الجوهر الشعري للسينما

كتابة‮ -  ‬اندريه تاركوفسكي

ترجمة‮: ‬أمين صالح

‬اندريه تاركوفسكيالروابط الشعرية‮ - ‬منطق الشعر في‮ ‬السينما‮ - ‬هي‮ ‬مرضية على نحو رائع‮. ‬إنها تبدو لي‮ ‬ملائمة على نحو مثالي‮ ‬لإمكانية السينما بوصفها أكثر الأشكال الفنية صدقاً‮ ‬وشعرية‮. ‬يقينا أشعر بالتوافق والانسجام معها أكثر مما أشعره مع الكتابة التقليدية المتكلفة التي‮ ‬تربط الصور من خلال التنامي‮ ‬الطولي، ‮ ‬المنطقي‮ ‬على نحو صارم، ‮ ‬للحبكة‮. ‬هذه الطريقة المتفقة على نحو ضاج مع العرف في‮ ‬ربط الأحداث هي‮ ‬عادة تقتضي‮ ‬ضمناً‮ ‬فرض الأحداث، ‮ ‬على نحو استبدادي، ‮ ‬امتثالاً‮ ‬لمفهوم نظري‮ ‬تجريدي‮ ‬بشأن الترتيب والنظام‮. ‬حتى عندما لا‮ ‬يكون الأمر كذلك،‮ ‬حتى عندما تكون الحبكة محكومة وموجهة من قبل الشخصيات،‮ ‬فإن المرء‮ ‬يكتشف بأن الروابط،‮ ‬التي‮ ‬توحدها وتجعلها متماسكة،‮ ‬تتكئ على تأويل سطحي‮ ‬لتعقيدات الحياة‮.‬
لكن مادة الفيلم‮ ‬يمكن أن تتزاوج معاً‮ ‬بطريقة أخرى والتي‮ ‬تعمل،‮ ‬قبل كل شيء،‮ ‬على كشف منطق التفكير عند شخص ما‮. ‬هذا هو الأساس المنطقي‮ ‬الذي‮ ‬سوف‮ ‬يملي‮ ‬تعاقب الأحداث، ‮ ‬والمونتاج الذي‮ ‬يصوغها في‮ ‬وحدة كاملة‮. ‬إن ولادة وتطور الفكر خاضعان لقوانين خاصة بهما، ‮ ‬وأحياناً‮ ‬يقتضي‮ ‬ذلك أشكال تعبير مختلفة تماما عن أنماط التأمل المنطقي‮. ‬في‮ ‬رأيي،‮ ‬الاستنباط الشعري‮ ‬هو أقرب الى القوانين التي‮ ‬بواسطتها‮ ‬يتطور الفكر،‮ ‬وبالتالي‮ ‬أقرب الى الحياة نفسها،‮ ‬من منطق الدراما التقليدية‮. ‬ومع ذلك فإن طرائق الدراما الكلاسيكية هي‮ ‬التي‮ ‬كان‮ ‬ينظر إليها باعتبارها النماذج الوحيدة، ‮ ‬والتي‮ ‬لسنوات طويلة قد حددت الشكل الذي‮ ‬فيه‮ ‬يتم التعبير عن الصراع الدرامي‮.‬
من خلال الصلات الشعرية‮ ‬يتم تصعيد وتعميق الشعور،‮ ‬ويصير المتفرج فعالا أكثر‮. ‬إنه‮ ‬يصبح مشاركا في‮ ‬عملية اكتشاف الحياة،‮ ‬تحت تصرفه فقط ما‮ ‬يساعد على اختراق المعنى الأعمق للظواهر المركبة المروضة أمامه‮.‬

حين أتحدث عن الشعر فإنني‮ ‬لا أنظر اليه كنوع أدبي‮. ‬الشعر هو الوعي‮ ‬بالعالم،‮ ‬طريقة خاصة للاتصال بالواقع،‮ ‬هكذا‮ ‬يصبح الشعر فلسفة ترشد الانسان طوال حياته،‮ ‬ويصبح الفنان خالقا للجمال الخاص الذي‮ ‬ينتسب للشعر فقط،‮ ‬وقادراً‮ ‬أن‮ ‬يتبيّن خطوط التصميم الشعري‮ ‬للوجود،‮ ‬وأن‮ ‬يتخطى قيود المنطق المتماسك،‮ ‬وكشف التعقيد العميق وحقيقة الروابط‮ ‬غير المحسوسة وظواهر الحياة المخفية‮.‬
