البحريني أمين صالح في ( موته الطفيف)
نصوص تحرّض النثر على التخلّي عن شكله

فاروق يوسف
(العراق/قطر)

ينتقل الروائي والقاصّ البحريني من النصّ السردي الى النص الشعري من غير ان يتلبّس صفة الشاعر. فنصوصه النثرية الجديدة مشرعة على فضاء الشعر وحريته.
علاقةالأديب البحريني أمين صالح باللغة تؤهله لكي يكون شاعراً مهماً. فهو يعنى باللغة من الداخل, لا يقولها بل يشرق بها. لا يجاورها بل يلتحم بها. يذهب الى مناجمها مأخوذاً بلمعان أحجارها. يلتقط شذراتها من الهواء ليصنع منها قلادة لوعته. وعي (صالح) باللغة هو صلة الوصل التي تجمعه بالعالم. هي التي تجعله قابلاً للالتحام بوعيه. هو واللغة يتبادلان موقعيهما. فمرة يصنع من مادتها مرآة لوجعه ومرة ثانية تعيد اللغة تشكيل وجعه على شكلها. فاللغة لديه هي حقاً ذلك الكائن الوحشي الذي يلذ له الهروب الدائم من كل موقع أليف. ذلك الكائن المختلف الذي لا يرضيه ان يكون معنياً إلا بذاته. آنية الكريستال وابريق الذهب. يقول في كتابه (هندسة أقل, خرائط أقل) (دار الأيام, البحرين): (نحن لا نبدع باللغة, إنها أحياناً تبدع من خلالنا). ويقول أيضا بإشفاق لا حدود له: (عندما تحتاج اللغة كي تنقل معلومة, أي تخضعها لرغبتك المستبدة, فإنها تأتيك صاغرة, مكبلة, عارية من الجمال والبهاء. وعندما تستسلم لها, وتصبح مأخوذاً بالغواية, فإنها تجرك الى نعيم المتاهة كأن تخنقك ببطء. لذا يتعين عليك ان تكبح جماحها قليلاً).
لكنّانصهار أمين صالح باللغة وكأنه الوجه الآخر لها يضع هذه النصيحة خارج المتاح كتابياً. أو على الأقل يجعلها قولاً مرجأ أو موجهاً الى من يقوى عليه. ففي كتابه (موت طيف) الصادر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر يؤسس للغة من نوع مختلف, لغة تتسع للمعنى, فتكون حاضنة للقول الذاهب الى قصده. فهي على الرغم من بريقها اللافت تظهر متعتها بما تحمل ولا تتستر عليه بل تستعرضه صامتاً. هي السيدة التي تلحق بتابعها الأمين.
يقولها حين تشاء وتتوارى حين يصمت.
المعنى هنا ملتبس الى حد كبير. لان اللغة التهمت باقتصادها وبزهدها جزءاً عظيماً منه. لا يمنع ترف اللغة المعنى من التمتع بتمهله, ببطئه, بتسلسله. فهو على عجل يحضر وعلى عجل يغيب, ليبقى طعم الكلمات وحده على الشفاه. طعمها الذي يتكاثر في إيقاعها. لقيتها التي تظل عاكفة على جوهرها. وبهذايكون أمين صالح هو كاتب معنى. وهو لا يخفي نزعته هذه على