(خوان جيلمان)

قتلت فرق الموت الأرجنتينية ابنه وخطفت حفيدته..
(تضحية) جيلمان الشعرية هي أيضاً قربان حياته

اسكندر حبش
(لبنان)

خوان جلمانكأنه عاش حيوات كثيرة. هذه هي حال الشاعر الأرجنتيني خوان جيلمان، مواليد العام 1930 في بوينس أيرس. هناك بالتأكيد حياة الشعر التي جعلته اليوم أحد أبرز الوجوه الأدبية في أميركا الجنوبية، وما يشهد على ذلك أيضا نصوصه التي نقلت إلى عشرات اللغات في العالم. أضف إلى ذلك، الشعبية التي يتمتع بها، والتي ساهم فيها أيضا الموسيقي خوان سيدرون، الذي وضع الألحان للعديد من نصوصه. هناك أيضا حياة المنفى، إذ في العام 1976، وبينما كانت الأرجنتين تدخل في نفق الحكم الدكتاتوري العسكري، وجد الشاعر نفسه مجبرا على مغادرة بلاده نظرا لارتباطاته النضالية ليعيش فترة في باريس ومن ثم في روما قبل أن يستقر نهائيا في المكسيك حيث لا يزال يقيم حتى اليوم.
هناك أيضا حياة البحث عن حفيده، وهي الفترة الشاقة التي قضى فيها قرابة الربع قرن من البحث العسير عن (وهم) قبل ان يتحول إلى حقيقة، لتعيد طرح السؤال الكبير في أميركا الجنوبية حول تلك الفترة السوداء التي عرفتها إبان الحكم العسكري. القضية؟
في العام 1976 وبعد مجيء الجنرالات إلى سدة السلطة، نفذ الجنود عملية اغتيال بحق ابن الشاعر وزوجته الحامل في شهرها الثامن انتقاما من جيلمان نظرا لدفاعه المستمر عن الثوار ومساعدته لهم. بيد انه بعد فترة وجيزة، عرف ان زوجة ابنه لم تقتل في الحال، بل أخذت إلى مستشفى عسكري، مجهول المكان، خارج الأرجنتين، حيث وضعت طفلها قبل أن تقتل في ما بعد. كان ذلك في نهاية السبعينيات، ليدخل الشاعر، من منفاه، في عملية بحث مضن. في العام 1988، وبعد سقوط الحكم العسكري وكان ذلك عقب (حرب المالوين) في العام 1982 استطاع أن يعود إلى الأرجنتين في زيارة أولى، ليكتشف فعلا ان زوجة ابنه وضعت في مستشفى عسكري في الأوروغواي. شيئا فشيئا بدأت تتكون خيوط وتفاصيل الحادثة، ولتبدأ معها حملة عالمية اشترك فيها العديد من كتاب العالم، طالبوا فيها، ليس فقط الكشف عن حقيقة قصة غيلمان، بل أيضا عن مصير الآلاف من (مجهولي المصير) الذين اختفوا في حروب أميركا اللاتينية.

هذه القصة لم يكتب لها الخاتمة إلا في العام 2001، حين وجد الشاعر حفيدته، التي تبناها شرطي من الأوروغواي، الذي كان توفي لتوه، ولتعترف زوجة الشرطي، لابنتها بالتبني، بالحقيقة أي أنها كانت ابنة امرأة من الأرجنتين قتلت بعد أن أنجبتها. تتطابق القصتان وينجح الشاعر في الوصول إلى (الحقيقة) التي بحث عنها مطولا.
سيرة تراجيدية بلا شك. ومن هذه المآسي المتكررة، ينبع قسم من شعر جيلمان الذي جمعه في كتاب هي قصائد المنفى وقدم له الروائي الأرجنتيني خوليو كورتاثار قبل موته، ليصدر العام 1994 عن منشورات( فيزور) في مدريد.

