(مختارات شعرية لديلان توماس)

ترجمة: محمد هاني عاطف

الفنان ديورولد ديلان مارليس توماس شاعر ويلز الأشهر في أكتوبر عام 1914 بمقاطعة سوانسي بويلز حيث قضي معظم سني طفولته وشبابه ثم غادرها بعد أن عمل بها محررا صحفيا ليبدأ مشواره الأدبي في لندن حيث أصدر أول دواوينه الشعرية عام 1934 (ثمان عشرة قصيدة) ونالت هذه المجموعة استحسان الوسط الأدبي في لندن وذاعت شهرة ديلان بعد ديوانه الثاني (خمس وعشرون قصيدة) الذي أصدره عام 1936، ثم (خارطة الحب) عام 1939 وهو مزيج من الشعر والنثر، ثم (مداخل ومنايا) عام 1946، وتوج رحلته الشعرية بإصدار أعماله الكاملة عام 1952 قبل وفاته بعام واحد وهو في التاسعة والثلاثين من العمر حيث وافته المنية في نيويورك أثناء رحلة له كان يقوم فيها بإلقاء قصائد من شعره.

 

 

1

'إن متة الشعر ووظيفته في الوقت نفسه كانت ومازالت في احتفائه بالإنسان والتي هي أيضا احتفاء بالخالق'.

2

'كل فكرة، حدسية كانت أم منطقية، يمكن تصويرها وترجمتها بلغة الجسد: لحمه وجلده ودمه وأعصابه وأوردته وغدده وأعضائه وخلاياه وحواسه'.

3

'إن الغموض الذي يلف شعري ناجم من الدلالة الكونية للجسد الإنساني'.

4

'هدف القصيدة هو الانطباع الذي تتركه هي ذاتها في متلقيها نفسه، إنها الطريقة ونقطة الهدف، القصيدة تتحرك في اتجاه نهايتها الخاصة والتي يمثلها السطر الأخير فيها'.

ديلان توماس

القوة التي تدفع الزهرة

القوة التي تدفع الزهر خلال السيقان الغضة
تدفع عمري الأخضر، تلك التي تذرو جذور الشجر
هي محطمتي.
وأنا أعياني النطق أن أخبر الوردة العوجاء
بأن شبابي تلويه حمي الشتاء. نفسها

القوة التي تدفع المياه عبر الصخور
تدفع دمائي القانية، تلك التي جفف النهيرات
في مصابها تحيل جداولي إلي شمع.
وأنا أعياني النطق أن أتفوه إلي عروقي
كيف أنه عند الينبوع الجبلي نفسه الفم نفسه يرضع.

اليد التي تثير دوامات المياه في البرك
تهز الرمال المتحركة، تلك التي تكبح جمح الريح الهبوب
تشيد شراع كفني.
وأنا أعياني النطق أن أخبر المشنوق
كيف أنه من طينتي خلقت شجرة شاهقه..

حتى قمة الينبوع تلعق شفاه الزمان
يقطر الحب ويتجمع، لكن الدم المراق
سوف يشفي قروحها.
وأنا أعياني النطق أن أخبر ريح الطقس
كيف دق الزمان سرمديته عبر النجوم.
وأنا أعياني النطق أن أخبر قبر العاشق
كيف أنه علي أوراق شعري تتهادي الدورة العوجاء نفسها.

ريح أكتوبر

خاصة حين تعاقب ريح أكتوبر
بأصابعها الباردة خصلات شعري،
مأسورا بالشمس السرطانية أسير علي نار
وأطرح ظلا سرطانيا فوق الأرض،
سامعا ضجيج الطيور علي شاطئ البحر،
سامعا الغراب يسعل في غابات الشتاء،
فإن قلبي المشغول الذي يرتجف كلما تّحّدٌّثّتْ
يريق الدم المقطعي وينزف كلماتها.

