ليلة الحب
رواية

محمد عبدالملك

(أيها الليل الذي أنت مسعدي أخشى وأنا الساعة مكتنف بأستارك أن يكون هذا كله حلماً في الكرى من بعض أحلامك فقد تناهى في العذوبة والسعادة حتى يكاد يكون خيالاً، ويلوح صوراً وأوهاماً).

* كتب هذا الكتاب بين عامي
1988 ، 1998- الأولى 1998م
ليلة الحب
فهد الربيعي

(يا روميو ! أيها العاشق! أيها المجنون! هلم اظهر ، هيا ولو في صورة زفرة مستقرة أو تنهيدة مضطرمة، أو غننا أغنية، أو ابعث إلينا نغمة مشجية لنطمئن عليك. قل ها أنذا، أوفه بكلمة مستهام، أو أهدل كما يهدل اليمام. تكلم مع فينوس آلهة الجمال كلمة واحدة من كلمات الحب).
قال لي علي الضحاك وهو يبتسم ولا يخفي دهشته ويغمز لي بعينه وهو يغطي سماعة التلفون براحته:
- فتاة على التلفون!
كنت دهشاً بدوري. كانت زهرة على الجانب الآخر ترحب بي في حرج غير خفي. وكنت في حالة من الدهشة والاضطراب والسعادة لأنني لم أتوقع أن تتصل بي زهرة إطلاقا. واعتبرت ما حدث تلك الليلة أضغاث أحلام. كنت أعرف وأعي تماماً أنني مريض بأحلام اليقظة. كان صديقي عبد العزيز قد حدثني بإسهاب عن زهرة. وكان حديثه يبدد تفكيري وقناعتي. كنت أحلم بامتلاك زهرة وأنا في كامل صحوي. والحلم في الصحو خطير. حينما نحلم نائمين نستيقظ وينتهي الحلم، لكن حين نحلم في اليقظة لا نستيقظ. كنت قد تخيلت زهرة في حوزتي. تخيلت أنها شغفت بي بعد تلك الليلة.. وأنها تحبني أيضاً ! وكنت أقلب هذه الفكرة في حواسي، ولا أرسو على قناعة واحدة فالقلب قُلب كما قالت العرب. وسمي قلباً لأنه متقلب!. لكن كلام عبدالعزيز حسم الأمر، فحسمته أنا بدوري. زهرة كما قال لي عبدالعزيز فتاة طليقة جداً مع الرجال لذا يعجبون بها بسرعة! ربما لأنها فائقة الجمال!.. هل كان عبدالعزيز يريد إبعادي عن زهرة بهذا الشرح الطويل عن طباعها وعاداتها؟ هل لاحظ كل شيء فيما كنت أنا لا أعي ما حولي؟ ! قال لي عبدالعزيز إن زهرة تتصرف بعفوية، تسامر دون رقيب، تقيم علاقات واسعة مع نساء ورجال. علاقات صداقة بريئة عابرة، لكن من لا يعرف زهرة يظن بها كل الظنون! زهرة تضحك مع جيرانها الرجال، تشارك في حفلات تعارف مختلطة وتراقص الرجال في هذه الحفلات. يظن الكثيرون أنها تحبهم بعد أول لقاء! ما طباع زهرة؟ لم حملت هذه العين الداعية للحب؟ لم تخرج هذه النظرة المشعة من عينيها وتستقر في القلب؟ماذا يحدث بعد ذلك للرجال؟ كيف يتصلون بها ويخبرونها عن ولعهم وحبهم وشغفهم ؟كيف تضحك زهرة من كل ذلك ولا تجرح شعورهم وترحب به فيعاودون الاتصال؟ ماذا تفعل زهرة بالجميع ؟ كيف تجسر على سرد هذه الحكايات لعبد العزيز وأختها وهي تضحك؟ ثم تعبر كل هذه الحكايات عبور الكرام؟ هل كان صديقي عبدالعزيز يحذرني من مغبة السقوط في حضن زهرة؟ )حضن كالكمين؟( هل كان خائفاً علي وقد لاحظ ما حدث بيننا من انسجام تلك الليلة؟ كنت أشك انه قصد تحذيري. ثم أتذكر أنني أنا الذي بدأت السؤال. أنا الذي كنت أريد أن أعرف عنها كل شيء. وكنت في كل الأحوال لا أطمئن، بل تثيرني هذه الأخبار والحكايا. وأشعر أن حلماً كالطيف قد عبر دون أن أمسك خيوطه. أتشبث بهذه الخيوط فتنقطع في يدي. تذهب سدى. أعاود الحلم وأراه بعيداً. لذا، لم أتصل بزهرة. كنت فكرت بالاتصال بها بعد تلك الليلة. وكدت أدير رقمها عدة مرات، عدة أيام. وفي كل مرة كنت أتراجع في اللحظة الأخيرة.. أخاف الفشل. أتذكر ما قاله لي عبدالعزيز ، فالفشل كالهزيمة. وأنا انهزمت حتى النخاع. بادت أحلامي الكبيرة، وتبدد عمري، ولم يبق لي إلا انتظار الريح. الريح المحملة بالغبار والأتربة والموت. والآن، وزهرة تتصل بي وأسمع صوتها الرقيق الناعم المعاتب، الآن تزهو نفسي، وأشعر بسعادة غامرة حاولت أن أخفيها. زهرة تعيد العتاب وتكرر والعتاب عسل المحبين. قالت : )لمَ لم تأت بعد تلك الليلة يا فهد؟ جئت لأراك؟(، وكنت أوغل في الاعتذار ثم نسيت نفسي في لحظة ، فقلت : جئت لأراك يازهرة.. ولم أجدك!( )متى ستأتي؟( قالت. )أنت لم تسأل ! أنت لا تسأل(. رأيت العتاب يتحول إلى دلال! إلى رقة أنثوية تأتي من الداخل، وتذهب إلى الداخل! قلت : )أنت معي يازهرة طول الوقت!(.. )كذاب!(. قالتها بصوت مخدر. كانت سعيدة )أنا لا أريد إزعاجك !( ... )إزعاجي؟( تخيلت عينها الجميلة وهي تقول لي . )أحقاً !.. من يصدق هذا الكلام ؟ أنا انزعج منك؟ ..( قلت )جئت إلى منزل عبدالعزيز لكي أراك .. وسألت عنك عبدالعزيز..(

- ماذا قال عني؟
- قال أشياء كثيرة..
- هل كانت في صالحي..
- لا أعرف !
- هل ذمني؟
كانت في مزاج رطب وذائب:
- أبداً .. لكنه عرفني عليك !
- وماذا قال؟
- هل أنت مصممة؟
- دون شك ..
- أرجوك يا زهرة !
- سأزعل .. !
- لا تزعلي يا زهرة.. عبدالعزيز قال لي أنك فتاة خطيرة !

كنت أمزح فضحكت وقالت:
- خطيرة !
- وقتلاك من الرجال لا يحصون!
- وقتلى أيضاً يا فهد ؟ !
- هذا غير الجرحى !
- أنا لم أفهم ؟
- هل أتكلم ؟
- أرجوك ؟

قالتها بنعومة.
- قال لي أنك تغوين الرجال بعينك وعسل حديثك. ضحكت زهرة. توقفت عن الكلام. أريد أن أسمع رأيها. لكنها كانت تريد المزيد.
- أنا لا ذنب لي !

كانت تبرر في سعادة.
- قال عبدالعزيز أن في عينيك دعوة صريحة للحب ولا يد لك في هذا الأمر!
- نعم ، لا يد لي في الأمر !
- وأنا أحسست بذلك !
ضحكت أيضاً وأضافت : عندي مشكلة بالفعل بالفعل يا فهد !
- إذن فعبدالعزيز صادق !
- عبدالعزيز لا يكذب !
- أعرف .. !
- أنت صدقته أيضاً ؟
- كيف لا وقد جربت !

ضحكت مرة أخرى ..
- أنت أغويتني يا زهرة !
- صحيح !
- بلا شك !
- لم لم تتصل إذن ؟
- لأنني كنت خائفاً منك !
- تخاف مني يا فهد؟!
- جداً !
- أنا أخيفك ؟
- بالطبع !
- أنت تمزح يا فهد ؟
- أبداً ! أقسم أنني خائف وقلق !
- ما الذي يخيفك ؟
- عيناك يا زهرة !
- لم تقل لي ذلك تلك الليلة ؟
- كنت أتأملهما في خوف.
- ما الذي يخيفك منهما ؟
- سعتهما وسوادهما ..!
- كنت ظننت أنك نسيتني..
- حاولت أن أنساك دون جدوى ؟
- تكابر يا فهد ؟
- كنت أكابر دائماً .. وهذا مذهبي في الحياة .. ويبدو أنني انهزمت ! وما عدت سيد نفسي. أنا أبحث عن مكان لي في هذه الحياة الجديدة.. هل تنصحينني بالدخول؟ !
- أدخل يا فهد !
- أنا أشك في ذلك ..
- هل أقول لك الحقيقة ؟
- كوني صريحة مثلي 00!
- أنا خائفة منك أيضاً !

ضحكت بدوري وبطلاقة وقلت :
- الخوف جمعنا معاً ، لكن لم تخافين مني ؟!
- حروبك كثيرة .. ومغامراتك لا تنتهي!
- السياسة ؟
- ألا تخيف السياسة يا فهد؟
- هي مخيفة بالفعل ! لكن النساء أخطر من السياسة!

ضحكت زهرة بزهو، وجاءني رنين صوتها، وسمعته يتردد في ردهات قلبي، وشعرت بقشعريرة من السعادة والانهزام والتسليم. زهرة تستحوذ على آخر ما تبقى مني. آخر أشلائي، زهرة تأخذ قواي المنهكة.. وأنا امنحها أطرافي. لم أخافها وهي لا تخافني! كنت أعرف هذه الحقيقة. أحببت فتاة جميلة قبل المنفى. تبادلنا الإعجاب. تقابلنا. اندمجنا حتى النخاع. بعد لقاءات قليلة اتصلت بي وقالت : سمعت عنك ما يخيف ! دهشت وقلت لها : ما الأمر ؟قالت: أترك السياسة إذا أردتني! اعتقلت كرة أخرى وأصبت في الزنزانة بالأنيميا. وحملني علي الضحاك كالصينية إلى وعاء البول والطبيب وعندما خرجت من المعتقل شاهدتها في سيارة مع رجل سمين وخلفها ثلاثة أطفال. كان علي الضحاك يسهر على معالجتي في الزنزانة ويسعفني بالدواء. واصطدته ذات ليلة يبكي إذ أصبحت أنا عظاماً صفراء هشة.

فهد الربيعي

( ها هي ذي تتكلم.. أيها الملاك البهي تكلم مرة أخرى فإنك في إشراقك، وروعة بهاءك كرسول ذي أجنحة من السماء إلى أعين البشر الشاردة المتطلعة إليه وهو يمر مخترقاً السحب المتباطئة سابحاً فوق صدر الفضاء بأشرعته).

كنت أفكر في عبدالعزيز.. سيعرف كل شيء ويرى كل شيء .
لكن ماذا سيعرف وماذا سيقول ؟ وهل هناك ما نخفيه ؟ عبدالعزيز لاحظ انسجامناً المطلق وخلوتنا الطويلة.. لكن من يعرف ما في القلوب؟ هل أعرف ما في قلب زهرة؟ وهل تعرف زهرة ما في قلبي؟ كنت لا أشك - وزهرة تتصل بي - أنها مولعة ومهتمة .. كما أنني أبدي اهتماماً فائقاً بها. زهرة لاحظت ذلك، وآلا ما كانت تتصل . لم يبق من الخيال شيء إذن وعلي أن أعيش في الحقيقة. الحقيقة الجديدة التي بدأت تغمرني كلي، من رأسي حتى أخمص قدمي. لم أعد أخمن، بل صرت في يقين.. زهرة تميل، مالت إلي، وأنا ملت إليها. كنت اسمع عنها.. وكنت أرغب في لقاءها.. كانت زهرة حديث المجالس، اختلفوا عليها، كما اتفقوا عليها.. كان الرجال يتحدثون عن جمالها وجنونها.. أسموه جنوناً لأنه لا يتفق ومقايسهم الخاصة. زهرة خالفت مقايسهم التقليدية..