يعد خوان جيلمان اليوم، أحد الأصوات الشعرية المتفردة في أميركا الجنوبية، حاز العديد من الجوائز الأدبية، كان آخرها جائزة (خوان رولفو) العام 2000. مؤخرا أصدرت له منشورات (في) في اللكسمبورغ، ضمن سلسلتها الشعرية (غرافيتي)، ترجمة لبعض أشعاره حملت عنوان (رواتب الكافر)، وهي مجموعة تقع عمليا في ثلاثة (فصول). الأول بعنوان (رواتب الكافر) ويتضمن قصائد كتبت في باريس وجنيف ومكسيكو ونيويورك ما بين عامي 1984 و1992. أما القسم الثاني فبعنوان (ديباكسو)، في حين يحمل القسم الأخير عنوان (بطريقة ناقصة) ويتضمن قصائد كتبت في المكسيك بين عامي 1993و1995.

القصائد المختارة والمترجمة هنا، هي من الجزء الثاني من الكتاب (ديباكسو)، ويقول الشاعر في تقديمه لها، إنها قصائد كتبت ما بين 1983 و1985 وتشكل امتدادا وتكملة لكتابي (استشهادات) و(تعليقات) اللذين كتبا في أوج مرحلة المنفى في عامي 1978 و1979، وقد حاول فيها أن يتحاور مع اللغة الأسبانية العائدة للقرن السادس عشر (كما لو أن البحث عن جوهر هذه اللغة الأسبانية كان هاجسي. كما لو أن وحدة المنفى المطلقة كانت تدفعني للبحث عن جذوري في اللغة...).

يصف شاعر اللوكسمبورغ جان بورتانت وهو الذي نقل قصائد جيلمان إلى الفرنسية بالقول: (حين لا يكون الصمت والامحاء موجودين فقط في الفضاءات البيضاء حول الكلمات وبينها، حين يستوليان على كل شيء، بما فيه على نفسيهما، تأتي الكلمات التي تقول ذلك، بدورها، لتنقض ما لا يخرج لا من الجسد ولا من القلب، بل من روح بعيدة، تائهة في تعرجات اللغات، ولترمي كل كلمة نفسها في الأخرى. كما لو أن التضحية بحدودها كانت تضحية متخيلة. إنها تضحية في حدود الآلام الموجودة، بالرؤى التي تكلسها الأضواء أو العتمة. إنها عودة دائمة في هذه الدائرة الحلزونية التي تذهب من (الأنا) إلى (الأنت) الغائب في معظم الأحيان، كما لو أنه وقع في فخاخ التاريخ...).

(1)

/ سيئتجافة شفتي/ أقصد: ارتجافة قبلاتي تمتد في ماضيك معي، في خمرك/ فاتحا باب الوقت/ حلمك يسقط من المطر النائم/ أعطني مطرك/ أتوقف/ ثابتا في مطرك الحلمي/ بعيدا في التفكير/ بلا خوف/ بلا نسيان/ في منزل الزمن يوجد الماضي/ تحت قدمك/ التي ترقص/

(2)

أين مفتاح قلبك؟/ سيئ هو العصفور الذي يمّر/ لي، لم يسر بأي شيء/ تركني مرتجفا/ أين قلبك الآن؟ / ماذا الهلع ترقص/ لم يعد لديّ سوى عينين جائعتين وجرّة بلا مياه/ تحت النشيد هناك الصوت/ تحت الصوت هناك الورقة التي تركتها الشجرة تسقط من فمي/

(3)

الصباح يجعل العصافير تلمع/ مفتوح / شاب / نشربه معا مع هلع التفكير / حب هادئ:
لتدفئ الماضي/ قل قبل وستستيقظ القبلات/ سنسقط قرب الشمس / أذكر تنانيرك الحمراء / ورودك الحمراء / قبلاتك الحمراء / قلبك الأبيض /

(4)

انحني / ان أردت/ انظري / ان أردت / العصفور الذي يطير في صوتي / رقيق جدا / عبر العصفور يمر درب يقود إلى عينيك / انتظري يدك / ثمة عشب هنا حيث لم تعودي/ كل شيء ينام / العصفور / الصوت / الدرب / العشب الذي أتى غدا /

(5)

كم عيناك جميلتان / وأجمل منهما نظرتيهما / وأجمل من ذلك مرآهما حين تنظرين إلى البعيد / في الجو أبحث عن:
مصباح دمك/ دم ظلك / ظلك على قلبي /

(6)