سجينا أيضا في برج الكلمات، ألحظ
أشباحا في الأفق تثرثر لنساء كالأشجار
يّسْرن، وصفوفا من أطفال يومئون
كالنجوم في الحديقة.
البعض يدعني أصنعك من حروف الزان اللينة،
البعض من الأصوات السنديانية،
من جذور أقاليم شائكة أسمعك أنغاما،
البعض يدعني أصنعك من أحاديث المياه.

من وراء آنية السرخس تخبرني الساعة
المتهادية بكلمة الوقت، المعني العصبي
يطير علي القرص القائم معلنا أفول النهار
ومنذرا بالطقس العاصف ديك الرياح.
البعض يدعني أصنعك من اشارات المرج
العشب الناتئ الذي يخبرني بكل ما أعلم
ينكسر مع الشتاء الزاحف كالدودة خلال العين.
البعض يدعني أخبرك عن خطايا الغراب.
خاصة حين تريد ريح أكتوبر
(البعض يدعني أصنعك من تعازيم الخريف،
من تل ويلز الصاخب عنكبوتي اللسان)
أن تعاقب الأرض بقبضة من درنات،
البعض يدعني أصنعك من كلمات لا قلب لها.
أفْرِغّ القلب الذي و هو يلقي بسحره علي
مسري الدم السيميائي أنذر بالغضب القادم.
قرب شاطئ البحر اسمعي الطيور ذات المقاطع المظلمة.

النور يبزغ
حيث لا شمس تشرق

النور يبزغ حيث لا شمس تشرق
حيث لا بحر يجري، مياه القلب
تدفع في تياراتها:
وأشباح مفارقة تسطع رؤوسها كديدان متوهجة،
أشياء النور
تنفذ عبر اللحم حيث لا لحم يكسو العظم.
شمعة في الحقوين
تدفئ الشباب وبذرته وتحرق بذور الكهولة:
حيث لا بذرة تثار،
تتفتح ثمرة الإنسان وسط النجوم
كثمرة تين متألقة
حيث لا جسد ينمو، تبرز الشمعة شعرها.

الفجر يبزغ خلف العيون:
من قطبي الجمجمة وأخمص القدمين ينساب
الدم العاصف كالبحر:
بلا سياج، بلا أوتاد، تنبجس آبار
السماء إلي العمود
كاشفة في بسمة زيت الدموع.

الليل يدور في المآقي
كقمر مظلم، حد الأرضين:
النهار يضيء العظم
حيث لا يوجد برد، تخلع العواصف الهزيلة
عباءاتها الشتوية،
غشاء الربيع معلق من الجفون..

النور يبزغ علي الأنصبة السرية،
علي رؤوس الفكر حيث تفوح رائحة الأفكار في المطر،
حين يموت المنطق
ينمو سر التراب خلال العيون
ويقفز الدم في الشمس
ويترنح الفجر فوق الحصص البائدة.

هذا الرغيف الذي أكسر

هذا الرغيف الذي أكسر كان يوما قمحا
هذه الخمر كانت مغمورة في ثمرتها
علي شجرة غريبة:
الإنسان في النهار أو الرياح في الليل
أسقطا سنابل القمح، أفسدا متعة الكروم.

مرة في هذه الخمر كان دم الصيف
يسري في اللحم الذي زّيْن الكروم
مرة في هذا الخبز
كان القمح سعيدا في الريح:
سحق الإنسان الشمس وهدم الريح.
هذا اللحم الذي تكسر، هذا الدم الذي تريق
مورثا العروق الآسي
ما كانا سوي قمح وكروم
ولدا من جذر الجسد وعصارته
هي خمري التي تحتسيها، هي خبزي الذي تقضمه.
عندما تري كل حواسي
الخمس الريفية
عندما تري كل حواسي الخمس الريفية
ستنسي الأصابع إبهامات خضراء
وخلال عين الهلال النباتية،
وقشور النجوم الصغيرة ودائرة بروج قبضة اليد،
سوف تلحظ كيف تقشٌّر الحب ويراه الشتاء في الصقيع،
الآذان الهامسة سوف ترقب الحب وقد قرع طبول
نسيم خامد وقوقعة إلي شاطئ صاخب.
واللسان الفهدي يبكي مربوطا بالمقاطع
لأن جراحه الأثيرة ضمدت بمرارة.
أنفي تري أنفاسها تحترق كدغل.
قلبي الوحيد والنبيل لديه شهود
في كل بلاد الحب يتلمسون طريقهم يقظين
وحين يلم النعاس الضرير بالحواس المستطلعة
فالقلب إحساسي برغم غروب عيون خمس.

