أمين صالح: الزمن يجعل المرء أكثر نضجا
أكثر حكمة،أكثر قابلية للتفاوض مع الحياة

يرفض النقد الذي يأتي إلى النص من خارجه

حاورته: إستبرق أحمد
(الكويت)

هو الأمين الصالح للعزلة وللغة، يهرول الآخرون وينزوي هو لتعبد له من بعد مسابر ضوئية لافتة، تجربة كتابية غامرة بالشمس، في رحمها صور متنوعة من النصوص الإبداعية مغامرة تجاه المفردة الثائرة على الجامد/ الساكن/ الخامد، هكذا كان خلقة في الرواية، الشعر، النص المفتوح، السيناريوهات درامية غنى وافر وقادر على إنتاج تمرداته إذ "الكتابة نبع اللذة والوجع" و"الكتابة سهم إبداعي يعبر الزمان والمكان.. والمبدع الحقيقي هو الذي يتصل بجوهر الأشياء" أمين صالح كائن يغوي للتماس معه بالأسئلة التي أترك لكم الخوض والتدبر بالإجابة.

* تلتفت وترى خلف ظهر الزمن كتاب البداية "هنا الوردة.. هنا نرقص" ومنجزك الروائي الأخير "رهائن الغيب" ينتصب أمامك، ما بين هذه الالتفاتة والنظرة، ما الذي تغير في أمين صالح على المستوى الشخصي والكتابي؟ وما الذي ما زال يؤرقك على المستويين السابق ذكرهما؟

ـ الزمن يجعل المرء أكثر نضجاً، أكثر حكمة، أكثر قابلية للتفاوض مع الحياة بروح مرنة وهادئة ورزينة. لكنه في المقابل يجعلنا نفقد تلك الروح النزقة، الطفولية، المفعمة بالطيش، والمغسولة بالمجازفة.
نفتقد تلك الرغبة العارمة في تغيير العالم والتي اعتقدنا بإمكانية حدوث ذلك بمجرد ان نكتب قصيدة أو نرسم لوحة. نعم. كنا نعيش وقت البراءة حتى الثمالة، وكان لدينا كل مساء حلم نتجرعه دفعة واحدة، الآن لم نعد نحلم أحلاماً كبيرة. صرنا أكثر رصانة وأكثر عزلة، لقد خذلنا أحلامنا قبل ان تخذلنا هي.

الآن، انظر إلى الزمن يعدو ولا أحاول اللحاق به، بل امكث متسائلاً في حيرة: لم العجلة؟ إلى أين يريد ان يذهب بي؟

عندما أتطلع إلى مرآة الروح لا اشعر بأنني تغيرت كثيراً، ما زلت ذلك الشخص الذي لا يعرف شيئاً في الحياة غير الكتابة.. ولفرط سذاجته يظن ان الآخرين لا يزالون بحاجة إلى ما يكتب.
لكن في الداخل، عميقاً، الوقت يحفر بلا هوادة في نفس هشة لا تقوى على النزال.
أما على مستوى الكتابة، فاعتقد ان حس المغامرة الذي رافق تجربتي منذ البداية، سواء في الشكل أو المحتوى، لا يزال متقداً فيّ، ولا يزال يمثل هاجساً في التوجه التعبيري، حيث تحاشي الاستقرار طويلاً عند محطة تثبت فيها الأدوات واللغة. لذلك أميل إلى ارتياد ما ينفتح أمامي من آفاق متعددة والتنقل في الفضاءات المتاحة دون المكوث داخل مجال أو نطاق واحد.. إذ أي متعة ينالها الكاتب ان ظل في الدائرة ذاتها، في الشكل ذاته؟

كتابتي، بالتأكيد، صارت أكثر نضجاً بالقياس إلى البدايات أو التجارب السابقة. صرت أكثر ثقة في التعامل مع اللغة، في التعبير عن الذات بكل ما يعتريها من هواجس ومخاوف ورؤى. لكن الذي لم يتغير هو إيماني وقناعتي بأنني من خلال الكتابة، من خلال الفن عموماً، أحاول ان أحقق ذاتي وأعطي لوجودي معنى ومغزى.
من الكتاب الأول حتى الأخير، رحلة طويلة لم تنته بعد.. وما يؤرقني حقاً ـ على الصعيدين الشخصي والكتابي ـ ان يموت الطفل القاطن فيّ أثناء الرحلة، لسبب أو لآخر.. عندئذ لن يعود للرحلة معنى، ولن يعود للكتابة أي معنى.