أوراق حمراء وخضراء / أوراق جافة / أوراق ندية / تسقط من صوتك / نائمة / تنام تحت الشمس / تحتك / أنظري كم انها تنتظر ان يطفئها الرعب / تسمع الشمس سقوط أوراقك / التي ترتجف في الليل الذي يشعل الغابة /

(7)

الحر الذي يدمر التفكير يدمر نفسه وهو يفكر / يرتجف النور في قبلاتك / و يوقف الدرب / يوقف الزمن / بعيدا / افتحي القبلات / اتركي عشبا في القلب المحروق / استيقظ المطر من عصفور ينتظر البحر في البحر /

(8)

في الصباح المفتوح ببطء تمر عبر عينيك البهائم التي أحرقتك داخل الحلم / ما من مرة قالت شيئا / تترك عندي رمادا / تتركني وحيدا مع الشمس /

(9)

قدمك تسير ليلا / خفيفة/ تفتح المطر / تفتح النهار / لا يعرف الموت عنك شيئا / عشب أسفل قدمك وظل يكتب البحر /

(10)

تقولين كلمات مع الشجر / لها أوراق تغني وعصافير تكدس الشمس / صمتك يوقظ صرخات العالم /

(11)

ذاهبا من ناحيتك أكتشف العالم الجديد من جهتك / جزرك مثل مصابيح قاتمة/ تجيء/ وتأتي / في الزمن / في صوتك يسقط البحر متوجعا مني /

(12)

ما أعطيتني إياه كلمة ترتجف في يد الزمن المفتوحة كي تشرب / يسكت المنزل حيث قبلنا بعضنا داخل الشمس /

(13)

أنت كلمتي الوحيدة لا أعرف اسمك /

(14)

ما تقولينه يسقطه عصفور لأكون عشا / يسقط العصفور داخلي / أنظري ما يفعله بي /

(15)

صوتك قاتم بالقبلات التي لم نتبادلها / بالقبلات التي لم تبادليني إياها / الليل غبار هذا المنفى / قبلاتك تعلّق أقمارا تجمد دربي / وأرتجف تحت الشمس /

(16)

حين أموت سأستمر بسماع ارتجافة فستانك في الريح / أحدهم قرأ هذه الأبيات سأل: (كيف ذلك؟ / أيستسمع؟ أي ارتجافة؟ / أي فستان؟ / أي ريح؟) قلت له أن يصمت / أن يجلس إلى طاولتي / أن يشرب نبيذي / أن يكتب هذه الأبيات: حين أموت سأستمر بسماع ارتجافة فستانك في الريح /)

(17)

هواء شخصين منفصلين / هواء قبلات لم نتبادلها / يطوي قمح بطنك / هذه الزنابق البيضاء والشمس / تعالي / أو لن أرغب في أن أولد / احملي مياهك المضيئة / وستزهر الأغصان / انظري إلى هذا: أنا طفل محطم / أرتجف في الليل الذي يسقط مني /

(18)

كل من ينادي الأرض هو وقت / هو انتظار منك /

(19)

يا حبي الناعم لا ترحلي عن هنا / عن حبة رملي / عن هذه الدقيقة / عندما نكون معا تسقط النار على حطام الشمس

(20)

ليس عندك باب / مفتاح / ليس عندك قفل / تسرقين الليل / تسرقين النهار / تخترع المحبوبة من يحبها / مثلك / مفتاح / يرتجف في باب الزمن /

(21)

سمعت صوتك في نافذتي / لا تفضي نافذتي على صوتك / بالكاد تطل على العالم / كيف جاء صوتك؟ / متحدانليء بالثلج يأكل قمحا في همهمة الشمس /

(22)

في الليل يوقف بطنك كواكب / يتنفس مثل الأرض / بطنك أرض / في قمح بطنك تطير عصافير تغني في الآتي /

(23)

في طهارتك يخرج من العالم عالم / هذه السعادة عمياء / تهرسني كثور /

(24)

أن أحبك يعني: كلمة لم تقل بعد / شجرة بلا أوراق تعطي ظلالا /

(25)

مطرك يسقط قطع زمن / قطعا من اللانهائي/قطعا منّا/لهذا السبب نحن بدون منزل بدون ذاكرة؟/

(26)