بعد الجنازة

في ذكري آن جونز

بعد الجنازة، تسابيح البغال، نهيقها،
ألعوبة الرياح آذانها شكل الشراع، نعال مكتومة الحافر
تدق سعيدة للقدم في قدم القبر الغليظة،
إرخاء الستار علي الجفون، الأسنان المكللة بالسواد،
العيون الباصقة، البرك الملحية في الأكمام،
ضربة الصباح للجاروف موقظة النوم،
تهز صبيا متوحدا يقطع رقبته
في ظلمة التابوت وينزف أوراق شجيرات جافة،
تدفع عظمة وحيدة إلي الإشراق في ثوب الدينونة،
بعد عيد الزمان المحشو بالدموع والنباتات الشائكة
في غرفة بها ثعلب محشو وسرخس بالي
أقف أنا، لأجل هذه الذكري، وحيدا
في الساعات العويلة مع الراحلة آن الحدباء
والتي سقط مرة قلبها المحجب الينبوعي في برك موحلة
حول عوالم ويلز الظامئة وأغرق كل شمس
(رغم أن هذه الصورة تبدو لها شائهة مبالغ فيها
مبالغة عمياء في سبيل الثناء، فإن موتها كان سقوطا هادئا
فلم تكن تريدني أن أغرق في الفيضان المقدس
لشهرة قلبها، ولسوف ترقد صامتة وخفيضة
في غير حاجة إلي أي كاهن من جسدها المحطم).
لكني أنا، شاعر آن فوق صرح مقام،
أدعو كل البحار للصلاة إلي أن يسمع خرير فضائلها
خشبية اللسان مثل عوامة ذات أجراس فوق الرؤوس المرتلة،
أحني جدران الغابات السرخسية والثعلبية
حتى يغني حبها ويتمايل عبر كنيسة سمراء،
أبارك روحها المنحنية بطيور أربع كهيئة الصليب.
كان جسدها خانعا كالحليب.. لكن هذا النصب الصاعد
إلي السماء بصدره الجامح وجمجمته العملاقة المباركة
قد نجحِتّ منها في غرفة رطبة النافذة
في منزل شديد العويل في سنة عوجاء.
أعرف أن يديها الناصعة المتجهمة خاشعة
تقعي موثقة في رهبانية، أن ملابسها الرثة
تهمس بكلمة واهنة، أن فطنتها حرثت خواء،
أن قبضة وجهها علي ألم مستدير ماتت مسّمٌّرة.
سبعون عاما من الحجر هو عمر تمثال آن المنحوت،
تلك الأيادي المرمرية المغموسة بالغمام،
هذا الجدل التذكاري للصوت وللإيماء وللترنيم المنحوت
يعصف بي أبدا فوق قبرها
حتى تنتفض الرئة المحشوة للثعلب صارخة للحب
ويضع السرخس المتخايل بذوره علي العتبة الداكنة.

أربع وعشرون سنة

أربع وعشرون سنة تذكٌر الدموع بعيني
(ادفنوا الموتى خشية أن يسيروا إلي القبر مجهدين)
في حنايا المدخل الطبيعي أقعيت كخائط
أخيط كفنا لرحلة
في ضوء الشمس آكلة اللحوم.
وإذ تسربلت للموت، بدأ اختيال الحس،
وعروقي الحمراء متخمة بالنقود،
في الاتجاه النهائي للبلدة الأولية
أتقدم دوما مادام الأبد.