رغم طغيان شهوة اللغة التي تظل في احتدام مستمر. فهي تنظف الورقة بين يديه بالحذف. تحرثها لتقلب كل ما فيها على عقب. تعصف بالبياض لتزرعه شقوقاً من مادته فلا يظهر لهذه الشقوق أثر إلا إذا نظرت إليها عيون بذاتها. عيون أهّلها القدر لكي تبصر ما لا يرى. فاللغة وهي كائن خفاء لا تود ان يلتحق بها إلا حدث خفي من نوعها.
وهكذا المعاني التي يتوسل أمين صالح خفتها. وهي المعاني التي لا تعرج إلا على حافات نسيانها.
من طرف خفي يستسلم أمين صالح لازدواجيته: قاصاً وشاعراً. ليصل الى النص المفتوح بثقة السارد وتردد الشاعر. فإذا كانت الحكاية تتموج تحت السطح فان اللغة بصفتها كياناً يشف عما تحته تمكن الحكاية من الاسترسال في إظهار مواقع لمعانها. لا تمنعها كلياً ولا تحابيها كلياً . هناك مسافة تظل قائمة بين الحكاية وهي تعبر عن نزعة سردية والشعر هو التجسيد الأمثال للاقتصاد البلاغي والخلاصة المتآمرة على النص. حتى الوصف لا ينوء بما يشير إليه. فالخفة المستلهمة من اللغة تعصف بكل شيء. بالمرئيات لتحيلنا الى ما تخفيه, وبالوقائع لتهبنا حكمتها
. يقول: (البحر في كل مكان/ في الأزقة والبيوت والساحات/ البحر في حلم النائم الذي يغطي الملح أهدابه).
الاقتصاد هنا ليس لغوياً, إذ ان هناك ما يشي بنوع من التمهيد والاسترسال. كل ذلك إنما يشكل صيغة مخادعة لما نتوقعه. تستدير فجأة الى الخلف لتنهي سيرها المتأني وتنكمش على ذاتها لتهب بعصف ملتهمة المشهد الذي تصفه ولتنتقل الى المكان الدلالي الذي تروم الوصول بنا إليه. وكأنها تمهد للمعنى بترفه وللشظف بنزقه وللمدينة بلمعانها.
لدى أمين صالح بساطة متأنية في القول هي انعكاس لعيش يسير ومتأمل وسط الكائنات, وهو لا يرى من الجموع إلا ظلالها: أشباح تسير الى مصائرها بخفة, كما لو أنها تستجيب لنداء داخلي. كائنات تشف عن معانيها هي أشبه ما تكون بالمفردات التي هذب مشيتها طول الألم. يتلصص الكاتب في اتجاهين في اللحظة ذاتها: نظرة يلقيها على أشباحه العابرة وهي ترتجل خفتها التي تقوى على عزلتها, وأخرى على الكلمات وهي تختبر هواء هذه العزلة بشفراتها الحادة, لتجتمع النظرتان في نص هو مزيج من النثر والشعر. نص له من الشعر صمته الحاضر ومن النثر كلامه الغائب. أمين صالح في (موت طفيف) لا يبتعد عن النثر وإن فارق شكله الكتابي. انه يضع النثر في مواجهة محاولة مخلصة لحثه على العصيان بحثاً عن مزيد من النقاء والاستقلال.
فاروق يوسف