كانت زهرة تهتم بزينتها كل الوقت و لا تنام إلا بعد أن تقف طويلاً أمام المرآة لتزيل مكياجها.. ولا تصحو إلا لتضع مكياجاً جديداً .. المرايا سعيدة بزهرة.. كنت أسمع كل شيء، كل ما يقال، كل ما يضاف . قلت: هذه الليلة ستكون حاسمة! سأعرف كل الحقيقة بعد هذا اللقاء ! لن أخفي شيئاً عنها. وستقول لي زهرة عما يعتمل في عقلها ، في قلبها، وإن لم تتحدث فسأكتشف ذلك بنفسي، ومن يدري قد نقول لبعض، دون انتظار أو حرج أننا نحب بعض. قد نعترف، قد نسرف في الاعتراف فما أظهرته زهرة لي في المكالمة الأخيرة ينم عن حب. كنت على ارتباط مع أصدقائي في المسرح. سنبدأ في التاسعة بروفة مسرحية روميو وجوليت. سأمثل دور روميو، وسأكون مهيئاً لهذا الدور بعد لقائي بزهرة مباشرة. ما هذه المصادفة الحلوة؟ سأعيش الحب وأمثل دور الحب في ليلة واحدة؟ سأتقن الدور بلا ريب وسأتخيل زهرة على المسرح وأنا أخاطب جوليت آه يا زهرة! آه يا جوليت! عندما حددت هذه الليلة للقائنا شعرت بحرج، لكني لم أقدر على تأجيل الموعد.. وماذا في ذلك ؟ سأكون روميو زهرة وروميو جوليت في نفس الوقت. سأنتقل من الحب الحقيقي إلى الحب الخالص الصحيح. سأتهيأ للبروفة، وسأفاجئ أصدقائي بالأداء فأنا عاشق بالفعل ! وأحبُ زهرة كما أحبَّ روميو جوليت. سأتخيل زهرة وأنا أواجه جوليت! وسأنادي زهرة على المسرح، سأكون روميو الحقيقي. وسيمنحني ذلك القدرة على تقمص الدور. كان موعدنا في السابعة. وكنت متردداً ما بين الاعتذار لزهرة أو إبلاغها بالموعد في اللحظة الأخيرة. وعندما طلبتني هذه الليلة نسيت كل شيء. نسيت أنني على موعد، وأنني على الأرض. ووافقت دون تردد. وها أني أفكر في زهرة وفي بروفة المسرحية. وجاءت زهرة أخيراً. لم أشك لحظة أن زهرة اختلفت كثيراً عن أول لقاء.

كانت امرأة أخرى. وضعت مكياجاً كاملاً هذه الليلة فاشتعل جمالها. بدت عيناها أشد اتساعاً، وظهرت كنوز شفتيها وما أسفلهما من جواهر وفضة وحب رمان وطلع ابيض وكرز. تحدثت بطلاقة وحب وبهجة، وتراقصت الأضواء أمامي كأشباح وهمية مرحة تحتفل احتفالاً سرياً. وبدت لي المقاعد والسجاجيد أشد رونقاً، وشعرت بخفة في الروح، وركضت بهجة في بدني، ورقصت روحي.. أني أطير.. أطير. تجلت زهرة هذه الليلة كالعروسة في الجلوة، وكان شعرها كثيفاً كغابة صاخبة، وكان كتفها الأبيض كالبراق مفتوحاً ومترعاً، وتجلى في الأعلى عنقها السامق الفضي، وكانت أقراطها كعقود العنب، تهتز ما أن تدير رأسها. كنت مبتهجاً. وكنا نتحدث في مواضيع شتى تترى من ذاتها.. وتتداخل وتتواتر، وكان كل ما تقوله غناء، وكل ما تنطق به موسيقى، وكل ما تهمس به شعر. وكنت أتأمل عينيها الكسولتين، المريضتين. وكانت لا تتوقف عن الابتسام.. ولا تتوقف عن الكلام، ولا عن الإصغاء. بل تفعل كل ذلك في وقت واحد. كانت زهرة تسخر من العشاق الكثيرين، لا تصدهم، لا تغضبهم، تقول كلاماً حلواً مراً، صادقاً ساخراً وتضحك، فيعيشون في أمل وقلق، أمل العودة، وقلق الصد والنفور. لذا قالوا: أننا لا نفهم زهرة! إن زهرة تلهو بنا جميعاً! وتحتقرنا جميعاً! كنت سمعت ذلك قبل أن التقي زهرة.. فقد هزمت الجميع، ووقفت تضحك في قمة شاهقة. قلت لزهرة عما يشاع عنها. قالت ضاحكة: ماذا أفعل؟ هذا هو طبعي! وهذا هو طبع الرجال! أني أضحك منهم وعليهم! قلت لها: ستضحكين عليّ إذن يا زهرة! قالت: أنت؟! لا! أنت تختلف... كنت أبحث عنك ولا أجدك.. أنت كالريح التي تنتقل من بلاد إلى بلاد، تسافر كالماء والمطر والرائحة في كل مكان. سمعت عنك الكثير كما سمعت عني. (وهي ضاحكة) أخفتني كما أخفتك!. كنت أريد أن أسمعك عن قرب، وأفهمك عن قرب.

كنت أتأمل زهرة وهي تتكلم بثقة عن نفسها. قلت: لم تريدني؟ ماذا تريد؟ مهزوماً آخر؟ قتيل آخر من قتلاها؟ هل تريد أن تزهو بانتصارها عليّ؟ قالت: أنت لم تكترث بي.. كنت تراني ولا تعيرني انتباهاً.. رأيتني في الشارع وتجاهلتني؟ قلت لها: أنا لم أعرفك يا زهرة! لم انتبه لك. كنت صغيرة عندما سافرت..!

كنت أتأمل زهرة.. وأشرد قليلاً ، إن زهرة لعبة خطرة.. وقد يكون ما في داخلها محظ غرور شخصي.. قد تكتفي بهزيمتي.. قد تنتهي قصتي معها ما أن تشعر أني أحببتها، وأني بحوزتها.. قد ترضي بي غرورها فحسب، وأكون في حياتها لعبة صغيرة عابرة! قلت لها وأنا أتوجس:
- قد أكون عابراً في حياتك يا زهرة؟
فتحت عينيها الجميلتين بحب وقالت:
- أنت لا تعبر يا فهد! أمثالك يبقون في الذاكرة والقلب طويلاً، أنت وشم يا فهد!
سرني هذا الكلام. لكن أحزنني أنه إعجاب الصغار بالكبار! إعجاب مقدس ليس فيه شيء من دنس الحب وجنونه.. كنت أريد أن أجلو هذه الحقيقة.. أن أعرف مكاني ومستقري.. كانت زهرة جريئة وهادئة وهي تخوض معي في حديث طويل عن الحب، تكلمنا في حكاية روميو وجوليت. قالت: إن هذا الحب لم يوجد. انه خيال. قلت لها: انه حقيقة يا زهرة.

روميو وجوليت حقيقة لأننا نتذكرهما أبداً. الخيال يذهب، روميو لا يذهب، وجوليت لا تموت. كانت زهرة هي جوليت تلك الليلة، وكانت جوليت هي زهرة! فمن أكون أنا؟! آه!

" رباه.. هذه هي الغادة التي أحببتها. فليتها كانت تعرف أنها عندي مراد النفس وبغيتها".

فهد الربيعي

(فيرونا هي العالم عندي، وليس وراء جدرانها دنيا أخرى ولا فضاء، وإنما من خلفها جهنم وعذاب وشقاء. وإذا نفيت من فيرونا فقد نفيت من هذا العالم كله"

لا أعرفك! لا أعرفك يا زهرة.. كيف تمجدين الحياة وتلعبين على حوافها، وتفكرين في عدة اتجاهات مرة واحدة، وفي آن واحد؟ أنت مفترق الطرق يا زهرة! أنت كل الطرق ومنك تبدأ الطرقات كلها وإليك تنتهي! لم تحاصرينني حتى الفناء بهاتين العينين اللامعتين كشفرات السيف. لقد أحببتك فأنا الآن لا أسمع من كلامك إلا الهديل والموسيقى والغناء، إن كل ما تقولينه مصدق ومقدس وأنيس وفائق.. كل ما تأتينه فتنة، فعجباً كيف أحببتك بهذا الهدير؟!.. قلت لزهرة وأنا ابحث عن سرها.
- كيف تتصورين زوج المستقبل يا زهرة؟
قالت:
- لا أحب الرجل المستبد!
قلت لها:
- لقد حاربت الاستبداد يا زهرة! فأنا أقف بجانبك!

كنت أضحك وأداعبها بالكلام، وتلاعبني بالكلام. كنا نلعب لعبة المحبين.
وراحت تحكي لي عن رجلها الذي تريد. كنت أتصور نفسي في مكانه. قالت:
- لا سعادة بدون المال.. هل توافقني؟
- أنا أوافقك.. المال نصف السعادة!
- والنصف الآخر؟
- الحب.. وماذا بعد يا زهرة؟
- أتمنى أن احب مثل جوليت.
- وهل ستجدين روميو؟
- لا أعتقد!
- أنت أخفيت..!
- ماذا أخفيت؟
- تذكري؟
قالت حائرة :
- ذكرني يا فهد!

قلت مازحاً:
- نحن الرجال نطلب الفتاة الجميلة مثلك؟!
ضحكت بسعادة وقالت:
- ونحن أيضاً..
- ولم لم تتزوج زهرة حتى الآن، وقد شبت عن الطوق وهي جميلة؟
قالت في همس:
- لأنها حائرة لا تعرف كيف تختار ومن تختار..! إنني وحيدة بين الجميع..!
قلت: هل أنا مضاف إلى الجميع؟ وهم حائرون وزهرة حائرة.. وأنا حائر؟ والى متى تظل هذه الحيرة؟ لم دعتني زهرة إذن؟ ولم جاءتني هذه الليلة كالعروسة ليلة الزفاف؟ لم ترفع زهرة عينيها عن عيني طوال الجلسة. وساد صمت من بيننا. ورأيت عينيها تتسعان، وتقدحان وجداً ورغبة، وجمالها يزداد نظارة، وشعرت بلذة راحت تكبر. ونهضت ما بين جوانحي سعادة. كنت أرتخي .. وكدت أسأل زهرة: هل تشعرين بما أشعر؟ لكني وجدت في عينها نفس الألفة والحب التي في عيني فصمت.
إذن زهرة تحبني!
أوشكت على الانهيار.. وبادت عافيتي، ونطق وجهي بالوجد! يا للسناء البهي الطاهر!

كان عبدالعزيز يلتفت نحوي بين آونة وأخرى. وكنت أرى شيئاً من الدهش في عينيه، وكان يحاول الإفلات من نظراتي. أما زهرة فكانت مندفعة في الحديث إلى أقصى غاية ودون اكتراث،قلت لها:
- أنني حائر يا زهرة، ذهبت بعيداً ولا أعرف كيف أعود؟
فقالت:
- مع الوقت ستتكيف.. كل ما عليك هو أن تنسى!

بالفعل بدأت أنسى......
وبدأت أصغي.. أتكلم قليلاً وأصغي طويلاً.. اعتدت الصمت.. وقادني الصمت إلى علائق جديدة مع الطبيعة، كنت أتأمل السماء والبحر والطيور والأزهار. استيقظ فجراً. وأذهب إلى الشاطئ. أسمع أصوات النوارس وهي تغرد على الماء. أرى الأفق الفضي في السماء وهو يتقدم فوق الماء. وتنهض الشمس حمراء ملتهبة، ثم صفراء غاضبة ورشيقة. أما عليّ الضحاك فلم يتركني في حالي. قال لي: ستعيش معي. تنام معي، وتأكل معي! معي في السراء والضراء. في الزنازن والحمامات البحرية والشقق المفروشة! ورمقني بعينيه المليئتين بالحيوية.. كان منزله خلف شارع المعارض.. في حي الفنادق الراقي، وكانت شقته في الدور الثالث تحتوي على ثلاث غرف واسعة، وكان يقطن في غرفة واحدة فقط.. قال لي: اختر إحدى الغرفتين.. فتح لي الستائر ورأيت منظراً بحرياً يمتد أمامي فرحت أتأمله.