قصيدة في أكتوبر

كان عامي الثلاثون محلقا إلي السماء
صحوت علي سماعي من الميناء والغابة المجاورة
من المحار في البرك ومن الشاطئ الذي
قدسه مالك الحزين
الصباح يومئ
مع ابتهالات المياه ودعاء النوارس والغربان
وارتطام القوارب الشراعية بالجدار المنسوج كشبكة
لذاتي أن تنشر خطاها
تلك اللحظة
في البلدة الهاجعة ما تزال وتقلع

بدأ يوم ميلادي بطيور الماء
وطيور الأشجار المجنحة تحلق باسمي
فرق المزارع والخيول البيضاء
ونهضت
في خريف ماطر
وسرت خارجا في وابل من كل أيامي
كان المد عاليا ومالكا يغوص
وأنا أتخذ طريقي عبر التخوم
وكانت بوابات البلدة تغلق
بينما البلدة تصحو.
ربيع مليء بالقبرات في سحابة متدحرجة.
وأحراش جانبي الطريق مترعة بالشحارير الصادحة
وشمس أكتوبر

صيفية

علي كاهل التل؟
كانت هنا أجواء أغرمت بها و مغنون عِذّاب
يحلون فجأة في الصباح حيث كنت أهيم
وأنصت للأمطار وهي تعصر الغمام
الريح تهب باردة
في الغابة شديدة الابتعاد تحتي.

مطر شاحب فوق الميناء المتضائل
وفوق كنيسة بللها البحر حجم قوقعة
تبدت قرونها وسط الرذاذ وقلعتها
سمراء كطيور البوم
لكن كل حدائق الربيع والصيف
كانت يانعة في الحكايات الأسطورية
وراء التخوم وتحت السحابة المليئة بالقبرات
بعيدا هنالك كان ليوم ميلادي
أن يدهشني بعجائبه
لكن الطقس تقلب..
استدارت بعيدا عن الريف السعيد
وعبر أجواء أخري وسماء تتحول للزرقة
تدفقت أعجوبة صيف جديدة
تصحبها أشجار التفاح
والكمثري والكوم الأحمر
وفي وضوح شديد رأيت عند المنحني
صباحات منسية لطفل كان يسير برفقة أمه
عبر أمثولات
ضوء الشمس
ومعجزات الكنائس الخضراء،

وعبر حقول الطفولة المحكية مرتين
حتي أحسست بدموعه تحرق وجنتي وبقلبه ينتفض بداخلي.
تلك كانت الغابات والنهر والبحر
حيث همس صبي
في صيف الموتي المتصنت
بحقيقة فرحة
للأشجار والأحجار والأسماك في المياه..
وظلت الأحجية
تغرد في حيوية
عبر المياه والطيور الصادحة.

بعيدا هنالك كان ليوم ميلادي أن يدهشني
بعجائبه لكن الطقس تقلب.
والفرحة الصادقة للطفل الذي مات منذ زمان بعيد
كان عامي الثلاثون
إلي السماء محلقا
وقفت هناك ساعتها في ظهيرة الصيف
رغم أن البلدة تحتي استلقت تحفها أوراق أكتوبر الدامية.
آه عسي أن يظل صدق قلبي أنشودة
علي هذا التل العالي في منعطف عام.

طقس بعد غارة جوية

1

أّنْفسي
أيها الحزاني
احزنوا
فوسط الشوارع احترقت حتي الموت الذي لا يتعجب
طفلة عمرها ساعات قليلة
وفمها الضاغط
تفحم علي الثدي الأسود للقبر
الذي حفرته الأم، وأحضانه ملأي بالنيران.

