لمن يغني القمر
من كتاب
(مقاطع من سيمفونية حزينة)

محمد الماجد

عامان منذ أن بكيت أيتها الأرض، واسترحمت المطر. أما الآن.. فليس غير المطر، وحن!ين المطر! وأنت قريبة يا أرضى العطشى.. قريبه من العالم كله.. إلا أنا، بعيدة عني، بعد الضياء عن أودية الظلام. !منذ عامين وأنا أخوض نهرا من ظلام.. ابحث عن حزمة كل ن الضوء، تعزيني عن فقدانك. ويا ضيعة الباحث عن الضوء في الظلام. أما الفناء فيك فقد علمني أسراره جدي الحلاج. وجدتي رابعة! وها أنا الليلة اطرق قاع الفناء، وأسال عنك الأبدية. وفي صباح اليوم وجدت نفسي وأنا أجري بجنون التعساء إلى مدينة ي الخبر 50مدينتك.. ليصفعني فيها كل شئ، ويصرخ في وجهي: عد بها مطر.. فأرضك ما عادت عطشى! وها هي هذه الغرفة تنسج لي بصمتها خيوطا أخرى من الفناء. ومن ذا الذي يعلم غير هذه الجدران الخرساء، إن سناء، منذ عامين وفي ذات ليلة من ليالي الصيف، تسللت من فراشها إلى علاء، وبكت على صدره، وقالت له: احبك بكل ما تحمل الأرض من حنين إلى المطر!

تاريخ ضائع، كضياع دقات هذا القلب المجنون. وهذا الليل يتنفس حزنا في وجهي والسماء لم تعد الليلة كمما شهدناها ون ذ عامين... هناك وحش يفترس النجوم فيهما، ويمتص الضياء من أجفان القمر! - كيف حال البحرين، وكيف أمي وجدتي؟! أختي تعيش عالما بلا أحزان، وبلا حنين، البيت، !الزوج، والأولاد، وحياة تتوسد الطمأنينة! - الجميع بخير! ! وليت لي من اسأله عن عالمك يا سناء، كل من في هذا الحي. بل في هذه المدينة، يجهل ما يريد علاء، وما أرادت سناء! وأرض بلادك كانت مزرعة العشاق.. إلا بذرة عشقنا، لم يكتب لها الاخضرار على هذه الأرض! - أما زالت نخلة بيتنا خضراء يا آخي؟ هنيئا لك هذه الحياة يا أختاه. أما نخلا بيتنا الخضراء، فقد احترقت يوم أن جاءت رسالتك تقول: زفت جارتنا الجميلة سناء - نعم ما زالت! يا عينا سناء.. يا منابع أسرر الأزل.. يا مرافئ الألوان والضياء أنقذاني من هذا الليل الطويل ثمة دمعة حبلى بكبرياء أهوج تتحجر في مقلتي. أريد أن أصرخ في أختي.. في هذه الجدران الخرساء التي تصفعني بصمت حجري.. في هذا العالم الميت. في هذا الليل الأعمى ..في التاريخ، في الأبدية: أريد سناء أتعرف الأرض كم يحن إليها المطر؟ عالم غريبة يا سناء، كل يوم تموت فيه ألف حسرة، وتخنق ألف دمعة، وتنتحر ألف ارتعاشه

، وليلة أن عدت إلى البحرين، منذ عامين، رأيتك في منامي تحملين كفنا ابيضا، وعندما سألت أمي في الصباح عما يعنيه الكفن في المنام، قالت ثوب زفاف! أما بكاؤك أيتها الغالية، فقد ظل يجرح أعماق صمتي في كل ليلة

لماذا تبكين يا سناء؟

- لا تسافر يا علاء؟
صوت سناء يهدر في كياني. وعيناها تغرقان في نهر من الدموع، دموع غامضة، مبهمة تكتب على وجهها أروع قصة حب عرفها عصر ؟! !جليد!. - بدق السماء وقدسية من في السماء، لا تسافر يا علاء! - لا بد من السفر يا سناء! - إذن خذني معك. - كيف يا سناء؟ - سأهرب. سأهجر العالم من أجلك. وسأقضي كل حياتي أتعبد في هياكل حبك! صمت يعبث بصلابة الحجر، راح ينزف من وجهي. - هذا جنون! - وأنا احبك بجنون. وبكل ما تحمل الأرض من حنين إلى المطر.. أنا الأرض يا علاء، وأنت المطر! ألن يرحم هذا الوحش زرقة السماء، وضياء النجوم والقمر؟!

و! تلك الليلة ل! يكن سوانا في هذه الغرفة، عانقنا المطلق والتقطنا أسرار الأزل، وحفرنا اسمينا على جذع نخلة في السماء. وليتك يا ذلك الصباح لم تطل! - سأعود يا سناء! وبكيت الأرض، وانتحبت، وصليت.. ولم يهطل المطر! وماذا يستطيع أن يفعل المطر في عصر يقاسى المرء فيه بما يملك من ذهب؟ - علاء.. هل هناك أقوى من حنين الأرض للمطر - الله والجنون لا يستويان يا سناء. وأنا يوم أحببتك، اكتشفت الله، أحببت الله! - سنموت حزنا يا علاء! - الذين يحبون الله لا يموتون يا حبيبتي! من تراها كانت تنطق في تلك الليلة؟ أهي سناء أن عرافة تمزق الغبار بعينين جارحتين عن جدران الغيب؟ ما أروع شعرك يا سناء

