كتابة: جوليا سميث

ترجمة : أمين صالح

بين النظرية و الحقيقة

أمين صالح( في هذه المقالة، المنشورة في Close-Up Film، شهر يونيو2006، تقوم جوليا سميث ببحث في الأساطير أو الحقائق التي تستند إليها رواية دان براون "شفرة دافنشي")

* * * *

إذا لم تسمع عن "شفرة دافنشي" فلابد أنك قضيت السنوات الثلاث الأخيرة قاطناً في حفرة، تحت صخرة، على القمر. و إذا أنت سمعت عنها، فالأرجح أن ذلك يتجاوز العنوان. لقد هزت "شفرة دافنشي" كل جزء من العالم، من الصفوف العليا في الكنيسة الكاثوليكية إلى محكمة الاستئناف الفيدرالية في أمريكا.
في السنوات الثلاث الماضية بيع من الكتاب 50 مليون نسخة، و تُرجم إلى أكثر من 44 لغة، و صار ظاهرة عالمية. الآن، و في ذروة نجاحها، تحولت رواية "ِشفرة دافنشي" الرائجة إلى فيلم سينمائي، الأمر الذي أدى إلى مضاعفة رواجها مؤخرا. و لو ظلت الرواية في شكل كتاب لما صارت محفوفة بالمشاكل و القضايا إلى هذا الحد، و لانتهت الإشكالات التي أثارتها. إن تحويلها إلى الشاشة ساهم أكثر في تأجيج الجدل و الخلاف حولها.
عند صدور الرواية في 2003، حققت رواجا ملفتا في أسبوعها الأول، و تصدرت قائمة النيويورك تايمز لأكثر الكتب مبيعا.
لكن ما سبب هذا الرواج؟ هل هو الأسلوب الرائع في الكتابة؟ هل بسبب بحوث الكاتب المضنية؟ أم لأنها أول رواية شعبية تعلن صراحةً أن المسيحية مبنية على كذبة؟
القصة تتمحور حول خبير في دراسة و تفسير الرموز، يدعى روبرت لانجدون، و خبيرة في الكتابة بالشفرة، هي الفرنسية صوفي نيفو. الاثنان في حالة هرب من خطر التصفية أو السجن بعد كشفهما عن سرّ تركه لهما جد صوفي قبيل مقتله.. هذا السر الذي، للأسف، أفشته الصحافة الشعبية. غير أني سوف أحافظ هنا على سرّية النقطة الحاسمة في الرواية من أجل أولئك الذين لم يقرأوها بعد.. فهذه النقطة الحيوية تمثّل السر الذي يعطي الرواية حبكتها الخلافية المثيرة للجدل. إنها حبكة فريدة حقا، حبكة حقيقية على نحو مقلق إلى حد أن أي شخص سوف يفعل أي شيء من أجل إخراس الناس، و كاتب الرواية دان براون، و هوليوود.

