أمين صالح

مايكل هانيكه

المخرج النمساوي، الألماني المولد والنشأة، ميكايل هانيكه أحرز شهرة عالمية واسعة مع فوز فيلمه "مدرّسة البيانو" The Piano Teacherبجائزة أفضل مخرج في مهرجان كان 2001.. إذ حتى ذلك الوقت، ظلت أعماله – رغم أهميتها وجدّتها– بعيدة عن الانتشار الذي تستحقه بجدارة.
عبر أعماله الجادة والملفتة، استطاع هانيكه أن يكرّس حضوره كواحد من أهم وأبرز المخرجين المعاصرين في السينما العالمية.
ولد هانيكه في ألمانيا، العام 1942. ابن ممثليْن محترفيْن. منذ مراهقته أظهر عشقاً للمسرح والموسيقى والأدب. رغب في أن يصبح عازف بيانو، لكن إدراكه لافتقاره إلى الموهبة جعلته يختار دراسة الفلسفة وعلم النفس في جامعة فيينا. نشر مقالات عن المسرح والسينما في الجرائد اليومية السويسرية. كما كتب وأخرج عدداً من المسرحيات قبل أن يعمل مخرجاً ومؤلفاً في التلفزيون.
انتقل إلى السينما مخرجاً وهو في منتصف الأربعينات، بدءاً بفيلم "القارة السابعة" The Seventh Continent(1989). من أفلامه السينمائية الأخرى: ألعاب مسلية Funny Games(1997) شفرة مجهولة Unknown code(2000)، المخفي Hiddenأو Cache(2005)، الشريط الأبيض The White Ribbon(الذي حاز على الجائزة الكبرى في مهرجان كان 2009).
أفلام هانيكه منفذة ببراعة فنية عالية، بحركة كاميرا دقيقة جداً ومونتاج متقن، وبعناية شديدة بالتفاصيل. كما يتسم بتحكم عال في مادته على المستويين الدرامي والتقني، وقدرة فائقة على استنباط أداء رائع واستثنائي من ممثليه. وهو غالباً ما يميل إلى تصوير مشاهده في لقطات ساكنة وطويلة زمنياً تستغرق دقائق دون قطع. كما أنه لا يعتمد على الموسيقى، التي لا تكون حاضرة إلا إذا كانت معزوفة أو مسموعة من قِبل الشخصيات. الروح الغنائية والشعرية غالباً ما تتخلل الأجواء القاتمة والكئيبة.
أفلامه تسعى إلى تحدّي المتفرج الذي اعتاد على نوعيات معينة من السرد والحبكة والشخوص، ومن أشكال المتعة والترفيه، فهي تقتضي منه تركيزاً دقيقاً، واهتماماً شديداً، وانتباهاً فائقاً إلى التفاصيل التي يراها على الشاشة لكي يستنبط تأويله الخاص من جهة، ولكي يستخلص متعة من نوع آخر. أفلامه تبدو واقعية في شكلها الظاهر، لكن في أحوال كثيرة تتعرض الحياة الاعتيادية إلى مقاطعات غير متوقعة من الإفعال العنيفة، ويتعرض الواقع إلى اختراقات غير مفسّرة، وشبيهة بالحلم، ترجّ طمأنينة المتفرج وتوقعاته.
إنه يتوجه إلى متفرج يماثله تقريباً في الاهتمامات والميول والتذوق. يقول هانيكه في أحد حواراته: "أنا أهتم بمشاهدة الأفلام التي تجابهني بأشياء جديدة، أفلامٍ تجعلني أستجوب نفسي، وتساعدني على تأمل موضوعات لم أفكر فيها من قبل.. أفلامٍ تساعدني على التحسّن والتقدّم. شخصياً أعتبرها مضيعة للوقت مشاهدة فيلم لا يقول لي شيئاً بل ببساطة يؤكّد ما أشعر به.. هذا لا ينطبق على الأفلام فقط، بل على الكتب وكل الأشكال الفنية".

