الخسوف

هي هناك.. في الشرفة جالسة.
المرأة العجوز التي ستموت في يوم غائم بين مزامير أحفاد غائبين، تجلس الآن في الشرفة تلاطف زرافتها التي تمد عنقها المبقع بالحناء تأكل قبعات المارة. ألفنا منظرهما البهيج بينما تلعبان الشطرنج وتتحدثان حديث النبات للنبات وحينا تركعان مثل راهبتين وقورتين ترتقان بالصلاة حشرجات قوم شاردين في الزنازن يحفرون أنفاقا لانهائية، قوم ممسوسين بالهدم يقتفون مجرى دم ذبيح وبمعاولهم الصقيلة يكسرون الفصول إرباً إرباً. بطيئاً تنهض العجوز تمسح الكلس عن إرث موتى وسيمين كانوا يزينون إمارتها بالضحكات. في حوض الأسماك فتيات صغيرات يرقصن.

يا لنضارتها! نعني العجوز الجميلة. لها حظوة بيننا. نتبارى رضاء نزواتها، وأية نزوة حلوة في أن نقوس ظهورنا- الواحد بعد الآخر- لتعتليها كالعتبات حتى تصل إلى عش سنونوة وتلقم أفراخها المشمش البارد. مدينون لها بما نملك. أرضعت كل أطفال الساحة، وارت أنفاسها في كل دهليز. ما من خصومة إلا وجاءت لتغسلها بالحكمة، ما من سهرة إلا وكانت تاجها ونبض مراياها.

كانت الأكثر جمالا بين الفتيات، كل الفتيان جاءوا يطلبون ودها ويتنافسون لكسب رضاها، لكنها اختارت الأنبل والأقوى. منحته رضاب قلبها وآوته بين ذراعيها الشهيتين.

جاء شهماً : أريد أن أكون زوجا لك.
جاءت ندية: أريد أن أكون زوجة لك.
وكان أحلى عرس أحلى ليلة. والعريشة تشهد أنها ذاقت عسل الجنة وقتذاك.

موهوبة بالخارق منذ الصغر: تعرف أن تكلم الأشياء، تعرف أن تروض العقارب، حتى أنها تقدر أن تخاطب الجداول بلغتها. وحبيبها لم يبد انزعاجا بل كان ينتفض غبطة. معا يستضيفان زنابير لاهية ويرميان فتات الجوز لسناجب تسرح عند المدفأة. علمته الكثير وأنجبت له الكثير. ملائكة توائم ترفرف في الأنحاء المكعبة طافحة بالصخب تزقزق مختزلة المسافات واللغات.

ذات مساء تأخر الحبيب عن المجيء. كلما أرسلت عذقاً ليستعلم كلما أمعن في الغياب، حتى رسلها الجنادب عادت خائبة. رويدا بدأ القلق يشوه قسماتها ولم تنم. مر يومان والحزن يكتنفها. صامَتْ عن البشاشة عن الخياطة. هامت شاحبة تسأل عنه الجيران تسأل الدالية: بالله يا بئر دلني إليه، يا رمل إن رأيت حبيبي خضب معصمك بإشاراتي ليهتدي إلي، إني مريضة ولن يشفيني غير لقائه.

عندما أحضروا جثمانه وكشفوا الغطاء عن وجهه راعها أن يبلغ السفك هذا الحد: وجه ممزق والدم المتخثر بين أخاديده يشهد على همجية قاتليه. صاحت: من قتله؟ أومئوا إلى الدرك الواقفين عند الباب يتهامسون وبتمازحون. بعد أن خلت الدار جثت قرب الحبيب واستسلمت إلى البكاء.