جريدة الحياة - الثلاثاء 12 مارس 2002

ندماء المرفأ
ندماء الريح

إهداء
جاء إلي،
كان يمشي على شفرة السفر مبللاً بصبار الأشرعة،
ترافقه المرايا و دخان المجازفات.
كان يحلم في الصحو بقنديل يضيء درب الانهيارات،
يمحو الفروقات بين بلاد وصنويرة.
حين واجهني، يسط سجادة قلبه و أدخلني حلمه بلا رأفة.
إليه …

النصوص

1- من ذا الذي يهز قاربنا
2- الخسوف
3- ندماء المرفأ
4- الدليل
5- غبار المدائح:
      1- لظل المحارب
      2- لنزهة الطوائف
      3- للماء الناسك

من ذا الذي يهز قاربنا ؟
كلما دخل، بجياده النارية، بيتا
اشتعلت أركانه وتهاوت كنثار خشب
كلما أصطفى حانة وجلس ليحتسي النبيذ
انهمر المطر من معطفه واكتسح النوافذ
يوما، عاد الحوذي إلى غرفته متعبا مطأطئ الرأس، تاركا جياده في الخارج تقضم الشارع حجرا حجرا، وقال: لعل النوم يواري جموحي.

لم ينم. كاد أن. حين تذكر لحظة ولادته وكيف أن الفراشات انبجست بأجنحة رصاصية من سرة أنثى لا يعرفها ولا تعرفه لكنها كانت تناديه بألف اسم ليطل برأسه ويستطلع، كانت تناغيه وتدغدغ كاحله وتقول: لا أب لك سواي لا بوصلة لك سواي. أنثى مزركشة الجسد منمنمة الأنامل. من كل إصبع يرشح ماء له رائحة أخيليا تخدر الحواس، والماء الراشح يحزم أوتاره في هيئة صنوج وقلادات لغجريات يطفن ليلا بخيام أمراء مخلوعين يقرأن لشحوب أهدابهم الطالع . وكيف أن الفراشات كانت ترفرف تحت تنانير عوانس قرمزيات ينشجن تارة ويزغردن تارة مأسورات بالحمى يرقبن أنثى في حالة طلق يقال أنها من نسل قرصان عاشر حورية النار زمنا ولما حن إلى موطنه ضربت عنقه بذيل قرش ومذ ذاك أدمنت ملاحقة البحارة التائهين تخلب لبهم بغنائها الآسر.
v آخر سلالة الماء والنار. كان يعوي تحت ضوء القمر مع ذئبة كستنائية، وفي وضح النهار يتنزه مع سمندره على حواف نهر مسرج بالقوارب يمتطيه فتية فخورون بانتصاب الفحولة تحت أرديتهم الأرجوانية الفضفاضة. يحيط به أقرانه المبهورون: أرنا شيئا من مهاراتك. يريهم قواقع حبلى بشعوب مفتونة بالحروب وسلاحف تجر خياما من عاصمة إلى عاصمة. قادر أن يثقب مهبل النهر بإبرة فتسيل الأسماك جمعا جمعا في سلال فلكيين لا يتقنون الصيد. وحين يبلغه الضجر يلملم طلاسمه وينادي السمندر كي يتابعا نزهتهما في ملاجئ الصخور.

طفلا خارقا كان، لم يعرف أبا ولا أما، والأنثى التي ولدته - يقال - خرجت لتبحث عن رحل زارها في الحلم، وفى الحلم اضطجعا على سرير العشب تطعنه بأنين إباحي يطعنها بأنين إباحي ولما فاجأتهما الرعشة أطلقا معا تنهيدة لافحة وتدثرا بالعري. آنذاك بكت وبكى معها لان الحلم سيغادر.

كم كان مديدا بلا احتشام، شفيفاً كالندفة، باسلا في افتضاضه مخابئ الروح. ذاك من أحببت، وذاك من اصطفاه قلبي. أي ثناء لن يكون كافيا لأصف لكم مدى فرحي ومدى تعاستي. إن كنتم في شك فاتبعوني لتروا أتني أسيرة أنفاسه.

مثل عاشقة عذراء خرجت (أم لا يعرف اسمها) تتقرى منارات العشب تسأل عن عاشق ينثر الملح على مواطئه كي يطمس آثاره وفي الليل يدثر نساء الحلم بعريه.

اختار أن يكون حوذيا. رفض كل المهن واعتكف في البرية يصقل حيله وألاعيبه، يتغذى من الصبار وفطريات الجبل وحينا يقنص السمان بخيوطه الرهيفة. هكذا يوما بعد يوم حتى صار منسيا. كان حديث الناس عند استراحات الأصيل وفي الأمسيات المقمرة. حوله حاك الرواة، حاكت الجدات، حاكت اللقالق حكايات لا تحصى:

قالوا: فتى ساحر. حوّل الدجاجة إلى تنين وامرأة الفران إلى بقرة. يرتقي سلالم لا نراها، يقطف نجمة ويملأ جيوبه بشهب وديعة يوزعها في مسكنه لتضيء خطواته. وعند الغسق كنا نجمع في سلالنا ما ينسكب من لهاثه بينما يعدو، ونعدو وراءه، في أروقة النباتات باحثا عن بذرة عنب يسحر بها ملكة النحل. هوس شيطاني. مرارا أبصرناه يحوم حول مستعمرة اليعسوب يناجيها بأعذب كلام وأشهى كلام، وعندما تتدلل ينتزع من إبط النهر قرنفلة ويقدمها هدية أو قربانا. إن جاءكم يطلب رغيفا، احذروا من بطش عينيه.

قالوا: فحل لا يضاهى، بسببه لم تعد في البلدة عذارى. أي عار! أي ذل! كيف نصاهر بعضنا بعضا، كيف نصاهر القرى المجاورة والبعيدة. ما من أحد لم يرفع شراشف فضيحتنا. كان يأتيهن خلال غزواته الليلية مدهونا بنس! الفحولة، عابقا بسيرة عشاق باسلين يجوبون قباب الغابات سعيا وراء أميرات نهمات يلقحن أثداءهن بزبد نقي بحليب أنقى، وبناتنا الممتقعات حياء المرتجفات حبورا يسفحن فضاء الجسد لتسرح على روابيها غزالات ترف وجدا.

هيا يا النبيل،تقوّس واهرق لبنك في ممراتنا. لك الثمر لك مرفأ الأفخاذ. دشن فوق جبهاتنا بحيرة من قش نستحم فيها وتستحم فينا، نكن لك محظيات وتكن لنا القبر البهي.