شخصيات أفلامه

شخصيات هانيكه غالباً ما تكون منتمية إلى الفئة المثقفة المنتسبة إلى البورجوازية الأوروبية، التي لديها امتيازات عديدة، لكن هذه الإمتيازات تخفق في النأي بها عما يدور في الحياة اليومية من عنف ورعب. أغلب شخصياته لديها إحساس حاد بالعزلة، وهي تعاني من أشكال مختلفة من الإستلاب والإقصاء. حياتها تتعرض لانقلاب عنيف على يد قوى لا تستطيع التحكم فيها. وهناك العنف المفاجئ، غير المتوقع، الذي تمارسه شخصيات لم تشذّبها الحضارة والتمدّن، بل لا تزال البدائية عالقة بها.
أفلام هانيكه تأملات مؤلفة بدقة عن الطبيعة الإنسانية والدوافع والبواعث التي يصعب التحكم فيها، والعنف الذي غالباً ما يكمن أسفل سطح الأوضاع المتحضرة. وهو نادراً ما يصوّر العنف بشكل مباشر، معتمداً على الإيحاء.
بالنظر إلى قائمة الأفلام التي حققها هانيكه خلال ربع قرن نجد أنها في معظمها تتناول طبيعة الإنسان العنيفة، والعنف الذي تولّده الميديا، في قالب إثاري.. لذلك فإن اختيار هانيكه للحب كعنوان لفيلمه الأخير "حب" (2012) Love أو بالفرنسية Amourومعالجته لعاطفة الحب كموضوع رئيسي، أثار استغراب العديدين من متابعيه.

الحب والموت

في هذا الفيلم يتناول هانيكه موضوعا كونياً عن الحب والشيخوخة والموت. عن حتمية الموت، وما يلقاه المرء من إذلال وسلوك أو تعامل مهين كلما طعن في السن وازداد عجزاً عن الحركة وعن النطق. عن مواجهة المسنّين لمختلف المحن المتلاحقة بشجاعة ونبل. عن تشبث هؤلاء بالكرامة والسمو عندما يتصل الأمر بحقهم في تقرير مصيرهم، وحقهم في العيش والحب والحلم. عن رفضهم لأية وصاية أو تحكم أو عزل. عن الصعوبة التي غالباً ما يكابدها البعض في رؤية أحبائهم أو شركائهم يعانون المرض ويفارقون الحياة من دون أن يكون بمقدورهم فعل شيء غير الحزن والعذاب.. كأنهم أمام اختبار قاس مفروض عليهم ويتعين عليهم أن يجتازوه للبرهنة على مدى إخلاصهم وتفانيهم وحبهم للآخر، ومدى قدرتهم على الاحتمال والصبر والحنو.
لكن في معالجته لهذه القضايا، يتحاشى هانيكه النزوع الوجداني والميلودرامي، وإضفاء هالة رومانسية ناعمة على الشخصيات وعلاقتها بالواقع، واجترار الكليشيهات المألوفة، والذي قد يفضي إلى تخريب القضايا وتوجيهها نحو مسار آخر ينتزع منها العمق والجديّة وحس الابتكار.

