من الرواية إلي الشاشة

عشيقة الملازم الفرنسي

أمين صالح

(1 )

(المـاضي بلـد أجـنبي)...هـذا ما قاله صوت الراوي خارج الشاشة ـ الصـوت الراعـش في حـزن ـ في بداية فيـلم (الوسـيط)(The Go - Between).. وهذه الجملة التي اقتطفها كاتب السيناريو هارولد بنتر (وهو كاتب مسرحي شهير) من رواية ل.ب. هارتكي هي ـ هنا الجملة ـ لقيت رواجاً فورياً وصارت متداولة كبقية الأمثال السائرة في الأوساط العامة وهي تعبر عن تلك الرؤية الرومانسية بشأن الزمن، الرؤية الحزينة، والإحساس الموجع بذلك الماضي السحري الذي لا يمكن بلوغه.

أما رواية (عشيقة الملازم الفرنسي) فإنها تخبرنا بأن الماضي والحاضر ليسا قمم جبال منفصلة إن لم نقل أقطارا منفصلة، بل هما حقلان متواشجان بإحكام. وعبر هذا العمل تحقق لقاء قدرات ذهنية عالية في مجالين متفاعلين منذ زمن: الأدب والسينما، إنه اللقاء بين جو فاولز، الكاتب الإنجليزي الذي أنجز أكثر الكتب رواجاً في العام 1968 والذي فكك واستثمر الرومانسية في العهد الفيكتوري، وكاريل رايز، المخرج البريطاني، التشيكي المولد الذي قدم تجارب مهمة في السينما.

في (عشيقة الملازم الفرنسي) البطلة متوحدة، سرمدية، عالقة في زمن خاص علي نحو ويطرح صراعاً بين قوتين متعارضتين: الشخصي والأزلي، الفاني والباقي. وتدور أحداث الرواية في انجلترا، في الستينات في القرن التاسع عشر.. مطلقها امرأة شابة ذات سمعة ملوثة بسبب (علاقة) ماضية، ولفترة وجيزة، مع ضابط بحري فرنسي جاء في مهمة إلي البلدة الساحلية التي تعيش فيها ثم غادر سريعاً، لكن العلاقة أدت بها الى العزلة وتجنب الآخرين. وهي الآن تملك بعض المال الذي أدخرته من عملها السابق كمربية أطفال، ومغلفة بالغموض. ويكتنفها سمر حزين فيما هي تحدق في البحر، واقفة علي حافة المرفأ منتظرة عودة حبيبها.

إن ما يسحر في هذه الرواية، أن فاولز لا يوضح لنا في بادئ الأمر ما إذا البطلة الغامضة، المملؤة بالأسرار، قد كونت حقاً، وفي أي وقت مضي، أية علاقة عاطفية، دعك من مسألة تحقق اكتمال العلاقة.. ما يهم هو إنها ترتدي ذكري العلاقة مثل عباءة الفضيحة المثبتة بإحكام في انجلترا المتزمتة أخلاقياً. إنها تواجه ذلك المجتمع المتكلف الاحتشام بشيء من التحدي، بل وتشد الى حلقة الخطيئة الفاتنة والجذابة تلك الشخصية الرئيسة الأخرى في القصة.. الشاب الثري، العاطل عن العمل، الذي يتخلى عن خطيبته ليلاقي هذه المرأة ـ ذات العار المحزن ـ عبر الشوارع المديدة وعبر سنوات انجلترا الفيكتورية إن جون فاولز ينسج قصته التي تدور في الستينات من القرن التاسع عشر وفق إدراك صدور لوضع الستينات في القرن العشرين. انه ينمنم الصفحات بإشارات وإحالات الى كارل ماركس ومانشستر، الى العلم الحديث، الطب الحديث، النظرية السياسية الحديثة. ان شعاع أواخر القرن العشرين يلتمع علي أعمال القرن التاسع عشر مثل ضوء كشاف لوني، تاركاً للمعالم المشتركة لكلا الزمنين ان تحتفظ بمظهرها الخاص، لكن ينتخب في لون جديد الفروقات: الأخلاقية التي تأخذ شكلاً معيناً، العقائد الدينية (المتصلبة حينذاك مع التذمر العام بشأن نظرية داروين)، الفجوة الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء.