تمعّنْ أيها الغر، تمعّنْ في الوهج الأزرق النابع من جبينها وقل !عد ذلك إن كنا نبالغ. ماذا ترى؟
عدت طفلا أرمم أبراج الزاجل، وفي صحن الدار تهرس أمي الحنطة. طيور ملونة تتوافد من كل حدب لتلتقط ما يتناثر من الحنطة. على الأسطح ألمح أفراسا بنفسجية تعدو خبباً مسرجة بهوادج ملأى بالأمشاط والحلي والأقمشة والدفوف، تفض منحدرات الفضاء وتصعد إلى المآذن ترشق الطرقات بصهيل لافح أشد وقعاً من دوي شجرة تُغتصب. لكن الذي أحزنني أنها مرت بقربي ولم تعرفني..

أ كمل، أكمل..
جاءت العجوز واستعارت قنديلا ثم خرجت، ليس من الباب بل من كوة في السقف. مضيت خلفها عائما في الهواء حتى توقفت عند ساحة معتمة. أضاءت القنديل فرأيت نبعا تسوره أعواد قصب. اقتربت من النبع بخطى حثيثة وهبطت..

أكمل، أكمل..
دنوت وهالني ما رأيت. كانت جالسة تهدهد صدغ رجل نائم في حضنها الفسيح.. والماء يغمرهما.

عرفناه، عرفناه أباك المطارد، البالغ الجسارة، المغسول بالكبرياء. قال كلاما أغضب الدرك القساة، هجموا عليه فصرع واحد آ. تكالبوا عليه وطاردوه من وحل إلى وحل يبغون قطع لسانه.

دعنا نكمل الحكاية.. أخذناك- كما أخذتنا العجوز من قبل- إلى البحر الحافل باللآلئ وهبناك شراعا وصارية وقلنا- كما قالت لنا من قبل-: جس بأصابعك شفرة الماء تر الأسماك من حولك تفتح لك درب البرازخ حيث اللآلئ المحروسة بسيافين ترفع محاراتها مثلما ترفع الوصيفات المحتشمات براقعها وتستطلع. تحييك أيها الغريب إن نجوت من حراسها وأشعلت مهب آبارها الارتوازية بلدغاتك الحنونة. آنذاك تعلم انك الجدير وأنك الباسل.

هل لنا أن نحكي عنك قليلا يا جدتنا، يا ربيبة السرو؟.
تزهر وجنتاها شموسا أرجوانية نبعثرها في الأرجاء وقت الكسوف. نلح أن تحرك الماء بالنواعير المجدولة وتجلب لنا من البئر أسلافاً بلون الطحين ينفضون الغبار عن عباءاتهم المهيبة وكتبهم المهيبة. لا لم يمتشقوا سيوفهم الشوكية كما كنا نتخيل وإنما لحى حادة كالموسى ونظرات أكثر حدة وجلالة. هكذا يحتشدون على الأرصفة يقرؤون الأمجاد وفوق جباههم المكشوفة نسمع رنين نواقيس تحثهم على العودة سريعا غير أنهم يوغلون في السرد والتباهي.. قلنا كفى. وقرأنا كتاب الاحتلال وأيام المجاعة والجواسيس. قالوا كفى وبكوا. ساروا جماعات في رواق الغبار حتى طمرهم الماء.

يا جدتنا، يا ربيبة السرو، تعالي لنبحر معاً.
هش.. لا توقظوني، إني أحلم.

أحفادي يمضون صاغرين إلى المنفى يرافقهم جنود مرتشون. أسمع خطواتهم البليلة في صباح الصعتر والنرجس يمشون خفافا على شفا العشب يرْشون الجنود بابتسامات شائخة. يا للبراءة! يحاذون الأمكنة الأليفة فتغشاهم الذكرى. هنا لعب وضحك وبلاد بسعة حلم. لماذا تركتم لي مزاميركم يا أحبائي؟ لكم أجنحة يا طيور الله، إن فتحت أحداقي ساوركم الطيش وانطلقتم في فضاء الأشراك حينذاك لن يدلكم التيه إلا إلى التيه. ها أنتم تمشون خفافاً على شفا قلبي وتجرّحون أيامي بأغلال كواحلكم. استديروا لأرى جباهكم الشامخة.

