التاريخ بوصفه شكلاً درامياً

أمين صالح
(البحرين)

(نص الشهادة التي ألقيت في ملتقى
القاهرة الثالث للإبداع الروائي
العربي ، بعنوان الرواية والتاريخ.)

أمين صالحما هو الماضي؟ وبشكل أوسع.. ما هو التاريخ؟
نعلم الآن ان الدرامي سبق زمنيا المؤرخ، نعلم ان المؤرخين، في العصور الغابرة، وعند الإغريق تحديدا، كانوا أيضا مؤلفين في المجال الدرامي.
شعرا أو مسرحا. كانوا رواة حكايات، مثل: هوميروس، اسخيلوس، يوريبيدس، سوفوكليس وغيرهم. هؤلاء كانوا يرتكزون على وقائع وأحداث تاريخية لكن يضفون على الأحداث والشخصيات خاصيات درامية، تراجيدية. ويتسم السرد والحوار لديهم بالطابع الشعري، مع اختراع شخصيات متخيلة.

هؤلاء لم يعايشوا اغلب الوقائع التي تحدثوا عنها، لم يعتمدوا على الوثائق بل على السرد الشفوي، وقد أشار المؤرخ هايدن وايت إلى أهمية فهم النص التاريخي بوصفه "نتاجا أدبيا". ولقد انزعج المؤرخون التقليديون عندما أشار هايدن إلى ان معظم القصص التاريخية هي قصص شفوية، مضامينها مخترعة وأشكالها ذات صلة مشتركة مع قريناتها في الأدب أكثر مما هي متصلة بالأشكال العملية، فالتاريخ المكتوب لم يكن أبدا مشروعا علميا، بل كان دائما يخضع لتأويل المؤرخ أو الباحث في كيفية وفي أسباب حدوث الأشياء والوقائع.
كل مؤرخ كان يكتب (تاريخه) الخاص، متعينا عليه ان يعتمد على قدرته الخاصة في التمحيص عبر تقارير شفوية، ليست دقيقة في الغالب. التاريخ كان أشبه ببحر متلاطم من التشوش، والغموض والانعطافات الحادة، والمؤرخ يحاول ان يدرس ذلك الغموض والتعقيد ويبني منه شيئا ذا معنى.

كان المؤرخ ينسج الأحداث في شكل سردي، ويخلق الحوار بين الشخصيات التاريخية مستفيدا من قدراته التخيلية. ومن قوى الرصد والملاحظة والمنطق والتفسير والتأويل، في محاولة منه لرسم أو تقديم استنتاجات واضحة ومقنعة.

كل حدث تاريخي يحتمل أكثر من تأويل، كل مؤرخ، اذاً، كان يقدم رؤيته الخاصة لما حدث، ملبيا حاجات ذاتية معينة، ومستجيبا لمدارك الجيل الذي ينتمي إليه، أو خاضعا لرغبات خارجية. دائما هناك وجهة نظر ذاتية إلى الأحداث والشخصيات التاريخية، ولهذا السبب نجد كتبا مختلفة تنظر إلى أحداث تاريخية معينة من زوايا ووجهات نظر متباينة وربما متناقضة ومتعارضة، حسب حساسية كل مؤرخ وانتماءاته وأهدافه ومصالحه ومواقفه السياسية.

ان مثل هذا الوضع لا يتصل بالحدث التاريخي القديم فحسب، بل يمكن ان يتصل بأية حادثة معينة تدور في واقعنا الراهن. خذ عشرة أشخاص ودعهم يشهدون حدثا معينا، سوف تتوفر لديك عشر قصص مختلفة حول ما حدث فعلا، ولكل قصة مغزاها ودلالتها المتباينة وحتى بالنسبة لتاريخك الشخصي، فأنت لا تستطيع ان تسرد كل ما مربك بدقة شديدة، وبأمانة تامة.
من جانب آخر، ولان التاريخ لم يصل إلينا مكتوبا فقط بل أيضا ضمن التقاليد الشفوية، فإن القصص المروية في كتب التاريخ لا تخلو من العناصر والأبعاد الميثولوجية والوقائع التي تتخطى حدود المنطق والعقلانية. كما ان درجة التداخل والتشابك بين ما هو تاريخي وما هو أسطوري تكبر وتتسع لدى مرور هذه القصص من جيل إلى آخر ومن مكان إلى آخر، حيث التعديلات والإضافات التي يتعذر اجتنابها في اغلب الأحيان.

