أمين صالح

 أمين صالح  مع فيلمه "باري ليندون" Barry Lyndon 1975، المبني على أول رواية كتبها وليام ثاكيري، الذي عاش في القرن التاسع عشر، يعود ستانلي كوبريك إلى القرن الثامن عشر، مستغنياً عن الكثير من شخصيات الرواية، ومغيّراً في طبيعة وسلوك ومواقف شخصيات أخرى.. كذلك الحال مع الأحداث، حيث ركز بؤرته على أحداث ثانوية في الرواية، وأقصى أحداثاً أخرى.

عن هذه العودة إلى التاريخ، يقول كوبريك (كتاب: The Film Director as Superstar, Joseph Gelmis): "أعتقد أن الغاية الأساسية لأي فيلم هي إظهار شيء للمتفرج لا يستطيع أن يراه بأي طريقة أخرى. وأظن أن هذا أحياناً يمكن أن يكون منجزاً بشكل أفضل عن طريق الابتعاد عن البيئة المباشرة. هذا يكون صحيحاً بوجه خاص عندما تتعامل، في المقام الأول، مع تجربة بصرية، وتروي القصة من خلال الأعين. إنك لا تجد الواقع في فناء دارك فقط، بل أحياناً يكون هذا الفناء آخر مكان تجد فيه الواقع".

بهذا الفيلم، يواصل كوبريك استقصاءه للطبيعة الأخلاقية والنفسية للإنسان الغربي ومصير حضارته. هنا، وكما في أفلام أخرى، يكون اهتمامه الأساسي في دراسة العلاقة بين الفرد والأشكال الثقافية التي من خلالها ينبغي للفرد أن يحقق التعبير عن ذاته. إنه يطرح أسئلة فلسفية عن ماهية الإنسان، وجوده، ما يريده من الحياة.

باري ليندون رجل أيرلندي. تبدأ مغامراته في الحياة مع موت والده في مبارزة (في الرواية، يموت الأب في سباق للخيل). وتبدأ رحلاته بعد انتصاره، في مبارزة زائفة، على خصم كان ينافسه على حب واحدة من قريباته، ثم يهرب من إيرلندا، ويلتحق كجندي بالجيش البريطاني.

من أجل تحقيق طموحاته والوصول إلى مرتبة النبالة، يستخدم وسائل عديدة لإحراز غايته: الفرار من الجندية، العمل كجاسوس للجيش البروسي، الغش في لعب القمار، الزواج من امرأة لا يحبها طمعاً في ثروتها. الوقت لا يعني له شيئاً، يبدده مثلما يفعل مع المال، في سعيه وراء اللذة واللقب الذي ينشده بلا كلل. في النهاية هو يفقد كل شيء، ويكون مصيره السجن.

إن مأساته تكمن في إخفاقه في تحقيق ذاته ضمن الشروط التي وضعها مجتمعه، أي الامتثال التام لكل قيم ثقافته والقوانين العديدة التي يسنّها المجتمع، مما يؤدي إلى تشوهه مادياً وفساده روحياً.
يقول كوبريك (Time, 15 December 1975): "أفراد مثل باري ليندون ناجحون لأنهم ليسوا واضحين. وهم لا يعلنون عن أنفسهم. باري ليس شخصاً لامعاً جداً.. إنه الذي يضع نفسه في أوضاع لا يفهمها كلياً".

الفيلم، كما الرواية، يعتمد على راوٍ غير جدير بالثقة أو الاعتماد.. وهي المرة الأولى التي يوظف فيها كوبريك راو مراوغ ومتملص، ولا يمكن الوثوق إليه. في أفلامه السابقة، التي تقوم على الراوي - مثل: لوليتا، البرتقالة الآلية - الراوي يكون جازماً، موثوقاً به، تتوفّر فيه الأمانة والصدق، ولا نشعر بأي ارتياب تجاه ما يقوله أو ما يرويه. قد يلجأ أولئك الرواة إلى التملق، إلى إضفاء صفات على ذواتهم ربما يفتقرون إليها، لكنهم لا يكذبون.. بينما هنا، في هذا الفيلم، نجد الراوي – الذي يمثّل شخصية باري ليندون – كائناً متبجحاً، مخادعاً، غشاشاً، متملقاً، وغداً، سكيراً، قاتلاً. وهو يخون كل فرد يعرفه، سواء من الأقارب أو الأصدقاء.. (رغم ذلك، يصوره كوبريك بطريقة تجعل المتفرج يتعاطف معه).

الفيلم هو تأمل في الموت: موت الأحلام، العواطف، البشر. في حديث للناقد مايكل ديمبسي عن الفيلم (مجلة Film Quarterly, Fall 1976) يقول: " فيلم (باري ليندون) ليس دراما أو دراسة للشخصية أو حتى هجاء للفساد البشري الوافر الذي يصوره. إنه، مثل أفلام أوزو، وإن بطريقة مختلفة، تأمل في سرعة زوال الحياة".

استغرق إنجاز الفيلم، الذي تبلغ مدّة عرضه ثلاث ساعات وأربع دقائق، ثلاث سنوات تقريباً. وعند عرضه الأول لم يلق ترحيباً من الجمهور أو النقاد، وقد احتاج الفيلم إلى وقت حتى تيقّن عدد من النقاد والسينمائيين من أهمية الفيلم وجماله وروعته.. حتى أن البعض اعتبره تحفة فنية. لقد عبّر مارتن سكورسيزي عن إعجابه بالفيلم واعتبره "أحد أكثر الأفلام إثارة للعاطفة من بين كل الأفلام التي شاهدتها في حياتي".
حاز الفيلم على أربع جوائز أوسكار: في التصوير (جون ألكوت)، تصميم المناظر، تصميم الملابس، وأفضل موسيقى. كما حاز على جائزة الأكاديمية البريطانية كأفضل مخرج.