- وكالمجنونة تنهض.. تبحث عن شئ ما في زوايا الغرفة.. وبعد لحظة تنتصب أمامي كرؤية قدي!س في ليلة قمرية.. وبحركة تفيض وجدا وإشراقا، تقص لي خصلة من شعرها المغسول في انهار الذهب! - هاك قطعة منى يا علاء! نجمة مذعورة تفر من السماء. - خرت نجمة على راس شيطان! -

تمتمت أختي وكأنها تنطق ب!وحدانية الله! السماء.. وهذا الليل، وهذه الجدران.. كلها تصر! ؤ! وجهي.. أختاه أغلقي هذه النافذة لكي لا أرى الليل والسماء. - أنا الأرض يا علاء، وأنت المطر! ويطول الليل علينا ونحن نطوف حدائق ا الطلق، ونعانق أسرار الأزل. وفي الصباح، و 07 ما ألعن ذاك الصباح، تخترق عينا الأم قلب ابنتها البكر، وتكتشف جنون الأرض بالمطر. وان القلب في ذاك الصباح أنين إنسان يموت. ودنت ساعة الرحيل، والحبيبة في مكان مجهول.. طير بها بعيدا.. إلى الرياض، إلى جدة، إلى حيث لا تحن إلى المطر! - فيم أنت سارح يا آخي؟ في أسرار الأزل. ولو كنت تعلمين عن جنون أخيك بأسرار الأزل لما قلت في رسالتك: زفت جارتنا الجميلة سناء! - لا شئ يا أختاه! و آه لو تلتقي عيناي بعينيك يا سناء. لحظتها.. سيشهق كل عرق من عروقي، وينتهي الجنون إلى الأبد! - أنت متعب من السفر. طابت ليلتك! صخور من التعب والضياع تجثم على صدري منذ أن خنق جيرانك صوت الأرض. - طابت ليلتك يا أختاه. وهذا النهر كان بالأمس من ظلام، فك!يف اصبح الآن يتدفق نورا؟ وأنت يا سناء، وهذا العالم الملون بالاخضرار.. وأنا، كنا نرضع الموت من أثداء الظلام، فمن الذي بعث الأموات من قبورها يا سناء!

- الذين يحبون الله لا يموتون يا حبيبي - لحظة ظل عمري ينزف إليها حنينا. أما زالت الأرض تحن إلى المطر؟
- - ولن تزال إلى الأبد!
- - وثوب الزفاف الأبيض يا سناء؟ - لم يكن ثوب زفاف يا علاء. كان كفنا لملمت فيه قلبي الصغير وتقترب مني سناء.. وتتحول إلى ارض كبيرة.. ويهل المطر! وكان بكاء. الأرض تبكى سنين الجفاف، والمط ر يبكى تاريخ الحنين! منذ لحظات كنت اطرق أبواب الأبدية، واصرخ فيها: أريد سناء! - وهاهي سناء بين يديك!

- - ولكن.. كيف جئت؟
- - كما جئت منذ عامين
- وفي هذا الليل ، وزوجك، و أهلك؟
- ليس من السهل أن يموت حنين الأرض للمطر
- - حنين الأرض والمطر فوق الموت يا حبيبتي! ولكنهما سيموتان حزنا، ما لم يهطل المطر إلى الأبد! -
- أنسيت إن الذين يحبون الله لا يموتون؟ -
- والندم يا علاء؟
- - الندم لمن يخافون الحنين الأزلي!
- - الحنين الأزلي عذاب

- علينا أن نتعذب لكي يعيش غيرنا! - ومن تراه سيقدر حنيننا وعذابنا! - أسقطي هذا من حسابك يا سناء. إن الشمعة التي تتراقص ذبالتها في عتمة المعبد، لا يراها يخر الكاهن الذي نذر نفسه للإله ، أما الناس فما يهم أن يعرفوا أن هناك شمعة تحترق في معبد ما، أم لا!... ويذوب الليل، والجدران.. يذوب كل شيء 2، وتزغرد النجوم في السماء، ويغنى القمر! وعلى أبواب حدائق المطلق كان ! في انتظارنا رجل وامرأة. وعانقنا الرجل وعانقتنا المرأة، وقالا لنا: مرحبا بكما في جنان المطلق! وكان وجه الرجل يشع نورا، وكانت ! المرأة ترفل في ثياب بيضاء، وكان وجهها يتلألأ كجوهرة أسطورية! ! وسألنا: من تكونان؟ فقال الرجل: أنا جدك الحلاج، وقالته المرأة: أنا جدتك رابعة! هذان علماني فيك الفناء يا حبيبتي - جدى.. لمن يغني القمر؟ سألت الرجل فقال - لمن يحبون الله: وسمعت صوتا يناديني.. واختل! الصوت بالغناء. والتفت إلى مصدر الصوت؟ لا أحد يناديني! عاد الليل، وعادت الجدران. فتحت النافذة، وتاهت نظراتي في الظلام. كان!ت السماء حزينة، صامته، لا نجوم تزغرد فيها، ولا قمر يغنى.

محمد الماجد

عمل محررا ثقافياً في جريدة الأضواء و أخبار الخليج- في البحرين
توفى في 11 - 9 - 1986

مؤلفاته:

  • مقاطع من سيمفونية حزينة- وزارة الثقافة و الاعلام بدولة الكويت- 1970
  • الرحيل الى مدن الفرح- قصص قصيرة - دار الغد- البحرين - 1977
  • الرقص على أجفان الظلام- قصص - البحرين - 1984
  • أنت أول من سألني عن اسمي- أسرة الادباء و الكتاب- البحرين- 1998