بدون مثل هذا الإدراك ونفاذ البصيرة،‮ ‬حتى العمل الذي‮ ‬يزعم أنه معبّر بصدق عن الحياة سوف‮ ‬يبدو تبسيطياً‮ ‬ومنتظما بشكل اصطناعي‮. ‬قد‮ ‬ينجز الفنان وهماً‮ ‬ظاهرياً،‮ ‬مظهراً‮ ‬شبيهاً‮ ‬بالحياة،‮ ‬لكن ذلك‮ ‬يختلف تماما عن سير واستنطاق الحياة أسفل السطح أظن أنه ما لم‮ ‬يوجد رابط عضوي‮ ‬بين الانطباعات الذاتية للمبدع وتصويره الموضوعي‮ ‬للواقع فسوف لن‮ ‬يحقق حتى المصداقية الظاهرية،‮ ‬دعك من الموثوقية والصدق الداخلي‮.
الاتجاه الى المنطق الشعري‮ ‬محفوف بالعداوة‮. ‬المعارضة تنتظرك عند كل منعطف،‮ ‬على الرغم من حقيقة أن المبدأ هو شرعي‮ ‬تماما كما هو منطق الأدب أو الدراما‮. ‬كلما استبدلنا السببية السردية بمفاصل شعرية،‮ ‬وكلما أظهر البناء الدرامي‮ ‬أدنى علامة تشير الى نهوض شيء جديد،‮ ‬والتعامل مع الأساس المنطقي‮ ‬للحياة اليومية بحرية نسبيا،‮ ‬تعالت صيحات الاحتجاجات وعدم الفهم‮. ‬هذه الأصوات،‮ ‬في‮ ‬الغالب،‮ ‬تشير الى الجمهور وتتحدث نيابة عنه،‮ ‬قائلة بأن الجمهور‮ ‬يحتاج الى حبكة مكشوفة،‮ ‬واضحة وظاهرة للعيان،‮ ‬بلا انقطاع أو تغير مفاجئ في‮ ‬الاتجاه‮. ‬وأن الجمهور‮ ‬غير قادر على متابعة الشاشة إذا لم‮ ‬يكن هناك خط قصصي‮ ‬قوي‮ ‬في‮ ‬الفيلم‮.‬
هناك بعض المظاهر من الحياة الإنسانية لا‮ ‬يمكن تمثلها بأمانة إلاّ‮ ‬من خلال الشعر،‮ ‬لكن المخرجين‮ ‬غالباً‮ ‬ما‮ ‬يلجأون الى استخدام وسائل تحايل تقليدية،‮ ‬خرقاء،‮ ‬عوضا عن المنطق الشعري،‮ ‬أتكلم هنا عن التلاعبات البصرية والمؤثرات‮ ‬غير العادية في‮ ‬تصوير الأحلام والذكريات والتخيلات‮.‬
ثمة تعبير أصبح الآن مألوفاً‮ ‬وشائعا‮: ‬السينما الشعرية‮. ‬وهذا التعبير‮ ‬يعني‮ ‬السينما التي‮ ‬تبتعد بجسارة،‮ ‬في‮ ‬صورها،‮ ‬عما هو واقعي‮ ‬ومادي‮ ‬متماسك،‮ ‬كما‮ ‬يتجلى في‮ ‬الحياة الواقعية،‮ ‬وفي‮ ‬الوقت نفسه تؤكد السينما وحدتها التركيبية الخاصة لكن ثمة خطرا متواريا‮ ‬يواجه السينما في‮ ‬ابتعادها عن نفسها‮. »‬السينما الشعرية‮« ‬عادة تلد رموزا،‮ ‬مجازات،‮ ‬ومظاهر أخرى‮.. ‬أي‮ ‬أشياء لا علاقة لها باللغة الطبيعية الملائمة للسينما‮.‬