* تجربة كتابة "ندماء المرفأ.. ندماء الريح" مفتتح تجربة مغايرة لك تلتها العديد من التجارب التي لمست تقاربها قليلاً إلا انك ـ وصحح لي ان رأيت قولي خاطئاً ـ في "موت طفيف" تخلصت من ارث تلك التجربة إلى حد ما، فماذا تقول؟

ـ لا يمكن القول إنني "تخلصت" من ارث تجربة مررت بها، لأن مثل هذه التجربة ليست دخيلة، وليست مستقلة أو منفصلة، بل هي نابعة من المصدر ذاته الذي طرح تجارب سابقة ولاحقة تتصل عضوياً وعمقياً بها ولا تنفصل عنها، سواء على مستوى اللغة أو الرؤية، مع اختلاف الشكل بالطبع. وحتى إذا تم تجاوز تلك التجربة فإنها تظل مرتبطة بغيرها على نحو وثيق ولا ينفصم. بمعنى آخر، كل كتاب يشكل قطعة من النسيج العام متجانسة مع غيرها، كتلة من البناء الكلي، حيث كل تجربة تمثل امتداداً لغيرها.

ان ما يفرض شكلاً معيناً، ولغة معينة، هي طبيعة التجربة ذاتها، والنسق العام الذي من خلاله تتحرك وتبني نفسها، وحدود الرؤية الفكرية والفلسفية، والعناصر الفنية التي يشعر الكاتب بأنها ضرورية في تكوين وتشكيل النص.. ولهذا تبدو نصوص "ندماء المرفأ" مختلفة عن نصوص "موت طفيف".. أقوال مختلفة، وليست منفصلة. ان نصوص "ندماء المرفأ" تستمد كينونتها من تلك التي سبقتها، أي ان لها جذوراً في "الطرائد" مثلاً، كذلك الأمر مع النصوص الأخيرة التي تمتد جذورها حتى "ندماء المرفأ" وما قبلها.

حالات حميمة

* ما بين الرواية الأولى "أغنية أ. ص الأولى" عام 82 وروايتك رهائن الغيب عام 2004.. وقت شاهق المسافة فأيهما الأقرب إليك؟ ولم انتظرت طويلاً حتى عاودت الرواية؟


ـ من الطبيعي ان تكون الرواية الأولى بعيدة زمنياً ونفسياً. "رهائن الغيب" قريبة جداً، ليس زمنياً فحسب ولكن لأنني تناولت حالات حميمة، أكثر وجدانية. حالات تتصل بمرحلة لا تريد ان تغادر الذاكرة، وجاءت المخيلة لتؤازر الذاكرة في صياغة عالم يتأرجح بين الواقع والخيال، بين التاريخ والحلم. والمرء عندما يكبر يقترب أكثر من طفولته، ويشعر بحنين طاغ إلى الماضي، إلى الكائن الذي صار رهين غيب غامض. هذا البعد النوستالجي يتعمق أكثر فأكثر، ويكون أشد حضوراً عندما لا يكون الحاضر أو الغد مغرياً جداً.
في الواقع، أنا لم اذهب إلى الرواية إنما هي التي جاءت إلي.. اعني الشكل الروائي. أحياناً، لا أحد يعرف من يستدعي الآخر أولاً.. الكاتب أم الشكل أو النوع الأدبي. لا اشعر بأنني انتظرت الرواية طويلاً، لسبب بسيط هو إنني لم أكن انتظر. كانت كل تجربة، كما قلت، تفرض شكلها الخاص بها، وما كانت الرواية ـ كنوع ـ هاجساً ملحاً. لست من أولئك الذين يفضلون نوعاً على آخر أو يرون في نوع معين امتيازاً يفوق غيره أو يسمو عليه. ان ما يهمني بدرجة أكبر، هو التأثير الذي يخلقه النص، الاستجابة التي يحققها، ومدى تحقق اتصاله بالآخر.. وليس نوعه أو قالبه.