حرب الدين و الأدب:
حال صدور رواية "شفرة دافنشي" في 2003، حققت الرواية شعبية و رواجا. لكن مع انتشار خبر احتمال تحويل الرواية إلى فيلم، صار المؤلف دان براون هدفاً لكل مؤلف آخر سبق له أن تطرّق إلى موضوع الكأس المقدسة ( التي شرب منها المسيح في العشاء الأخير، المقدس. هذه الكأس التي راح المسيحيون في ما بعد يجدّون في البحث عنها).
هذا بدأ في أغسطس 2005 مع المؤلف لويس بيردو الذي أصدر كتابا بعنوان "ابنة الله" في 2000 يركـّز بؤرته على نفس الموضوع الذي تناوله براون في "شفرة دافنشي". و قد رفع بيردو دعوى قضائية ضد براون في أغسطس 2005 و هذه القضية لا تزال في ملفات المحاكم و لم تُحسم بعد، إذ أن بيردو استأنف ضد نظام المحاكم بنيويورك بعد تبرئة دان براون من تهمة الانتحال. و عندما نقل القضية إلى المحاكم الفيدرالية الأمريكية على أمل الحصول على أمر قضائي لمنع بيع رواية براون. لكنه خسر القضية قبل أسابيع من خسارة مايكل بيجنت و ريتشارد لي الدعوى التي رفعاها ضد براون.
بيجنت و لي، مؤلفا "الدم المقدس و الكأس المقدسة"، و هو كتاب غير قصصي عن الموضوع ذاته، كانا غاضبين من دان براون لما وجداه في عمله من انتحال لكتابهما الصادر في 1982. و في ربيع 2005، أي بعد عامين من صدور "شفرة دافنشي"، قررا أن يتخذا إجراءً عمليا حازما. رفعا دعوى قضائية ضد الناشر راندوم هاوس، و أجبرا الكاتب الخجول دان براون على الذهاب إلى لندن و الوقوف تحت أضواء الميديا الساطعة، متهمين إياه بالانتحال، إضافة إلى الإيحاء بأن براون سخر منهما في الرواية عندما سمى إحدى الشخصيات "لي تيبنج"، و تيبنج هو تلاعب في ترتيب أحرف اسم بيجنت، معتبرين هذا الفعل تصرفا مشينا و مهيناً لهما. لكن سرعان ما اتضح أن براون فعل هذا كتحية ثناء و تقدير لهما.
لحسن حظ براون، خسر لي و بيجنت القضية، و تم إلزامهما بدفع أتعاب القضية إلى دار النشر راندوم هاوس . أما براون فيتعين عليه أن يواجه دعوى قضائية أخرى رفعها ضده، هذه المرّة، مؤرخ روسي يدعى ميخائيل أنيكين.
لحسن حظ دان براون أن الكنيسة الكاثوليكية غير مسموح لها أن تنتفع ماديا من القضايا المضادة لها و التي تثير سخطها و نقمتها، كما الحال مع المؤلفين الشرهين للمال. لكن ذلك لم يمنع الكنيسة الكاثوليكية من صب غضبها على براون سواء من خلال الخطب المتكررة أو المجادلات. غير أن الجمهور العام لا يعتمد فقط على نقمة الكنيسة للحكم على عمل ما، و هم لا يرون في هذه النقمة إلا برهانا على أن في الرواية ثمة ما يحرّك الوتر الحساس.
من جهة أخرى، كانت جماعة "عمل الرب" Opus Dei، التابعة للكنيسة الكاثوليكية، جهة داعمة و مشجعة لكتاب براون، الذي لم يحجم عن وصفهم بالقتلة الشرهين للسلطة. بعد رواج الرواية عبّروا عن سعادتهم و شكرهم لهذه الشعبية، حيث أن ذلك يعني اهتماما واسعا بمنظمتهم.
"فرسان الهيكل" ( و هم أعضاء جمعية دينية عسكرية أنشئت في القدس عام 1118 لحماية الحجاج و القبر المقدس) رسميا لم يكن لهم وجود لسنوات، و الماسونيون(المفترض أن الفرسان صاروا جزءا منهم) كانوا مشهورين بالتحفظ و الكتمان. علاوة على ذلك، فإن منظمة "دير جبل صهيون" ( حماة الكأس المقدسة في رواية شفرة دافنشي) لم توجد رسميا إلا لمدة ستين سنة و ذلك قبل 300 عاما.
تذبذب الحقيقة و الخيال: هل نصدق كل ما نقرأ؟
هناك شيء لافت للنظر بشأن هذه الدعاوى التي رفعها مؤلفون، و بشأن سخط الكنيسة الكاثوليكية.
أولاً، يعلن براون في مقدمة روايته أنه قام ببحوث في موضوع الكأس المقدسة و يقدم ببليوغرافيا (ثبت المراجع) للكتب التي استفاد منها. هذا يمثـّل تنصلا من أي حقائق هو وظفها من كتب أخرى. مع ذلك يبدو أن أغلب المؤلفين يجدون في ذلك فرصتهم للانتفاع من نجاح براون. لكن كيف يمكنك أن تدعو ذلك انتحالا في حين أن كل كتاب آخر من البيبليوغرافيا يتناول المعلومات نفسها؟
ثانيا، على الرغم من كل هذا البحث، إلا أن الكتاب يقدم نفسه كنص أدبي روائي، بالتالي لا تملك الكنيسة الكاثوليكية ما تشكو أو تتذمر بشأنه.
هكذا نحن أمام مؤلفين يتهمون دان براون بسرقة أفكار لم يحاولوا هم تطويرها أبدا، و أمام كنيسة تحاول الحط من قدر كتاب خيالي. و في وجود أشياء كهذه، لابد من أن نشهد حروبا ضارية تؤدي بآخرين إلى تأليف ما لا يحصى من الكتب عن براون و شفرة دافنشي بغرض استثمار الظاهرة من أجل تحقيق الربح.
لكن ما هو أساس كل هذا الغضب الموجّه ضد الرواية؟
مجرد سطر واحد بسيط في مقدمة " شفرة دافنشي"، حيث يصرّح براون بأن المعلومات المتضمنة في الرواية " يُعتقد أنها صحيحة".
من المفترض أن يكون أمرا عاديا صدور مثل هذا التصريح: "يُعتقد أنها صحيحة"، مع التوكيد على كلمة "يُعتقد". لكن العديدين، للأسف، يرون أن براون يضلل القارئ على هذا الأساس. "شفرة دافنشي" تحتوي على الكثير من المعلومات النظرية بشأن الكأس المقدسة. لكن، كما يكتب براون، هذه المعلومات تبدو صحيحة. و المؤرخون لا يتفقون مع هذا الزعم، بل يشعرون أن براون يقدم مزاعم زائفة و مضللة، و يشجع الناس على تصديقها. و يبدو أن هذه المزاعم تنشأ من إيمان براون نفسه بالمعلومات التي، في محتوى الرواية، هو يكتبها كما لو كانت حقيقية و صحيحة.
في دفاعهم، يتفق المؤرخون أن الرواية عمل خيالي لكن، لأن براون صرّح بأن هذه النظريات أشبه بإنجيل، فهم يخشون أن يصدقها الناس دونما نقاش.
" شفرة دافنشي" تتضمن عددا من النظريات بشأن الكأس المقدسة، و كذلك بشأن الجمعيات السرية المتصلة بتاريخها.. لكن ليس هناك دليل حقيقي قوي يدعم النظرية.

