارات والاحتمالات يأخذا الكاتب لنرى عرينا وذواتنا الممزقة والمتفسخة من شدة التعفن، وعلى غير صعيد، وخصوصاً على المستويين الاجتماعي والسياسي.
وتنقلنا "مدائح" أمين صالح نقلة كبيرة من عوالم البؤس والقهر واليسار المهترئ والنضالات المقموعة والمفسدة، إلى عالم الحب الحميم، العالم الذي يشتبك فيه صوت الرجل بظلال المرأة فنقرأ نصوصاً من الحب الذي يجمع الصوفي والشبقي في نطاق علاقة سامية وغنية بالمشاعر الإنسانية النبيلة. فالمدائح هنا، وعلى النقيض من كل المدائح التي يكتظ بها شعرنا وتاريخنا، موجهة إلى المرأة وإلى الحب، لا إلى ملك أو حاكم أو زعيم. الملك الممدوح هنا هو الحب والجمال، المرأة في أقصى حالات تجليها في العلاقة مع الرجل:
"رفقاً أيها العشبُ بالقدمين المغسولتين بماء الورد
كن رحيماً بخطى من أحب
أيها العشب".
ومنذ المقطوعة الأولى في الكتاب حتى المقطوعة رقم 152، ليس سوى اختلاجات عاشق لا يرى حياته من دون معشوقته، ولا يرى سواها في حضورها الذي هو حضور الحياة. وتحضر المرأة هنا في صور متعددة، فهي وطن وعاطفة وشبق سري يقود روح الشاعر إلى الحياة لا إلى التهلكة كما يصور بعض العشاق، يقول العاشق ببساطته "وطني هناك/ في الحدقة الأكثر من سرير"، ويرى العالم جميلاً من خلال الحبيبة "العالم جميل، ليس بذاته، ولكن لأنه ينتحل وجهك".

4

في صورة تقارب بين كتابة اليوميات وكتابة السيرة الذاتية للفرد وللمكان ولشلة من الأطفال الذاهبين نحو الفتوة، وبتقنية تقارب تقنيات التقطيع في الفيلم السينمائي، وبلغة تمزج الواقعي بالحلمي والشاعري، على هذا النحو يكتب أمين صالح روايته الجديدة "رهائن الغيب: والذين هبطوا في صحن الدار بلا أجنحة". هي سيرة الفتى "حميد" منذ لحظة ولادته في حي "الفاضل"، لكنها سيرة الحي نفسه أيضاً منظوراً إليه من زاوية رؤية حميد.

ومنذ البداية يقول لنا الراوي الذي يحيل إلى الكاتب "حميد هذا هو الصغير الذي كنته في الزمن الراكض نحو مشارف الصبا، خارجاً من مهب الطفولة، ومعه تتراكض منازل تشتعل حجراتها شهوة إلى المصادفات"، لكن الكاتب/ الراوي يعود فينكر أنه هو حميد، فحميد "هو الآخر الذي لم أكنه أبداً، والذي يشيد من حطام الذاكرة عالماً لم تطأه قدماي.. أو ربما وطأت بعض جذوره". ويؤكد الكاتب "إذ أكتب ما تمليه علي الذاكرة وما لا تمليه، فإني أصون الذاكرة وأخونها في آن". ويؤكد أيضاً أنه يسرد "مرايا حي الفاضل في العام 1963". و والكاتب من مواليد العام 1950، فقد كان في العام 1963 في الثالثة عشرة من عمره ويقارب الـ 14.

ليست هذه المقدمة سوى تمهيد لتقديم العالم الذي يتحرك فيه "أبطال" الرواية/ السيرة وشخوصها، هؤلاء الذين هم رهائن غيب لا يعرفون أين يأخذهم، غيب أو مجهول يحاولون اكتشافه ومعرفة أسراره بالجنوح والمغامرة. فالراوي (حميد) يفتح لنا

أبواب بيوت ومحلات ويأخذنا إلى مدرسة وأزقة وخرابات، لنرى هموم البشر ومشكلاتهم وتفاصيل حياتهم الصغيرة والكبيرة، من خلال الشخوص الرئيسية في الرواية: حميد، زكريا، إبراهيم، كريم الأعرج، مفتاح، وعزوز ابن الخباز، وسواهم.

هنا عالم روائي يتخفف من الفانتازيا ويذهب إلى الواقعية الشرسة، واقعية البؤس والشراسة والعنف الدموي، من جهة، وواقعية العلاقات بين الفرد والمجتمع من جهة ثانية، لكنه عالم لا يخلو من العواطف السامية، غير أنها عواطف مقموعة ومقهورة ومضطهدة. وكأن البؤس لا يترك أي مساحة للحب وللمشاعر الإنسانية النبيلة. وكأن ثمة قوى، بل لا شك في وجود قوى خفية ومجهولة تصنع هذا البؤس البشري.
تصنع مجتمع الجريمة والعنف والتعديات على حقوق الإنسان، حقوق الطفل والمرأة تحديداً في حياة حرة كريمة.

من مواليد (1950)،
يكتب القصة القصيرة و الرواية و السيناريو. مترجم ، ومهتم بالسينما بشكل خاص. كتب قصة وسيناريو"الحاجز" وهو أول فيلم روائي في البحرين، له العديد من الأعمال التلفزيونية في مجال الدراما و المنوعات. عضو أسرة الأدباء و الكتاب في البحرين. عضو مسرح (أوال)- البحرين. ترجمت قصصه لعدد من اللغات الأجنبية

صدرت له الكتب :

  1. هنا الوردة ، هنا نرقص 1973،
  2. الفراشات 1977
  3. أغنية ألف صاد الأولى 1982،
  4. الصيد الملكي 1982،
  5. الجواشن (نص مشترك مع قاسم حداد) 1989،
  6. الطرائد - دار الفارابي - بيروت - 1983،
  7. ندماء المرفأ، ندماء الريح - نصوص- البحرين - 1987،
  8. العناصر - نصوص - البحرين - 1989،
  9. ترنيمة للحجرة الكونية 1994،
  10. مدائح 1997،
  11. السينما التدميرية - تأليف أموس فوغل - (ترجمة)،
  12. وأخيراً "رهائن الغيب" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 2004.