نحن نعرف النوع التقليدي‮ ‬للشعر الياباني‮ ‬القديم‮.. ‬الهايكو‮. ‬لقد رأى ايزنشتاين في‮ ‬هذه المقاطع الشعرية،‮ ‬ذات الأبيات الثلاثة،‮ ‬المثال الذي‮ ‬يوضح كيف أن تركيب ثلاثة عناصر منفصلة‮ ‬يخلق شيئا مختلفا في‮ ‬النوع أو الطبيعة عن أي‮ ‬عنصر منها‮.‬
إن ما‮ ‬يجذبني‮ ‬في‮ ‬الهايكو هو رصدها للحياة‮.. ‬هذا الرصد الذي‮ ‬هو خالص،‮ ‬صاف،‮ ‬دقيق،‮ ‬ومتحد مع موضوعه،‮ ‬دقته وإتقانه سوف تجعل أي‮ ‬شخص‮ ‬يشعر بقوة الشعر ويدرك الصورة الحية التي‮ ‬اقتنصها الشاعر‮.‬
إن هذا النموذج الخاص من الشعر‮ ‬يبدو لي‮ ‬أقرب الى حقيقة السينما،‮ ‬مع فارق أن النثر والشعر‮ ‬يستخدمان الكلمات تحديدا،‮ ‬بينما الفيلم‮ ‬يولد من رصد مباشر للحياة‮. ‬ذلك،‮ ‬في‮ ‬رأيي،‮ ‬هو المبدأ الرئيسي‮ ‬للشعر في‮ ‬السينما‮.. ‬اذ أن الصورة السينمائية هي‮ ‬جوهريا رصد لظاهرة تمر عبر الزمن‮.‬
ألا‮ ‬يوجد فن آخر قادر أن‮ ‬يضاهي‮ ‬السينما في‮ ‬القوة والدقة والوضوح والصرامة التي‮ ‬بها توصل السينما الوعي‮ ‬بالوقائع والبنى الجمالية الكائنة والمتغيرة ضمن الزمن‮.‬
بالتالي‮ ‬أجدها مثيرة للسخط ادعاءات‮ »‬السينما الشعرية‮« ‬الحديثة والتي‮ ‬تشمل تعطيل الاتصال مع الواقعة ومع واقعية الزمن،‮ ‬وتندفع الى الانخراط في‮ ‬التكلف والتصنع‮.‬
لكل فن معناه الشعري‮ ‬الخاص،‮ ‬والسينما ليست استثناء إن لها دورا خاصا،‮ ‬قدرا خاصا لقد نشأت السينما من أجل ان تعبر عن مجال معين من الحياة التي‮ ‬معناها،‮ ‬حتى ذلك الوقت،‮ ‬لم‮ ‬يجد تعبيره في‮ ‬أي‮ ‬شكل فني‮ ‬قائم‮.‬
كنت أحاول أن أجعل الناس‮ ‬يؤمنون بأن السينما،‮ ‬كأداة فنية،‮ ‬لديها امكاناتها الخاصة التي‮ ‬تعادل امكانات النص الأدبي‮. ‬أرت أن أظهر مدى قدرة السينما على رصد الحياة دونما تدخل،‮ ‬على نحو فج أو بجلاء،‮ ‬في‮ ‬استمراريتها‮.. ‬اذ ها هنا أرى الجوهر الشعري‮ ‬الحقيقي‮ ‬للسينما‮.‬
إن المبدأ الشعري‮ ‬للفنان‮ ‬ينبثق من التأثير الذي‮ ‬يحدثه فيه الواقع المحيط،‮ ‬ويمكن لهذا المبدأ أن‮ ‬يرتفع فوق ذلك الواقع ويرتاب فيه ويستجوبه،‮ ‬وينهمك في‮ ‬صراع مرير معه‮.‬
ليس فقط مع الواقع الذي‮ ‬يقع خارجه بل أيضا مع الواقع الذي‮ ‬يوجد بداخله‮.