التاريخ صار شكلا دراميا، ذا بنية سردية، عبر الرواية المسرحية والفيلم السينمائي، حيث يكون التاريخ جزءا من الوعي الثقافي للكاتب، الذي لا يستحضر التاريخ كمادة وثائقية تعكس الماضي، إنما - عبر الاستعادة والتأمل والسبر والتحري - يقوم باستجواب ما يكونه وما يعنيه التاريخ نفسه - ويفتح حوارا مع واقعه وثقافته وتاريخه، موحدا الوعي بالحاضر والماضي.
أسئلة الفنان تختلف عن أسئلة المؤرخ. المؤرخ - حتى لو كان ذاتيا - يهتم بالدور العام الذي تلعبه الشخصية التاريخية، بينما الفنان يهتم أكثر بالحياة الخاصة للشخصية ويمزج العام بالخاص، مالكا الحق في تأويل حياة الشخصية والأحداث التي تمر بها.

الكاتب يستفيد من القصص والأساطير والأحداث والشخصيات المعروفة تاريخيا، ويقدمها بحيث يحثنا ذلك على التساؤل عن أهميتها ومغزاها، وعلى التأمل في قدرة الحدث العابر على ان يمسنا بعمق في حياتنا المعاصرة.
عندما يعيد الكاتب خلق مرحلة معينة فإنه يستعين بمخيلته، ذلك لان تفاصيل الحياة اليومية من سلوك ومأكل وملبس غير متوفرة في أي نص تاريخي، حتى ان أحداثا كثيرة هي غير مدونة. هنا يشعر الكاتب بحرية في ارتياد وتحري التاريخ، وفي الابتكار. فالكاتب هو القادم من الخارج، من زمن آخر بالتالي فهو يحمل حس الدهشة، حس الطراوة، وحس البراءة أيضا. لذا فإن وجهة نظره لابد وان تكون مختلفة جذريا.. هو، بمعنى ما، والى حد ما، يعمل على تقويض التاريخ.
التاريخ الشخصي يصبح مادة روائية، ذكريات الطفولة وما بعدها تتحول إلى مشاهد وتصير الرواية مجالا أو وسطا لسبر الذات.
من خلال الحفر في الذات يحاول الكاتب ان يجد الأجوبة على تساؤلات عديدة تشغله بشأن الجذور، الهوية، الانتماء، المخاوف.. الخ، ومن خلال الحفر في الذاكرة يحاول إعادة أحياء أجزاء معينة اختبرها في حياته.. وعبر هذه الذاكرة أيضا تولد الذات.

في الواقع، يستحيل على الكاتب الإفلات من تجربته الحياتية الخاصة، من تاريخ المكان الذي عاش فيه سنوات طفولته ومراهقته، من الزمن الذي يتألف من لحظات خاصة ومراحل معينة. في كل كتابة ثمة دائما أصداء أو شظايا من الماضي. بل نستطيع القول ان كل شيء انعكاس للذات، فالكاتب عندما يقدم لوحة سياسية أو اجتماعية عن أزمنة معينة فإنه أيضا، وبالضرورة يقدم بورتريها شخصيا عن وضعه ضمن تلك اللوحة أبعاد السيرة الذاتية تتوفر في كل كتابة: تجارب شخصية، ذكريات، أشباح، أحلام، رغبات.

الكتابة عن الذات هي حتما كتابة عن مكان ما وزمن ما. بالأحرى، هي إعادة بناء للزمن ولجغرافيا المكان، وعبر ذلك يتم استحضار ما يتصل بالماضي. لكن ليس بالإمكان سرد ذلك الماضي بأمانة تامة أو بموضوعية، فالذاكرة لا تصون بل تخوف أحيانا، ولا يمكن تفادي تحريف ما ينظر إليه بوصفه الواقع أو الحقيقة.

عندما أردت كتابة "رهائن الغيب" اخترت من الماضي عاما واحدا لأسرد من خلاله جانبا من السيرة الذاتية، هذا الجانب الذي تشكل ليس عبر الذاكرة وحدها بل المخيلة أيضا. لقد حاولت في هذه الرواية إعادة بناء زمن لا يكف عن التملص والمراوغة، وإعادة رسم أمكنة اكتسبت بذاتها خاصيات جديدة، ليست جغرافية فقط بل جمالية أيضا، وحاولت استحضار شخصيات سكنت إقليم الطفولة والمراهقة، لكن هذه الشخصيات أيضا اكتسبت لحظة الاستدعاء ملامح وطبيعة أخرى، وانتحلت وجوها متعددة، إما الحدود بين الواقعي والمتخيل فقد أضحت مطموسة. بالتالي فإن البيوغرافي يتخلى عن الطابع الموضوعي، الوثائقي، ليتخذ مسارا تخيليا وربما ميثولوجيا.

وإذا أردنا ان نتطرق إلى قارئ التجربة، وما تعنيه له تجربة الكاتب الذاتية، فبوسعنا القول ان البعد البيوغرافي يتحلل ويتبدد عند تحوله إلى مجال فني. كالرواية أو الفيلم. ان فعل التحول يفضي إلى ذوبان التجربة الذاتية. والذكريات الشخصية بحيث توجد الرواية وتحيا بذاتها وبمعزل عن كل العناصر والمصادر التي ساهمت في تكوينها.