 مايكل هانيكه يحمل السعفة الذهبية

فيلم "حب" من بين أكثر الأفلام التي تناولت موضوع الشيخوخة جرأة وصدقاً وعمقاً، ويمكن القول أنه من أعظم الأفلام التي تتحدث عن الشيخوخة. قصة الفيلم مستوحاة – كما يشير هانيكه - من حدث حقيقي وقع في محيط عائلته لشخص عاني وكابد انحداراً مديداً وشاقاً نحو العجز والوهن واليأس.
عنوان الفيلم قد يبدو غريبا، وغير عادي، لفيلم يتحدث بالدرجة الأولى عن انحلال وزوال الجسد البشري (بفعل المرض)، بشكل تدريجي، والتأثير الذي يمارسه هذا على المريض من جهة، وعلى أولئك المحيطين به، الذين يشهدون التدهور والانحلال. مع ذلك، نحن أمام قصة حب عميقة: بورتريه لرجل يدعى جورج (جان لوي ترينتينان) وزوجته آن (إيمانويل ريفا) في خريف العمر، في الثمانين من العمر، في أواخر علاقة طويلة، عميقة، حافلة باللحظات السعيدة والتعيسة، يجدان نفسيهما في مواجهة المحتوم: الموت. الموت الذي يملي شروطه. الموت الذي يقتحم المكان الهادئ ويعلن عن حضوره بأكثر الأشكال عنفاً.
في مشاهد الإفتتاحية نرى (فيما هو مفترض أن يكون فلاش متقدّم flash forward) رجال الإطفاء يقتحمون شقة محكمة الإغلاق ويكتشفون وجود جثة متحللة لامرأة عجوز، ممدّدة على سريرها، ومحاطة بالزهور. ثم مباشرة نرى الجمهور يحضر حفلة موسيقية، من بينهم جورج وآن.

الموسيقى

الفيلم منفذ في موقع واحد تقريبا. باستثناء مشهد يدور في حفلٍ موسيقي في بداية الفيلم، ومشهد خارجي وجيز في الباص، فإن الكاميرا لا تغادر شقة الزوجين المتقدمين في السن: جورج وآن.. الشقة الباريسية المؤثثة بأناقة وذوق رفيع، الرحبة والعامرة بالكتب في الموسيقى والفن والأدب والأشرطة الموسيقية، المصفوفة على الأرفف بشكل منظم وأنيق. وثمة بيانو ضخم يتوسط الصالة. الشقة تصبح بذاتها شخصية هامة وأساسية. إنها تعبّر بفصاحة عن خلفية القاطنيْن والعمر الذي عاشاه. هي جزء منهما.
كلاهما كانا في السابق يدرّسان الموسيقى. وهما الآن متقاعدان. ينعمان بحياة هادئة، هانئة، ساكنة، دافئة، محاطة بالحب والقناعة والإطمئنان، من غير أن يخمد في روحيهما ذلك الشغف بالموسيقى والفن عموماً.
في البداية، عندما يعود الزوجان من الحفلة الموسيقية يكتشفان أن شخصاً حاول كسر القفل واقتحام الشقة، لكنه لم يسرق شيئاً (نحن لا نعرف هويته، لكن قد يكون نذير شر، وقد يكون الموت نفسه) ففي صباح اليوم التالي، بينما هما جالسان في المطبخ يتناولان الإفطار ويتحدثان في هدوء، وعلى نحو اعتيادي، عما ينويان فعله في هذا اليوم، بغتةّ يكتشف جورج أن تحوّلاً مفاجئاً يعتري زوجته، إذ تتوقف فجأة عن الكلام، وتظل جالسة قبالته صامتة، جامدة بلا حراك، لا تستجيب له ولما يقوله، ولا تتفاعل معه على الإطلاق، بل تبدو شاردة الذهن تماماً.. تبدو كما لو في حالة إغماء تخشبي. بعد دقائق، تعود إلى حالتها الطبيعية وكأن شيئاً لم يحدث لها. إنها لا تتذكر شيئاً. أما هو فينتابه مزيج من الخوف والحيرة والغضب، إذ يظن أنها تمازحه أو تسخر منه بتدبير مثل هذا المقلب. كما لو أنها تمارس لعبة فيها يكون هو أضحوكة، وهدفاً للتندر.