قالوا: هراء ما نسمع. الحقيقة مطمورة تحت قوس البئر. بيدنا نفض بشرة الغامض ونفشي السر. ليس بساحر ولا عاشق. يضلل أبصارنا بألاعيب رثة يموّجها ويدوّمها لتبهر أعيننا المتأرجحة. خيل إلينا انه حاو، لكنا كشفناه يوم طلبنا أن تحلب أبقارنا عسلا، فكدس في راحته جيشا من النمل وسربا من النحل وادعى: بعد سبع سنوات عجاف تذرف بهائمكم عسلا. لم يقرب النساء فقط كان يرتعش خجلا ويغض عندما ترتطم نظراته بنظرات عذراء تسأله أو تغازله. مرارا شعرنا بالحرمان الطافح على ضفاف شفتيه كلما حرك صارية لياليه المؤرقة وغذى خياله بطيف امرأة تتجرد من أثقالها وتهمس له: تعال. حتى في تلك اللحظة لا يجرؤ أن يلمس.

ليكن- قال السمندر الصديق- لا يعرف أحد ما اعرف. في صباحات الموج السعيد بمدخراته، بانحناءات الطل الوارف على لآلئ تسرف في التغنج والبذخ، كان يقودني- خفيفا كالريح- إلى منجم النحاس المطل على البحر حيث تسكن وطاويط زرقاء لا نخرج إلا لكي تطمئن على وحيد قرن جاثم فوق جسر لولبي يرقب حر في حسرة منتظرا ساعة انقراضه. هناك ينصب المشاعل، خن صلابة الأبنوس، ويشرع في دق المسامير. أتتضرع إليه أن يخبرني عما ينوي. حازما يهمس أن اجمع أصدافا وبقايا عجول بحر ميتة. وقبل مغيب الشمس ينتصب على شفرة الماء فاتحا يديه، مانحا مداراته لهبوب الموج يعصف بذاكرة غابرة تنتسب إلي قرصان أضاع رأسه في خلايا البحر وصار ينوس عبر ارخبيلات الزمن غريبا في دهاليز غريبة يتأبط خوذة يملؤها سراطين ومدخرات نهب فما تمتلئ، والدم الوفي يجرجره سالكا مسار حلزون عبر قنوات متعرجة إلى ما لانهاية. هكذا خمنث: مثل وثني رصع بالهرطقة سيبحر لحظة انقلاب الموج، للقاء جده الأكبر. ما الأصداف وبقايا العجول إلا تمائم لدرء آثام حورية النار. في ساعات أخرى كان يقترض حمما بها يشيد اصطبلا. اعلم أن لا حصان لديه، لكن حسبه أن يبني، ويهدهد أحيانا نومي، كي احبه كل هذا الحب.

يوما عاد وفي جبينه الغض ينتفض البيلسان وعلى كتفيه تتدلى مصابيح تأرجح مدائح الطريق. بهيا عاد، وضاءً تتبعه في وقار أربعة جياد مرقطة مديدة الأعناق نافرة العروق، حبلى بحمحمات مهيبة تجنح إلى القنص وغزو أحجار الجزر، ومع كل حمحمة تفيض حزمة هائلة من اللهب يحرق الهواء على مهل. حسبوا: وهماً نرى، حلما نرى، لكن لا تجعلونا نصدق أن فردا قادر أن يروض كائنات مخلوقة من نار مجبولة بالجنوح ويحضرها بلا لجام ولا سروج.

لم يحك لأحد مغامرته، حتى السمندر الصديق لم يعرف لغزه. تركهم يتخبطون في أحابيل السر الغامض ويخوضون فوضى التأويل مثل أكباش تتناطح فوق نتوء يفضي إلى هاوية تعج بالجمرات. ومضى في أنفة وأبهة يواكب جياده النارية إلى الاصطبل عارفا انه من جديد صار محور الكون.

اختار أن يكون حوذيا يدل الأسفار إلى خرائطها، المراكب إلى مرافئها. بلمحة يصل الخليج بالخليج، بحمحمة يدرج المصاطب العاجية ليعتليها أطفال بلون النبيذ وأطفال بلون الندى. ليس هذا فحسب أليس هذا فحسب! بدهاء يرصد تحولات بروج السماء ويحذر المسافرين من المواقع المخنوقة بهزات أرضية. يالشفافية الفتى! ياللاحصنة! أي متعة تبللنا في صحبة ندماء الريح! هنا وليس في مكان آخر يغسل الله بنباله أجفاننا.