عالم الطفولة والصبا

* قلت ذات كتابة "تتعدد المفاهيم والمستويات في النظر إلى الحارة عند مختلف الكتاب والفنانين" وبينت ان البعض يرى فيها مجازا لعالم قائم بذاته، آخر يستخدمها كموقع أو ديكور، أو يلتقط نماذج يعبر بها عن موقف معاصر كما ان البعض يعاودها لاستحضار "نوستالجي". ومتن روايتك رهائن الغيب هو الحارة فعلى أي مستوى نظرت إليها؟


- الحارة في (رهائن الغيب) هي الجذر الذي منه طلع ذلك العالم. عالم الطفولة والصبا، ومنه طلعت كل تلك الشخصيات الحقيقية والمتخيلة، ومنه طلعت تلك الأحداث والحالات والأجواء الحارة هي عالم قائم بذاته لكنه يتصل جذريا بعالم البدايات، العالم الذي يشهد أول كل شيء: أول الحب، أول الجنس، أول العنف، أول الحس السياسي.. إلخ.
الحارة هنا هي القابلة والحاضنة، ولان تلك الحالات ليست محلية محضة بل هي في اغلبها كونية، فان الموقع بدوره يصير كونيا وان بشكل مختلف.. فالأحياء في مختلف الأقطار أفرزت شخصيات وأحداثا وحالات مماثلة.

غياب القارئ

* يرى الكثير ان ما يطبق في الذهن حول القارئ العربي انه قارئ كسول، بمعنى انه لا يبحث عن القراءة الوعرة، أنا لن أحدثك عن نخبوية كتابتك لكنني أتساءل حول مغامرتك في كشف مصائر الشخصيات في روايتك الأخيرة وبالتالي جعلته لا يبحث عن النهاية..؟


عندما اكتب يكون القارئ - أيا كان مستواه وخلفيته الثقافية - غائبا تماما. بعد انجاز النص أبدأ عادة في التفكير في كيفية استقبال القارئ لعملي، استجابته، تفاعله. والقارئ الذي أتخيله هو قارئ مثقف، فاعل، ايجابي، يمتلك حسا نقديا مرهفا. ولا أتوقع ان يقرأني شخص كسول، سلبي، غير مرن.
من الطبيعي إذا أنني لا احرص على التلاعب بتوقعات القارئ أو باثاراته، عندما اكتب يعنيني بالدرجة الأولى النص ذاته والى أين يأخذني، ولا يهم ما إذا كانت مصائر الشخصيات مكشوفة أو غامضة. وعلاقة القارئ بالنص ينبغي ان تكون مرهونة بما يطرحه النص لا بما يتوقعه القارئ من النص.

* الأحداث من حولنا في تسارع مخيف بينما أخبرت انك غالبا ما تكون نصوصك تبنى على خيال محض ووراء الواقع تأثرا منك بالسينما إلا تشعر أحيانا بضرورة الاقتراب أكثر من العالم اليوم معاصرا، راصدا له؟

- ليست هناك كتابة تقطن وراء الواقع، إذ حتى الخيال العلمي يمتد جذوره في الواقع وينبني على أسس الواقع ومنه ينطلق إلى آفاق أرحب تكون فيه المخيلة عنصرا رئيسيا.
في تعريفنا للواقع ينبغي ان ندرك أنه ليس فقط المظهر السطحي، الظاهري، المادي، الذي نراه من حولنا.. فمثل هذا المظهر ليس غير الجانب المرئي، المدرك المحسوس. وعدم رؤيتنا للجانب الآخر من القمر لا يعني انه غير موجود. فهناك جانب آخر غير محسوس لكننا نعيشه، وفيه يتمثل الواقع بصورة أخرى، مثل ما ينتجه الحلم والذاكرة والمخيلة.. هذه العوالم تتمم الواقع المعاش الناقص.
ولقد برهن العلم على أننا، بسبب محدودية حواسنا، لا نرى من الواقع إلا نسبة قليلة منه، والدليل أننا نستعين بأشعة اكس والميكروسكوب وأدوات أخرى لتساعد على رؤية ما لا تراه العين المجردة في واقعنا. وعندما يأتي الفنان التجريدي ليجرد المنظور من مظاهره الخارجية، السطحية، ويظهر لنا جوانية وأعماق الشيء فانه يكون واقعيا أكثر من الواقعي المزعوم.
ان كل كتابة، حتى لو كانت فانتازية أو سريالية، تتصل بالضرورة بالواقع، تعبر عنه، عن علاقاته.. لكن من منظور مختلف، ومن زوايا غير مألوفة. وعندما يوظف الكاتب الرمز والمجاز والصور الجمالية، ويعتني بلغته، فذلك لأنه يدرك جيدا أنه يتعامل مع الواقع فنيا وليس كما يتعامل الصحافي - مثلا - بلغته المباشرة التي لا تعتمد على المجاز بل توصيل المعلومة بلغة مباشرة من اجل تحقيق غاية معينة.