ابدأوا
بالغناء
غنوا
الظلمات اشتعلت عائدة إلي البداية
عندما أومأ اللسان المعقود في عماء،
تحطم نجم
داخل مئات أعوام الطفلة
إحزنوا الآن أّنّفسْي، فالمعجزات لا تستطيع أن تعوضنا.

اغفروا
لنا اغفروا
امنحوا
لنا موتكم ليتسنى لأّنفسي المؤمنة
أن تقبض عليه في فيضْان عظيم
حتي ينبجس الدم
ويشدو الرماد مثل طائر
بينما تتطاير الحبوب، بينما يكبر موتك، في حنايا قلبنا.

باكية
موتك
أبك
ياطفلتي خلف الديك الصائح، بجوار الشارع الذي قزمته النيران نحن نشدو والبحر الطائر
في الجسد المجرد.
الحب هو الضوء الأخير المنطوق. آه من
بذرة الأبناء المتروكة في حقو القشرة السوداء.

2

لاأدري أيٌ منهم
آدم أم حواء، الثور المقدس المؤدان
أم النعجة البيضاء الصغيرة
أّم العذراء المصطفاة
تفترش ثلوجها
علي مذبح لندن؟
لا أدري أيٌ منهم مات أولا
في فحم الجمجمة الصغيرة،
آه.. العريس والعروس
آه.. آدم وحواء معا
مستلقين في الهدأة
تحت الصدد الحزين لشاهد قبر
أبيض مثل هيكل
جنات عدن.
أعرف أن أسطورة
آدم وحواء مالها أن تصمت لثانية
واحدة في صلاتي
علي هؤلاء الموتي الصغار
علي تلك الصغيرة
التي كانت الكاهن وخدمه،
الكلمة والمرنمين واللسان
في فحم الجمجمة الصغيرة
التي كانت سدول ليل
الحية وتفاحة تشبه الشمس،
رجل وامرأة ما اكتملا
بداية تحطمت عائدة إلي الظلام
مجردة مثل حضانات
جنة البرية.

3

داخل أنابيب الأرغن والأبراج المستدقة للكاتدرائيات المنيرة،
داخل الأفواه الذائبة لديك الطقس
يتموج في دوائر الرياح الإثنتي عشرة،
داخل الساعة الميتة تحرق الوقت
فوق آنية أيام السبت
فوق أخدود الفجر الدائر
فوق خيمة الشمس وحارة اللهيب
والأرصفة الذهبية الممدودة في الترانيم
داخل مراجل التماثيل
داخل الخبز في حقل قمح من لهب
داخل النبيذ المحترق كالبراندي،
حشود البحر
حشود البحر تحتنا
حشود البحر جالبة الأطفال
تثور براكينها، تفور، وتدخل لتردد إلي الأبد
المجد المجد المجد
لمملكة رعد التكوين القصوى المشطورة.

فوق تل السير جون

فوق تل السير جون
مازال الصقر الناري معلقا.
فوق خيمة مرفوعة، عند هبوط الغسق،
يسحب لمخلبيه ومشنقته،
فوق أشعة عينيه، صغار طيور الخليج
وعراك العصافير الطفولي الصاخب
وأولئك الذين يشدون شدوهم الأخير، غسقا،
في سياج شجر متشاحن، وفي مرح يتصايحون
إلي منصة الشنق النارية فوق تشابك الدردار
حتي يهوي الصقر بحبله الشانق كالومض
ومالك الحزين بخطوه القدسي الشامخ يتصيد
أسفل نهر الطاوي و في بطء يحني شاهد ضريحه المائل.

