أندرجراوند: ذات مرة.. كان هناك وطن

أمير كوستوريكا، المخرج اليوغوسلافي، حقق فيلمه underground) وهو إنتاج فرنسي، ألماني. مجري) في العام 1995، وقد اثار جدلا وخلافا، فالبعض، وبالذات ضمن الأوساط السياسية والثقافية في البوسنة - اتهمه بمناصرة الصرب (هو صربي مسلم) وعدم إدانته أو فضحه لجرائم الصرب، وتصويره في براغ وبممثلين كلهم من الصرب بدلا من البوسنة. كما اتهموه بالخيانة لأنه باع نفسه ووطنه للصرب ولأنه غادر موطنه سراييفو وأقام في باريس.

وقد رد كوستوريكا قائلا: کأمر غريب ولا يصدق ان يهاجمني الناس بسبب هذا الفيلم. هاجموني لنفس السبب الذي ناضلت ضده في فيلمي، والذي هو الجنون الأخير، النهائي، الذي يوجد اليوم(.
وقد بلغ به التأثر، إزاء النقد السلبي والهجوم العنيف، ان قرر الاعتزال غير انه عاد بعد عامين ليحقق فيلمه التالي کقط ابيض، قط اسود(
وعلى الرغم من كل شيء فقد استطاع فيلمه (اندرجراوند) ان ينتزع الجائزة الكبرى في مهرجان كان إضافة الى جائزتين إضافيتين في المهرجان نفسه.
أمير كوستوريكا المولود في سراييفو في نوفمبر 4195، بعد تخرجه من معهد السينما ببراغ، حقق عددا من الأفلام الهامة أولها: هل تتذكر دولي بيل؟ (وقد حاز علي الجائزة الكبرى في مهرجان فينيسيا 1981)، عندما كان أبي في رحلة عمل (الجائزة الكبرى في مهرجان كان 1985)، زمن الغجر (جائزة أفضل إخراج في مهرجان كان 1989)، حلم أريزونا (الجائزة الثانية في مهرجان برلين 1993(
في فيلمه کتحت الأرض) (الاندرجراوند) وعبر ساعتين و74 دقيقة، هي مدة الفيلم، يقدم كوستوريكا مرثية لبلدة كان يدعي يوغوسلافيا قبل ان يتمزق، مفتتحا الفيلم بعنوان جانبي تهكمي لكن يتسم بالحنين: کذات مرة كان هناك بلاد، وعاصمتها بلغراد)
. انه عن تاريخ بلاد كفت عن الوجود أو انشطرت الى أجزاء، ممتدا - الفيلم - عبر فترة زمنية تستغرق خمسين عاما من الغزو النازي لبلغراد أثناء الحرب العالمية الثانية وحتى الحرب الأهلية الدامية مرورا بحكم الرئيس تيتو.
ماركو وبلاكي صديقان من الصرب يقومان بأعمال غير مشروعة من بينها المتاجرة في السوق السوداء لكن بعد قصف بلغراد في ابريل 1419 والاحتلال النازي، يبدأ الاثنان في بيع الأسلحة للمقاومة مما يعرضهما لمطاردة المخابرات النازية (الجستابو) لهما، الأمر الذي يفضي الى لجوئهما مع عائلتيهما، الى الدور الواقع تحت الأرض حيث ينشئان معملا لصنع الأسلحة - من اجل بيعها في السوق السوداء - بعد التحاق المزيد من اللائذين الى المكان. ماركو هو الوحيد الذي يخرج، ليشكل الرابط الوحيد لهم مع العالم الخارجي، بينما يمكث البقية تحت الأرض. ينهزم الألمان وتنتهي الحرب لكن ماركو الانتهازي والأناني يخفي عنهم هذه الحقيقة من اجل الاستفادة من مجهودهم في إنتاج الأسلحة، متحولا بفضلهم الى تاجر أسلحة ذي نفوذ تؤهله لأن يصبح مستشارا للرئيس تيتو ولأن يحرز سلطة واسعة، موهما أصدقاءه والمقاومين بأن الحرب لم تنته بعد وذلك بأسماعهم صفارات الإنذار والأغاني النازية والأنباء الملفقة.
في العام 1961 وبعد عشرين سنة، يقوم ماركو - الذي يعتبر بطل حرب - برفع الستار عن تمثال مصنوع لصديقه بلاكي تخليدا لبطولته ولذكري مقتله أثناء مقاومته للاحتلال، في حين ان بلاكي والأعداد المتزايدة من المختبئين تحت الأرض لا يزالون يعتقدون بأن الحرب لم تنته بعد. وبعد موت الرئيس تيتو تبدأ يوغوسلافيا في التمزق الى دول، وماركو يجد صعوبة متزايدة في إطالة أمد الأكذوبة التي بثها وكرسها عبر سنوات طويلة.. خصوصا وأنهم يتأهبون لشن هجوم كبير على قوات الاحتلال (النازيين) في الخارج، وهذا يترافق مع رغبة فريق من السينمائيين تصوير بطولات المقاومة، وبالتالي يفضي الى مقاتلة الممثلين معتقدين - بسبب أزيائهم العسكرية - إنهم نازيون ثم يعودون الى المخبأ.
بعد ذلك ننتقل الى الوقت الحاضر، أوائل التسعينات، حيث تنطلق بالخطأ قذيفة وتحدث فجوة في القبو، ومنه يخرج بلاكي والآخرون ليجدوا أنفسهم في أنفاق سرية تحت الأرض، وليكتشفوا عجزهم عن معرفة وتمييز بلادهم التي دمرتها الحروب الأهلية، فالقنابل والخرائب وحمامات الدم في كل مكان. وتتضح لهم الخديعة المرعبة. وعندما يقبضون علي ماركو المقعد وزوجته، يأمر بلاكي بإعدام صديقه حرقا فيقول هذا قبل ان يموت: کالحرب لا تكون حربا حقيقية إلا عندما يقتل الأخ أخاه). وينتهي الفيلم بمشهد طوباوي متخيل يلتقي فيه الأحياء والأموات في وليمة جماعية علي قطعة ارض جرداء تنفصل عن البر الرئيسي لتطفو علي المياه وتنجرف علي مهل فيما الأشخاص يحتفلون. ثم تنزل كتابة تقول: هذه القصة ليس لها نهاية.