فيما بعد يتضح أنها مصابة بالسكتة أو بالجلطة الدماغية. حالتها الصحية سرعان ما تسوء. تجرى لها عملية جراحية غير ناجحة. الخطأ في محاولة فتح الشريان السباتي يفضي إلى شلل في جانب من جسمها، فلا تكون قادرة على المشي، وتحتاج إلى كرسي متحرك، كما إنها تعجز عن العزف على البيانو.
حتى وهما في هذه المرحلة الحرجة، ورغم رعب الحالة، لا تفارقهما الكياسة واللطف والدماثة. يظلان على وئام وتفاهم وبالدرجة ذاتها من الحساسية. جورج شخص مباشر، صريح، حاسم. صوته هادئ وواثق. وهي، في لحظة صفاء ذهني، تطلب منه أن يأخذها إلى البيت وتجعله يعدها، على مضض، بأن لا يسمح لهم بأخذها ثانيةً إلى المستشفى حتى لو ساءت حالتها أكثر. بعد ذلك مباشرة تصاب بسكتة دماغية أخرى، أكثر خطورة، تجعلها عاجزة تماماً عن الحركة والنطق.
الاثنان – جورج وآن - يشغلان حيّز الفيلم كله، ولا يشاركهما غير بضعة زائرين: ابنتهما الوحيدة إيفا (إيزابيل أوبير).. وهي أيضاً موسيقية، متزوجة، وتعيش مع أسرتها. نراها حزينة على أمها وقلقة من ثقل العبء الذي يرهق كاهل أبيها بينما يتولى العناية بأمها. تقترح إدخالها مصحاً أو دار عناية خاصة، لكن أباها يرفض بشدة، بل يجد أن حضورها غير نافع ولا يساعد. مع مرور الوقت تنتابها الحيرة أكثر فأكثر من محاولات والدها التحكم كلياً في الوضع والسيطرة عليه.. إلى حد أنه يقفل باب حجرة النوم حتى لا يتمكن أحد من رؤية زوجته وهي في حالة عجز تام وتقترب من إقليم الموت، الأمر الذي يجعل ابنته تحتج قائلة في تحدٍ: "لن تقدر أن تمنعني من رؤيتها".

 مايكل هانيكه

هناك أيضاً زوج إيفا البريطاني (ويليام شيميل) وهو عازف بيانو تتلمّذ على أيديهما.. بالإضافة إلى ممرّضة.
منذ تلك اللحظة فصاعداً، تكون علاقة الحب التي ربطت بينهما موضع امتحان صعب. يبدأ جورج في التعامل مع طاقات وقوى زوجته الذابلة، المتدهورة، والمتلاشية تدريجياً بعد إصابتها بالسكتة الدماغية. هذه المرأة التي كانت تنبض بالحياة تصبح عاجزة عن الحركة والكلام. نراها تضمحل أمام أنظارنا.. جسمانياً وذهنياً. في حين يعرض هانيكه، ربما بلا شفقة، تفاصيل هذا الانحلال أو التدهور بكل مظاهره وجوانبه المرعبة، حيث تفقد تدريجياً السيطرة على حركة أعضاء جسمها ثم صوتها، والمرعب أكثر في الأمر أنها تدرك ذلك وتعي أنها في طور الاضمحلال وفقدان كل ما يربطها بالواقع وبالحياة.