كالومض، والريشات تتقصف
وتل السير جون العادل يرتدي قبعة
من غربان سود، والطيور المخدوعة
تهرول ثانية نحو الصقر الناري،
بارتفاع حبل المشنقة، فوق زعانف
نهر الطاوي، في دويٌ من الريح.
هنالك، حيث الطائر الصياد الحزين يطعن ويجدف
في الماء الضحل والبردي المليء بالحصى والأسماك
يصيح الصقر العالي 'ياللروعة ياللروعة،
تعالوا إلي حتفكم'.
افتح صفحات الماء علي فقرة من مزامير وظلال
بين سرطانات الرمل الواثبة ذات الكّلاٌبات.
وفي صّدّفّة أقرأ الموت واضحا كجرس الطافية
المجد كله للصقر الناري في الغسق الصقريٌ العين
عندما يتدلي فتيله الأفعواني
منعقدا باللهيب تحت جناح من جمر
وبوركت الفراخ الفتية الخضراء في الخليج والآجام،
في صياحها' ياللروعة ياللروعة!
هلموا دعونا نلاق حتفنا'.
يملؤنا الشجن علي الطيور المرحة
وهي تغادر بلا رجعة الدردار والحصى،
مالك الحزين وأنا،
أنا يعسوب الفتي أروي الخرافات حتي ساعات
الليل الأولي بجوار وادي الأنقليس الظليل،

والقديس مالك يرتل في وهدة الميناء البللوري البعيد
المرصع بالأصداف حيث حصى البحر يقلع،
وموانئ المياه حيث ترقص الجدران
وتسير الكراكي البيضاء علي سيقان كالعصي.
إنه مالك الحزين وأنا، تحت تل السير جون القاضي
والحاف بأشجار الدردار
نحّدث عن ذنب الطيور الضالة المشيع بالنواقيس
ليرحمها الله لأجل صدورها المغردة
وليحفظها الله في صمت زوبعته
هو من يمنح العصافير تحاياها
من أجل غناء أرواحها.
علي الحافة المعشوشبة الآن يأسي مالك الحزين.
أري مالكا من خلال نوافذ الغسق والماء يميل
ويهمس عاكسا صورته ذاهبا للصيد في مجري نهر الطاوي
بينما يغمر الثلج ريشه المنكوش
لا شيء سوي نعيب بومة مكتوم
ورقة عشب تحملها الريح إلي كفين مكورتين،
في الأشجار السليبة،
ومامن صوت يسمع الآن لصياح الديكة الخضر أو الدجاج
فوق تل السير جون.
في أرض الأمواج الضحلة الحرشفية كاحلاه
ينظم مالك الحزين كل الأنغام.
وأنا من يسمع لحن النهر المتهادي لابسا ثوب الحداد
أنقش قبل ولوج الليل تلك النغمات
فوق هذه الصخرة التي يؤرجحها الزمن
إكراما لأرواح الطيور الذبيحة المقلعة.

لا تمض بيسر
في هذا الليل الآسر

لا تمضي بيسر في هذا الليل الآسر
فالعمر الطاعن يجب أن يشتعل ويصخب عند انتهاء النهار
فثر.. ثر.. لانحسار الضياء.

الحكماء قرب النهاية يعرفون أن الظلام حق
لأن كلماتهم لم تثر البروق لكنهم
لا يمضون بيسر في هذا الليل الآسر.

الأخيار إذ تغمرهم الموجة الأخيرة يأسون علي البهاء
الذي كان لأعمالهم الواهية أن ترقص به في خليج أخضر
يثورون.. يثورون لانحسار الضياء.

الجامحون الذين أمسكوا بالشمس وشّدّوْا لها في انطلاقها
وعرفو أخيرا أنهم أحزنوها علي دربها
لا يمضون بيسر في هذا الليل الآسر.

العقلاء الذين يرون قرب الموت ببصائر غاشية
أن عيونا عمياء يمكن أن تلمع كالشهب وأن تمرح، هؤلاء
يثورون .. يثورون لانحسار الضياء.

وأنت.. يا أبي.. هناك فوق القمة الحزينة
العّنٌِي.. باركني.. الآن بدموعك الملتهبة.. أتوسل،
لا تمض بيسر في هذا الليل الآسر.
ثر.. ثر.. لخمود الضوء الغامر.

أخبار الأدب - البستان
الأحد 31 أغسطس 2003