ترجمة: أمين صالح
حين يطري النقاد المحترفون عملي، أشعر في معظم الأحيان بعدم الرضا عن أفكارهم وملاحظاتهم النقدية، وغالباً ما يتكون لدي إحساس بأن هؤلاء النقاد لا يكترثون بعملي أو ليسوا مؤهلين للنقد، إنهم يستخدمون تعبيرات مستهلكة وشائعة منتزعة من المجلات السينمائية الرائجة بدلاً من التحدث عن تأثير الفيلم المباشر والحميمي على الجمهور، مع ذلك، فإنني التقي بأفراد مارس فيلمي تأثيراً عليهم، أو أتلقى منهم رسائل تبدو أشبه باعترافات خاصة وحميمية، عندئذ أفهم لماذا ولمن أحقق أفلامي، وأصبح مدركاً لمهمتي:
الإحساس بالواجب والمسئولية تجاه الناس.
أمنيتي الأكثر انقادا كانت دائماً ان أكون قادراً على التعبير عن رأيي بحرية في أفلامي، ان أقول كل شيء بصدق تام ودون ان افرض وجهة نظري على الآخرين.
لكن إذا وجدت رؤية الفيلم للعالم قبولاً عند الآخرين بوصفها جزءاً من رؤيتهم، من ذواتهم، فأي دافع أفضل من هذا يمكن ان يجده المرء لعمله.
السينما تملك سلطة داخلية تركز داخل الصورة وتعبر الى الجمهور في شكل مشاعر، محدثة توتر في استجابة مباشرة الى المنطق السردي للمؤلف.
المنهج الذي بواسطته يرغم الفنان الجمهور على ان يبني من الأجزاء المنفصلة وحدة كاملة، وان يفكر ابعد مما هو مقرر له، هذا المنهج هو الوحيد الذي يضع الجمهور في مستوى متكافئ مع الفنان في إدراكه للفيلم، وعبر الاحترام المتبادل فقط يمكن ان يكون ذلك النوع من التبادل جديراً بالممارسة الفنية.
لماذا يوجد الفن؟ من يحتاجه؟ وهل يحتاجه أحد بالفعل؟ هذه أسئلة لا يطرحها الشاعر فحسب، بل أيضا أي فرد يقدر الفن ويدرك قيمته، وحتى )المستهلك(، وفق التعبير الشائع الدال على العلاقة المعاصرة بين الفن وجمهوره.
من الواضح تماماً ان غاية الفنون كافة )إلا إذا كانت بالطبع موجهة الى المستهلك مثل أية سلعة صالحة للبيع( هي ان تفسر للفنان نفسه، ولأولئك المحيطين به، معنى وجوده وما يعيش الانسان لأجله ودفاعاً عنه.
الاتصال هو الوظيفة الرئيسية للفن نظراً لان الفهم المشترك يمثل قوة قادرة على توحيد الناس، وروح المشاركة هي واحدة من أكثر المظاهر أهمية في الإبداع الفني.
الأعمال الفنية، بخلاف الأعمال العلمية، لا تملك أهدافا عملية بأي حس مادي، الفن لغة سامية تساعد الناس على تحقيق الاتصال فيما بينهم، وتفصح عن معلومات بشأن ذواتهم، كما تساعدهم على استيعاب او تمثل تجارب الاخرين.
لا استطيع ان اصدق بأن الفنان يعمل بقصد )التعبير عن الذات) فقط، فمثل هذا التعبير يصبح بلا معنى ما لم يلق استجابة من الآخرين، ان خلق رباط روحي مع الآخرين عملية موجعة ولا تحقق ربحاً عملياً لأنها، جوهرياً، فعل تضحية، لكنها يقيناً لا يمكن ان تكون جديرة بالمحاولة إذا كان القصد فقط ان يستمع المرء الى صداه الخاص.
لا يمكن للشخص ان يكون حساساً وسريع التأثر بالفن إلا حين يكون راغباً وقادراً على الثقة بالفنان وعلى تصديقه، لكن كم هو شاق وموجع أحيانا عبور عتبه اللا فهم الذي يفصلنا عن الصورة الشعرية.
أعتقد ان احد المظاهر الأكثر إثارة لأسى في زمننا هو التدمير الشامل، في وعي الناس، لكل ما ينسجم مع الحس الواعي بالجمال، الثقافة الجماهيرية المعاصرة، الموجهة الى )المستهلك(، حضارة الجراحة الترقيعية، تشل أرواح الناس وتقيم حواجز بين الانسان والأسئلة الحاسمة بشأن وجوده ووعيه بذاته ككائن روحي.