الزوج يستنفد كل طاقته في القلق بشأن صحتها الذابلة وفي كيفية توفير العناية لها. لا يعود هناك حوار بينهما. إنه بالأحرى حديث متقطع، متشظٍ، ومن طرف واحد. الحالة الحميمية الوحيدة بينهما هي التي يتم توصيلها عبر النظرات المتبادلة.
مخاوفه تتجسد في أشكال كابوسية: هكذا نراه في الرواق، خارج شقته، يسير في الظلام مليئاً بالرعب. وهو لا يتحرر من كوابيسه المفزعة إلا عندما يقرر أن يحارب مخاوفه. إن مشاهد مثل محاولة اقتحام الشقة بقصد السرقة، وكابوس الهجوم على الزوج، هي أشكال تمثّل التهديد الذي يمارسه العالم الخارجي. عن هذا يقول هانيكه: "الأفراد الذين يكونون في حالة ضعف، بدني أو عقلي، يتملكهم هذا الشعور، وينظرون إلى العالم الخارجي بوصفه عدائياً ومهدداً. كل ما هو مجهول أو غير متوقع يُرى كخطر محتمل".
أما الزوجة فإن كل محاولاتها الشاقة للنطق تبوء بالفشل. وحتى الموسيقى، مصدر الولع والشغف، تعجز عن تقديم العون والمؤاساة. وهي لا تصل إلى مرحلة العته والخبل بحيث تتصرف بلا منطق ولا عقلانية، فالمشهد الذي يصورها وهي ترفض بغضب وعناد أن تأكل أو تشرب يوحي بأن ثمة عقلاً محاصرا داخل الجسد، هي تعرف أن الرفض هو الشكل الوحيد المتروك لها للتحكم في قرارها، في ما تريد.. رغم أن الإمتناع عن ذلك سوف يفضي بها إلى الموت لا محالة. بالأحرى هي تريد أن تموت، وهو يحاول أن يبقيها حية.
رغم أن عالمهما يتعرض للتصدع والانهيار، ويتقوض شيئاً فشيئاً، إلا أن الفيلم يستمر في التوكيد على حالة الحب التي تربط بين الاثنين وما يتقاسمانه من شغف ومعرفه.
هو يعتني بها بحرص وعناية ودقة، وبوفاء وإخلاص يكشف عن عمق مشاعر المحبة. يساعدها في قضاء حاجتها، يطعمها، يغذيها (قسراً أحياناً)، يعينها في إجراء التمارين البدنية، يغيّر لها ملابسها.. يتحمّل أنّاتها وتأوهاتها التي لا تنقطع. يتولى حمايتها، ويحرص على تجنيبها كل ما يمكن أن يسيئ إليها ويجرح مشاعرها.. إنه يضطر إلى توبيخ ابنته ثم الممرضة على افتقارهما للحساسية والرهافة في التعامل مع زوجته، أو التصرف معها بطريقة مهينة (كما في حالة الممرضة التي تثير غضبه بإيماءة طفولية تقوم بها، عندما تضع مرآةً أمام وجه زوجته لتلقي نظرة على مظهرها فيصرفها من الخدمة طالبا منها عدم العودة).