قبلة لك،
دمعة لك،
حلمي كله لكم مأوى.
يا جدتنا، يا ربيبة السرو، إنا نبتهل..
هش.. دعوني أحلم قليلا.
حنونا يحيط بي الجراد المرشوش حدساً نقتفي مسارب حروب تركض منتضية حرابا لدنة. الجراد الأحمر، الجراد الناسك الذي يموه سراديبه ويتعارك مع الخشخاش. ماذا بعد؟ نعد الحساء والفاصوليا- نحن الطاهيات الساهرات- لربابنة شجعان يجرون كلاب البحر من خياشيمها ويثيرون الفتن في المستعمرات، يأتون إلينا متعبين ناثرين على رؤوسنا الرطبة- نحن الطاهيات المبللات بالخرز والبراعم- إشارات المضايق التي عبروها. ماذا بعد؟ ألقي بدلوي الذاهل في نهر مندلع لعلي أستل من تجاويفه أجناسا مدججين بالعصيان لا تنقصهم الجسارة كي يضللوا الممالك بنثار حديد. ثمة صيارفة يبسطون المعسكرات كالسجاد فوق جماجم من الصفيح، ثمة سماسرة يقامرون بالدول في حلبة المراهنات، ثمة أنا أتيمن بناقة تضرج سنامها بلحاء دُلّبٍ و تسير ماضغة بلاطاً اثر بلاط. آنذاك، آنذاك فحسب، يخرج الولاة العراة من الحمامات مرتجفين، ولفرط ذعرهم ينسون أن يستروا عورة الولاية. ماذا بعد؟

يا جدتنا، يا ربيبة السرو، انتظرناك طويلا.. دونك تضيع أشرعتنا. معنا نهيئ لك موتاً جميلاً، موتاً يليق. ألا يكفي لذا.
دونك لن نبحر، لن يكون لإبحارنا معنى.
وأنت يا مليكنا المعطر يا من تمهل المسلات ثوان كي تثمر لك الزيزفون وللمملكة أبراجا بحجم بابل، يا من تجلس في الشرفة المقابلة ككاهن يائس تغزوه الخطايا أفواجا ويعجز أن يصدها. يحتشد حولك اللبلاب وطاووس المهرج وأعيان الصمت ممتثلين لشرودك البائس وأنت تتعلق بذيل ذاكرة مخبولة تنحت عن العرش تتوسل لها أن تغدق عليك مشهدا أخاذاً لشعب يهتف لك في ذكرى الهزائم. قلنا لك هذا مائة مرة: إنحرْ جديك عند مصاطب رعاياك الذابلين لتنعم بالهتاف، لكنك كابرت واستشرت الجدي في شؤون الكواكب وأملاح الشلالات. وها أنت مع الجدي- في الشرفة- مأسورين بالخادمات. اللواتي ينشرن الثياب على تخوم العالم ويثرثرن في شؤون الاقتصاد والإنجاب.

وأنت يا مليكنا الذابل، الموعود بتمرة وديك رومي، ألم يباغتك السأم بعد. لا الطاهي سيعد لك اللحم الساخن ولا المستشار الماجن سيهمس في أذنك عن مؤامرة دبرت لك علنا في إيوان الملكة. كلهم هاجوا في الممرات الخزفية يبغون النجاة، حتى الملكة الباكية دوما، المغرمة بإهاناتك الملكية في الأعياد، المغرمة بحياكة المؤامرات ضدك، قد تركتك وحيدا مع أحجارك ودهائك بعد أن غطت دموعها بوشاحها المخملي. ماذا تبقى لك غير عقاقير الوحشة واشتهاء مأدبة عامرة بالتمر والديك الرومي؟.

يا ملك المسلات، يا تاج بؤسنا.. هلا تنزل لتبحر معنا، دونك ترتبك جهاتنا..

هش.. دعوني أحلم قليلا.