الفرد، عندما تحرك مشاعره رائعة فنية، فإنه يسمع في داخله نداء الحقيقة ذاته الذي حث الفنان على تحقيق الفعل الخلاق، حين يتأسس الرابط بين العمل والمتلقي، فان هذا الأخير يختبر صدمة كبيرة ومطهرة، ضمن تلك الهالة التي توحد الروائع الفنية والجمهور، نبدأ في التعرف على الجوانب الأفضل من أنفسنا، والتي نتمنى لها ان تحرر، في تلك اللحظات نحن نتعرف على أنفسنا ونكتشفها، نكتشف أعماق الكامن فينا والتي لا يسبر غورها، وتلك المراكز الأبعد من أحاسيسنا.
غالباً ما يعتقد بأن دلالة العمل الفني سوف تكون جلية عن طريق إحداث اتصال مباشر بينه وبين المجتمع، قد يكون هذا صحيحاً من الوجهة العامة لكن التناقض الظاهري يكمن في ان العمل الفني يصبح معتمداً كلياً على أولئك الذين يتلقونه، أولئك القادرين على الإحساس به، بتلك الخيوط التي تربط بين العمل والعالم ككل أولاً، وبين العمل والذات الإنسانية في علاقتها بالواقع ثانياً.
(غوتة) كان محق تماماً حين قال بأن (مشقة قراءة كتاب جيد تضاهي مشقة كتابته)، وانه ليس من المفيد ان تصور ان وجهة نظر المرء وتقييمه الخاص يتخذ صفة الموضوعية، من خلال تنويع التأويلات الشخصية فقد ينشأ نوع من التقييم الموضوعي نسبياً.
من اجل إدراك واضح، غير غائم، يتعين عليك ان تمتلك قدرة استثنائية على إصدار حكم مبتكر، مستقل، وبريء بوجه عام، الناس، يبحثون عن أمثلة مألوفة ونماذج أولية لتأكيد وتعزيز رأيهم، والعمل الفني تتحدد أهميته وقيمته وفق، أو بالتماثل مع، طموحاتهم الخاصة أو مواقفهم الشخصية، من جهة أخرى، في تعددية الأحكام الصادرة عليه، العمل الفني بدوره يتبنى حياة خاصة به هي متحولة ومتعددة الأوجه، ووجوده يتعزز ويزداد رحابة.
أنت لا تستطيع ان تلحق بالفنان في لعبته الخاصة، وان تصوغ له أهدافه وغاياته الأساسية فقد كتب أوفيد: (الفن يتألف مما هو غير ملحوظ أو غير مرئي) وصرح انجلز بأن: )كلما كانت آراء المؤلف متوارية ومخفية، كان ذلك أفضل للعمل الفني(.
في رسالة كتبها جوجول الى الشاعر والمترجم زوكوفسكي في يناير 8481 ، قال: )ليست مهمتي ان أعظ، والفن، على أية حال، عظة دينية، مهمتي ان اعبر بالصور الحية لا بالبراهين والجدل، يجب ان اظهر الوجه الكامل للحياة، لا أناقش الحياة(.
كم هو صحيح هذا، وإلا فأن الفنان يفرض أفكاره على جمهوره، ومن يزعم ان الفنان أكثر ذكاءً من الجمهور في صالة السينما، أو من القارئ الذي يحمل كتاباً، أو من المتفرج في المسرح؟
الشاعر ببساطة يفكر بواسطة الصور، وهو بخلاف الجمهور، يستطيع ان يعبر بالصور عن رؤيته للعالم، ومن الجلي بأن الفن لا يستطيع ان يعلم أحداً أي شيء، فمنذ أربعة آلاف سنة لم يتعلم البشر شيئاً على الإطلاق، كنا سنصبح ملائكة منذ زمن طويل لو كانت لدينا القابلية للاهتمام بتجربة الفن، والسماح لأنفسنا بأن نتغير وفقاً للمُثل العليا التي يعبر عنها، الفن يمتلك القدرة، عبر الصدمة والتطهير، على جعل النفس الإنسانية منفتحة على الخير، من السخف الاعتقاد بإمكانية تعليم الناس كيف يكونون أخياراً وصالحين، الفن يستطيع فقط ان يمنح الغذاء -الصدمة- للتجربة النفسية والعقلية.
الأيام
27-6-2004