المحادثة تجعلنا أقرب كثيراً

الشاعر الأمريكي المعاصر روبرت بلاي

ترجمة وتقديم:  صبحي حديدي

يتفق دارسو الشعر الأمريكي المعاصر علي اعتبار روبرت بلاي (1923 Robert Bly- ) واحداً من أبرز روّاد حركة التجديد العميق والراديكالي التي طبعت معظم النتاج الشعري الأمريكي طيلة عقود القرن العشرين المنصرم. كذلك يتفق معظم النقّاد علي أنه بين أصفي الأصوات التي كتبت قصيدة النثر في الولايات المتحدة، وخرجت بها عن إسار الصيغة الفرنسية (برنار، بودلير، رامبو)، وصالحتها مع تراثات شعرية أخري، أمريكية (والت ويتمان، إدغار ألن بو) وأمريكية جنوبية (نيرودا، فاييخو) وأسبانية (لوركا)، وألمانية (ريلكه، تراكل).
جانب آخر في قوّة إنجاز بلاي الشعري كان حقيقة تأثّره العميق بأفكار الفيلسوف الألماني جاكوب بوهمه (القرن السابع عشر)، وإسباغه طابعاً فينومينولوجياً علي الموضوع الشعري وتقنيات بناء الصورة، رغم السطوة الواسعة التي حظيت بها المدرسة التصويرية كما قادها إزرا باوند، وعلي نقيض من شيوع مفهوم (الصورة العميقة) علي نطاق واسع في النصوص الشعرية الأمريكية، وربما الأنغلو ـ ساكسونية إجمالاً. وكان بوهمه قد ثار علي شيوع العقلانية والتجريبية المحسوسة في الفلسفة الألمانية، وركّز علي الإدراك الحدسي للعالم الروحي الداخلي، الأصدق والأغنى.

جانب ثالث، وهامّ بالمعني النظري، كان ثورة بلاي علي نظرية ت. س. إليوت في (المعادل الموضوعي). وفي مقالة شهيرة بعنوان (العالم الميت والعالم الحيّ)، ميّز بين نوعَين من الوعي الشعري: ذاك الذي يضيء (أخبار الذهن الإنساني)، وذاك الذي يضيء (أخبار الكون). والنوع الثاني يقتضي من الشاعر أن يتوغّل عميقاً في أغوار الدماغ لكي يعثر ــ ربما ــ علي (بعض الأخبار السيئة عن النفس، وبعض العذاب الذي تكفّل العقل الخطابي بوقاية الشاعر منه). غير أنّ علي الشاعر أن يذهب أبعد، وأن يتوغّل (في سطوح أعمق من مستوي الأنا، مدركاً في الآن ذاته مستويات أخري من أنا الآخرين).

جانب رابع هو الدور المباشر، العملي، الذي لعبه بلاي في تطوير التجارب الشعرية الأمريكية الشابة، وذلك من خلال مجلّته (الخمسينيات The Fiftie)، التي مارست نفوذاً أدبياً ونقدياً واسعاً، وتواصلت رسالتها في الأزمنة التالية حين تبدّل اسمها لكي يغطّي العقود اللاحقة: (الستينيات)، السبعينيات)، (الثمانينيات)، و(التسعينيات).

أصدر بلاي أكثر من 41 مجموعة شعرية، لعلّ أشهرها مجموعته المبكرة (الصمت في الحقول الثلجية)، 1962؛ و(مجد الصباح)، 1969، والتي ضمّت قصائده النثرية؛ و(هذه الشجرة ستمكث هنا ألف سنة)، .1985 كذلك كتب في النقد، والفلسفة، والسياسة (مناهضة الحرب الأمريكية في فييتنام بصفة خاصة)، وترجم العديد من الأعمال الشعرية الأوروبية والأمريكية الجنوبية والشرقية (مثل قصائد المتصوّف جلال الدين الرومي).

*****

مختارات

مباغَتٌ بالمساء

ثمة غبار مجهول قريب منّا،
أمواج تتكسّر علي شطآن أعلي التلال،
أشجار ملأى بطيور لم تقع أعيننا عليها من قبل،
شِباك مسحوبة بأسماك سوداء.