( كثيرة كثيرة هي القبور
كثيرة هي الأضاحي
كثيرة جلبات الوحوش على هذا الكوكب)

كانت مسرحية روميو وجوليت على وشك العرض فقلت لزهرة في إلحاح وفرح:
- ستأتين إلى المسرحية يا زهرة! وأتمنى أن أنال إعجابك؟
قالت مازحة:
- أنا معجبة يا فهد!
ورأيت لهفة شديدة في عينيها! قلت: هذه اللهفة لي! جوليت تظهر أخيراً! وليلى تنهض من قبرها، وقيس يجوب المدن. قصص الحب تتواتر، نتوارثها ونحبها ونحكيها ونرويها بماء الكلام، وهي تتكرر في كل بيت، في كل لحظة. الحب وصيف الدنيا.. والموت فيه جميل كالاستراحة!. قالت زهرة: سأقرأ المسرحية من جديد.. قلت: " غداً احظر لك الكتاب ". في اليوم الثاني اشتريت مسرحية روميو وجوليت، كتبت في الصفحة الأولى: إلى العزيزة زهرة.. إن الحب غريب دائماً.

فهد الربيعي

)أيها الليل المسعف على الحب، مأمن العاشقين ومعوان المحبين، هيا أسدل أستارك الكثيفة، حتى لا ترى الأعين الحانقة، والأبصار المستكشفة شبح روميو(.

جاءت زهرة ليلة افتتاح المسرحية. شاهدتها في المقاعد الأمامية مع حشد من الضيوف الكبار من النساء والرجال. امتلأت القاعة بالأضواء، وزهت بالنساء الجميلات.. كانت المناسبات العامة هي الفرصة الأثيرة للنساء لعرض أزيائهن. لكن زهرة كانت أكثرهن تألقاً وجمالاً. وابتسمت لي أول ما ظهرت على الخشبة. صفق الجمهور.. كان التصفيق حاراً وممتلأً، واستمر فترة طويلة.. لست أدرى.. هل صفق الجمهور طويلاً لأنني اختفيت عنه سنوات طويلة.. أم لأنني بطل المسرحية؟ كنت انحني للجمهور وأنا أرتدي ملابس الفرسان القديمة، وسيفي يتدلى من ساقي طويلاً وحاداً وفضياً، وكنت أرتدي بردة على كتفي، وأضع شعراً صناعياً طويلاً، وكنت أرفع قبعتي عن رأسي احتراماً.. وفي خضم الهياج العام في القاعة نظرت إلى زهرة. كان في عينيها زهواً غريباً لم أعهده! وظننت لوهلة أنه زهو بي! ولعلي كنت أتمادى في الحلم لا أكثر.. ولعل عينيها الزاهيتين مزهوتان دائماً!.. كانت تصفق وفي حضنها منديل.. وألقى عليّ الجمهور أزهاراً نظرة.. انحنيت أكثر ورأيت كامل الجمهور ينهض في القاعة.. والأزهار تتكاثف أمامي.. والتصفيق يزداد حدة.. كنت أرفع رأسي لأرى الجمهور الناهض.. وتكسرت بعض الملامح القديمة التي أعرفها.. لمعت كالمرايا.. كانوا يرتدون بدلاً راقية أنيقة وفساتين.. وكان الشيب يخط رؤوسهم بفضته.. وكانوا يبتسمون.. كانت زهرة باهية وممتلئة بالسعادة التي فاضت تماماً من عينيها، وكان في عينيها كلام مؤجل.. كنت فرحاً بحفاوة الجمهور، وحفاوة زهرة.. ويبدو أنها - مثلي - لم تتوقع هذا الاستقبال المفاجئ.. ظل الجمهور طويلاً يصفق.. ورأيت من التواضع أن انسحب أو أبدأ العرض.

كانت زهرة في انتظاري.. تناصف الليل.. ذهبنا إلى مقهى يطل على شارع عريض ممتلئ بالعربات.. طلبت زهرة عصير الفراولة.. كان المكان ضاجاً بالناس.. قالت زهرة وهي تنحني على الطاولة:

- كنت رائعاً يا فهد! حقيقة.. القاعة كانت مشتعلة!.. وأنا صدقت كل شيء!
كنت أضحك، لا أدري من فرط نجاح المسرحية، أم لوجودي مع زهرة في هذا المكان، على كتف الليل. كان المكان ساحراً، وكانت موسيقى عذبة تميل في آذاننا، وكان صخب الناس يوحي بالمرح، وكان الليل نشطاً وشاباً، قالت زهرة:
- أجزم انك تحب يا فهد!
قلت متفاجئاً ومرحاً: زهرة تبحث عن حيرتها.. عن حيرتي. ماذا ستفعل زهرة أيضاً؟ ألا تتوقف؟ قلت:
- وكيف تجزمين يا زهرة؟
- كنت مثل روميو الحقيقي أبن فيرونا الجاحدة!
- ألم تنفني فيرونا يا زهرة مثل روميو؟!
- هل توحد عندك الشعور؟ هل كنت تشعر بمحنة روميو؟!
- من يحب يا زهرة يتعذب! أنا أحببت مثل روميو. أعرف شعور روميو وهو يطرد من فيرونا قبل أن تتبعه جوليت.. كنت جربت هذه اللحظات المظلمة.. قد أكون في حالة حب يا زهرة! من يعلم.. نحن لا نعرف أعراض الحب!

قالت :
- أعراض الحب كثيرة!
- هل جربته؟
- نعم!
- كنت تحبين يا زهرة؟
- كنت أشعر بالسعادة دون سبب. من يذق الحب يسعد ومن لم يذقه يموت حسرة عليه..!
- لم لا تحبين إذن يا زهرة؟
- لا حظ لي في الحب!
- أنت جميلة؟ والجمال منبع الحب!
- باب النجار مخلع..! الناس تحسدني.. فالجمال والحب سواء، لكن هذا غير صحيح..

كانت زهرة تريد إغوائي وبوحي في هذه الليلة الممتلئة بالمرح. تريد أن تعرف أموري الخاصة، كانت تتحدث وتعود إلى نفس الموضوع.. فيما إذا كنت أحب حقاً! وكنت اعتبر ذلك انتصاراً لي.. بحثها الدائب في ذلك يعني أنها تريد أن تعرف كيف تتعامل معي؟.. هل تستمر في حيلها؟ هل تمنحني ذاتها كاملة؟ هل تحبني؟ فإذا كنت أحب فتاة أخرى ستنزعج وتنسحب بعيداً! أشعرني ذلك بالزهو والراحة! إن زهرة في يدي وتحت حوزتي! وهي قلقة لأنني قد أحب فتاة أخرى غيرها!. كانت زهرة متوترة بعض الشيء وهي تقول لي: - اعترف! اعترف يا روميو!
- سأعترف إذا اعترفت جوليت؟!

دهشت زهرة. ويبدو أنني دفعتها إلى الحيرة المواجهة والمشابهة في المكان الذي وضعتني فيه!. ويبدو أنها لم تتوقع ذلك، إذ انتقل الحرج إلى ساحتها.. كانت تفكر وتتأمل.. كنت أنا أيضاً أريد أن أعرف.. المعرفة النهائية الأخيرة.. صحيح أن زهرة تميل إلي تماماً، لكنها لم توضح، لم تحدد نوع هذا الميل.. أنني في الظلمة أيضاً، وأتحسس وجودي بأطرافي.. وأريد أن المس ما لا يرى وما لا يفهم.. وأن أنام مستريحاً أو أموت منتحراً مثل روميو.. قلت: لم تصمتين؟ كنت أبتسم. كانت زهرة حائرة، قلت قد تحب زهرة.. ففتاة بمثل هذا الجمال لا يمكن أن يتركها الرجال بدون حب.. قلت:
- نحن لا نعرف أحياناً شعورنا تجاه الآخرين؟

قالت:
- أنت تتهرب من السؤال؟
قلت:
- سأقول لك أنني أحب.. لكنه حب من طرف واحد!. حب لا قرار له! لذا فأنا خائف.. وأريد أن أعرف أن كانت الفتاة التي أحبها تحبني أم....!

نظرت إلي زهرة معاتبة.. قالت عيناها أني أفهمك تماماً. تقدم في هذا الاتجاه واعترف! قالت:

- لم لا تكاشفها بالأمر؟
- قد لا تحبني!
- أنا واثقة أنها تحبك!
- واثقة؟
- تماماً!
- كيف تعرفين؟!
- لأنك تُحَّب يا فهد! فيك كل ما تحبه المرأة في الرجل!
- هل أنت واثقة من ذلك؟
- تماماً!

شعرت بلذة، ونظرت في عينيها عميقاً. كانت صامتة بدورها، وكانت عيناها تضجان بالحب. قالت لي عيناها.. أحبك! قالت لها عيناي أحبك! انتشلتنا الضجة في المقهى من الصمت واستيقظنا على أنغام موسيقى فرحة غطت الضجة والمرح فقالت زهرة:
- الحب لا يخفى.. مثل الشمس في النهار.
- هذا صحيح.. لذا نحن لا نسأل من نحب عن ذلك!. لا نسأل المحب إن كان يرى الشمس في النهار!
- انه اتفاق صامت يا فهد!
- وسري أيضاً!
كان الليل يميل للهدوء فالساعة قاربت الثانية صباحاً. سبح الشارع في الأضواء.. وظهر قمراً ساطعاً في غرب المنامة. كانت زهرة تبتسم لي دون علل.. كنت واثقاً أنني لم أخرج من المسرح.. إن جوليت هي قدري.. وروميو لا ينام. انه داخلي "أسمع روحي تنادي باسمي، ما أغرب رنين أصوات العشاق في جوف الليل! كأنه الموسيقى الرقيقة الأنغام إلى الآذان الواعية. على أجنحة الحب طرت إليك يا جوليت، لأن الحب لا تحول الجدر الشواهق دونه، والحب جسور لا يتعاظمه شيء، ولا يمنعه سر، ولا يحتجزه جبل ولا طود.

وداعاً إذن جنة الدنيا وداعاً. ليت الأحلام تصح، وبودي لو أرى ما طاف في الكرى بخاطري، لقد حلمت بأن حبيبتي جوليت جاءت فرأتني ميتاً.. يا له من حلم عجيب يرد الميت مفكراً، ويلهب الخيال خواطر. وإذ بها تعيدني إلى الحياة بقبلاتها وتنفخ في بدني ثانية من شفتيها".

عبدالعزيز مقبل

أفتحسب الحب شيئاً رقيقاً؟ كلا واللّه انه لخشن، جاف، عنيف، صاخب، يخز كالشوك وخزاً".