إنجيل مريم المجدلية:
يقول التاريخ: إنجيل مريم المجدلية المفقود تم العثور عليه في العام 1945 تحت الصحراء المصرية مع الأناجيل الغنوسطية الأخرى (مذهب بعض المسيحيين الذين اعتقدوا بأن المادة شر و بأن الخلاص يأتي من طريق المعرفة الروحية) و لا شيء هناك يوحي بأنها كانت مخفية و مخبوءة بعيدا.
يقول براون: مريم المجدلية تعرضت للمحو و الاجتثاث من التاريخ المسيحي لأنها امرأة، و هذا أمر بعيد الاحتمال بسبب اكتشاف قصتها مع عدد من الأناجيل الأخرى. لكن براون محق عندما يؤكد بأنها أبدا لم تكن عاهرة، بل من المحتمل أنها ارتبطت بعلاقة عاطفية مع المسيح.

دير جبل صهيون:
يقول التاريخ: أن هذه المجموعة ظهرت في الفترة من 1690-1756، و علاقتها بالكأس المقدسة غير واضحة.
يقول براون: الوثائق التي ظهرت في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، و التي تصف بالتفصيل تاريخ المعلمين العظام (و من بينهم ليوناردو دافنشي)، تؤكد أن "دير جبل صهيون" جمعية حقيقية.
لكن وفقاً للمؤرخين، الوثائق هي مزوّرة على نحو سيء، و زائفة بشكل واضح.