يأتي المساء، ونشخص بأبصارنا إلي الأعلى، فنراه
جاء من خَلَل شِباك النجوم،
من خَلَل أنسجة العشب،
سائراً بتؤدة على امتداد ملا جئ المياه.

لن ينقضي النهار، نقول لأنفسنا:
لدينا شَعْرٌ يبدو مولوداً من أجل ضياء النهار؛
ولكن، في نهاية المطاف، سوف تنهض مياه الليل الهادئة،
وسيمتدّ جِلْدُنا ببصره إلي البعيد البعيد، تماماً كما يفعل تحت المياه.

رجل يكتب إلى جزء من نفسه
أيّ كهف تقيمين فيه، مختبئة، رابضة تحت المطر؟
مثل زوجة، تتضوّر جوعاً، بلا أنيس،
الماء يتساقط من رأسك، منحنية
علي حنطة الأرض...

ترفعين وجهك إلى المطر
الذي يسوق الوادي ــ
عذراً، إنّ زوجك،
في شوارع مدينة نائية، يضحك
من كثرة مواعيده.
رغم أنه، ساعة الليل، يمضي بدوره
إلي غرفة عارية، غرفة صنعها الفقر،
فيرقد قرب إبريق عارٍ، وقرب حوض
في غرفة بلا تدفئة ــ

مَن بيننا هو الأسوأ حالاً؟
وكيف أنّ هذا الانفصال وقع؟

إلي ولدي نوح، في سنّ العاشرة
الليل يحلّ والنهار، ونهار يمضي بعد نهار،
وما هو عتيق يظلّ عتيقاً، وما هو فتيّ يظلّ فتياً، ويطعن في السنّ.
الركام القَطَني لا يستردّ شبابه، ولا الثخانة تفقد ظلمتها
لكنّ الشجرة العجوز تواصل الحياة،
والحظيرة تشخص واقفة سنين عديدة دون عَوْن؛
ولا يتيه المدافع عن الظلام والليل.

الفرس يخبّ ناهضاً، ويخطر علي قدم واحدة، يلتفّ بجسده،
والدجاجة تضرب المخالب في الجذور، جناحاها يتدفقان ويتمرّغان،
لكنّ البدائي ليس ذاك الذي يُطلق في الليل والظلام.
وبتؤدة يقترب الرجل الطيّب، تهدأ ثائرته، ويجلس إلي المائدة.

ولهذا فإنني لست فخوراً إلا بالأيام التي انقضت في عذوبة غير منشطرة
حين تجلس لترسم، أو تصنع الكتب من تيلة القطن، وتحمّلها رسائل إلي العالم،
أو تلوّن رجلاً تتصاعد النيران من رأسه.
أو نجلس إلي المائدة، والشاي القليل صُبّ بعناية.
ونقضي زماننا سويّة هكذا، في هدوء وحبور.

****

الناسك

الظلام يحلّ من خلال الظلام
يحلّ، قادما من إفريز
إلي إفريز.
ثمة رجل جسده تامّ متكامل.
إنه يقف، والعاصفة تقف خلفه،
ونصال العشب تتقافز وسط الرياح.
الظلام يتجمّع طيّات طيّات
عند قدميه.
إنه لا أحد. وحين نبصره،
نخلد إلي السكينة،
ونبحر في أنفاق موت بهيج.

*****

الحملقة في وجه

المحادثة تجعلنا أقرب كثيراً!
إنها تفتح
أمواج الجسد المتكسر،
تُدني السمك من الشمس،
وتصلّب العمود الفقري للبحر!

تجوّلتُ في وجه، طيلة ساعات،
عابراً النيران السوداء.
نهضتُ إلي جسد
لم يولد بعد،
حاضراً مثل ضياء يلتفّ حول الجسد،
ضياء في غمرته يتنقّل الجسد مثل قمر منزلق.