لكنه، برغم كل شيء، لم يتدفأ بعد بالفرح. قلبه الرهيف يحتدم بحلمتي امرأة لا يعرفها تسفح تويجاتها في شفتيه و الضامئتين وتهدل بعذوبة: أحبذ. أحبك هكذا يعتزل في المساء، المساء الرفيق، ويحدث نفسه همسا. كان يهفو إلى زوجة، تشبه الطفولة، ترش حدائق عينيه بالقبل وتغزل بيادره بخيوط المرح. يسمع، آناء الليل، رفيف أهدابها بينما تمشى في الممر وهو متكئ على النافذة المائلة متظاهرا بالغفلة ولا يطلق الابتسامة الخبيثة إلا حينما تميل بجذعها وترطب أذنه بحفيفها الحلو. غير أن.. رفيقان وجيدان، هو والمساء، يرميان النرد في حلبة السهر وينحدران وئيدا في صمت ثقيل. في الهزيع الأخير نام كما ينام الغريب مانحا راحتيه.

لدغدغات امرأة مجنحة هبطت من السقف مرشوشة بالكافور تغلف روحه بأساور من ريش لحجلان انبجست من المرآة و أحاطت به تغمس مناقيرها واحدة فواحدة في آبار عينيه لتروى مدائحها لأسماك عبرت كمائن الأسمنت واتت تمجّد الغفوة لفلاحين من أصقاع بعيدة جاءوا ليحرثوا ساقه يحصدوا البشاشة لأفيال بلا عاج تدفع خراطيمها عميقا في صدره بحثا عن نواة جنونه لجرار كبيرة تجرجر مؤخراتها مقتفية نهر منفاه لثكالى يجرّحن نومه برنين المراثي

تاركا جياده في الخارج
تشعل المدينة
بيتا
بيتا.

سبتمبر 86

مدائح
1997

أمين صالح

(من الذي سوف يمتدحكِ
مديحاً لم يحدث من قبل )

زرادشت
القرن الرابع قبل الميلاد

1

شاخصاً نحو حلم آسر يستل من مياه العينين مراياه، ويرفع الأهداب مثلما يرفع الدليل تخوم الغيب، ليمتشق بعدها الأشكال ويرشق بها جهات النوم ..
يهبّ فيّ فجأة ذلك الحنين الشره، الحنين المموه تحت لهاث النهار،المبلل برذاذ الوجع، حنين أن يصطفيك الحلم من بين الوجوه العابرة على ضفاف أنفاسي، و يزرعك ثمرة من ضوء في سرير الهذيان حيث تفيض النعم و المدائح، ويفيض فيّ ريش الوجد، ولا يبقى لليقظة إلا ظلها الشاحب، يا حلم سيّجْ مدار حبي بشهقات الندى و ضرّجْ قلبي بحليب الأنثى.

2

أسمع رنين الليل
إذن هي قادمة ..
تلك التي سوف تؤثث الوجود
ببلاغة الوجد

3

الليل لا يتجمّل إلا عند مجيئك ..
آنذاك يتعطّر بأنفاسك، يغتسل بحواسك
ثم يوقظني لأشهد المجيء الخارق .

4

ها الفرح يعبر ممرات روحي الساهرة.

5

الآن ، والليل في كل مكان،
من أين ينبع الضوء إن لم يكن من الفم
المسكون بالشهقة؟

6

كم أشتهي أن أكون سجين النفحة الطالعة
من فم اللذة.

7

رفقاً أيها العشب
بالسائرة خفافاً بين فخاخ الغواية وفخاخ المساء
بلا قنديل ولا نفير
تمتحن يقظة الطريق بطيش العسل الهاطل من أصابعها
وبالفراغ ترفو الفراغ
وتبسط الجهات كالأوشحة
لتضيء المسكن المزروع في الحدقة
حيث أهيئ الخلوة لاندلاع أشد من الهذيان .
رفقاً أيها العشب بالقدمين المغسولتين بماء الورد
كن رحيماً بخطى من أحب
أيها العشب.

8

السراب الذي ترون
غير السراب الذي أرى
سرابي وجهٌ يضرم البهاء في الشرفات
ويرمي الأقنعة الشائخة نحو مغيب اليأس.
وجه أحتمي به، وبه أهتدي إلى أعياد الرغبة
رافعاً الهرج والنشيج.