عمل الله Opus Dei
يقول التاريخ: هذه الجماعة موجودة، نعلم أنها موجودة.. توني بلير (رئيس الوزراء البريطاني) التقى بأفرادها.
يقول براون: هؤلاء يشكـّلون قطاعا ثرياً جداً، متعطشاً للسلطة، من الكنيسة الكاثوليكية. و هم يسعون إلى طمس أسطورة الكأس الذهبية و الإبقاء عليها طي الكتمان.
هذا أمر قابل للجدل. هم يشكّلون جمعية ثرية جدا، لكن بما أن الكأس المقدسة محض أسطورة فإن ما يقوله براون هو مجرد اتهام.

فرسان الهيكل:
يقول التاريخ: فرسان الهيكل جمعية دينية ضمت الرجال الذين كرّسوا أنفسهم للدفاع عن المسيحيين و هم في طريقهم إلى الأرض المقدسة. من المفترض أن كل أفراد الجمعية لقوا حتفهم قبل قرون. و يقول المؤرخون أن العديد من الناس دأبوا على اختلاق قصص كثيرة عن فرسان الهيكل لملء أجزاء ناقصة من التاريخ، حيث لا يُعرف عنهم إلا القليل، و لا يوجد ما يمكن برهنته أو دحضه. لكن ثمة إيحاء بأن الجمعية اندمجت مع الماسونية.
يقول براون: فرسان الهيكل اكتشفوا وثائق تصف الكأس المقدسة و مكان وجودها، و أنهم استغلوا هذه الوثائق لابتزاز الكنيسة الكاثوليكية. في ما بعد تم العثور على الفرسان و سقط العديد منهم قتلى في الثالث عشر من يوم الجمعة ( و من هنا بدأت أسطورة التاريخ المشؤوم).. قلة من الفرسان تمكنوا من الهرب، آخذين معهم الوثائق إلى كنيسة روزلين في اسكتلندا.

روزلين (موقع الكأس المقدسة؟)
يقول التاريخ: روزلين، "كاتدرائية الشفرات"، بناها سير وليام سنكلير في 1466. مزيج من نقوش فرسان الهيكل و أشغال الماسونية. و هي حافلة بالتفاصيل و الرموز الشفرية، لكنها لا تقول شيئا هاما. و سنكلير لم ينتسب كعضو إلى فرسان الهيكل.
يقول براون: كنيسة روزلين بناها رجل اسكتلندي كانت لديه ارتباطات بجمعية فرسان الهيكل. و التسمية مشتقة من Rose Line أي الخط الوردي، و هو خط الزوال الذي يمتد عبر الأرض. براون يربط هذا بـ "خط الدم" أو "الدم الملكي" (و هي أسماء أخرى للكأس المقدسة).. في الواقع، لا علاقة لاسم روزلين بالخط الوردي.

العشاء الأخير لدافنشي:
يقول التاريخ: أنها لوحة رسمها دافنشي بناءً على طلب ممولين غير معروفين.
يقول براون: أنها لوحة تتكشّف عن صور مشفرة بشأن الكأس المقدسة. كما يقرر أن الحواريّ الذي يُعتقد بأنه يوحنا ليس رجلا بل امرأة، هي في الواقع مريم المجدلية. و أن الحواريين الآخرين في اللوحة يظهرون العداء لها من خلال إيماءاتهم المتوعّدة.
بإمكان بعض مؤرخي الفن تسويغ الغرابة و الشذوذ في اللوحة. مع ذلك، حجة براون تبدو مقنعة أكثر: شكل يوحنا بالفعل هو أقرب إلى شكل امرأة.