كنت ألاحظ ما يحدث أمامي.. لكني عجزت عن تحديده. رأيت زهرة تذهب إلى المقعد المجاور لفهد بشيء من الاندفاع والانفعال في الليلة الأولى، وكأنها تنتظر هذه الفرصة منذ زمن. لم تلتفت إلينا زهرة فيما بعد، وتركتنا - أنا وزوجتي - في حوزة التلفزيون. وأكاد أقول أن زهرة حاصرت فهداً تلك الليلة، وفصلته عن المكان والزمان. وسيجته بابتسامتها الدائمة التي نعرفها جيداً، وحرصها الدائب الذي لا يهدأ ولا يتوقف لأن تستحوذ على الاهتمام. أحسست أن زهرة قد تاهت وأنها كانت تبعده عن مشاركتنا في الحديث.. لكني لاحظت أيضاً أن فهداً كان يستجيب لها بسرعة، وأنه فاقها في طلب العزلة، وهذا الوجد والتوحد! وبت في حيرة، لا أعرف من منهم أشد لهفة على الآخر؟ ومن منهم يرغب في التواصل مع الآخر أكثر، إذ اشتبكا في حديث صاخب طويل لم تكن له بداية ولا نهاية. وكانت زوجتي تنظر إلي بين فترة وأخرى مندهشة ومتسائلة. كنا نتواطأ ونتكلم أنا وزوجتي بالإشارة. إن هذا شيء غير مفهوم. غامض ومحير، لكن ما العجب في أن تلتحم زهرة في حديث طويل مع رجل؟ هي التي تتآلف سريعاً مع جميع الكائنات. حتى من غير البشر.. كنا - إذن - نتأمل لنعرف. ونحن في ثقة تامة أن زهرة قد حسمت أمرها منذ زمن. وهي مخطوبة منذ سنتين. وخطيبها من رجال الأعمال النشطين. شاب له مستقبل، ووسامة ونبوغ. وكانا يبدوان في انسجام تام دائماً. وقد حددا موعداً قريباً للزواج.. كنت أعرف أن لا شيء يفوق العادة أو يخرق الطبيعة في سلوك زهرة تلك الليلة.. قلت أنها جلسة عابرة.. لكن الجلسة تكررت. جاء فهد ليال أخرى كثيرة إلى منزلي. وجاءت زهرة.. وبت قلقاً من هذه الزيارات بعد أن كنت سعيداً بها. ورأيت تخلق الشوق واللهفة التي لا تخطئها العين. وبدأت أشك في النوايا، ثم بدأ يقين آخر يتخلق عندي.. إن ما يحدث لا يمكن أن يكون عابراً.. فالرغبات التي تطفو في هذه الجلسات كانت تأتي من الداخل، حارة ودافئة.. انه أمر مفزع حقاً! وهو مثير من جانب آخر لأننا لا نقدر أن نلمسه لمس اليد، ولا أن نسأل فيه زهرة أو فهداً. كان فهد يتهيأ للكارثة على نار غير هادئة، ويبدو أن هواه يشتد أوارا مع الليالي القادمة. وظهرت عليه بوادر تغيير جديدة، صار أكثر مرحاً وأناقة، وأكثر طلاقة في الحديث، وتراجعت نظرة التشاؤم من الحياة في سلوكه. كان يتكلم بحب عن المستقبل. وكان - يبدو - راغباً في الدخول في الحياة الجديدة. وأن يكون مشاركاً فعلياً فيها. الحب الجديد الذي استحوذ عليه غيره تماماً. هل قلت الحب؟ ربما أنا استبقت الأمور، لكن فهداً كان يذهب بسرعة في هذه الطريق، ولا يترك لي فرصة لسؤاله. كل هذه العواطف الغامرة حشدت ما بينهما في وقت قصير. كنت أريد سؤال زهرة أيضاً لكني ترددت. كانت الأمور تترى، وتتلاحق بشكل سريع. وبدت لي في غموضها وسرعة حركتها وكأنها بلا مدخل ولا مخرج.. كان ارتباط زهرة ونضج فهد عاملان آخران كبحا أسئلتي ولجما استفساري وحيرتي.. قلت: لن يحدث شيء إطلاقا! انه ميل وارتياح فحسب! هل كان ذلك كذلك؟ وهل كل ذلك ميل وارتياح؟! يا إله! ما أغرب النساء! كانت زهرة تحيطه بأريجها، بعطرها الذي يملأ المكان، وبعينيها المغويتين اللتان أذهلتا كل الرجال. كان فيهما ألق غريب.. كان يكفي أن تنظر زهرة إلى الرجل لتجتذبه، وتسحبه وراءها من ثيابه.. وكان الرجال يطيعون.. يذهبون وراءها.. ويقتربون، وكانت تستقبلهم بابتسامة هادئة فتزيدهم لهباً. يبقى أسيرها في حيرة.. في عينيها شيء عميق يحتوي ما تنظر إليه.. كانت تحتوي الرجل.. فيدخل ويشعر بالدفء، والأنوثة، ويتوهم! هكذا ذهب كثيرون في متاهتها.. وزهرة تعرف ذلك.. تعرف أن فهداً لن يفلت من عينيها فلم تحيطه بكل هذا الحب؟ قال لي فهد ذات ليلة وأنا أفاتحه في الموضوع:
- زهرة تحبني فعلاً يا عبدالعزيز! أنا واثق من ذلك!

دهشت لهذه البداية، ونظرت إليه في حيرة "كيف خلص فهد إلى هذه النتيجة؟!". كنت أبحث عن طريقة تعيد إليه صوابه. كنت أبحث عن صوابي أنا أيضاً فقد أكون مخطئاً! فزهرة وخطيبها ذياب الدرهمي يحبان بعض حباً رتيباً.. حباً أخذ يتباعد مع الوقت، وربما يكون حباً ظاهرياً.. كنت أكتشف ذلك بنفسي، لأن ذياب الدرهمي خطيب زهرة كان مظهراً خارقاً للعادة، يمتاز بوسامة النساء. أنيق طول الوقت كنجوم هوليود، مرح، ومتفائل، زهرة كانت تحبه، لكنها لم تخف حذرها عنا.. قالت لنا كل شيء. حدثتنا عن هواجسها. عن رتابة الحب الذي بدأ عنيفاً قبل ثلاث سنوات. كانا يجهزان نفسيهما للزواج. انشغلا ببناء المنزل أولاً.. وكان ذياب الدرهمي مشغولاً ببناء حياته في السوق.. وبدأت لقاءاتهما تتباعد. لم يعد ذياب يظهر في منزلنا في هذه الصالة كل ليلة وأخرى. وكنا نرى زهرة تشكو من بعض الضجر. الغريب أن فهداً جلس في نفس مكان ذياب.. وطرد الضجر الذي ينتابها كل ليلة. وكل ليلة كانت تتجلى في عينيها السعادة وهي تتكلم معه. وحتى عندما جاء ذياب في عطلة نهاية الأسبوع وجلس مكان فهد، كانت زهرة هادئة، محايدة. وزينتها بسيطة، واندفاعها مذبذباً. هل هي العادة؟ حكم العادة؟ قلت: إن فهداً وذياباً يجلسان في مكان واحد! أمام زهرة.. وزهرة تلتفت إلى فهد وتتوهج معه، فيما تحدث ذياباً في فتور فماذا يعني ذلك؟ ما الذي يجري؟ كان ذياب كثير الغياب. وكانت زهرة خائفة.. فما سر خوفها؟ كان ذلك أمراً غريباً بعض الشيء. كانت تفكر في انشغال ذياب بالعمل. وكانت حائرة في تفسير سلوكه.. لكنها أكدت أنها لا زالت تحبه، وأنه الرجل المناسب.. وكانت تفخر بانتصاراته وترقياته في الوظيفة، وتظهر اعتزازها بذلك، وكان ذياب يأتي كل أسبوع محملاً بهدية لها. ذياب رجل المستقبل.. وهو من جيل جديد بدأ يظهر في المنامة.. جيل يعمل بجد ليجد له مكاناً مرموقاً. كانت زهرة تظهر إعجابها بذياب. ولم تكن تتقبل إشاراتنا إلى علاقاته الغرامية السابقة. واعتبرت ذلك مبالغة وحسداً، وقالت لنا: الناس تحسد الناجحين! وكل النساء عينهن على ذياب. وعين ذياب عليّ! قلت ما شأن فهد إذن؟ ماذا تريد زهرة؟ وكيف تفكر؟ قلت: - هل أنت جاد يا فهد؟
فقال دهشاً أيضاً:
- وهل عرفتني غير جاد قط يا عبدالعزيز؟!
- هذه المرة فقط!

كنت ابتسم، لكن فهداً دهش اكثر.. لم أشرح له كل شيء. لا أقدر. قلت له:
- أنت تتسرع يا فهد؟ عهدتك رزيناً!

قال:
- لا رزانة في الحب!
- أنت جديد على زهرة.. وجديد على هذه الحياة الصاخبة الجديدة.. المنامة تتغير! ونساءها يختلفن!
إنهن أكثر جرأة مما تتصور!
- لكني أحببتها.. ما الغريب في ذلك؟
كنت أفكر في الأمر، هل أقول له أنها مخطوبة؟ قبل ذلك كنت أريد أن أعرف كيف حدث ذلك؟ وهل أغوته زهرة؟ ودفعته في هذا الاتجاه..؟
- هل هو حب من طرف واحد؟
- أبداً! زهرة تحبني أيضاً؟
- كيف عرفت؟
- أنا واثق من ذلك!
- هل قالت لك زهرة أنها تحبك؟

وعندما صمت قلت موضحاً:
- زهرة فتاة غريبة، وهي معجبة بك.. قد يكون إعجابا فحسب؟!
قال:
- يجب أن أعترف.. وأخبرك بكل شيء نحن نخابر بعض كل ساعة.. ونتكلم في التلفون ساعتين أو ثلاثاً.. هذا غير أشياء لا أقدر على ذكرها.. ما يحدث ليس إعجابا! انه شيء يفوق الإعجاب! زهرة تغير حياتي! أنني سعيد يا عبدالعزيز! وسأذكرك دائماً لأنك السبب في هذه السعادة! سأذكرك في كل سعادة! زهرة مجنونة بي يا عبدالعزيز!.. هي تتصل بي دون توقف.. في كل الوقت.. ما بين كل لقاء وآخر!

أحسست بوقع الكارثة. أحسست بالذنب. تسببت في تعاسة صديق!. هذه الكارثة حدثت في بيتي.. هذه المذبحة شهدت تفاصيلها أمام ناظري.. إنني جلاد آخر وما أكثر الجلادين؟!.. تأملت كل شيء. كل ما سيحدث بعد ذلك .. قلت:

- لم لا تتأكد يا فهد! زهرة متحررة أكثر من اللزوم.. ومقبلة على الحياة بعنف.. تحب بسرعة وتحب أشياء كثيرة.. ثم تتركها وراءها في اليوم الآخر.. زهرة لا تخلو من غرور وزهو ورغبة في إزجاء الوقت! أنه إعجاب فحسب! الأمر يحتاج إلى روية..
- وهل في الحب روية؟

كاد صبري ينفد فأضفت:
- حاول أن تفهم زهرة يا فهد.. حدث أن أتصل بها آخرون بعد جلسة أو جلستين وقالوا من بعدها كل على حدة )أنني أحب زهرة وزهرة تحبني!( هذا يحدث كل يوم! الجميع يحبون زهرة.. وأحياناً بعد نظرة واحدة! أو لقاء واحد! هل عرفت! راجع نفسك! أنا واثق أن هذا ما حدث.. زهرة مثيرة ويحبها الجميع.. وتقول لهم كلاماً حلواً.. عذباً.. إنها ودودة دائماً للغاية! وفي عينيها غواية غريبة!

كان فهد ينظر إلي بريبة، وبدا وكأنه يستيقظ من نعاس طويل. قال لي:
- لا أصدق! حواسي وقلبي يكذبان ما تقول!
- أنا واثق انك تتوهم!

كنت قد ذكرت لفهد بعض روايات زهرة. انفتاحها، ومرحــــها الدائم مع الجميع، ولسانها العذب..
والكلمة الحلوة.. الصادرة من القلب.. كانت زهرة تشتكي لي من الرجال.. أولئك الذين يطاردونها لأنها قالت لهم "عيني". وكنت أغضب.. وأقول لها: عينك حلوة يا زهرة!.. وإذا قلت لرجل يا عيني! مات في الحال! كانت تضحك..! تضحك وتقول: سأقتلهم جميعاً يا عبدالعزيز!
قلت:

- لا تكن من ضحايا زهرة يا فهد!
كان فهد يتأمل كلامي للمرة الثانية والثالثة فأضفت:
- لا تصدق ما تشعر به فهذا شعور عند كل من يجلسون معها.. ما لم تقل لك بلسانها إني أحبك؟ - وهل تعترف المرأة بالرجل؟ هذا مستحيل!
- المستحيل هو أن تحبك زهرة!
- إنني مندهش يا عبدالعزيز من جزمك!؟
كدت أقول له الحقيقة لكن عدلت.
- فهد! زهرة تخطط لمستقبلها في وجهة أخرى..!
صمت فهد كأنه يتأمل كلامي من جديد. يراجع ما يقول وما يسمع. لاذ بأفكاره المضطربة. كنت في الصالة.
وكانت زوجتي في الخارج.. وقال لي فهد مفاجئاً:
- نحن على موعد أنا وزهرة الآن! هنا!
نظرت إليه في دهشة ! وبعد قليل رن جرس الباب فقال لي في ثقة وسعادة:
- زهرة!
نظرت إليه في خوف.. هذا أمر هائل ومخيف حقاً! فهد لن يتراجع.. وزهرة مستمرة في اللعبة..! نهض فهد إلى الباب مجتازاً الصالة، وفتح الباب، وإذ بزهرة تدخل بفستان جديد أسود يشع فيه بياضها، تتقدمها ابتسامتها. وكلامها الذي لا ينقطع، كلام من المرح والعبث والسعادة. كأن جماعة من النساء المرحات دخلن، كأن كل الجمال الذي في الكون ملء الصالة.. كانت قادمة من الحلاق.. ونظرت زهرة إلى فهد وقالت: - ولهانين يا فهد؟!