أنا الملك الخبازي أرتقي عرشي المزدحم بالعقيق وأمد سبابتي فتنهال من الأعمدة الرخامية سبايا بلون الفستق، مضمخات بالمجون، يشرعن في مضغ سبابتي بنهم. من يقدر أن يأكل الفلز مثلي؟ غير أني مهموم لا أهنأ بالمسرات. انظروا إلى الأحابيل في مخدعي، انظروا إلى السفراء المرائين الناهبين أختامي. ليت رعاياي يستضيفونني ذات ليلة في أكواخهم الصفيحية لأذهلهم بلباقتي وأسليهم بحكايات كليلة ودمنة. ليتني ألتقي ذات صباح بثائر يكرهني ومعاً نخطط لقصف قصري بالمنجنيق. أعطي دروسا عظيمة في الإرهاب. أعرف أن أقود الثورة ضدي.. لكني وحيد.

يا ملك المسلات، يا تاج بؤسنا..

آمركم أن تصمتوا، إني أحلم..

أنا الملك الذي لا يفنى، طوي!ت الإقليم كطفل وجلست على حافر الأرض أنتحب بعذوبة: لماذا تصدني ملكة سبأ؟ أجد منفذا لكل كربة. غدا سأصدر مرسوماً يحرم التناسل. لا، كثير على شعبي كل هذا الضيم. لو أجز تعاستي وأبتكر مرحي لعاش شعبي في رغد. حلمت أني ملك وما صحوت بعد. إجترحت الأعاجيب: كأن أنصف المظلوم، وأسمح بخلوة لخلية سرية تعارض شريعتي.

كنت ولياً حاذقاً، وليا ماهرا في قيادة الظلال السلوقية التي ما إن تسمع فرقعة سوطي حتى تمخر الشطآن في لمحة. إبان إنشقاقات الممالك كنت أستثمر الجزية- المدفوعة من قبل أميرات الطوائف- في بناء مملكة سياحية. حتى جاء ذلك النهار، نهار التقيت بقروية تحلب النهر وتملأ جرتها بفيروز الضفة: ذلك العشب الذي يسعّر النهود. اختلجت لحظة لمحت بياض ساقيها، قلت- وأنا اطبق أجفاني بقوة- أعطيك نصف مملكتي إن افترشت معي السنابل وحدقنا سويا في لهو النيازك. حملت جرتها واستدارت دون كلمة، إذاك سقطت على ركبتي أتضور حزنا: إن مملكتي لا تساوي شيئا في نظر امرأة معدمة. يا إلهي، لا حاجة بي إلى كل هذه الفتن كي أكون قاسيا.

إكراما لي، أين أجد حلما عذبا يشبه روحي العذبة؟ ها وحيدا أملأ جيوبي بحبات هال وأهيم في مداخل العالم أقرع بصولجاني الذائب درجات الهياكل سابراً المعادن والزيوت، ورويداً أتشتت عضوا عضوا.

وأنت تطل من الشرفة، يا مليكنا الفاخر، تنتظر ربما حدوث معجزة ما، نخبرك نحن رعاياك الفقهاء، نحن البحارة الذين اضطهدتَ بحارهم زمنا، كيف انحرف!ث مصائرنا في عهدك:
أكلنا الحشرات المجففة، قد لا تعرف أنواعها: الرتيلاء، الجداجد، الحباحب، الخنافس. ذلك أنك كنت نالتهم وقتذاك الفطائر المحلاة بالزبيب والأناناس. مشينا أرتالا نضمد موتانا أولئك الذين أرسلتهم إلى الحروب والى المجازر والى الانتفاضات، وأولئك الذين غاصوا برصانة في اللج بحثا عن كلأ. سمعنا انك كنت تشك سيفك في جراحنا بينما نهذي رافعين مفاتيح الأرض البور. والعواقر رفعن حجابهن وتمددن في المغاور ناشدات شفاعة من الشفيع. جندك، يا مليكنا الفاخر، لم يدعوا دارا إلا وعاثوا فيها إغتصاباً ووأدا، وما سمعت أنه، أو قد سمعت لكنك أصلحت هندامك وتنحنحتَ قائلا: ها امرأة تئن لذة.