الرغبة تفكير؟ كأجساد في الشمس؟ (/ أنارغبة حيوان ترتدي النار / لها ساقان طويلتان تصلان إلى النسيان / الآن أظن أن عصفورا صغيرا في صوتك يجر البيت من الخريف /

(27

ناظرا إلى شجرة التفاح رأيت حبي / كبر لا تسألوا لماذا / لا تقولوا شيئا/ شجرة التفاح مثل كواكب تشتعل /

(28)

ما هو اسمك؟/ أنا أعمى جالس في فناء رغبتي / أتسول الوقت / أضحك من الحزن أبكي من الفرح أي كلمة ستلفظينها؟/ أي اسم سيسميك؟ /

(29)

لم تمت عصافير
قبلاتنا /
ماتت القبل /
تطير العصافير في النسيان الأخضر /
سأضع خوفي بعيدا /
تحت الماضي /
الذي يحرق
والذي يصمت كالشمس /

جريدة؛ السفير-
2003/02/14


خوان جلمان
(الأرجنتين)
خوان جلمان

ترجمة وإعداد
يعقوب المحرقي

الشاعر / القصائد / الرسائل

 

الشاعر

" حتى بمحيط من المياه لن تغسل بقعة واحدة من دم الفكر " *

عبر الزمن تدوي صرخة لوتريامون، كم من دماء سالت، وكم من محيط لونته جثث الضحايا
نحن في 1976 شاعر يهرب من أحذية العسكر وسجونهم باحثا عن ظل شجرة يكمل فيها قصيدته الأخيرة. ففي ذات العام اقتيد ابن الشاعر الشاب وزوجته الحامل إلى معسكر الموت " اوتو مونيروس اورلتي ".

خوان جلمان
(طفولة الشاعر)


وفي برميل اسمنت في بلد غريب ـ الاورغواي ـ وجدت جثته، ثقب غائر في الرقبة.
الزوجة الحامل اختفت. مرت سنوات قبل ان يعلم الشاعر باغتيالها. إما مولودها الذي خرج من ظلام إلى آخر فسيصبح وعلى امتداد سنوات قضية الشاعر الأولى، وسينظم إليه مئات الكتاب عبر العالم، كما سينظم هو إلى أهالي عشرات اللآلاف من ( المفقودين ) حيث تجاوز عدد الأطفال فقط الأربعمائة خلال السنوات السوداء ( 1976 ـ 1983 ) التي شهدتها الأرجنتين بعدالتها المجروحة والتي يقول عنها الكاتب ادواردو غاليانو بان نسبها إلى العسكر كنسب الموسيقى العسكرية للموسيقى.
كرس الشاعر أربعا وعشرين سنة من حياته في البحث وبين أروقة المحاكم. وانكشف الجزء الخفي من الحقيقة، وتم لقاء الشاعر بحفيدته البالغة الرابعة والعشرين عاما.
عن هذا الشاعر الذي يعد من الأصوات المعاصرة الأكثر حضورا بين شعراء أمريكا اللاتينية أردنا هذا الملف لأنه كما يقول ادواردو غاليانو: صوت يغني، يدفع الآخرين إلى الغناء، يروي النضالات والكرامة، يمنح إيمانا بان الربيع يأتي من الشك. إحساس بالحرية عضدته جدران السجن، يحتفي بالحياة وهو واقف في فوضاها.
ولد الشاعر في بونيس آيرس سنة 1930. وهرب على اثر تهديدات الديكتاتورية العسكرية باغتياله في 1976. بقي في المنفى حتى 1989. يقيم حاليا في المكسيك.
ترجمت قصائده إلى العديد من اللغات. ولحن بعضها خوان سدرون.

 

القصائد:

كتب جلمان جل قصائده في المنفى بين 1970 و 1980، ويطغى عليها موضوع الرفقة ومنهم ابنه وزوجة ابنه اللذان اغتالتهما السلطة العسكرية الحاكمة.
شعرَ حيث يعود الضحايا لتقاسم البكاء مع من نادبيهم. شعر زمنه خارج الزمن، في فضاء حيث تلتقي الآلام وترقص، وحيث يتواعد المحزونون ومفقوديهم.
ليس من حيز هنا للمستقبل والماضي، فذلك محال. ليس سوى الحاضر بتواضعه الهائل الذي يطالب دوما بكل شيء ما عدى الكذب. (جون بيرجيه ـ لوموند دبلوماتيك ـ أغسطس 1998 )

 

حالة حصار

خوان جلمانأوامر، أحذية، قضبان
في الخارج الصباح في ديمومته
في الداخل الحب الكبير
ما يزال يتحرك، يفز واقفا
الأمل طفل غير شرعي، بريء
يوزع المنشورات، يدوس على الظل.