لقد وجد المخرج كاريلي رايز وكاتب السيناريو هارولد بنتر إجابة حاذقة ونيرة علي تأرحجات جون فاولز التحليلية بين الحاضر والماضي: تقاطع الحبكة الفيكتورية مع القصة العصرية من خلال لوحة الكلاكيت (Clapperboard) التي تظهر أمام الكاميرا في المشهد الأول من الفيلم، وسرعان ما نكتشف بأن الممثلة ميريل ستريب تؤدي دورين معاً: سارا، حبيبة الملازم الفرنسي (في القرن 19) وأنّا، الممثلة الأمريكية التي تلعب دور سارا في فيلم معاصر مقتبس عن الرواية ـ ونكتشف أيضاً بأن جيرمي أيرونز يؤدي دورين: شارلز، المفتون بسارا، مايك.. ممثل الدور الرئيسي في الفيلم. وهذان الخارجان من المرحلة التاريخية، هذان الممثلان، يرتبطان بعلاقة حب خارج التصوير وبعيداً عن الكاميرا.

ميريل ستريب قدمت شخصية سارا في العصر الفيكتوري بوصفها لوحة حية إنسانية سيدة ذات شعر خمري اللون، كلماتها ومشاعرها تخرج عصراً وتتقطر عبر قناع مشاحب، وكأنها مصابة بالوهن وشرود الذهن، في ما يشبه المونولوج الداخلي.
وبوصفها نجمة الفيلم، أنا، فإن ميريل تكون أكثر تقلباً وطيشاً، أكد رشاقة ونشاطاً، أكثر عصرية وحياة، لكنها ـ علي نحو ممكن إدراكه ـ هي الشخصية ذاتها تحت العباءة، تحت القناع، مرحلة فحسب بواسطة الزمان والمكان والعادات.

وعلاوة علي ذلك، ففي كلا القصتين هي ـ البطلة ـ تواجه مآزق ومعضلات الحب والاختيار نفسها. بوصفها سارا هي لديها الملازم الفرنسي ضمن خلفية رومانسية. وبوصفها أنّا هي لديها حبيب فرنسي يدعي ديفيد. لكن بوصفها سارا وأنّا معاً فإنها أيضاً تحمل المشعل دفاعاً عن استقلالية المرأة وشخصيتها الفردية، وكذلك دفاعاً عن قدرة المرأة وحاجتها لتعيين محيط لحياتها الخاصة، وليس حسب ما يمليه المجتمع بصورة عامة أو الرجل بصورة خاصة. (وفي الأزمنة الفيكتورية، كانت المرأة واقعة تحت التهديد الحاضر دوماً بالانزلاق نحو الدعارة(

في مواضع مختلفة من كلا القصتين، تقوم البطلة وتغادر البطل لتخلق لنفسها فضاءً خاصاً بها ـ مؤقتاً أو دائماً ـ وفي هذا الفضاء تتغير وتكبر، وتغذي إدراكها لنفس الفيلم هو عن الطريقة التي يؤثر بها الماضي في الحاضر، وكيف أن الحريات الحديثة تنهض علي طبقات من الأعمال الاستبدادية الماضية.

(2 )

ما هي المشكلات التي يواجهها المخرج في معالجة رواية تحتوي علي العديد من الخيوط المختلفة من حيث المراجع الأدبية وتحليل الذات، كما في رواية کعشيقة الملازم الفرنسي)؟ أي بنية سينمائية يجدها المخرج ملائمة لتحويل هذه الأشياء الى الشاشة؟

يجيب المخرج كاريل رايز:

حاولنا ان نحقق فيلما.. يعمل كقصة.. فيلما تكون الحكاية في محوره، لكن في الوقت نفسه أردنا أنا نخضع إدراك الجمهور لتلك الحكاية الى الارتياب لقد أردنا ان نتحدى الجمهور قائلين لهم. (انظروا، إننا نحقق قصةذلك).فهل ستأتون معنا أم لا؟
وما الذي تعتقدون بشأن ذلك). عندما نستخدم بنية من ذلك النوع، فعندئذ تصبح الحالات الغامضة الناشئة من ذلك هي المعني. أحيانا ننتقل علي نحو مفاجئ وأحيانا لا نفعل. لكن عبر تعيين المسافة بين الشيئين بحرص وحذر، وعبر إيقاع هذه التقاطعات آمل مع نهاية الفيلم ان تتدفق القصتان معا بسلاسة وان لا يفصل الجمهور بين المشهدين.

في الرواية كان لدي جون فاولز اتجاهان متواصلان بتحركان علي نحو متواز:
الحبكة الفيكتورية )أي التي تنتسب الى العصر الفيكتوري(، وملاحظاته وتعليقاته الخاصة علي طبيعة القصة الفيكتورية وعلي الاختلافات بين القيم الفيكتورية وقيم عصرنا. انه يتحدث عن العلاقة بين القصة والواقع، الشعر والواقع، وغير ذلك. وهو كذلك وضع حكايته القوية في محور العمل، لكنه يستمر في الابتعاد عنها والتحدث عن مارس وتوماس هاردي وهنري مور، معرضا قصته الى الارتياب. عندما سئل لماذا فعل هذا - وهو أكثر الأسئلة التي تطرح عليك شناعة - فان احد الأمور التي قالا انه لم يرد أبدا علي الإطلاق ان يكتب رواية عن مرحلة تاريخية في حد ذاتها، بل أراد ان يكتب رواية عصرية مستخدما المرحلة التاريخية كمجاز.

الشيء الذي أغراني بشأن (عشيقة الملازم الفرنسي) في المقام الأول هي القصة ذات المجري الجميل حقا أو شخصية سارة بالطبع. لقد اخبرني جون فاولز انه قبل المبادرة في كتابة الرواية فان الأمر الذي انطلق منه، الفكرة الأولي التي تكونت لديه هي صورة امرأة تمشي مبتعدة ثم تنظر خلفها ملتفتة إليه. ذلك وثيق الصلة بالموضع انه في محور كيفية رؤيتك وفهمك لشخصية سارة.

عندما بدأنا، أنا وهارولد بنتر، محادثاتنا بشأن السنياريو، رأينا في وقت مبكر جدا بأننا لا نستطيع ان ننجزه بدون امتلاك نوع من المكون أو العنصر العصري وبصورة متساوية نحن لم نستطع ان نجعل المؤلف يتحدث الى الجمهور وبالطريقة التي نفذت بها في الرواية. لذا فقد توصلنا الى نتيجة ان خلق شيء ومشاطرة الجمهور في فكرة ذلك الشيء كان أساسيا لسرد هذه القصة لذلك حاولنا ان نجد مفهوما سينمائيا وليس مرادفا سينمائيا، لأنك لن تستطيع إيجاد هذا المرادف - والذي سوف يعطينا هذه الرؤية المزدوجة وعلي مهل توصلنا الى هذا النوع الخاص من الوسيلة المنسوبة الى المسرحي الإيطالي بيرانديللو عندما يكون لديك مشهد يفضي الى مشهد تال فسوف يكون لديك بقايا من المشاعر التي تمكث وأنت تحملها معك في المشهد الجديد. في فيلمنا، كانت المشاعر تنتقل من القصة الفيكتورية الى القصة العصرية وبالعكس.