وهو يجد ذلك شاقاً وموجعاً ولا يحتمل، لكنه يستمر بلا تذمر. إن حس المسؤولية ضمن شروط أو حالات أليمة يقتضيها حب غير مشروط.
لكنه في أحد المشاهد لا يتمالك نفسه ويفقد أعصابه فيصفعها. تعابير وجهها تتجمد في رعب وذهول. أما هو فيندم سريعاً ويبدو عليه الوجع والإحساس بالذنب لأنه تصرف بوحشية وبدائية. بعد هذا المشهد مباشرةً نرى سلسلة من اللوحات.
عندما طُلب من هانيكه، في إحدى المقابلات، أن يفسّر هذا الانتقال المفاجئ إلى اللوحات، قال: "المشهد مفتوح على التأويل. اللوحات والحمامة وغيرها هي أشياء قابلة لأكثر من تأويل. إنها موجودة لتحدي الجمهور، لتحريض الجمهور على التفكير في هذه الأسئلة... تلك الأشياء تساهم في بلوغ الفيلم الذروة العاطفية. إنها تقترح مستوى ما وراء الواقعي".

الحمامة الضالة

 مايكل هانيكه

حمامة ضالة تدخل الشقة، ولا تجد مخرجا. تعجز عن الخروج. تصبح محاصرة. وجورج يلاحقها حتى يمسك بها ويحرّرها. هل ثمة رمزية هنا؟ ما دلالة الطائر؟
يرد هانيكه قائلاً: "أنظر إلى الحمامة بوصفها حمامة فحسب. يمكنك أن تفسّر المشهد بأية طريقة تشاء. لكنني لا أستطيع أن أعتبر ذلك رمزاً. شخصياً لدي مشكلة مع الرموز لأنها دوماً تعني شيئاً محدداً. أنا لا أعرف ما تعنيه الحمامة. كل ما أعرفه، يقيناً، أن هناك حمامة تدخل الشقة.. قد ترمز إلى شيء ما بالنسبة لجورج أو لمتفرجٍ معيّن، لكنها لا ترمز إلى أي شيء بالنسبة لي. يتعيّن عليك أن تكون حذراً عندما تتعامل مع عناصر ذات معانٍ متعدّدة. ينبغي التعامل مع هذه العناصر على نحو غامض".
إن الزوج يبلغ النهاية المحتومة التي تقتضي منه أن يخلصها من بؤسها وعجزها وحالة الإذلال التي تتعرض لها كل دقيقة. مع مرور الوقت يرى ضرورة أن يحررها من آلامها وعذاباتها. إنه ينهي حياتها بيديه كفعل حب أخير. يخنقها بالوسادة لأن رؤيته لها وهي تتعذب من دون أن يكون في مقدوره تقديم أي لمسة راحة وفرج، ومن دون أن تكون هناك بارقة أمل لشفائها.. كل هذا أصبح لا يحتمل ولا يطاق بالنسبة له. بقتلها هو ينهي عذابها وأوجاعها. إنه القتل بوصفه فعل حب.
لكن قبل أن ينهي حياتها بلحظات، يروي لها القصة الأخيرة.. يرويها بهدوء وحميمية: إنه يتذكّر حادثة من طفولته، عندما أصيب بمرض معدٍ أدى إلى منع أمه من الإعتناء به بشكل مباشر. وقتذاك شعر بعجزها وعذابها وهو يراها تنظر إليه من بعيد، عبر زجاج النافذة في جناح المستشفى. إنه العجز ذاته الذي بات يشعره وهو يراقب زوجته فاقد القدرة على مدّ يد العون لها.
وهانيكه هنا لا يريد أن يثير الجدل حول فكرة القتل الرحيم، أو يطلب من المتفرج أن يكون مؤيداً للفكرة أو معارضاً لها. بل يهتم أساساً بسبر مفهوم الحب ومعناه، متحرياً الصورة المثالية للمحبوب والصورة الواقعية المخيفة. متى تكون الحبيبة حقيقية ومتى تكون نسخة مختلقة، مثالية.
إن أي حديث عن الفيلم لا يكون وافياً من دون الإشارة إلى الأداء المذهل، المدهش، المؤثر والمقنع، البالغ الحساسية، الذي قدمه إثنان من كبار الممثلين الفرنسيين: جان لوي ترينتينان الذي لمع نجمه مع فيلم "رجل وامرأة" (1966) وايمانويل ريفا التي اشتهرت مع فيلم "هيروشيما حبي" (1959)، والتي هنا تعري نفسها جسمانياً وعاطفياً. دورها لا يعتمد على الكلام، لكن كل مشاعرها ودواخلها تكشفها أو نجدها منعكسة في عينيها.
فيلم "حب" موجع، حزين لكن صادق، مرهف، وبالغ الحساسية. ولا يتكئ على الإثارة أو الميلودراما المفرطة، بل ينحاز إلى البحث الفلسفي عن العلاقات الإنسانية.
"حب" عمل استثنائي، فذّ، حقق نجاحاً هائلاً. حاز الفيلم على جائزة مهرجان كان الكبرى كأفضل فيلم. جائزة أفضل فيلم في مهرجان الفيلم الأوروبي، إضافة إلى أفضل مخرج وممثل وممثلة. جوائز جمعية النقاد في لوس أنجلس كأفضل فيلم وممثلة. جوائز الجمعية الوطنية لنقاد السينما في نيويورك كأفضل فيلم ومخرج وممثلة. جائزة جولدن جلوب الأمريكية كأفضل فيلم أجنبي. جوائز الأكاديمية البريطانية (بافتا) كأفضل فيلم أجنبي وأفضل ممثلة. جوائز الأكاديمية الفرنسية (سيزار) كأفضل فيلم ومخرج وسيناريو وممثل وممثلة. جائزة سبيريت للسينما المستقلة في كاليفورنيا كأفضل فيلم أجنبي. أوسكار أفضل فيلم أجنبي.

(قريبا ننشر نص الحوار الطويل الذي ترجمه أمين صالح مع مايكل هانيكه)...

(موقع: عين على السينما)