لكن لسوء حظ براون و كل بحوثه، فإن اعتماده المستمر على هذه النظريات كحقائق تامة، هو أمر مزعج و مربك للكثيرين من المهتمين بالتاريخ.
رواية براون السابقة "ملائكة و شياطين" أيضا تخلط بين التاريخ و الخيال بطريقة مماثلة، و إن كان هناك أكثر تطرفا و عنفاً في توجيه اتهامات سلبية ضد أناس كانوا موجودين لا متخيلين. كذلك كان يخلط المعاني وراء منحوتات و لوحات روما، و يرتكب الكثير من الأخطاء التاريخية. إذا كان في "شفرة دافنشي" يروّج للنظرية بوصفها حقيقة، فإنه في "ملائكة و شياطين" يخلق نظرية لا تملك أي برهان واقعي، مضللا القارئ مرة أخرى. و قد يتساءل المرء عن إمكانية تضليل القراء من خلال كتاب روائي يعتمد على الخيال. الحقيقة أن كل عنصر يشير له دان براون بالاسم كان موجودا و كائناً بالفعل: الناس، المنحوتات، اللوحات.. لكنه يضع كل هذا في سياق تخيلي و في بيئة غير موجودة، غير واقعية. و هذا الشيء هو الذي لا يستطيع المؤرخون احتماله: ليس استخدام المعلومة الصحيحة بل التلاعب بمعانيها.
أين تكمن الحقيقة:
إذا كانت "شفرة دافنشي" نظرية ممتزجة بالخيال، عندئذ لابد أن تلك النظرية جاءت من مكان ما، إذ لا يمكن لها أن تأتي فقط من مؤرخين هم الآن يذمّون دان براون و يحطون من قدره، محققين مكاسب مادية من توبيخهم و تأنيبهم لروايته. و إذا كان هؤلاء المؤرخون شغوفين إلى هذا الحد من الانفعال بشأن قصة الكأس المقدسة، فلماذا لا يصوغون نظرية خاصة بها و يباشرون البحث عنها؟
لا.. لابد أن هناك أفراداً في مكان ما، حقيقيين و مخلصين، يسعون وراء الكأس المقدسة. و في الوقت الذي ينشغل الآخرون في محاولة استغلال محاكم القرن الحالي و نظم القضاء و الميديا، يستمر أولئك الأفراد في البحث جدياً عن الحقيقة.
في الدعوى القضائية المرفوعة ضد دار النشر راندوم هاوس من قِبل لي وبيجنت، اتضح أن هناك رجلا يقف وراء شخصية روبرت لانجدون. إنه عالم في الفيزياء من ويلز و يحمل اسم روبرت لوماس.
لوماس خبير في شؤون الماسونية، و هو على اتصال منتظم مع الكاتب دان براون الذي يرتكز كتابه القادم على فكرة الوجود الماسوني في واشنطن. و رغم أن براون وظـّف شخصية لوماس كأساس لشخصية روبرت لانجدون في كلا العملين: ملائكة و شياطين، و شفرة دافنشي.. إلا أن لوماس لم يُظهر أي رغبة في الانتفاع ماديا من وراء أعمال صديقه.
الرجل الثاني، و الأكثر أهمية، وراء نظرية الكأس المقدسة (و شفرة دافنشي) هو هنري لينكولن، الذي شارك في تأليف كتاب "الدم المقدس و الكأس المقدسة".
على نحو مثير للاهتمام، لم تكن لدى لينكولن الرغبة في مقاضاة دار النشر راندوم هاوس أو دان براون، تاركاً لزملائه قرار رفع الدعوى القضائية. و السبب في ذلك يكمن في ما صرّح به من أنه و الآخرين كانوا يتتبعون موضوعاً سبق للعديد من الباحثين دراسته و محاولة سبر غوره. بالتالي، إذا كان براون مذنباً بتهمة الانتحال فإن الشيء نفسه ينطبق على غيره من الباحثين. لهذا آثر لينكولن أن يتجاهل الأمور القضائية و يتفرّغ لما هو أهم من وجهة نظره: البحث عن الكأس المقدسة.
كان لينكولن يفتش في منطقة بجنوب فرنسا يُعتقد بأن مريم المجدلية عاشت فيها، و المنطقة تشمل بلدة رين لي شاتو و الكنائس المجاورة و قمم الجبال. الخريطة تشير إلى خطوط تـُظهر علامة النجمة الخماسية التي تستخدم كرمز سحري، و هو رمز هام لعدد من الأسباب لكنه مرتبط بقوة بأسطورة الكأس المقدسة و فرسان الهيكل.
لقد وجد لينكولن هذه الظاهرة في عدد من المناطق المحلية، و باشر بحثاً آخر مع إيرلنغ هاجنسن، الذي كان وقتذاك يقوم ببحث علمي في جزيرة بورنهول في بحر البلطيك، و المعروفة بـ "جزيرة الهيكل". و لقد اكتشف الرجلان ظواهر علمية عديدة تدعم الافتراض بأن جزيرة بورنهول و بلدة رين لي شاتو من المناطق الأساسية في تاريخ فرسان الهيكل و الكأس المقدسة، و أيضا الافتراض بأن الخرائط المرسومة في القرون الوسطى كانت مبنية على أساس ديني أو روحاني.. أي، تعيين المسافات بين مبان دينية.
المعلومات التي اكتشفها الرجلان كانت صادمة، ليس فقط لأنهما اكتشفا ما يمكن أن يكون برهاناً على وجود فرسان الهيكل، لكن لأن هذه المعلومات قد تعيد كتابة تاريخ علم الفلك و رسم الخرائط وفق القرون الوسطى. إذن حتى لو كانت "شفرة دافنشي" مبنية على نظرية ما، فثمة احتمالية بتحويل هذه النظرية كلها إلى حقيقة.