سمعتَ بحارنا بخميرة طغيانك. نذكر: جئتنا في بهاء الريح أعلنت نفسك سيد المحاريث. لم نكن نملك ما نساوم عليه، لكنك ساومتنا كتاجر خبير وشكمت حججنا بذرائع عصية. أدركنا فيما بعد، بعد أن هادنت رعبنا، أن لا أمان بيننا. كلما أطلقنا نوارسنا أرديتها بحرابك. وفي المفاوز الأكثر اتساعا الأكثر إحتداماً وأحببناك يا قاتلنا الحنون، كرهناك يا حارسنا الطيب. الملك والرعية هكذا أبدا : مشاعر مستترة، نزال أزلي، تاريخ مزور.

لا تؤاخذنا إن قسونا، قد قلنا القليل وبقي الكثير.

إن لك بيننا حظوة
حضورك حضور قاتل، غيابك غياب قاتل. إ!آ!خلي بالقدوم يا ملك المسلات يا تاج بؤسنا. معنا نهيئ لك ذبحا جميلا، ذبحا يليق.. ألا يكفي هذا.

دونك لن نبحر، لن يكون لإبحارنا معنى.

أيتها المدينة المباركة إلى هذا الحد، الملعونة إلى هذا الحد، من أين لك كل هذه الأوبئة؟ وأنت تراقبين- في احتضار الظهيرة - يقظة الرماد في خواصرنا وفلول أجرام مئذنة نتراكض هنا وهناك تهب الأمارة وتفصح عن المكنون. أي برهان أبلغ من هذا تريدين! أي علامة اكثر فصاحة واكثر بلاغة من هذا لترفعي سراويلك وتنحدري شلواً شلواً صوب البحر المنقذ. أمحرقة؟! زلزال؟! آنذاك يفوت الأوان ولن تجدي فسحة للندب والعويل.

إلى البحر يا مدينة الأرامل والثكلى حيث المرجان المجنون يحصي على الأرصفة المائية أعداد اللاجئين إلى السفن الراسية المثقلة حيازيمها بالبشارة. سوف تهبطين سريعا في الشيخوخة إن تماديت في العجرفة وعدم الاكتراث. ليكن هذا تحذيرا عاشرا بعدها سنبكي لأجلك.

يا مدينة الأسلاب، يا مدينتنا، هلمي إلينا نعصمك بحبالنا

هش.. دعوني احلم قليلا.

نبشتُ محاجر الترع كي يحظى البدو الرحل بخيمة وزاد، أغويتهم بالبهارات وعصي الاستنباء فاستقروا في ربوعي سافحين نوقهم الصفراء بين مضارب مترعة بالجنس والتآمر. في الليل يتسللون، منتضين بين أسنانهم سكاكين لامعة، يقنصون شعباً متحجرا يكاد أن ينقرض ويغيرون على القوافل العابرة في تشنجات التخوم. عندما ارتووا أسست لهم البيوت ومرابط الخيل، وصاروا يتاجرون بالمصاحف والتبغ ويستوردون من الأقاليم المجاورة أراغن متباينة الأحجام. لم اكن اعلم أن نساءهم، ذوات النهود الكبيرة، بهذا القدر من الخصوبة. لكنني فرحت بالتناسل الغزير، أجيالا بعد أجيال نتوافد لتعمّر ضفافي بل وتجتاح القرى الآيلة، القرى الموغلة في الإلحاد المتخمة بالاضطرابات، وتضمها إلى أطرافي. بهم تكاثرت، معهم صار لاسمي رنينا مغويا: ياقوتة العالم.

لدي طوائف جميلة تتناحر كل مساء. لدي اجناس متعصبون بارعون في الكر والفر. لدي حاكم ظالم وشعب ظالم. لدي طغاة وفلاسفة. لدي قديسون وداعرات، داعرون وقديسات. لدي تقاويم متناقضة. لدي خضار وحمضيات، طقس مخبول، مدافن أثرية، نحويون وفلكيون وجزارون ورواد فضاء. لدي خادمات زاهيات ومعاهد لغات. لدي عواصم للاحتلال وعواصم لشهوة الاغتيال. لدي مغامرون ومعتقلات، شهريار وشهرزاد، مراسيم وضرائب، مهرجون ومفكرون، قادة وحدود. لدي كل ما تشتهيه أساطيل ا لنهب.. وأكثر.