*****

قصيدة في ثلاثة أجزاء

I

أوه! في هذا الصباح الباكر أعتقد أنني سأعيش إلي الأبد!
أنا مغلّف باللحم السعيد،
كما العشب مغلّف بغمامات خُضرته.

II

ناهضاً من فراش، حيث حلمتُ
بغارات طويلة عبر القلاع والجَمْرات المتّقدة،
الشمس تقعي سعيدة علي ركبتيّ؛
لقد تعذّبتُ الليل كلّه، ونجوت
سبحت في الماء المظلم، مثل أيّ ورقة عشب.

III

الأوراق القويّة في شُجيرة البَقْس العتيقة،
تغوص في الرياح، وتدعونا إلي الغياب
في برّية الكون،
حيث سنجلس عند أقدام نبات ما،
ونعيش إلي الأبد، مثل الغبار.

****

استفاقة

ثمة، في الأوردة، أساطيل تمخر العباب،
إنفجارات صغيرة عند خطوط المياه،
ونوارس تلوّح في رياح الدم المالح.

إنه الصباح. نامت البلاد الشتاء كلّه،
جُلّلت مقاعد النوافذ بجلود الفراء، والباحة
غصّت بكلاب متحفّزة، وبأيدٍ مرتبكة تحمل الكتب الثقيلة.

الآن نستفيق، وننهض من الفراش، ونتناول الإفطار! ــ
جهات الجنوب تنهض من مرفأ الدم،
الغَبَش، الصواري الصاعدة، رنّة العُدّة الخشبية تحت ضياء الشمس.

الآن نغنّي، ونؤدّي رقصات صغيرة علي أرضية المطبخ.
جسدنا كلّه أشبه بمرفأ ساعة الفجر؛
ونعرف أنّ سادتنا غادرونا طيلة النهار.

****

القمر الأعلى والقمر الأسفل

الشمس تنحدر، والفضاء يعتم أكثر فأكثر، كلّ دقيقة. الليل يثخن، يجرّ الأرض صوبه.

وإذا كان جسدي هو الأرض، فما العمل بعدُ؟ ثم ها إنني هنا، أثخنُ كلما تقدّم الليل. والقمر يمكث في السماء. جزء منّي يظلّ في الأعلى هناك. كم المسافة حتى ذلك الجزء، هناك!

للأرض أشياء أرضية، أرضية التكوين، متّصلة. إنها تدنو من بعضها البعض، ملتمسة الدفء في وكر أوّل، في مِذْوَد؛ تحملها دفعة من الأذرع، ثُمّ كتلة من الصنوبر. البُوَيْمات تجالس بعضها في شجرة جوفاء. ولكننا انشطرنا.

يحلّ الليل... فماذا بعدُ؟ شمسي ستنحدر أسفل الأرض، وتسافر وهي تئزّ على امتداد درب الظلمة السفلي المحيطية. هنالك مئة من القدّيسين المنبطحين في استرخاء، يلقون نُتَف الظلام علي الدرب...

في منتصف الليل سأدلف إلي الداخل، وسأستلقي علي سريري، وسيتلاشى قمري بغتة. سوف يسافر وحيداً في أرجاء الأرض المعتمة، طيلة الليل، منزلقاً عبر الأذرع الممدودة إليه... وسوف أواصل هكذا، محملقاً...

النائم سوف يمضي نحو العتمة القصوى. مَن الذي سيرافقه؟ سوف يلتقي بسجين آخر
في برج محصّن، لعلّه الخبّاز...

