نوران

فريد رمضان

إني سمعت رسول اللّه يقول: إن أول ما خلق اللّه عز وجل خلق القلم فقال له: اكتب، قال: وما اكتب؟ قال:
اكتب القدر، قال: فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وبما هو كائن إلى الأبد .
(تاريخ الطبري)

هذا أبونا آدم باع ربه بكفٍ من حنطة
(الثعالبي)

سبحان من أضاء لي هذا المشهد:
بعد أن كان كل شيئ راكداً، صامتاً لسنين بعيدة، ينبثق الشعاع الأول، النور المتحرك من ثنايا التراب، حيث الخطوات تقترب، تلامس أجزاءها، رافعة صروحها، نحو شفق الجهات. في هذه العتمة ينفلت الضوء الأول طاغياً، يقبض المكان بخصلاته المشعة، حيث الأرض هي الأرض وتلد الأسماء، حيث انبثاق الهتاف الأول في السديم، يتخلل أجنحة الصلصال، لفيفاً نابضاً بالعذوبة والعذاب، لذات الغشاء الطري، المكتمل في الغياب، المستعيد تروضه ضدَّ مزامير العهود، والبراكين.
أفقٌ، وياله، يغري بما يأتي من العتمة، من الروح الخلد. دعوة للتلاقي، للاعتراف أمام فصاحة التراتيل. هنا يمكنك أن تراها وهي تزحف نحو بعضها، تتلامس بنعومة ورفق. صلصال ينسجم، يتلاحم في صعوده الهادئ، فتتولد الأشياء التي لا اسم لها سوى شؤون العظمة.
كتل تبذل إغراءها في حضور الروح الباسلة .
حين يخرجون تخرج الكلمة الأولى، ليهتز الماء الراكد، لتهتز السماء المظلمة، ليتلاشى الصمت في حضور الهسهسات المطهرة . تخرج لتقول الحكاية، وما تبقى منها . ليس ثمة حكاية بالمعنى العريق، بل هي انبلاجات بدائية ترفع السكون ليقظة حيّة تحدثها الأرض في التحام الصلصال. في تشكل الكتل المتمايلة، الهلامية، الزئبقية في نشيدها البكر.
يا من قلتم ..
تعالوا وأشهدوا
هوذا الوجد ينبثق
يحمل همساته أنيناً مرتفعاً. كل جزء يطوي حركاته، ليصعد النور إلى السماء ويضيئها. فمن قال منكم:
يالهذا الوعاء المتفتح من الطين، لا سلطة عليه.. و لا شريك له .
يامن قلتم ..
تعالوا وأشهدوا
فخلقنا سيكتمل .
يخرج من صلصاله البكر، ويكون الخلود، الوجد النهاري والنشيد . هذا الارتطام الاول، الحركة الاولى، فاشهدوا ظلها على حنان الأرض الرطبة، المشتاقة للقاء الروح، حينها يضحي الكون ملتقى الولادات:
رأس يستدير نحو أفقه الآسر فيرى نوره يضئ يقين الكون. زندٌ مطرز بعضلات فتية تخدش الأرض بحركتها المباغتة. ملامح أصابع تختزل نعومتها وهي تحتضن التراب. صدرٌ رخامي تضيئه الأثداء كفنائر الغيم، حتي يخيَّل لكم يامن قلتم بأن هذا الخمريّ الطالع من الماء الراكد، والطين الرائق سينطق كلمته الأولى، سيحتضن صوته البعيد وينثر في الأرجاء صخباً يلامس الأثير. سينهض من تحجره شاهقاً، عظيماً، يواجه السديم بنبضه المشع وضوئه الباهر.
ها هو الكون يستأنف جماله الغائب في اندفاعٍ نابضٍ، يلتمس شهوته تحت شجرة البهاء، يسحب خطواته نحو طعم الأعشاب ورائحة الفواكه التي خاصمتها الأغصان، داعبتها السحالي بأناشيدها.
هما جسدان يتخلقان. تبسط السهول امتدادها المترف، تفتح نوافذها، فيستدل عليهما الليل الناصع، الاكثر قدرة على:

إشعال
الكون
بمرح
الطفولة
فسبحان من أضاء لي هذا المشهد، أقول:
الكتابة.