....

السارق

في الليلة الهادئة المعتمة
منفلتا من كل حضور، حضور بشري أو حيواني
مجتنبا الضجيج، سارقا بخفة
نار الكلام و كلام النار
له، للجميع، للحب الذي لن يعرفه بتاتا
والرماد البارد يعاقب يديه.

....

أوراق

مليئة بالإشارات وبالشجر
تعبر الليل كالنار أو كالنهر
تتسلق الصمت والذاكرة
لا تنتهي كالحدث
خلقها، سيرتها، أنا يقينها.

.....

قصائد من " الغامض المتفتح "

بالكلام ستعرفني

كل الانهيارات، الآلام، النسيان
الظل، الجسد، الذاكرة
السياسة، النار، شمس العصافير
الأقلام الأشد عنفا، الكواكب
التوبة قرب البحر
الوجوه، الهيجان، الحنان
أحيانا بالكاد ما يطل بصيصها
تنسى، تحرق، تهزأ، تلتمع
تسيس، تشمس، تبكي، تتوب وتلوذ بذاكرتها الأمواج
تنظر إلى وجوهها، تتموج، تفيض حنانا
تبحث عن ذاتها، تقوم حين تسقط
تموت كسائل و تولد كسائل
تتصادم، هي سبب للغموض
تتململ، يسيل لعابها، تأكل ذاتها، تتشرب
تمطر في داخلها وعلى النوافذ
ترى ذلها آتيا يجري بين أذرعهم
تنتهي بالارتماء في الكلام كالأموات
أو كالأحياء وهم يتحولون، تطرف أعينهم
إصرار في الصوت، مأخوذون بالصوت
يجولون العالم، إنسانيا لا ينتمون إلى أي كوكب، إلى البحار
كما التائبون، كالنسيان
جحيم آلام أو سياسات
ظل عتمة الجسد، عصافير هذا الوجه
الانهيار والذاكرة المتموجة.

.........

الرفقة الجميلة

غالبا ما يحدث ويعبث نسر كاسر بأحشائي، دون ان يلتهما، غالبا ما يحبها أو يمزقها، يمنح النهار لوجوهي النهائية. أنظُر إليها... يقول لي: أنظُر ما تأكل أيها الحيوان.. يقول لي النسر الجميل.

......

حيوان غامض

أتقاسم وحيوان غامض المنزل
ما أفعله نهارا يأكله ليلا
ما أفعله ليلا يأكله نهارا
شيء وحيد ينأى عن أكله: ذاكرتي
بإصرار يجس أدنى هفواتي ومخاوفي
لا أدعه ينام،
أنا حيوانه الغامض.
................

حب يخبو.. هل ينتهي ؟

أيبدأ ؟ يا له من خبر.
أما تزال الشيخوخة في انتظاره ؟
يا لها من بارقة، حب ـ ذاكرة ذاته ـ ينحني
طوعا على ذاته
ناهشا منها
آه. لعجوز سيمتص عنقه ؟ آه.. الطاعون
زار بلادي
هاجم أعضاءها
غريب كالريح

......

الأمريكان الجنوبيون

هل غادر عبر الريح
أم هو من حيل الحنجور الأخضر ؟
أغادر ايزيدور دوكاس دو لوتريامون *
عبر الريح أم كان:
من حيل الحنجور الأخضر
ايزيدور الحب الآخر
آكل الوجوه العفنة
الكآبات واليأس
الآلام البيضاء والغضب الحزين
مستنفرا شجاعته
مستبدلا البؤس
بوميض أو آخر