ونظر إلي فهد في انتصار مشوب بزهو! قلت: هذه مسألة خطيرة! يا لنساء هذه الأيام. فهد لا يعرف أنها تحيه عادية لا تعني شيئاً! وطالما سمعتها من موظفة إلى موظف زميل في العمل!.. قضية غامضة! جلست زهرة في المقعد المجاور لفهد، واشتبكت معه في حديث طويل ولم تلتفت إلي إلا لتجاملني بكلمة أو كلمتين ثم تغيب معه، أهملني فهد بدوره، وتركاني معاً في حيرة، أتخبط ولا أفيق ولا أفهم!. قلت: من يعلم؟! قد تحب زهرة فهداً! قد تكون غيرت رأيها أخيراً؟! في لحظة يتغير كل شيء! وهذه هي المرأة؟! مزاجية؟ والحب الطويل المسافة يفتر.. وحب ذياب لها طال وانتابته الرتابة. كدت أصدق فهداً. بل صدقته وأنا أرى زهرة مقبلة معه في الحديث، وملتصقة به، وعيونهما تقترب، وأنفاسهما تتداخل، لا يفصلهما عن بعض إلا يد المقعد. وزهرة تخرج عن مقعدها قليلاً، تتزحزح من الانفعال، تزحف، وتنصت إليه بإعجاب. تنظر في عينيه وكأنه أجمل رجل في العالم! وأكثر الرجال فتنة! توافقه على ما يقول. تضحك لكل ما يقول. تقبل كل ما يقول. كل ما يقوله يدهشها، حتى الصغير التافه.. انه عظيم في عينيها! انه الحب إذن! وأنا الذي لا أفهم! تذكرت أن فهداً في الخامسة والثلاثين. انه كهل ناضج.. ويعرف ملابسات الأمور. ولا بد وأنه تأكد من كل شيء.. زهرة تحبه بالفعل! لكن ماذا عن ذياب خطيب زهرة وفتى أحلامها؟!

فهد الربيعي

(إن نفسي تحدثني بأن قدراً في السماء معلقاً على حفلة الليلة وحضورنا إليها، وكأن هاتفاً من صدري يهتف بي أن نهاية حياتي ستكون بموتي قبل الأوان).

التقينا أنا وزهرة في منزل عبدالعزيز بعد ليلتين، لاحظ عبدالعزيز أننا نلتقي كثيراً هذه الليالي والأيام. صرنا نلتقي في النهار والليل. هذه الليلة كانت زهرة في كامل زينتها. كانت ترتدي فستاناً أحمر، وعقداً فضياً جميلاً، وسوت شعرها بعناية، كنت واثقاً أنها قادمة من الحلاق مباشرة. وكانت عطورها تحفها من كل جانب وتتوزع. كنا نتحدث طوال هذا اليوم في الهاتف، وكنا في اشتياق شديد للقاء هذه الليلة. كنت متأنقاً بدرجة غير عادية وكأنني ذاهب إلى سهرة.. وكانت أجمل سهرة في حياتي.. قلت لها في لهفة لم أخفها مستغلاً انشغال عبدالعزيز وزوجته ما أن جلست بجانبي:

- أنت جميلة بشكل يفوق الخيال يا زهرة!
استقبلت إعجابي بابتسامة طويلة. وجنحت عيناها بفرح مع الابتسامة. كنا نتحدث في التلفون كل النهار. نتحدث فحسب، في مواضيع مختلفة، مواضيع تهدر فتترى من ذاتها، تتشابك، وتغدو حديثاً واحداً، متصلاً ، وكأن ثمة اتفاق يتوسط أحاديثنا. كنا نتفق في كل شيء، في ذوقنا، ورأينا، وميولنا ورغباتنا. ما احبه كانت تحبه وما لا تحبه كنت لا احبه.. كأننا كائن واحد في جسدين.. والاتفاق يأتي سريعاً، في النصف من الحديث، وعندما أشرح لها حكاية تصرفت فيها بطريقة معينة، تشرح لي هي حكاية متشابهة تماماً تصرفت فيها بنفس الطريقة! وكنا نكتشف سحر هذا التشابه في الطباع، والتفكير والعادات وندهش. تحدثنا عن أشخاص نعرفهم.. قلنا آراء متفقة، قريبة فيهم، وكأننا لسان واحد، وكنا نعجب لهذا، ونعجب به، واعتبرناه علامة على اتفاقنا وانصهارنا مع بعض!.

قصصت لها قصة حياتي كلها، لم أترك شيئاً إلا وقلته لها، كانت تستقبل ذلك باهتمام شديد. وحكت لي في منتصف الطريق قصة حياتها، طفولتها، تخرجها من الدراسة، شقاوتها، وعملها في مؤسسة العهد الجديد، ومشكلتها مع الرجال. قالت لي: أنا أعاملهم بطلاقة يا فهد!، اضحك معهم، وانفعل، و أتحدث معهم دون حواجز واندمج وأنسى نفسي لذلك واجهت مشكلة. ما إن أتحدث مع رجل وأضحك معه حتى يظن أنني معجبة به! وبعضهم ظن أنني أحبه! وكانوا يتصلون بي تلفونياً ويضايقونني.. تصور يا فهد!.. وكنت اقرر أن أغير طبعي، لكن الطبع يغلب التطبع. أصمت، وأحزن، وأكشر بعض أيام، ثم أعود إلى الضحك والمرح والكلام فيضايقونني أكثر! العمل بين الرجال أعطاني إحساسا بالمتعة وثقة بالنفس.. كنت أفكر: هل ينطبق ما تقوله زهرة عليّ أنا أيضاً؟ هل فسرت مرحها وانطلاقها وانفعالها حباً لي فيما هي تتعامل مع الجميع بنفس الطريقة! يزيدهم وهماً عيونها السوداء العميقة ذات الألق والضوء؟! وتذكرت ما قاله لي عبدالعزيز عنها! وهاهي تؤكد كلامه! وتؤرجح مشاعري الفياضة! غمرني شك جديد وحيرة مرّة فقد تكون هذه اللقاءات والمكالمات المتكررة ملاطفة لا أكثر! قلت: يجب أن أستجلي الأمر فعبدالعزيز زرع الشك في نفسي، وكلام زهرة ضاعف هذا الشك! لا أفهم زهرة حتى الآن! لأعترف بذلك! ولأعرف الآن ما سر هذه النار التي تأكلنا جميعاً؟! قلت لزهرة:

- هل تشعرين بما أشعر؟
ضحكت في سعادة وقالت فرحة وكأنها كانت تنتظر وتتوقع ذلك!
- وبماذا تشعر؟ تكلم يا روميو!
كانت تلمح لي، وتدفعني للاعتراف، للبوح أكثر، هذه طريقتها. تدفعك إلى حافة الهاوية ثم تنتظر منك أن تقفز إلى الحضيض! كنت خائفاً. مغموراً بالحيرة.. يجب أن أعرف كل شيء من زهرة. أن تقول لي بلسانها أنها تحبني! لكني تذكرت أنني لم أقل لها أني أحبك! كيف تبوح إذن قبل أن أبوح؟! أنا الرجل! أنا الذي سيبدأ! احترت و أظنتني الحيرة! وكم احترت في حب زهرة؟!

ولاحظت زهرة ترددي فضحكت ساخرة مني وقالت:
- هيا! اعترف!
قلت:
- أشعر بسعادة غامرة! فهل أنت تشعرين بذلك يا زهرة؟!
قالت ضاحكة وسعيدة:
- وهل تشك في ذلك يا فهد!
اسكرتني إجابتها! استرحت، وتماسكت أوصالي وروحي. ها هي زهرة تعترف لي بلسانها أنها تحبني! ماذا أريد أكثر؟! وماذا يعرف عبدالعزيز غير الخارج! أما الباطن فهو سر بيني وبين زهرة. سر يجهله الجميع! لأنصت إلى نفسي إذن والى زهرة قبل كل شيء!.

اكتفيت بهذا الإطراء، وانتشيت به: أن جوليت تظهر لي في النهاية وفيرونا تستعيد صوابها. سأدخل في هذه الحياة الجديدة دخولاً سهلاً ممتعاً مظفراً متناغماً. ستكون حياتي منفلتة كالنوافير الملونة في هذا الليل المرح الراقص. سأبني لزهرة منزلاً على الشاطئ تدخله الأسماك والنوارس والفراشات.

" صمتاً يا لساني، وسكوتاً يا شفتي. انه الشرق وجوليت الشمس. أيتها الشمس البهية اطلعي واقتلي القمر الحسود فها هو ذا من أول وهلة مريض، شاحب، مكمود لأنك أحسن منه بهاء وأجمل منه ضياء: رباه.. هذه هي الغادة التي أحببتها، فليتها كانت تعرف أنها عندي مراد النفس وبغيتها. رباه أنها تتكلم، ولكن لا تقول شيئاً فماذا ترى وراء انفراج شفتيها.. إن عينيها تناجياني ولا بد لي من إجابتها".

ذياب الدرهمي

أعرف الآن ما أريد تماماً، لذا انغمست في عملي. العمل يأتي أولاً، ثم النساء، وبعد ذلك يهون كل شيء! لا نساء بلا مال، ولا مال بدون عمل، إذن يجب أن أعمل بكل طاقتي لكي أصل إلى النساء! ومع النساء ذروة المجد!.. أرى الرجال يرتفعون على سلالم وهمية ثم يجلسون في القمة، فوق رأسي، وأرى أقدامهم وأحذيتهم القذرة تتدلى في وجهي.. رجال ممتلئون بالحقارة لكنهم يعرفون كيف يجمعون المال. المدينة مهووسة بالمال.. أقول لجواد ناصر صديق الليل: من أين يأتون بهذا المال؟ كيف يشترون هذه السيارات الفخمة والفلل الجميلة؟ كانت أرصدتهم في البنوك تذهلني، وكنت أسعى لمشاركتهم في الوليمة.. المال كثير، يتحرك في الخفاء، لكن مظاهره لا تخفى.. حمد السويلمي صاحب المؤسسة يثق بي. أخذني إلى اجتماعات مغلقة.. قال لي: تعجبني أمانتك يا ذياب! يعجبني هدوءك! تذكرني بشبابي! يجب أن تعمل الآن لتستريح غداً! أسرار المؤسسة في حوزتك! ترك موظفين قدامى وأخذني إلى المناقصات ! أعطاني رئاسة قسم المشتريات.. في قسم المشتريات اكتشفت الكنز.. كان المال يتحرك هنا.. تحت الظلام. كنت أفكر في المال عرفت بعض النساء في طريقي.. يملأن المؤسسات التجارية ويفضن في الشوارع كالزبد الأبيض الطائر! آه من النساء! زينة الحياة! لغة الحياة! بهجة الحياة! كان أبي يقول لي: كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس.. كنت ألبس وفي ذهني النساء! أن أكون مرغوباً من النساء وأن أنال إعجابهن! ضبطني أبي وأنا أتعطر بعطره وأنا في الخامسة!. كانت زجاجته الثمينة وعطره يتلاشى بسرعة.. فقال لأمي مازحاً: - ابنك يتعطر يا نزوة!
فقالت له كائدة:
- الحَّب يطلع على بذره!