الريح


تضفي ملامسها الأخيرة على الصلصال المتشكل، تمر عليه بحنان فتضئ الملامح. جسدان نائمان جاءت بهما الحكاية في غمرة العظمة.
لذلك، يامن قلتم، تعالوا واشهدوا، هو المجد يستوي، هو الإنبثاق الآسر، هو الشبق المشع بحضوره المتوهج. لننحني لهذا الدَّويِّ الحاضر.
ننحني
جسدان، ما أروعهما يحكيان لنا، نحن الواقفين بخشوعٍ، سيرة الشعاع البهي. سيرة الحب الذي يفضح الطين في هواء الروح.

أول الحب
آخر الحب
هما الجسدان يحكيان ذهابهما معاً
عَبَثاً
نحاول
صدهما.

التراب


الناعم الذي يخرجنا من دائرته
متضرعاً بالريح ..
بمطر الأنفاس .
يبتكر العناق الأبدي
ويغافل الأمكنة .

هل ألفناه ، المطمئن على خوفنا، يطرد ما علق من كائناته في شفرة القلب، وتعب العظام. هذا الذاهب نحو وسادة الليل ليضيئ النوم ؟.

الرعد

صاخباً ..
يأتي بجنونه
دون وصايا
ماذا يريد منا ؟
كنا في العتمة.
في يقظة الكوامن،
نطوف باشجار العذاب نسأل منها ورقة.

المطر

مختزلاً غموضنا الأزلي
روحنا ترفّ في دفء قطراته
يغتنم ما بيننا
يفضّنا
نحن المخلوقين من طعم الهواء
وعنفوان العواصف
والنور.
نميل نحو ظلال يديه. في سخائه الباهر يستيقظ نبضنا المطمئن لصوته.
يغافلنا
يدّك النوم الساكن تحت أهدابنا
حينها فقط يمكننا أن نراه .

الشجرة

أذكر الذين جاءوا،
أعطوني قلوبهم الدامية،
فبحت لهم عن الهوى.
ثم
رافقتهم.

الحوت

لن تدرك أمرهما
كأنها الفتنة
خرجت في غفلة بحارك
من حريق الطين
وذعر الماء.

في العصيان

سأُعطيك من دمي ما أعطيت، أكتشف لغز شفتيك، وهدير دفئك. تأخذني كرهاً، لست في خيار، هذا الظل فضيلة عورتنا، وسفير الحكاية. فتمهل أيها الحرف واكترث، وأنصت لروح القلب، واسهر قليلاً علك تسمع ما يضنيه الهوى، سيد الروح في البوح سوف يقصيني في الهزيع دون رحمة.
ما غاب في جَسَدِك سينهب من جسدي، ليست الأرض تفاحة العدل وليس هذا ميزان قلبك.
سوف أهمس كالحنين:
ما فاض مني أيها العاشق .. لك
لك في أول العذاب ، ولا طاقة لي.
لك في النبوءة، وليس لي
أن اغير اسم الله.
أوقفوا مدبري العصيان عن شهوتنا
أوقفوهم، هؤلاء الضالعين في توحدنا
القريبين من حظنا المتعثر
من طعنات الرغبة المعسولة
من حرارة الصبا
وسيرة الصلابة .
كنا نراه،
نهرب منه فيأتينا، نليق به، بجسده المخملي، نتزين في حضوره وهو يغيب عنا، عن حواشينا المثقلة بدمه. يفضي بنا إلى أماكنه المعزولة، يتفاخر أمامنا في تدابيره اليومية دون حياء من عورة الضجر، من شهوة الأسرى المكبلين بصخبه.
كنا نراه،
نغافل طلعته،
ونمعن في التزين.

الخطوات التي بعثرت في إناء أحلامنا
ظلت عالقة بجدران السماء

في الخطايا

ضيقٌ هذا الجسد
ضيقة جنة ليست في الخلاص،
ما عادت الظلال تنشد ألحاننا، ونحن نرمي خطايانا، ونبعثر الحب، علنّا نعرف عاصفة القلب كمستقبل لعراكنا، وحيدان دائماً ومتعثران، نصوغ تواريخ أحزاننا، ونهتف للقيد:
خروجنا، بهجة الهذيان
نشيدنا طعنة الوحدة
ما تبقى لنا، ما بغى علينا
أنا أديم النهار
وأنتِ فضيلة أنفاسي

المغرم الأول في طعن الجسد يصوغ أَعصارنا كآخرالكائنات دون رأفة .