بعد كل ما قيل و ما نُفذ:
على الرغم من كل المناقشات و الاتهامات العائمة هنا و هناك في الوقت الحاضر، ليس هناك أي إنكار بأن براون كتب رواية مسلية جدا، رواية مبنية على شيء لديه الإمكانية لأن يكون حقيقياً. حتى لو لم يؤمن الناس بما جاء في الرواية، فهي على الأقل سوف تفتح الأعين على ما هو محتمل.
حتى العديد من المؤرخين يتفقون على أن براون قد أنجز شيئاً هاماً و رفيعاً، فاتحاً أعين الناس على احتمالات وافرة، محرضاً قرائه على طرح الأسئلة و ليس مجرد التسليم بالمعلومات المقدمة إليهم من قِبل الكنيسة الكاثوليكية أو التاريخ أو غيرهما.
الرواية ساهمت في مضاعفة أعداد الزوّار إلى متحف اللوفر في باريس و كنيسة روزلين خارج ادنبره. صحيح أن براون ارتكب ربما بضعة أخطاء، لكننا نرى الآن الكثيرين و هم يزورون تلك الأماكن ليكتشفوا الأمر بأنفسهم.
الكنيسة الكاثوليكية تقول أن الناس يستمتعون بنظريات المؤامرة و أنهم يدعون هذا يتصادم مع إيمانهم. و هذا صحيح، فالبعض يدع جنون الارتياب و المخاوف تستنزف كل طاقاتهم، لكن كيف يمكن للكنيسة الكاثوليكية أن تعتقد بأن رعاياها سوف يتحولون إلى دين آخر بمثل هذه السهولة بتأثير من نص أدبي؟
ربما الكنيسة خائفة فحسب، خائفة من مدرّس خجول.
بتكثيف كل نظرية بشأن الكأس المقدسة في رواية يسهل قراءتها، استطاع دان براون أن يفتح الطريق نحو المعرفة، وربما هذا هو الشيء الذي يجعل الكنيسة الكاثوليكية قلقة، مرتبكة، و خائفة.