لم يضحك أبي! كان ذلك وجعه ووجع أمي. كان أبي شديد الوسامة. النساء أحببنه بالجملة وأختار أمي، لكنه لم يخلص لها. شيء في دمائي يعوي، ينهض، ينفلت ما أن أرى امرأة.. لا يهدأ دمي إلا إذا عابثتها.. أو لمستها.. أشعر بحسرة ووجع في ضلوعي إذا تسربت عن ناظري. أحب النساء، لكن زهرة تريدني لها وحدها.. كنت أفكر بالطريقة الشائعة عند الرجال: أتزوج زهرة في العلن وأذهب إلى غيرها في الخفاء. كل الأشياء الكبيرة والهامة تحدث في الخفاء. صفقات المال.. اللذة.. الخيانة.. الغدر والمؤامرات، اعتدت على المناورة.. أجواء السوق.. هنا نكذب ونقول تجمل.. ذكاء، ومجاملة.. نغدر وكأننا نقول نكتة.. المال هو هدفنا.. يبدو تفاهمنا أنا وزهرة ضرب من الخيال. بدأنا نختلف كثيراً على موعد الزواج. زهرة تتذمر من انغماسي في السوق.. حتى الليل، في الليل أذهب مع جواد ناصر. تجذبني المشارب بمآربها الصامتة والغامضة، هدوءها وصخبها. وصحبة سوزي التي لم أتخل عنها قط قبل أن أعرف زهرة وبعد أن عرفتها..

بدأت أعرف أسرار السوق. أسعار المواد، والأرباح الطائلة التي يجنيها حمد السويلمي. أذهب في مهمات لاستيراد المواد من الشرق الأقصى. أحرر عقوداً كبيرة. بدأ حمد السويلمي يثق بي أكثر. رفضت عروضاً للرشوة عدة مرات. أخبرته بما حدث فربت على كتفي وقال: ثقتي في محلها يا ذياب ! أنت عملة نادرة! لكن إلى متى سأبقى عملة نادرة؟ ولم يذهب كل المال إلى بطن حمد السويلمي؟
بدأت أفكر في الرشوة.. الفرصة تأتي طائرة، ثم تحلق بعيداً
تضيع .. "أضرب ضربتك يا ذياب ! "قال لي جواد ناصر ذو الوجه الجهنمي والأسنان الحادة: الحظ يضحك مرة واحدة.. فرصة اليوم لا تأتيك غداً !.. لكن حمد السويلمي يثق بي.. أذهب إلى السعر الأقل .. وزهرة: أحذر من الرشوة.. كثرة الرشوة لا تبرر الرشوة.. كثرة الجريمة لا تبرر الجريمة.. لكني لم أقتنع بوجهة نظرها .. كنت أفكر في الرشوة.. كان المال يتدفق من بين أصابعي وقدمي.. وكنت خائفاً من هذا المال.. وخائفاً على هذا المال! كنت أرفض الرشوة في الغرف المغلقة.. كانوا يسمونها هدية .. إكرامية، قال لي أحدهم

- هل يمنع القانون الهدايا ؟ !
ذات ليلة قال لي جواد ناصر وهو يكشف أنيابه في الظلام: " أفتح مؤسسة بالباطن يا ذياب !( برقت الفكرة في عقل جواد ناصر في منتصف الليل.. مع الخمر، مؤسسة بالباطن ! .. باسم أبي المتقاعد عن العمل. أشتري المواد التي يحتاجها حمد السويلمي من مؤسستي بالباطن.. كنت أعرف حكايات مماثلة كثيرة.. مؤسسات بالباطن واستغلال المنصب.. في الخفاء .. كالماء الذي يجري تحت الأرض. تحت طبقة كثيفة من الأحجار والرمال. هل ترى العين الماء الذي تحت الحجر والرمال؟ .. وبعد ذلك .. يتغير كل شيء كم اثروا بهذه الطريقة؟! . حمد السويلمي أيضاً كان يعمل في مؤسسة، ثم فتح مؤسسته الخاصة.. بالباطن أيضاً .. وبدأ يشتري المواد لمؤسسته من المؤسسة التي يعمل بها .. الطريق واحد .. والرجال يتشابهون .. والحكايات تتكرر.. كنت أفكر في الرشوة .. وتذكرت آخر رشوة عرضت لي . كانت بعشرين ألف دينار. في بيعة واحدة!. كنت أفكر فيها طول الليل.. تتخلل أجواء المرقص .. وضحك جواد ناصر.. وصت المغنيات وهمس سوزي .. عشرون ألف دينار ؟ متى أجمعها؟ وماذا لو فصلني حمد السويلمي من المؤسسة غداً في فورة غضب أو مزاج ؟ في اليوم الثاني ذهبت إلى صاحب العرض.. ابتسم لي وقدم لي يده وأشار إلى المقعد . كان الصباح يبدأ، وعرف من أسارير وجهي وابتسامتي أنني جئت من أجل عرضه بالأمس فقال: - صباح الخير يا ذياب !
قلت:
- الخير بوجهك يا أبو غانم!
قال:
- أشم رائحة زكية!
قلت:
- أشحن البضاعة إلى المخازن!
ضحك وقال:
- وصلت خير ! التجارة شطارة! وعاش من صرها! وخاب من ترياها!
وانحني في الحال. أخرج ربطة نقود ورقية ضاحكة فئة العشرين دينار. متراكمة، متوهجة، ومربوطة بعناية من خصورها المنتفخة. قال:
- هذا نصيبك ! وهو أول الغيث!
وأعادها إلى حقيبة سوداء ودفع الحقيبة إلي. وهطلت الحقائب السوداء في كل مكان، من كل مكان ! كاش ! ممتلئة ! تتدافع وتتوهج كالنار. منتفخة كالمرأة الحبلى.. انولدت من جديد.. ورأيت دنيا جديدة.. واشتريت سيارة بورش بيضاء . كانت مشترياتنا كثيرة، وكنت أحرر طلبات للشراء، بالآلاف.. بعشرات الآلاف.. أذهب بطلب الشراء وأفتح وجهي.. نتفاهم بالنظر.. كنت أطلب رشاوي كبيرة فلقبوني بالنهم! ذياب النهم!

لم أعد أشعر بتأنيب ضمير، بل براحة عميقة، وبدأت علاقاتي تتوثق مع تجار السوق، وعرفت صداقات جديدة. وتلقيت دعوات للسهر في أماكن شتى. حفلات فيها نساء من كل صنف وعمر وجنس.. وكانت الولائم باذخة.. والنسمات ندية. وكانت وراء هذه الحفلات أهداف تجارية بحتة.. وكانت بعض الصفقات تتم في البساتين في الليل وتوقع العقود في الصباح الباكر في المكاتب.. يفكرون في المال حتى آخر الليل.. قبل أن يغمضوا أعينهم بقليل و أول ما يستيقظون. لا ينسون المال أبداً. هذه الأجواء - مع السوق في النهار- ألهتني عن زهرة. وبدا عالمها صغيراً، ضيقاً ، مقلقاً رتيباً، لكن ما أدهشني هو طلب حمد السويلمي نفسه. ذات يوم، همس لي حمد السويلمي في إذني وقال: نحن ندخل مناقصات يا ذياب فإذا لم نرش لن نفوز لأن غيرنا يفعل!
نظرت إليه في دهشة فأضاف:
- أدفع!
وابتسم وغمز لي بعينه. كان حمد السويلمي مثال النزاهة فماذا حدث ؟!. عرفت أن الطهارة التي أتحسسها هي ضرب من الخيال. بت أرشي وأرتشي.. وأحياناً كنت أزعم أنني رشوت وآخذ المال لي.. كنت أجمع .. وأرسم وأفكر في مؤسستي بالباطن.. بالمال نجوع للمال .. نعرف لذة المال فنطلبه أكثر.. وكلما طلبناه والتذذنا به أحببناه أكثر.. وكلما كان المال أكبر، كانت اللذة أكبر. وكنت أرى كل شيء ميسراً لي بعد ذلك.


فهد الربيعي

رآني علي الضحاك في أتم حال فقال لي: هذا عجب ! أنت تتغير! كان دهشاً. قلت له : بفعل الشراب يا علي ! قال لي : أبداً ! قبل أن تشرب كنت مرحاً طول الوقت.. ماذا حدث ؟ لم تعد تفكر في العالم؟ أنظر ! (وأشار إلى الفرقة الراقصة) . بنات الغرب يرقصن لنا .. قطعن آلاف الأميال ليرقصن لنا فوق الرخام المصقول.. الغرب يرقص ونحن نتفرج..!

أضاف
- ماذا دهاك؟
قلت:
- ألم تقل لي إن المرأة هي الدنيا ؟ الدنيا إذن أقبلت عليّ !
- زهرة ؟
- كيف عرفت ؟
- أنت تحبها..؟
- بالفعل زهرة غيرت حياتي.
- أشرح لي بالتفصيل.
- زهرة تحبني !
- هل أنت متأكد ؟
- ولم تشك في ذلك ؟
- زهرة جميلة ويحبها كل الرجال !
- أعرف ذلك !
- وهي جميلة جداً
- ماذا تقصد ؟ - تستطيع زهرة أن تشير إلى أغنى رجل في المنامة فيركع ويتمرغ تحت قدميها !
-لكنها تحبني أنا !

وضربت بكفي على صدري .. فقال علي:
- في الأمر سر !
- فضحكت فقال :
- في الكون سر !

قلت :
- ولم العجب ؟
- العجب كبير يا علي !
- كيف ؟
- راجع ما تقول !
- أنا أعرف ما أقول!
- هل تعرف زهرة جيداً ؟
- نعم !
- هل سألت عنها؟
- نعم ..
- من المهم أن تتأكد ..
- أنا واثق من الأمر .. هي باحت لي بكل شيء .. الحب تكلم !
- وماذا قال ؟
- قال أن زهرة تحبني .. !
- هل قالت لك أنها تحبك؟
- لم أطلب منها ذلك ..
- لم لم تفعل ؟
- لأني في غير حاجة إليه .
- لا تتسرع !
- أنا لم أتسرع .. لقاءاتنا تتكرر.. نحادث بعض كل يوم، كل ساعة.. كل دقيقة.. لا نشعر بالوقت .. لا نمل بعض.. لا نشبع من أحاديثنا.. ماذا يعني كل ذلك ؟!

- يعني أنك في حاجة إلى إنقاذ !
دهشت من كلام علي الضحاك، بدا واثقاً مما يقول. وكان صارماً أيضاً وأضاف بحزم: - تكفيك المصائب ! (تذكرت تحذير عبدالعزيز !) رفع كأسه وشرب وقال في تأثر: - إذن فهذا سر فرحك !

قلت :
- نعم يا علي !
قال :
- لن تفرح أبداً يا سيزيف فالصخرة فوق ظهرك!
- كيف عرفت ؟
- أعرف ! ويجب أن تعرف وقبل أن يستفحل الأمر .. ! زهرة مخطوبة !
- أنت متأكد؟
- وأعرف خطيبها جيداً !
- لا يمكن !
- أسأل عبدالعزيز ؟!
- لا أحد أخبرني بذلك ؟ حتى عبدالعزيز !
- أنت لم تسأل .. ؟
- لم تتصرف زهرة معي بهذه الطريقة إذن ؟
كنت استعيد جلساتنا أنا وزهرة. كنت في حالة من الدهش واليأس والجنون. بدأت أشك في حواسي كلها. حواسي الخمس.. أشك في كل شيء .. لكن إن كذبت عبدالعزيز فكيف أكذب علي الضحاك؟! كلاهما أجمعا على أن زهرة مخطوبة ! فكيف أفهم هذا ؟! يا إلهي ؟1
قال لي علي الضحاك بعد أن طلب كأساً أخرى لكلانا :
- كان من الواجب ألا تتسرع .. !
- أنا لا أصدق ..
- أسألها هي ..؟

داهمتني الخيبة . أظلم المكان. تركت الطاولة وذهبت إلى أقرب تلفون عمومي ووجدته مشغولاً .. كان رجل يناغي امرأة ! قلت اللعنة على النساء ! وكان يدفع القطع المعدنية كل دقيقة وأخرى.. وتركني في توتري فترة طويلة!