هو

سيقولون:
أخذته المرأة من صحن الدار، أغوته بنشيد الروح فتبع خطواتها وتمرّغَ في شراشف السرير.

سيقولون:
حين أفاق في الصباح البارد رأى خطاياهما تنام على جدران عينها الساجدة.

هي

قلتُ له:
جئتَ مأخوذاً بزعفران قذالتك، فرشت لي عسل الطريق، قلتَ لي
سأنتظركِ في ثامنة الصباح.

ماذا تنتظر من امرأة سحرتها أمها بحليب العذاب؟
تطرز بأحمرها الفضَّاح خيوط جنونها وتسابق ضوء الدرب إليك، ثم تنكسر مع أول اللمس.

هما

محرومان في بكوريّة الصمت من لعنة الكلام، من آخر الرغبات، يجسان نبض قلبيهما أمام عيون الحاشية الساكنة إلا من مغفرة الماء. خشوعهما مطرز بما يأتي من الذبائح، ومعرفة الأسرار البعيدة. ليس بهما من الشك ما يدركه الهوى. بهما ما في القلب من ضريعة الجنون المنسي.

في اليأس

هَبْني يا خليق اليأس بسالة القناديل، كي أستدل على أفراحي. هَبْني فها أنا وحدي أمتحنُ المجدَ، وأتخفّفُ من أثقال الدروع.
هَبْني، في سعة الموت لأستدل على الأحياء، شيئاً يدلل الشَّكَّ في جسدي الذي بلَّله سكونك السماوي.

سأقول يا خليق اليأس للذي في القلب:
ها أنت وحدك تطارح زينتي، بكاؤك في السماء ودمعك في الأرض، ولست تسعف مملكتك.
أعطيت مستقبل العالم المتهالك، رغبة زاهية الإعياء.
يا خليق اليأس، يا..
لا المجد لي
ولا عِدْل أحزاني.

تستدرجُ إعصارك العالي، وتَجْمعُ قلقك السابح في سعته نحو الهلاك.
تمالك في معرفته، ولاتعبأ، هو ما تبقى لك من الأحزان، من وله الطيف النافر في صدر المهموم بأنوارك.
لا الحيلة كفيلة بما يختمر في القلب، وليس لشفتيك عذر الكلام.

تمالك،
جهات الحنين لكَ
ولا تأسرك سكينة الماء.

رجاءاً
أريدك
ديمة
عليّ

صوتك المتآمر .. صوتك الهائم
أتوق إليه
في
ليل أسئلتي
فقط
لو تعذر
الطين

سبحان من أضاء لي حَلَمة الكوكب:
من يغزل الأرض ويبني مجده بالخِوَذ، ينتحل الهتاف في السديم، يعترف للمساء فيخذله النهار.
هما الجسدان . الكائنان الفائضان بالدهشة، يحملان همساتهما في عراء الإحتواء، يغادران شغفهما الأول وينتفضان. لذة الدهشة.. لذة الرؤيا .
يا من قلتم ..
تعالوا واشهدوا
هوذا اليقين اليقين
مساء عذب يقترب من شفق العذاب، وهما في الفضاء يتعاطيان بدايات التسبيح في فمي، يعترفان للخجل الأوحد، ما لأنفاسهما من لهاث يتبارك عمق أشواق المشهد:
يتركها في الوحدة
تتركه في الوَحِر

يعترفان، يتعارفان
للوقت خطيئة الطيش، واحتدام الصهيل البازغ في الداهية.
فتعالوا يا من شهدتهم

تعالوا
واشهدوا
حَلَمتان تشتعلان بفيض الأرض.

في صرخة الذكورة

أيها الشرق
يا فضيلة الكون
وغريم الروح
ارأفْ قليلاً، وتمهل.
ها أنا أفسح للخطيئة أسمالها. أرتدي في حضورك غموض أسفارها. أصوغ في أروقتك خصائص شباكها، وأطرز في فضائها أختام الدم. وأنت، أيها الشرق العظيم تمعن في الطعن.
كلما أرسلت لك ما تبقى من الأخبار جاءت الاطياف مضمخة بعطر الموت. فهل الأحلام لي؟.. أقبية الأنين لي، وجع البرق لي، ولي خطى النشوة في الوقوف أمام بروجك العالية، وأنت في الأعالي.
ارأفْ قليلاً، قليلاً،
يا طريد النوازل
أيها الشرق.