***

الأمريكي الجنوبي الرائع
بطحالب في فمه
من أين يجيء بهذا الألق ؟
وجدها في الوجوه العفنة
حزن، كآبات
آلام بيضاء وغضب حزين
تمس قلبه
تعفنه ـ كما يقال ـ
تسلمه لليأس والحزن
رأيناه كطائر صغير
في زاوية " كانيلون و بول ميش "
يسرح الحزن
كخطيبة نقية
تخبىء الاغتصابات
التي داهمت الحي

***

" آه.. أيتها الخطيبة الرقيقة " يخاطبها
مستندة على ذراعيه
المفتوحتين، وكبحر يخرج
من نظراته، فمه
قبضتيه وعنقه
" لنر.. كيف تموتين يا جميلتي "
يخاطبها
حين يحبها ـ في باريس ـ يجردها من سلاحها
كعيد ونار
بالأمس ما تني تدوي
في غرفة بحي " بواسونيير "
تنضح بالعرق الأمريكي

***

أيا.. دوكاس لوتريامون
أيها المونتي فيدي ايا... ايا
أو فيد اوو مونت... لموتك
كما لكرة ذهبية
سعيرا مستلا
الحزن ضُرب عنقه
الغضب خبى
ذهب عبر الريح ـ هذه المرة فقط ـ
حيث مات ايزيدور دوكاس
أو كمطر حب آخر
بلل "نوتر دام "
الكومونة المسلحة والحبيبة
بالجمال الطالع
من حنجوره الأخضر العفن

***


في السابع والستين وتسعمائة بعد الألف
في وادي الببغاوات الصغير
سمعنا طيرانه الوشيك
أو كما بدى يدوي
مواجها الغابة المثقوبة،
كآبات البلاد،
الأحزان المهولة،
وكان من سقط الآخر
لهذه المرة فقط
حيث كان دوكاس مستريحا
في مخيم الظلال.

لقد كانت أوروبا مهدا للرأسمالية. وغذي الطفل في المهد بالذهب والفضة من البيرو، المكسيك وبوليفيا. كان على الملايين من الأمريكان ان يموتوا ليسمن الطفل، الذي شب قويا، طوّر اللغات، الفنون، العلوم، أساليب الحب والحياة، وأبعادا أخرى لكينونة الإنسان.
من قال بان لا رائحة للثقافة ؟

تجولت في باريس و روما.. ما أبدعها من مدن. في شارع كورسو على البولمش فجأة اصطدت سمكة لقبيلة التينوس تمزقها كلاب اندلسية....
انك لا تشم أوروبا القديمة.

تشم الإنسانية ونظيرها، تلك القاتلة والأخرى القتيلة.
مضت قرون، وجمال ضحية الغزو ما يزال يتفسخ عفونة تحت عينيك.

من كتاب " رقة لا تَصدق " مختارات شعرية.

****************

الرسائل:

تؤرخ الرسائل التي كتبها الشاعر وتلك التي بعث بها الآخرون حقبة من عذاباته. وهي أيضا جزء من تاريخ البحث عن حقيقة تكالبت على إخفائها قوى كثيرة:

" رسالة مفتوحة إلى حفيدي "

كتبها الشاعر في 1995، جاهلا ان حفيده أو حفيدته قد ولد/ ولدت في الاورغواي.