9

الحلم يذرف الانتظار أمام أجفانك
افتحي له ..
فهو شفيعي .

10

ها أنا ،
تائه في الحلم ، أبحث عنكِ ..

نامي يا حبيبتي ،
كي أراك .

11

الكون نائم
و الخيول تجرّ كنوزه وأسلابه.
قبل أن تدخل الخيول حلمك ،
تطرق بحوافرها سجادة النوم ،
وتطلق صهيل الحب.

1 2

إذا كنت قد جننت بكِ
فلأن من يهواك منذور للجنون .

13

الحب :
انتظار مديد تحت شرفة الأمل .

1 4

العالم متجهم
علّميه الفكاهة أيتها المرحة .

15

وحدي هنا ،
و أنت هناك
مع أطفال بحجم الجوز يطفرون من أحداقك
في عبث شيطاني
ألم يخبرك أحدهم ، وهو يشد طرف ثوبك
ليرغمك على الإصغاء إليه، فيما يشير :
- انظري هناك .. كم هو وحيد ذلك الغريب .

1 6

أنفاسك لا تتبدد ..
إنها ترسو في الجلد .

17

ظبي يعدو في أروقة المطر ،
يعلن قدومك الذي انتظرناه طويلاً .
أول ما نرى :
شمساً باردة
فحشداً من الفراشات
فعربة ملكية مرشوشة بالذهب .

18

إليك ، يا الجميلة ، هذه الهدية :
مدينتنا .

19

حلمت أنك نائمة
و الريح تحرك السرير كالمهد
و البحر على مقربة يجثو كحارس ليلي كسول .

20

من يعرفك ..
يختبر يقظة النرجس في حديقة الروح.

21

يا المرصودة للتطفل و التأمل ،
سأخبرك عن وشاية القناع
وخيانة القمر ..
هكذا أنت مرئية دائماً ،
و الجميع يرشقك بخيوط الغزل.

22

إليك وحدك ..
تنحاز حواسي .

23

بك ، يا ابنة الضوء ، أمتزج ..
بك وحدك أكتمل .

24

بك ، تشعّ كينونتي
بدونك ، أنطفئ مثل بحيرة هرمة
غادرها القمر غاضباً ، بلا وعد بالرجوع .

25

تحت ظلك ، هزمتُ الموت .

26

من يشم دمي يشمّ عبير ظلك

27

عندما ألتفت أرى ظلي ظلك .

28

الشهقة الرحبة ، المفتوحة على حلبة التواصل، المبحرة في المدى الأليف ( بين فم تتموج فيه المداهمة ووجه ينصت مأخوذاً بالنفحة المرتدة إلى الداخل ) تتحرى دهشة الحب في سرير ينحسر عن عسل وعشب.
شهقة لها يقظة الشجر، لها مجون البحر، لها ما للفجر من نكهة وفجور.
الشهقة التي لا تشبه الشهقة. ليست زائلة، ليست للتفتت. تنداح كما تنداح الغابة في بلّور العرافة.
تترك آثارها التي سرعان ما تسوّر مرفأ اليقين وترميه بالسديم.
شهقة ليست للإصغاء، بل للمعاشرة. هي دويّ الروح حين تومض المفاجأة. بالأحرى، هي فضة الجوهر ، رسولة النسغ السرّي.

ماذا تفعل أيها النديم بهذا الالتباس لحظة سطوع النفث الفاتن وانزلاقه في قرمز الغموض ؟

- لا أعود كما كنت.
يا من يتجدّد بعد كل لقاء، و ينتخب اسماً آخر وشكلاً آخر. ماذا ستقول الآن، أيها المتعدد، في تأويل شهقة تزوّر معانيها ولا تفصح عن ألقابها ؟
- لا أعود كما كنت .
أية تخوم تحد المباغتة المكتنزة بالحريق ؟
الشهقة شهوة الرماد إلى النار ، وهيامك الطائش يمضغ لؤلؤة الرؤيا، فلا تلمح في الزورق الشارد غير غروب جسدك نحو مسرح الأسلاب.

29

لم يبق إلا أن أملأ المكامن بالزعفران
و أرقب حفيف قدميك المبللتين بعطر المساء
المقبلتين، بلا حذر، صوب شراكي
غير أني لا أثق بالشراك ..
فما من فخ نصبته إلا وصار رفيقاً بك ،
شغوفاً بك ،
وصار أسير العذوبة .