المنديل الذي شبكته بالضفيرة دافقٌ على القلب.
في وحشتي
أعوذ به من الفلق،
من شرور اللغط .

أريدك
لتظللني
الطمأنينة

أبحث عنك
لو يداك في الألم.

يا اللّه،
كم دختُ في جسدي،
على شفيرٍ مشيتُ وأمشي، ما عرفت من الماء غير حيائي في الكأس. شربت، ضاعت بي اللذة، وسكرة السابلة. انتشيتُ، جاهرت بخوفي، طمأنت خبزي وخياراتي. خلعت المتواري وكابرت. شاغبت امرأتي، جئت من تعبٍ لا أعرف غير سكينة التراب، وفورة العويل.
يا اللّه .. لا تلمني .

في العشق

في هدأة اللقاء .. في عذوبة الأسرار.. في نهضة القلب .. في خفقان العاشق .. في ليل التأوّه .. في نشيد الجراح .. في هزيمة العناد .. في جذوة الوله .. في غمرة الرؤيا، هل أسمعُ خطاك تهتفُ في أوردتي ما تسمعه السماء؟. أفتحُ ما علق مني في ما يؤخذ إليك .. يا جوهرة الريحان، قلادة الضوء، وإشراقة الوجد.
أيتها المرأة التي رأيتها في الهدأة، في اللقاء، لماذا لا أرى الوجه ياليل الله؟

حين جئت،
رأيت القطن، في حقل القلب يفزُّ مع طيف ريحها، يزدلف لرجّها، ويتردد. قلت له:
ياقلب مالك والعذاب، تمهل واكترثْ.
لكنه، اعتمر، وشّد على خطوي وغالبني وتقدم. شيّد عرفانه بأول الكلام، غافل ملائكته برجفة الخمر وصب في حوضها أحزان فراقه. سكن إليها فاستكانت فيه، لملمت قطنه، طرزته بحليب صدرها فأغراه الدفء .

حين جاء،
وكانت خطوته في أرض بسرنديب، وكنت بالحجاز. أرى دمعته تمطر الجبال، وشهقته تقذف بالعواصف، ويداه تنفض الغيم.
كل ذلك
ليراني،
ليشم عطري،
ليستطعم عافيتي ويطعمني زنجبيل رضابه.

النسّاخون الّذين كانوا في الكتابة
بكوا
حين
شاغبتهم
الأخبار.

في صرخة الأنوثة

يجتاحني أمل، ويحاصرني خوف، ويداك في أحلامي. مرة تحتويني .. ومرة أحتويك .. مرة يحتوي بعضنا بعضاً .. ومرات يحتوينا النواح. يا من ليس ليأسه مثابرة في فضاء أحلامي أستَدق كالنصل حتى أكون فيك.

لمَاّ أبصروا قلبي
أمطروني
بالعيون.

تزينتُ ..
لبستُ أجمل ما لديّ، وضعت الكحل كيفما تحب.
ثم انتظرتُ وانتظرت ..

ساح كحلي،
عتقت ملابسي،
وذبلت زهوري.
لم تقدر صومعتي على احتوائي بحزني ..
ضاقت الدنيا ..

بي
و
بزينتي .

رأيت الكواكب تحتمي في الخديعة، والمرايا في الماء، وتاريخ التراب يتفجر من صلبي.
رأيت كل ذلك وكنت في الألم.

رفعت قامتي وناديت:
أوقفوا النافر في صدري،
شبق الأعذار في قلبي،
أوقفوا كل مايستدل على أحوالي.

سبحان من أضاء لي رهين الساقين:
في ضياء الكون، سيكون اللقاء ناقصاً، وسنبحث في الحكاية لنبيح جوهر العذاب، وسوف تقولون، وتشهدون. من أين تخرج الكلمة الأولى، الحكاية الأولى، لنرفع النبؤة عالياً؟ من أختامنا المطرزة بما ينبغي من الدم النافر، من أشلائنا المبعثرة في ليل الرجاء المنصرف نحو رجائه.
أيها الواقفون على أعتاب الزَّغَب المخملي، هي الأقواس المنحنية بين زنابق الجسدين الطريين، العادلين، في كون لاعدل فيه. وليس فيه من النسيان ما يكفي ليكفينا.
لقد رأيتم أيها الواقفون أسلحةً فاضحةً، رأيتم دماً طافحاً يتقدم في صمته، رأيتم اغتصاباً لأرواحكم الأخيرة في النزال الأخير .
يا من قلتم ..
تعالوا واشهدوا
هوذا غفرانكم الأخير