وأدرت رقم زهرة. جائني صوتها نائماً ولذيذاً وناعماً . رحبت بي دهشة .. قالت :

- الوقت متأخر وأنا نائمة !
- لكني لم أنم ولن أنام الليلة .
- ماذا تريد ؟
- هل أنت مخطوبة يا زهرة؟!
لم يأتني رد من الطرف الآخر. لم أسمع صوت. سمعت فحيحاً.
قلت :

- زهرة !
كان صوتي عالياً وحاداً .. قالت بعد وقت :
- لم تسألني هذا السؤال يا فهد ؟
وصمتت فترة أخرى . وأنا صمت بدوري .. سمعت صوت تنفسها في الهاتف . سمعت صوت السماعة وهي تسقط من يدي. "إن إيمان العشاق لا أمان لهَ) .

ذياب الدرهمي

افتتحت مؤسستي بالباطن، بدأت شراء أدوات البناء لشركة حمد السويلمي من مؤسستي بالباطن. كان صديقي جواد ناصر يديرها. وكنت على اتصال به . لم أتواجد في مكاتب الشركة. أذهب للشراء. أتابع مجرى البيع والأرباح. الراتب المجزي من جانب، والرشاوي من جانب، وبيع مواد البناء من جانب آخر. كسبت كثيراً في فترة وجيزة. افتتحت فروعاً كثيرة في المدن الأخرى. تزوجت زهرة لكني لم أعتد على الحياة العائلية، لا أستطيع البقاء في أسر زهرة فترة طويلة. كنت متمرساً مع النساء. خبرتي في هذا المجال طويلة تبدأ منذ الصبا ، أعرف المرأة من النظرة الأولى. وفي المؤسسة الكثير. ومنهن الكثير في المؤسسات التي أزورها، السوق يأخذ كل وقتي . بدأت لعبة العقارات تستهويني. بيع وشراء في أيام، ومكسب عشرات الآلاف.

في الليل، عند المساء تنتابني حمى الشراب، أفرغ بعد الثامنة، أشعر برغبة في التغيير، أتحرك بين جدران المكاتب، أريد الانطلاق. أحب الليل . هذا الحصن الهادئ. الداعي للذة. لا أفكر في زهرة إلا وأحس بالنكد. تزوجنا منذ شهور. أعرف أنها في انتظاري . الأحاديث السمجة عن الأولاد والخلفة، نتثاءب ثم نجد نفسينا نائمين في مكاننا. احتملت ذلك بضع شهور. سئمت. لم أخلق لمثل هذه الحياة. لم أخوض غمار السوق والمخاطر إذن ؟ أتصل بها في التلفون وأعتذر: "سأتأخر يا زهرة أعذريني. مدعو على العشاء مع رجال الأعمال.( كانت زهرة تتجاوب، تنصاع، تصمت على مضض في الأيام الأولى. انسابت حياتي بهدوء في الشهور الأولى. في الليل التقي ببعض تجار السوق. نجمع كل شيء. النساء والشراب والمال أيضاً، نكمل حديثنا الذي لم ينته في المكاتب في النهار بالليل، نتفق على صفقات في الليل وننجزها في اليوم التالي. سوزي هي الأولى منذ عهدي بالسوق. عين واسعة، جسد نحيل ريان، شفاه رطبة ممتلئة قليلاً، صوت اليمام. تزورني في المكتب. أذهب إلى شقتها بالجفير. تغريني بالبقاء حتى الصباح. زهرة لا تنام.

تنتظرني للمعاتبة، تقول : "خائفة عليك( . الحياة تتغير سريعاً. والحرب في السوق على أشدها. من يظفر بالغنيمة الكبرى نهنئه، من يحصل على الفضلات نضحك عليه. سباق، ومكائد، وخيوط تحاك في الخفاء ضدي .. لكني أكبر !.

خرجت مع سوزي إلى مرقص الديناصور آخر الليل. كنت مخموراً، لو لا ذلك ما خرجت، كنت معها في شقتها بالجفير، كانت الساعة الثانية عشرة. كانت ضجرة فطلبت مني الخروج. لم أعد أكترث، بدأت زهرة تستفزني وتشك في إخلاصي. بدأت أملها بدوري!.

تعلمت أشياء كثيرة في السوق. بس اليد التي لا تستطيع عضها. أنحن للرأس الذي لا تستطيع قطعه، أزحف على الأرض التي لا تستطيع السير فوقها، لا تكابر. لا تقارع الكبار. وعندما يتصلب عودك أفعل ما تشاء. لا يمكن أن تصل إلى الأعلى، إذا لم تهبط إلى الأسفل، تعلمت البوس. أبوس الأنوف والأيدي والرؤوس. كنت أبوس بلا توقف حتى تقرح فمي. أبوس في الليل وأبوس في النهار. هذا هو الطريق الذي سلكه من مروا قبلي. البوس حتى تتقرح الشفاه، والركوع حتى الركب، والخضوع حتى التلاشي. النذالة طريق المال. لا كرامة في المال. ارتبطت بعلاقات كثيرة. تبادلت الخبرات والمنافع مع رجال في البنوك والمؤسسات. حصلت على قروض ضخمة بدون فوائد، أودعتها في بنوك أخرى وقبضتها مع الأرباح، واستثمرتها في التجارة.

أحضر حفلات كثيرة، مرتبة، فيها خمر ونساء، نساء يذهبن إلى أهداف محددة. لأغراض تجارية صرفة، مدفوعات من أفراد، ومدفوع لهن، وكرم الضيافة يظهر في عينهن ودلالهن، وتعزز صفقات سخية في النهار التالي. كنت أتعلم. رتبت حفلات مشابهة فيما بعد. رسمت أهدافي بدقة، دعوت رجال أعمال، ودعوت نسائي، وأطلقتهن على أهداف محددة. رجال أعمال يفدون من مدن مختلفة، كرم الضيافة يجذبهم دائماً إلى بضائعنا. كانوا يتصلون بي قبل مجيئهم بساعات فأرتب لهم شقق مفروشة في عماراتي المفروشة. في الليل أذهب مع سوزي وبعض العاملات في المؤسسة. يفتح باب الشقة، وتبدأ الضيافة عملها. كسبت الكثير من الزبائن. اتسعت تجارتي. يتصلون بي من مدن بعيدة لترتيب الصفقات، وترتيب الشقق المفروشة. قال لي جواد ناصر: "لا تفعل هذا يا ذياب( نبهته إلى الخسارة، أشرت إلى أسماء أخرى تستخدم نفس الطريقة. قلت لجواد ناصر: "أنهم ضيوفنا وأصدقاؤنا يا جواد ! لا تكن مثالياً ! ( قال لي وهو غاضب ومخمور: " كل شيء إلا هذا(. نظرت إليه بغضب فلم يسكت . نهض من المقعد وقال صارخاً بهستيريا:"قواد يا ذياب ؟! (. ثم غادر المكان.

امتلأت. عندي كثير، أفكر في الانفصال عن حمد السويلمي، لا أحتاج إلى عمله، ولا إلى الرشوة، ولا إلى أمواله، المشترون كثرة والمال وفير. وأنا الآن أرشو الآخرين! أولئك الذين يبدأون من الصفر! يذكرونني بأيامي الأولى!. عندما كنت غلاماً للجميع! هذا اليوم لم أذهب إلى البيت ظهراً. اتصلت بي سوزي من شقتها، كانت مريضة. حملت معي غداء شرقياً من مطعم الأمراء، أكلنا مع النبيذ. كانت رقيقة، وأشعرتني بالألفة، اتفقت معها أن أعود الليلة. اشتكيت لها من زهرة. قلت لها أنني لا أحبها.. هل أجامل سوزي ؟ كانت سوزي صامتة تتطلع إلي بعينين خضراوين واسعتين كالبحر.. طوقتني بهدوء . ونمنا في السرير هادئين.

اتصلت بي زهرة في المساء قالت: "إذا لم تحضر الليلة ذهبت إلى بيت أبي ( اتصلت بسوزي واعتذرت ، شرحت لها كل شيء. لعنت زهرة وشتمتها!

كنت أجلس وزهرة صامتين، نشاهد فيلماً أجنبياً. تذكرت سوزي. كانت البطلة تشبهها كثيراً.
قالت زهرة:
- هل تعرف من تشبه هذه المرأة؟. قلت :"لا أعرف)!
ضحكت بسخرية وقالت: "أنا أعرف. هي تشبه سوزي! المضيفة سوزي!. هل تعرف المضيفة سوزي؟!( . كنت صامتاً، قلت : "سأخرج( قالت : "أذهب إلى سوزي!
(. وذهبت إليها تلك الليلة بالفعل.

بدأت أتعامل مع الموظفين بفضاضة في المؤسسة. لم يكن ذلك طبعي. هذا اليوم لم أعد إلى المكتب في المساء. نمت في الجفير في شقة سوزي حتى السابعة مساءً.

قال لي جواد ناصر : "أحذر يا ذياب (، قلت: "تكلم بوضوح(. قال: " قد تحاك أشياء ضدك(. "مثل ماذا؟( قلت. فقال: "قد يعرف حمد السويلمي عن قصة الثراء الواسع ومؤسستك التي تملكها بالباطن.. التجار في السوق غاضبون. قد يبلغون حمد السويلمي فأنت لا تشتري الا من مؤسسة واحدة وتحرمهم من حصصهم. الأمور تسوء. أنفذ بجلدك!(. قال لي قبل أسابيع قواد، والآن يحذرني من تجار السوق، وزهرة تتربص بي في المنزل!

قريباً أترك حمد السويلمي. الحسد يعجن قلوب الناس، ثرائي، ونجاحي جعلاني عرضة للمؤامرات والدسائس. شغفت بسوزي، كانت صغيرة وجميلة ولها أجواء وطقوس حي سوهو الشبقي، أشتاق إليها أول النهار وآخر النهار. بدأت أحوالي تستقر في السوق، لكن معيشتي نكدة!

عبدالعزيز مقبل

لم تنقطع علاقة ذياب بجواد ناصر صديقه المقرب وشبيهه في الطباع والغايات. والطيور على أشكالها تقع. ظل جواد ناصر يتردد على منزله، ويخرجان بعض الليالي معاً.. لم يعد ذياب يظهر في الأماكن العامة القديمة. انقطع عن مرقص الديناصور الذي أحبه. ظهر في بعض الحانات أحياناً وظهرت عليه مظاهر الثراء المبكر. عرفت بعد شهور أخرى إن ذياب امتلأ من الرشوة، ووصل إلى حد الثراء، وفاض عليه المال من كل جانب. وطد علاقاته مع رجال السوق ومفاتيحه، صار من أهل القمة. قدم خدمات لرجال في مراكز مرموقة.

عرف اللعبة تماماً، فالخدمة الآن تقابلها خدمة مستقبلاً، حمى هو ظهوراً كثيرة، وحمته ظهور كثيرة، أصابته حمى المال، بدأ أكثر هيبة. ظهرت له أوداج. حرص على توطيد علاقاته برجال الصحافة، دعاهم إلى حفلات عامة في فنادق الخمس نجوم، وملأ عيونهم بالحفلات والولائم والزجاجات الذهبية الفخمة النارية الصفراء المتوثبة. في الليل قرعت الكؤوس كالأجراس. عرف ذياب دهاليز كثيرة، صفقات في البساتين، ولعبة الوكالات التجارية السهلة. دخل في أكثر من مجال، واستثمر أموال الرشوة خير استثمار، وتحدثت عنه الصحف بإعجاب وإطناب وظهرت صوره الأنيقة الملونة تحت عنوان: "قصة كفاح ونجاح(. وكان يبتسم ابتسامة ظافرة، وقالت عنه المقالة: "إن قصة حياة الوجيه ذياب الدرهمي هي نموذج للكفاح الشريف الذي يبدأ من القاع الشعبي ليصل القمة(..