يا مدينة الأسلاب، يا مدينتنا، نحكي عنك قليلا.

لذّ لنا أن نقارعها بالصفير والاحتجاج، مدينتنا الخلابة. كنا نفتش عن ملاذ لين لا يطعن ظهورنا المنهكة بالسلاسل، فماذا وجدنا؟ مراقد شبقية تلهب أكمامنا بالضرائب والملاريا. ما حسبناه فيئاً كان محض أنقاض. نقولها بعلو صوتنا: مدينتنا متخمة بالانهيارات. هكذا نفتح أذرعنا لنستقبل هبوب الانهيار الشامل.

ذلك أن العقبان الأبابيل كانت تحوم في الأعالي ترمينا بقوافل غزو تأتينا من رأس الرجاء الصالح حتى مضيق هرمز تسلب.بهاراتنا وزيتنا الأسود، بينما في الداخل تفك دودة القز أزرار ضواحينا وتخيط أصابعنا شرنقة شرنقة. والولاة الزرائب يكشفون مؤخراتهم الملتهبة برص! وجذامأ محتجين لدى الأمم: مالنا مراحيض.

هش.. إني احلم.

أبيح فخاخي العذبة لبلشون بلوري يلطم أسماكي بساقيه الطويلتين ويفر، بعد أن اختلس إنقليساً، ماداً عنقه الطويلة نحو سحب تهدل. ألوذ بمخازن القش وأدعو الريفيات الصافنات، ذوات الجدائل الليفية، أن يرقصن بحماسة في ترف البخور إكراما لراياتي المرفرفة على مباني الدول المتحضرة. من يحق له أن يتباهى مثلي في معاقل الملوك؟ الصَدَفَة البرية؟ قادرة أن أهاجمها بجيش من البعوض السام.

ألمح ذات الرداء الأزرق، الغريبة التي هبطت ليلا من كوكب غريب، تسوق قطيعا من الدلافين الصغيرة. تتريث برهة وتحملق في مرآة المزين الذي أضرب عن الكلام فلا تبصر وجهها بل تلالا ذائبة تقذف حممها عند مشارف الضواحي والصبايا المعطرات في سس!ل الجمرات يغتسلن. آنذاك تطلق ذات الأزرق ضحكة غامضة وتمضي تسوق قطيعا من الدلافين الصغيرة تهذي بعد كل خطوة.

ألمح جرسا هائلا يذرع الشارع مختالا برنينه وحوله يتراكض أطفال حفاة يرشقونه بحبات رمان فيضج مستاء حتى تهدئ من روعه الكاتدرائيات المائلة كقامات مثقلة بالخطايا، لحظة تهوي الحضارات على أرفف مكتبة مغبرة وحينا في حوض حظيرة.

كفى يا مدينة الأسلاب، يا مدينتنا، كان ينبغي لشفرة الرؤيا أن تدمي عينيك، لكنكِ آثرت تجاهل نداءاتنا.. نحن البحارة الأوفياء. زحزحي يا قرة العين أضلاعك قليلا وانحني علينا. ننتظرك منذ الصباح، فهلا تأتين. معنا نهيئ لك انهيارا جميلا، أنهارا يليق.. ألا يكفي هذا.

دونك لن نبحر، لن يكون لإبحارنا معنى.

يا رباننا العظيم، هات صاربتك في جباهنا وأمهلنا لبعض الوقت، فلنا خارج المرفأ عجوز مبجلة، وملك ظالم، ومدينة ترثي نفسها.

يا رباننا العظيم، الكارثة وشيكة

الخسوف وشيك
والعالم، هذا المساء، سيخلع تضاريسه
وبتشظى دونما جلبة.

سبتمبر 86