فليهتز ما في أرواحكم ، ولتكشفوا أمام هذا المشهد خطايا أنفاسكم، ولنختصر الماء الراكد، وخراب الكون، ونقول الحكاية.
هل ثمة قول؟

في الشهوة

ما هذا أيها المساء؟
يقيناً هو الشوق. أفلته، هذا العذاب الصغير أفلته. لا تأخذ منه علة، ولا تحقن الأشواق. لا تدع الأصوات في سباتها، ولا تنسى. هو صوت الروح، هذا الانجذاب ، هذا النداء الحاد الذي يفزع الشهوة وخلايا الجسد، يستحوذ عليه فتنهض الرعشة وتتفشى.
هنا - يقيناً - ستنفلت النيازك. ستذيب الجسدين فيما يبرمان لهيب الطعن، يختبران الأعذار في حين تبقى روحاهما هائمتين تجسان نعومة الخطوة، قليلاً .. قليلاً .. فتضئ ما تبقى من عتمة الكون.
يأتي الصوت العذب، في يقظة خدر لا مخرج منه، ولا مفر، فيتساءلان:
ما هذا أيها المساء ؟

نترك دمنا بين الشراشف
مثلما تُترك
الأخبار الغامضة

سكينة الجسد، الوحيدة القادرة على الليل، تؤسس طلّتها، وتعاتب الأنفاس. حين غمرتني الفتنة، تركت روحي بين الهوى، فغارت منها عيون حاسرة من اللذة، من قاسيات الليل.

الرأسُ، ذو العين، الذي رفعته من العتب وهاجسات الإستقامة، كان متآمراً مع نداء العصّاص في صحوته

من
النهد
إلى
اللحد.

حين صادفتنا الشجرة سألتنا عن العطايا،
كانت اليد في السّرة
والعظمة
في
اللحم
وما بيننا
في
الهزيع.

في الإثم

المرأة التي شحذت حزنها في الوحم، تستيقظ عند السؤال لتحاكي أطيافها الغائبة:
ها هنا أشعلت عباداتي، وتذرعت للمطر أن يلملم خرائز صمتي، ويسند أقراط حنيني في جنة تتيسر لي دون اشتهاء.
ها أنا متأملة
اختلافات روحي
في مرآتك

الرجل الذي لا إثم عليه، يصوغ آثام جسده، ولا يعترف بعدل الأنثى في أحلامها. يأخذه الغدر، والبيلسان، ساعة نفسه:
ها أنا في الخوف أوزع أثقالي لأستدل على السكينة، أكتشف كهوف الليل المقدسة، وأغالب قلق النهار بلا دروع.

ها أنا في التجربة
وفي قلبي
تُطعن
الطمأنينة

كانا يضعان الله في هزيع السريرة، يفسران خطب الألغاز ويتساءلان:

ما الذي يبقى من جسدينا ؟

حين نَنفّضُ عنه، نتركه في الوحدة، يجن جنونه، يعلن بطشه الغامض في لعنة الخوف والكهولة، تباغته الأحفاد بخطاياها، ذريعتها في الخيلاء أمامه، يرسل على أثرها ما تيسر له من عذابٍ ومن حزن .

الندوب التي تملأ الأرض
زرعتها
الاحزاب
في
الخلق.

في القربان

في الحب،
نحتار في صياغة اشتعالنا المشاكس. ليس لغزاً أن يضاهي نشيدنا غموض الكون، وجنون الجسد، فليس ثمة حنين يغمر مساحات طفولتنا. رغبة تفتنُ يقظة الاكتشاف. شهوة تستيقظ لتوقظنا في الصقيع.
ها نحن نبذل كائننا المدلل، مثل هذيان مقدس في سماء الرب . نختبر دمنا الفاضح بدمنا المغدور.
أعطنا أيها الكائن رفعة الخليقة لنشيد أول البكاء.
نَحنو على قلب السماء، ونجهر.

الأسماء التي وهبناها في الصباح
أضعناها
عند
اللقاء.