صحيح ان الجمهور سوف يشعر بالتشوش بعض الشيء في بداية الفيلم تماما مثلما شعر القراء أثناء قراءة الرواية. لكن ما ان تقبل بالوسيلة حتى تصبح جزءا من فتنة الرواية وجزءا من خاصيتها. ان فكرة لوحة الكلاكيت التي نفتتح بها الفيلم هي في الواقع خطرت لنا في فترة لاحقة أثناء عملية التصوير. فقد فكرنا انه إذا بدأنا بالقصة الفيكتورية ثم انتقلنا فجأة الى القصة العصرية فان الجمهور سوف يشعر بالارتباك ويختلط عليه الأمر. من ناحية أخرى، لو كان لدينا فقط علامة استفهام صغيرة تتأرجح في بداية القصة الفيكتورية فان الانتقالات عندئذ سوف تصبح مقبولة أكثر فيما بعد. ان توظيف الكلاكيت هو الموضع الوحيد في الفيلم حيث نستخدم تباين الوهم والواقع وسيلة التقاطع هي ليست عن الفيلم والحياة أو الوهم والواقع، إنها ببساطة طريقة لعرض قصتي حب متوازيتين.

هل يتعين ان تكون أمينا للرواية؟ إجابتي هي: لا، لا ينبغي عليك ان تكون أمينا لأي شيء، بل ينبغي ان تقوم بتعديلات وتغييرات علي ثيمات الرواية التي تصير فيلما وليست رواية مصورة سينمائيا، ولأنك في هذا الفيلم تستطيع ان تضع مشاعرك وتداعيات بتحقيق الفيلم فانك لا تغير الرواية بل هي تستمر في الوجود إما مسألة ان تكون أمينا فان ذلك هدف أحمق. الرواية قادرة علي ان تأخذك الى باطن الشخصية، إنها تمنحك تأملات الشخصية وأحاسيسها ومشاعرها وتداعياتها التاريخية. ذلك شيء لا تستطيع الأفلام إلا ان تلمح إليها. لكن في لحظة إقرارك بتلك الحقيقة فان فكرة ان تكون أمينا تصبح بلا معني لان في السينما يتعين عليك ان تستعيض بشئ سيما عن الأمور التي لا تقدر ان تفعلها. انك لا تستطيع ان تترك نفسك فحسب مع الأشياء التي تكون متروكة، تلك البقايا التي يستطيع الوسط ان يمتصها. ولحظة إدراكك لها تكون خارج مهمة الترجمة وداخل مسألة جعله يعني ما تريد منه ان يعنيه.

لو تأملت المعالجات السينمائية الجيدة حقا لبعض الروايات - عناقيد الغضب، علي سبيل المثال - فسوف تكتشف بأنها مختلفة علي نحو متطرف عن الرواية.. ليست مختلفة في الأحداث فقط، بل في الطريقة التي هي توزع تعاطفها ومشاركاتها الوجدانية.

حوار الفيلم كتبه كله هارولد بنتر، وبالطبع، جون فاولز.. بما إننا قد استعرنا الحوار من الرواية. كنا - أنا وهارولد - نجلس في الغرفة ونتحدث عن المشاهد والشكل، وفي مرحلة معينة يخرج هارولد ويكتب المسودة اعتقد ان هناك ست أو سبع مسودات كاملة من السيناريو كنا نقرأها ونمثلها ونري أي المشاهد وأي مقاطع الحوار نحتاجها وأيها لا نحتاجها.

وهارولد معروف عنه تشدده وصعوبته فيما يتعلق بتغيير الحوارات اثناء التصوير. لكن موقفه بسيط انه يقول لك: (أنا موجود، فإذا أردت ان تغير الجمل، تعال وتحدث الى عنها، افعل ذلك معي بالنسبة لي، ذلك يبدو أكثر من معقول أني أغير الحوار أثناء التصوير لكن ليس علي نحو مشوش أو فالت). الممثلون، خصوصا في أمريكا اكتسبوا حرية تغيير الحوار ساعة يشاءون، والذي أظنه أمرا خطيرا. المبدأ سليم لكن له مفعول جانبي مؤسف في أحوال كثيرة، التغييرات تحدث قبل استدعاء المخيلة لجعل الحوار المكتوب يعمل بنجاح. واقع انك لا تستطيع ان تقتنع بالجملة بسهولة في البروفة الأولى أو الثانية لا يعني ان الجمل مسيئة. يجب علي المرء ان يحاول بان يجعل المادة المكتوبة تعمل قبل تغييرها.. وعندئذ ينبغي ان يشعر بحرية في تغييرها.