* متنوع كتابيا على مستوى النص ذاته أو مستوى التجربة، أي التجارب تجدك أكثر رغبة في مراودتها؟

- لا اعرف. اشعر بحرية اكبر من ما يسمى بالنص المفتوح، والذي يتيح لي مجالا أوسع لتجريب أدواتي وتوظيف مخيلتي وابتكار صور ربما لا تقيدها أعراف معينة. والقارئ بدوره يأتي مهيئا لاستقبال ما يقدم له دون شروط أو مطالب مسبقة تفرضها عادة تقاليد الأنواع الأدبية التي اعتاد عليها، وبالتالي فان القارئ نفسه يتمتع بحرية مماثلة في التلقي والفهم والتأويل، إضافة إلى المشاركة الإبداعية.

* لك موقف صارم تجاه الناقد، لكن ألم تمرق أي تجارب نقدية إفادتك فعلا في وعيها وموضوعيتها، حدثنا عنها؟


- بالتأكيد أنا لست ضد الكتابة النقدية، وشخصيا استفدت من النقد، ولا استطيع هنا ان أعين أي كتابة نقدية اقتربت بعمق من نصوصي، فهناك أكثر من كتابة حققت هذا الاقتراب. النقد الذي ارفضه هو الذي يأتي إلى النص من خارجه فارضا تصوراته وباحثا في النص عما ينسجم مع رؤيته وتصوراته، فإذا لم يجد استخف بالنص وحكم بفشله. مثل هذا النقد لا يأتي ليكتشف بل ليمتحن.. وهذا أسوأ أنواع النقد.

حسنا لنمضِ إلى أسئلة "ماذا لو.." فاتحين بها بوابات شيطان الأجوبة:

أشكال متعددة

* مرت أحداث معينة على مملكة البحرين فكان الإقصاء التام للحريات وانف الرقيب زاجا نفسه ملاحقا النوايا قابضا على الكلمة.. ماذا لو منعت تماما من الغواية/الكتابة؟

- ان أكثر ما يرعب الكاتب هو ان يحكم النظام المستبد بمنعه من الكتابة، إذ يعني ذلك منعه من التنفس، من الحياة. وبالنسبة لشخص لا يحسن فعل شيء آخر في الحياة فتلك عقوبة تشبه الإعدام.

* أي المهن تجرؤ على اختيارها لو لم تكن كاتبا..؟

- لو لم أكن كاتبا وأتيح لي ان افعل شيئا آخر ، فاعتقد أن الموسيقى هي الأقرب.. ان اعزف على أي آلة نفخ.

* ماذا لو كانت السينما ناهضة في دول الخليج هل كنت ستمضي لتخومها كسيناريست ومتخصص كتابيا بها عوضا عن اتجاهك الشعري والروائي الحالي؟

- لا شيء يحول دون ان اجمع بين كتابة الرواية والسيناريو والمسرح.. أنها أشكال متعددة من الكتابة يحق لأي شخص ان يمارسها ان توافرت لديه الكفاءة والرغبة. والكتابة الشعرية أو الروائية ليست بديلا عن السيناريو بحيث يمكن الاستغناء عنها ما ان تتوافر الإمكانية لكتابة السيناريو. فضلا عن ذلك فانا منذ الثمانينات لم أتوقف عن كتابة الدراما التلفزيونية.

القبس- ـ 5 يوليو 2005