مختومة هذه الضلوع بالنسيان،
بفورة الألغاز
بالذي يصطفي ذبائحه
في نزهته
دون أن يطعم
الروح .

نحتمل العناق
ما ظل
الوقت
مبكراً.

في الجحيم

هذه الرذائل العالقة بخياناتي ليست لي.
كل هذه الأمطار التي تختبر حروفي ليست عليّ . كل جحيم يشيّد أضرحتي ويشحذ جنازتي لايمكن أن يكون لي.
أنا السيول التي ترفع رياح البوح وتواجه صروح السماء. تصوغ عشقها في وحدتها فتخذلها:
الأنصال البراقة،
الدماء النهارية،
الأصوات المحزومة،
الألقاب الرفيعة،
وأشباح الوقت.
لا حيزٌ لي هنا. يشغلُ روحي مكانٌ ليس لي. وليس لي ما تبقى من رمادِ روحي.

القِلادة التي على صدري
لا تحتمل
أعباء الطريق.

لا تنظر للأرض فيأخذك النسيان، لا تغزل أحلام قلبك فتطعنك البيارق، لا تنسحب من العذاب فيرقيك الموت، لا تأخذ وليمة الصباح فيواجهك الليل، لا تشيد أضرحتك فيتبعك الأحباب

عطّر صراخك
علك
تنالُ
الرحمة.

يا اللّه
كم
تبدو
مسروراً
و
.
.
.
.

عظيماً

في الذهاب

ستذهب لتبقى.
كم كانت حدائق الموت تراوغ قلبك، تهدهد جراحك البيضاء، وأنت ذاهباً للمرة الاولى، تاركاً خلفك آثار قبلاتي، وجحيم أشواقي لتؤلمني. أيها الرجل، ياعليل الوقت، لاتترك خلفك امرأة في ركن الحرائق تقطف قلائد الموت، وتتبع خطاك، تزين أجراس قميصك برائحة الصلاة. ستذهب أيها الرجل لتبقى في الهدأة.
فلا تبقى في التراب.

الحفرة الرائعة ليست للجسد،
لاحتمالات العودة هي.

فضاء يشحذ أحلامه ونحن نشهد للخلق ما يشعله الصَليلُ الأول في أقدام الأنثى العارية . في استقامة الصلصال، في لوثته، في انزلاقاته على بلاط أوراق التوت. إننا ننظر ونشهد:

الحوت يبحث في القلب عن السّر
والشجرة بين مدار العذاب
والمرأة وحيدة في الأرض.

تقف، تنظر إلى السماء تطرق أبوابها مهتاجة، يأخذها العويل وأتباعه طالبة ذكورتها، جنونها الأوحد. تهيجُ ويقتلها الحنين فلاتملك ولانملك سوى اصطياد الحزن من فوق أهدابها. نحن الذين رأينا فيما رأينا طعم الوجد ينبثق من بين أسرار الصلصال الذي بدأ الحكاية ولم ينته بها، كشف الحلم والصهيل وترك الخراب يتطاير في أحشاء الخلق.

هل هو؟

المرأة في القلب وتهتف:

أيها الحبيب،
تأتيني
تنزل عليّ
تخترقني،
إنمامعرفتك وحي من الرب .

إشارة

  •  انجز هذا النص في 4/11/1994م 
  •  كتبت بعض هذه النصوص في عام 1989
  •  تبلورت مع الفنان التشكيلي البحريني جمال عبدالرحيم، في كتاب من خمسين نسخة اصلية من عمل الفنان قياس 36x54 ويتضمن 15 لوحة جرافيك مطبوعة على ورق آرش 300 غرام إضافة إلى ترجمة باللغة الإنجلينزية قام بترجمتها الشاعر عبدالحميد القائد. وقد اقيم معرض فني بنفس الأسم، تم فتتاحه بمركز الفنون في اكتوبر من عام 1995م

فريد رمضان
framadan@batelco.com.bh

ولد في جزيرة المحرق - البحرين- 1961

مؤلفاته :

  1. البياض - قصص- البحرين - 1984
  2. تلك الصغيرة التي تشبهك - نص - كتاب كلمات- البحرين - 1991
  3. التنور -رواية - كتاب كلمات - البحرين -1994
  4. نوران -نص - دار شرقيات -القاهرة - 1997