تبرع الدرهمي بمبلغ 5000 دينار لجمعية رعاية الأيتام. ظهر في الصورة وهو يمسح رأس يتيم بائس. كانت زهرة تقرأ هذه الاطراءات المتلاحقة في الصحف. وقالت لها أختها: "محظوظة يا زهرة! ظفرت بالمال والجمال والسمعة الطيبة!(. فقلت لنفسي إن أعاجيب الحياة كثيرة ومّرة وعش رجباً ترى عجباً!

انقطع فهد الربيعي عن زيارتي. كان يتصل بي بالتلفون ويخرج كل ليلة مع علي الضحاك أشهر راقص في المدينة، والملقب بجون ترافولتا.. عجبت لأن فهداً انغمس في حياة الليل.. غاب في الحانات والملاهي. قلت: وجد وسيلته الأخيرة للموت!

انتقل ذياب بعد شهور أخرى إلى منزل جديد في حي العدلية الراقي. انشغلت زهرة بالمنزل الجديد كل الوقت: هندسته قبل بنائه، ديكوره واثاثه، وطلاء واجهته. اظهر هذا المنزل الذي امتلأ بالرخام والثريات الكرستال والنوافذ والسجاد الإيراني الطبيعي وبرك السباحة مظاهر الثراء التي استجدت في حياة ذياب. وبدا إن حياة زهرة وذياب تسير في رغد وهنا، لكن زوجتي فاجأتني ذلك اليوم حين قالت : زهرة غير سعيدة يا عبدالعزيز! انتهت زهرة من تأثيث البيت، أهداها ذياب ساعة من الألماس، كانت تفد إلينا وتغادر ووجهها مشرق.. هي وذياب يتناوبان شرح تفاصيل المنزل الجديد، وزهرة تتحدث عن النجاح الذي أصابه ذياب في عمله وحياته في وقت وجيز. والأرباح التي حققها في التجارة بسرعة، حدث ذلك قبل فترة فما الذي جرى؟ قالت زوجتي : ذياب على صلة بامرأة اسمها سوزي!

توظفت سوزي في مكتب ذياب سكرتيرة عامة. حدث ذلك برغبة ذياب الدرهمي نفسه وخصص لها راتباً مجزي، وشوهد وهو يخرج معها كل المساء في سيارة بورش بيضاء ويهبطان قلب المدينة. قلت : إن حوادث وشيكة دامية ستقع!

هرولت زهرة بحقيبتها إلى بيت أمها.. طفقت تبكي في غرفة مغلقة، تكررت زيارتها لنا كل ليلة. كانت تجلس على نفس المقعد الذي كانت تواجه به ذياب وفهد ! كانت تنظر إلى المقعد الفارغ كل الليل!

زهرة الوسمي

في شئون الحب نظل الطريق، في الطوفان الذي دمر مدناً وخلائق وأمصار. كنت لا أعرف إلى أين سيقودني ولعي المفاجئ بفهد.. ولع لا أكثر! كنت أتجاهل ذلك، وربما كنت أجهل ماذا كان يحدث في ذلك الوقت. كان فهد مفاجأة حلوة بالنسبة لي. مفاجأة لم أرغب في فقدها. على العكس من ذلك كنت أرغب أن تستمر أطول فترة ممكنة وأن تستقر وتستمر ! فهل تستقر المفاجئة؟ هل تستمر؟

لا أصدق ما أقول وما حدث. وما حدث كان خارج إرادتي. تحولت رغبتي للكلام مع فهد إلى ميل جارف ! ثم وجدت نفسي غارقة، أريد التحدث معه كل الوقت، والجلوس معه. على أن أبرر ما حدث من جانبي، وأن أكون مقنعة، وأن أخرج من هذه الورطة! رباه ! كيف تتحول الأشياء الجميلة إلى ورطة! وبهذه السهولة نحاول التخلص منها بدل إبقاءها والاستمتاع بها فترة أطول؟ ! كنا غريبين، وكأننا نلتقي لأول مرة. كنت أريد أن ينتهي هذا اللقاء بسرعة لكي التقط أنفاسي المنهكة وأهدأ، كنت في الكارثة، أمامها، وفهد يذكرني بتفاصيل ما حدث .. بأشياء وحوادث من الصعب إنكارها أو نسيانها، أو وضعها في خانة الإعجاب. ولاحظ فهد حرجي واضطرابي فصمت قليلاً وقال:
- كنت ابحث عن حياة هادئة! وظننت أنني بلغت الشاطئ أخيرا!
قلت وأنا أدرك كل شيء:
- كنت صادقة وأرجو أن تفهم ذلك!
- كنت على علم بكل شيء .. وكنت أنا على جهل بكل شيء!.
- لم أكن أعرف ما أقول ولا ما أفعل ! لقد أعجبت بك.. وربما أحببتك !
انخرطت باكية فصمت فهد فترة طويلة، أشعره بكائي بالرضى. ورأيت في عينيه راحة سريعة لم تلبث أن تلاشت.

فهد الربيعي

" أعطوني مشعلاً فإني لا أطيق هذه الهرولة في جنح الليل، وما أحوج المغموم القاتم النفس إلى ضوء يستضيء به(.


كنت في مقهى الضفدع على شاطئ البحر. كان الزجاج الفضي يفصلني عن البحر الذي امتد شاهقاً أزرق. وكان البحر في حالة مد، يتقدم إلى الشاطئ بقوة، يضرب صخوراً مرتفعة سوداء مدببة، ثم ينحسر عنها فتبدو كحيتان ضخمة تستحم في مرح. وكنت أنظر إلى البحر في استمتاع، وأصغي إلى موسيقى خارجة من زوايا المقهى. بدأت أدخن. تعلمت التدخين.

في الليل كنت أهيم على فراشي. الأرق والشراب والتدخين. في النهار كنت أنام حتى المساء.. أذهب من بعد المساء إلى أقرب مشرب.. اتصلت بعلي الضحاك في مكتبه. قال لي: "هذه الليلة أنت مدعو إلى حفلة خاصة(. ضحكت وقلت: "أنت تدعوني كل ليلة يا علي؟!( فقال:"هذه الحفلة مميزة ولك فيها شأن!( وضحك. أخذني في الليل إلى بستان. قال لي قبل ذلك:"البس أفضل ما عندك(. في الطريق كان يشغل شريطاً راقصاً! كان يرقص وهو يسوق كعادته دائماً، وكانت كلمات الأغنية تتكلم عن جسد امرأة وتثير الشهوة في الحال. تصعد الشهوة مع الدماء ما أن يدخل صوت المغنية المثير في الأذن. ضحكت! منذ فترة لم أضحك! كان علي يترك مقود السيارة ويصفق. كان يسوق بسرعة ويخابر فتاة في الهاتف النقال ويغازلها، ويصفق ويضحك! قال للفتاة كلمة فاحشة جداً ثم التفت نحوي يضحك! وكاد يصدم سيارة مسرعة قادمة من البديع، فانحاز عنها في اللحظة الأخيرة وقال:
- انظر كم نحن قريبين من الموت كل لحظة!
وأضاف:
- سأسميها الليلة الأخيرة.. ومن بعد هذه الليلة لن تذكر زهرة!

كنا نصل إلى بستان نائم في وشاح الخضرة على الشاطئ الكسول. وهناك صفت موائد تحت ضوء القمر، وكان ثمة شموع ومصابيح كهربائية مضيئة بين الطاولات. والندل يتحركون حول فسحة صغيرة مفروشة بالسجاد الأحمر الثمين. وفي محاذاة الشاطئ جلست فرقة من العازفين على الأرض.. وعلى الطاولات كانت زجاجات الشراب تطل عملاقة وهادئة ولا تظهر ما فيها من مجون ودعوة للجنون. وكان ثمة نساء ورجال يتوزعون، وينهمكون في لقط هادئ. أخذنا طاولة في طرف، فوصل نادل وانحنى. أحضر الثلج في وعاء فضي عميق، هبت نسمات عذبة من البحر مع الموسيقى. في الجانب الغربي من الشاطئ امتدت بلكونة عريضة وطويلة امتلأت بالطاولات والبشر. في الجانب الأيسر ثمة أدغال من الأشجار الكثيفة وتحتها بساط سندسي. من وراء البلكونة كان يترأى قصر منيف بغرف وجدران فخمة جديدة. قال لي علي الضحاك وهو يصب لي كأساً: - سيرقص الجميع بعد ساعتين.. ويتزلزل الماء والشاطئ.
وسرى الليل..

وتضاعفت أعداد البشر. النساء في الأغلب يلبسن فساتين عارية الكتف. وغنت الفرقة أغنية "ياسعد( فرقص نساء شقراوات بثياب نشل فدهشت! وسقطت دنانير من فئة العشرين دينار على رؤوسهن كالمطر فدهشت أكثر! فقال لي علي الضحاك:
- انه أول الغيث! فأنتظر! هناك مفاجآت أكبر!
وأضاف:
- الفرجة طويلة يا فهد!

وللدهشة - التي لم استيقظ منها - أشار لي إلى الشرق حيث يدخل الناس من بوابة واسعة يقف عليها حارس نظيف صارم الملامح فإذا بذياب الدرهمي يدخل مع سوزي. كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة صباحاً. وكان الضجيج يصعد من كل مكان والأصوات تموج والضحك يرتج ونسمع صداه في البحر والموج وقال لي علي: - هذا زوج زهرة!

واستيقظت حواسي من جديد وهبت فيني عافية! إن هذا العالم مضطرب! نحتاج دائماً أن نرى أكثر! أن نذهب أكثر! أن نعرف أكثر فقد نعرف الحكمة الأخيرة بعد ذلك! الجحيم في كل مكان! أشعر بازدراء لنفسي، وازدراء لزهرة. وهاهو ذياب يميس كالنساء وسط حلبة الرقص بعد أن لف رباط عنقه في وسطه. كانت رأسي تثقل. ورأيت - من السكر - الأشياء تتعدد.رأيت نساء صغيرات بخصور ضيقة ونهود منفلتة مثلثة يجلسن بجانبي ويعبثن بشعري. عرفت في اليوم الثاني أن علي الضحاك دفعهن إليّ. وأفقت في الصباح في غرفة من غرف القصر على الشاطئ. وسمعت زقزقة العصافير في البستان المجاور للقصر. على السرير رقدت بجانبي فتاة جميلة بملابس شفافة تكشف عن جسدها الأهيف. وجاءتني جارية بملابس ممتلئة بالزري وقدمت لي كأساً من اللبن. شربت الكأس ونمت حتى المساء. في المساء وصل إليّ نعي علي الضحاك: مات الضحاك في نفس الليلة أثناء عودته إلى المنامة على طريق البديع السريع. خرج من البستان في صحبة فتاة بعد الثالثة صباحاً. كان يقود بسرعة فائقة على الطريق الزراعي، وكان يسمع الموسيقى بعلو كعادته. ترك علي الضحاك مقود السيارة وبدأ يرقص، وضغط على زر الموسيقى أكثر.. وعاد يرقص حتى ارتطمت السيارة بشجرة كبيرة مظلمة .

كتب هذا الكتاب بين عامي 1988 ، 1998
- طبع الأولى 1998م

صدر للمؤلف
1 -     موت صاحب العربة         قصص قصيرة     1972
2 -     نحن نحب الشمس        قصص قصيرة     1975
3 -     ثقوب في رئة المدينة      قصص قصيرة     1979
4 -     الجذوة                       رواية               1980
5 -     السياج                       قصص قصيرة     1982
6 -     النهر يجري                   قصص قصيرة     1984
7 -     رأس العروسة               قصص قصيرة     1987

تحت الطبع:
- خلف الستار قصص قصيرة

 

محمد عبدالملك

مؤلفاته :

  • موت صاحب العربة - قصص - البحرين - 1973
  • نحن نحب الشمس - البحرين - 1975
  • ثقوب في رئة المدينة- قصص دار الغد للنشر و التوزيع- البحرين - 1979
  • الجذوة - رواية - 1980
  • السياج - قصص - المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع- بيروت- 1982
  • النهر يجري - قصص - المطبعة الشرقية - البحرين- 1984
  • راس العروسة - قصص- البحرين - 1987