ولأن هناك الكثير من الدلالات السياسية والاجتماعية خلف مشاهد الفيلم، والذي يحتمل العديد من القراءات والتأويلات، فان الفيلم يقتضي من المتفرج تركيزا ومتابعة دقيقة لمجريات الأحداث. بالامكان تقسيم الفيلم الى ثلاثة فصول، أو مشاهدته كثلاث قصص منفصلة، مختلفة في الموضوع والأسلوب: سنوات الحرب العالمية، نظام تيتو والحرب الباردة، الحروب الأهلية. لكن جوهريا الفيلم يعمل علي عدة مستويات من التعقيد والتركيب المتواشج، الذي يتراوح من السياسي الى السيكولوجي. والمخرج أمير كوستوريكا يستنطق الرغبة الإنسانية في امتلاك السلطة السياسية، وفي الوقت نفسه ينسج بنية مركبة فيها يعمل الفيلم كتحليل سيكولوجي للنظام السياسي.
لعنوان الفيلم) کاندرجراوند( أكثر من دلالة، وفقا للتأويلات المتباينة. فللكلمة ذاتها معان متعددة يمكن استنباطها من تحليل وتأويل الأحداث.. هي حرفيا تعني القبو (تحت الأرض) الذي تختبئ فيه شخصيات الفيلم. وهناك المعني السياسي: المقاومة وكذلك المعني السيكولوجي حيث الاندرجراوند مرادف لحالة اللاوعي الجمعي. بالتالي فانه فيلم مركب، متعدد الطبقات، لا يتبع خطا سرديا طوليا بل يعتمد علي الانتقالات في الزمان والمكان.
المخرج عبر فيلمه هذا يوجه مرثية شخصية لبلاد (يوغوسلافيا) لم تعد موجودة بعد ان مزقتها التناحرات العرقية والإيديولوجية، والتي بدورها مزقت كل الروابط الإنسانية من حب وصداقة وأخوة وتعايش سلمي. لقد تحولت تلك الدولة الn جمهوريات متصارعة نتج عن انقساماتها وتناحراتها: الحروب المدمرة، الجرائم الجماعية، التطهير العرقي، تدمير القرى والبلدات، معسكرات الاعتقال، النزوح الجماعي، المقابر الجماعية والجروح النفسية العميقة.. وكل ذلك التدمير والانشقاق حدث لأن الدولة كانت قائمة علي سياسة الكذب وثقافة الكذب معا. تقول احدي الشخصيات: کالشيوعية كانت مجرد قبو كبير). وفي هذا نجد تماثلا صريحا بين يوغوسلافيا والقبو الذي أقامت فيه شخصيات الفيلم سنوات طويلة، ضحية الكذب والخداع، وعندما خرجت وجدت كل شيء في انهيار.
وهنا ثمة تناقض في رثاء المخرج لانهيار يوغوسلافيا وتقريره بأنها كانت بلادا قائمة علي الأكاذيب. وربما مبرر ذلك نجده في حقيقة ان شعوب البلقان بشتى انتماءاتها العرقية والدينية والثقافية كانت متحدة ومتعايشة فيما بينها حتى لو إجباريا وتحت قبضة حديدية وضمن نسيج من الكذب والخداع. إضافة الى ذلك فان يوغوسلافيا، بالنسبة لكوستوريكا، ليست مجرد بلاد بل عالما من الطقوس والشعائر والعادات والأعراف والطبائع والحلم والخيال والموسيقي واللعب.
المخرج يقدم فيلمه عبر مزيج من الدعابة السوداء والتراجيديا حيث يطرح معالجة ساخرة، تهكمية، لأحداث تاريخية مأساوية، معتمدا علي مخيلة خصبة وغنائية أخاذة. لينتج في الأخير عملا ممتعا ومحركا للمشاعر في آن.