30

كل هذه السلالم العالية ،
الأكثر علوّاً من خاصرة المدى ،
ولم أصل إليك بعد ؟!

31

قوس يبذر فضاء العشق بنوى المواعيد
قوس يشق هواء الخلوة بعنف الرحيل
قوس يحنو ، وقوس يقسو
بينهما يسقي العاشق ثمرة جنونه .

32

لا تطرقوا الباب.
إنها في الخارج : تتنزه مع حلمها .
وعلى راحتها المريّشة ،
يتنزه المطر مع ذاكرة العشب.

33

الغريب ، المكتنزة عيناه بالملح،
يهمس للجرح الأخير باعترافه الأخير :
أحببت امرأة بلون البهاء ، بطعم البراءة
و مازلت أسير النفحة الغامضة .

34

لخطواتك رنين ريف ، إغواء ثمرة
إشتعل فم ذلك الذي مسّ الثمرة
إشتعلت أصابعه ،
وها هو يدنو مانحاً أهدابه للحريق .

35

يضل طريقه
ذلك الذي تقوده الصدفة
نحو مشارف عينيك .

في عينيك ترك العاشق سر جنونه
في عينيك خبّأ العاشق تاريخ موته.

36

عينان طفلتان
تنسجان من ماء الحكمة
منزلاً لدليل أعمى
ومنزلاً لغريب ضال يذرع رواق المدى

باحثاً عن دليل يرافقه إلى مأوى امرأة
يدّخر لها كل العشق وكل الجنون.
لا الدليل يرى
ولا الغريب يصل ..
بينهما يقف الموت مراقباً المشهد في فضول
وعلى شفتيه ظل ابتسامة ميتة.

37

هناك من يطرق نافذة نومك :
عاشق يلذّ له أن يخلع جنونه
ومحموماً يدخل مع الزفير فم النوم
ليتأمل - دائخاً - غزو البهاء .

38

آه ، لا تطرقوا شبّاك حلمي
لئلا ينال مني الصحو .

39

أطبقي أجفانك بإحكام
لئلا تنسل مخلوقات حلمك
فتقنصها فخاخ اليقظة.

40

هؤلاء الذين مروا تحت شرفتك ،
كيف لم يعودوا ، كيف ضاعوا ؟
قيل لنا أنهم عبروا الثلج بلا مظلة ولا ذاكرة .

41

من عينيك تعلمت فصاحة الحب .

42

حضورك يعلن موت اللغة
وميلاد المخيلة.

43

جسدك : إيقاع الطفولة
حرير الدهشة .

44

يسهر فيّ وجهك ..
هذا المتعدد ، نديم الخلوة
يزهر فيّ صوتك .
هذا الذي يختزل الأعياد في همسة،
واهب الحظوة .

45

كالموسيقى يتهادى الصوت
كرنين أطفال يركضون على ضفة الليل .

46

صوتك : رعشة عشب تحت نقرات ثلجٍ
يتساقط بخفّة .. وعلى مهل .

47

أسدلي أهداب القمر
كي لا أرى ، في العتمة ، سواك .

48

منذور للنعيم ، موعود بالعطايا
ذلك الذي يقطف دمعة تتدلى من أجفان من يهوى

49

تتقوّس المدينة إجلالاً
حين تعبرين الساحة العامة
مثل غزالة من ضوء
لتنعمي على كل عاشق
حفنةً من الأمل
حفنةً من المعجزة .

50

آن تستحمين ، يا أجمل الكائنات،
في أحداق الغريب ،
هذا الذي لا يحلم إلا بك ،
يهتز مسرح الشرائع وتحتشد في الخارج نواقيس الفتنة.

51

أيتها الأنوثة !
أيتها الأنوثة المجنّحة !
لأجلك يبسط الكائن حديقته
و أنت تشاطئين قوس المدى ولا تهبطين .
هل البنفسج شركٌ و الحديقة متاهة ؟!

52

ليس شعراً
ليس نثراً
مدّ من البوح ينمو فيّ ويهبّ
هبوب الوقت في الحنين
هبوب الرماد في الأنين
اللذة الخالصة في البوح البريء من الإثم
البريء من التملق
لذة المديح في مهب الحمى حيث يندلع حضورك
كاللهب.