خلال ستة اشهر ستبلغ التاسعة عشر من العمر. قد تكون ولدت ذات يوم من أكتوبر 1976 في احد مراكز الاعتقال.
بعد أو قبل مولدك وفي ذات الشهر اغتيل أباك برصاصة في رقبته وبمسافة تقل عن نصف متر. لقد كان اعزلا. وكان قتلته كوماندو من الجيش.
وربما يكون ذات الكوماندو الذي اختطفه وامك في 24 أغسطس في بيونس آيرس واقتادوهما إلى مركز الاعتقال.
محاصر أنا بأفكار متضاربة، فمن جهة أجد انه من المقزز ان تنادي بابيك عسكريا أو شرطيا قام باختطافك، أو صديقا لقتلة أبيك، ومن جهة أخرى ارغب في ان يكون في البيت الذي توجد فيه ـ ومهما يكن ـ قوم يحسنون تربيتك وتعليمك ويحيطونك بالحب. ولكنني رغم ذلك لم اكف عن التفكير بان هناك ثغرة أو خلل في هذا الحب. ليس لكون والديك اليوم بوالدين بايولوجيين ـ كما يقال ـ ولكن لان لديهم وعي محدد عن تاريخك وكيف سلبوا هذا التاريخ وزوروه. أتخيل أنهم كذبوا عليك كثيرا.
كنت منشغلا بحقيقة احتمالك لمعاناة جرحين، ما يشبه ضربة الفأس في نسيج ذاتك وهي في طور التكوين. ولكنك الآن ناضج وتستطيع إدراك من أنت، وتقرر تاليا ماذا ستصنع بما كنت.
الجدات هناك، بفصائل دمهن التي تستطيع علميا وبدقة تحديد اصل الأطفال المفقودين.
انك تبلغ الآن تقريبا عمر والديك عندما اغتيلا. وستكبرهما قريبا. ستكون أعمارهم في العشرين والى الأبد. لقد حلموا دائما بك وبعالم قابل لمعيشتك. أحببت محادثتك عنهم، وبان تحدثني عن نفسك. لأتعرف على ابني فيك. ولتتعرف على ما في من أبيك. فنحن الاثنان يتامى أبيك.
لإصلاح ـ وبطريقة ما ـ الانقطاع العنيف أو هذا الصمت الذي ارتكبته الديكتاتورية العسكرية ضد جسد عائلتي.. لأعطيك تاريخك، وليس لإبعادك عما لا تريد الابتعاد عنه، فأنت ناضج الآن كما قلت. ( خوان جلمان 12 ابريل 1995 )

***

مقطع من رسالة خوسيه ساراماغو إلى رئيس الاورغواي
صحيفة " الجمهورية " مونتفيديو 22/10/ 1999

انتمي إلى هذا العالم مثلما انتمي إلى القرية التي ولدت فيها. حائز على جائزة نوبل للآداب، ولكنني لا اكتب إليك بصفتي هذه.
ولست متأكدا بان سبب مخاطبتي لرئيس جمهورية الاورغواي هو كوني كاتبا.
أتمنى ان تقرأ رسالتي لأنها تحوي كلمات من رجل إلى رجل. من المؤكد أنني كاتب وحائز على جائزة نوبل. ولكن هذا يأتي في الدرجة الثانية. ولا أقول ذلك بتواضع، أقوله لأن مشاعر الإنسانية لا تستطيع المقاومة والبقاء إلا لدى بني البشر ( وللأسف ليس لديهم جميعا ) ان هذه المشاعر هو ما يقود هذه الكلمات.
هذا ما اطلبه، أنا الكاتب البرتغالي من الدكتور خوليو ماري سانغنيتي ( ساعد خوان جلمان، ساعد العدالة، ساعد الأموات، المعذبين والمحتجزين بمساعدة الأحياء الذين يبكونهم ويبحثون عنهم، ساعد نفسك بنفسك، ساعد ضميرك، ساعد الحفيد المفقود الذي ليس حفيدك، ولكنه قد يصبح )
ليس لدي شيء آخر أطلبك إياه، يا سيادة الرئيس، لأنني اطلب كل شيء.

من رسالة القائد ماركوس زعيم الشياباس ـ
المكسيك يناير 2000

قرأت رسالتك الموجهة لحكومة الاورغواي وردك على جوابهم في ( لاجورنادا). قرأتها وفهمت لماذا سقط هذا الجنرال الأرجنتيني. إنني متأكد بأنه لم يتخيل أبدا بان يواجه يوما ما شاعرا. وما هو أسوأ شاعر مغفل. لأنك شاعر ( حتى لو تنكرت في شخصية صحفي ) وأنت مغفل الآن لأنهم هكذا يدعون أولئك الذين يرفضون الاستسلام والخنوع.

* ايزيدور دوكاس كونت دو لوتريامون ( 1846 ـ 1870 ) شاعر فرنسي.
ـ ولد في مونتي فيدو ـ الاورغواي.
ـ 1859 ابتعث للدراسة في فرنسا.
ـ اختفي لمدة عامين منذ 1865
ـ من مؤلفاته: عطر الروح. أغاني مالدرور. شعر 1. شعر 2.


للإطلاع على المزيد من رسائل وعرائض المساندة التي تلقاها الشاعر نقترح الموقع التالي على شبكة الانترنت: http://prairial.free.fr/index.html