* * *

أنتَ الذي لا تتذكّر

الشاعرة الأمريكية المعاصرة

لويز غلوك

صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

(كنت علي الدوام مرتاحة إلي المكوث بين أقصيَين) تقول الشاعرة الأمريكية لويز غلوك، دون أن تبدي كبير اكتراث بعمق أو ضحالة العلائق بين أقصي الموت وأقصي الحياة، الحبّ والألم، الوهم والحقيقة. ثمة في شعرها هذا التداول المزمن للتوتّر بين الأقصيَين، وأكثر قصائدها قوّة ــ وأبعدها أثراً وجدانياً ــ تلك التي يبلغ فيها التوتّر مبلغ الهبوط الأخير إلي قاع الحقائق البسيطة، المتجردة من تعقيدات المقيم والطارئ، المفزعة لأنها هكذا تحديداً.
لكنّ مهارة غلوك في ابتكار الصورة الصادمة والجاذبة في آن، وتحقيق نقلات وجدانية ذكيّة ومباغتة بدورها، وقَطْع السطر الشعري علي نحو تشكيلي مدروس إيقاعياً (في مستوي المفردة والصوت والمقطع النَبْري)، كلّ ذلك أتاح لها علي الدوام أن (تموّه) الثقل الفلسفي والميتافيزيقي الذي يكتنف موضوعاتها الأثيرة: الموت، الحرية، الصمت، الحبّ، الموسيقي، الطبيعة...

الشاعر عندها ليس ذاك الذي لا يملّ من اشتقاق الإيحاءات، والصور والاستعارات والكنايات، من مفردة/صفة مثل (قرمزيّ). إنه بالأحرى، وكما تكتب في مقالة بعنوان (تربية الشاعر)، ذاك الذي لا يملّ من تدوير المفردة البسيطة في عشرات التراكيب اللمّاحة، الوضّاءة، الضاجّة بالمعاني المتغايرة. وفي رأيها أنّ ما يهزّ الوجدان في صفحة شعر هو ذاك (السبيل الذي يجعل القصيدة تُحرِّر، عن طريق مَوْضَعة الكلمة، وحُسْن إدخالها في سياقات زمانية ومكانية، وإطلاق ذلك النطاق التامّ والمدهش الذي يتيح اصطراع معانيها).
وفي مشهد الشعر الأمريكي المعاصر تحتلّ لويز غلوك موقعاً أمامياً في صفّ المدافعين عن (القول الصامت)، أو المعني الذي لا يُقال أو لا يمكن أن يُقال (أشهر زملائها في هذا الصفّ جيمس ميريل، مارك ستراند، شارلز سيميك). وفي مقالة تتناول هذه المقولة تحديداً، تكتب لويز غلوك: (أنا منشدّة إلي المحذوف، إلي ما لا يُقال، إلي الإيحاء الذي لا ينطق، وإلي الصمت المتعمَّد البليغ. ويحدث غالباً أن أحلم بكتابة قصيدة صامتة، تماماً كما يحدث حين أحلم بمشاهدة ما لا يُري: قوّة الخرائب هذه التي تفوق قوّة العمران كلّه).
المدهش، مع ذلك، أنّ الأسطوري والصوفيّ عنصران لازمان في معظم قصائد غلوك، بل إننا نعثر عندها علي ما يشبه المرجعية النبوئية الدائمة، أو (الحامل الدَلْفي) كما يحلو للناقدة الأمريكية هيلين فندلر أن تقول في وصف إشراقات غلوك الروحية، هذه التي لا تري في معبد أبوللو ما هو أقلّ من مقام الإبهام والاستغلاق والمعني الملتبس. وهذا الطراز من اللجوء إلي الأَسْطَرة، الإغريقية بصفة خاصة، هو الذي يمكّن غلوك من رفد القصيدة بخطّ سردي خفيف موارب، يعتمد علي بعض عناصر الأسطورة (كما في مثال سيرسيه وبينيلوب)، لا لشيء إلا لكي يعيد تغليف تلك العناصر ذاتها بمزيد من الالتباس: أي، بمزيد من المعني المتجدد.

ولدت لويز غلوك في نيويورك سنة 3419، ودرست في جامعة كولومبيا، ثم تنقّلت ودرّست في أكثر من ولاية داخل أمريكا. مجموعتها الأولي (الوليد البكر) صدرت سنة 1968، وتبعتها ثماني مجموعات حتى الآن، بينها (بيت الأهوار)، انتصار آخيل)، (أرارات)، (السوسنة البرّية)، وهي المجموعة التي نالت جائزة بوليتزر، و(أرض المروج).

***

مختارات

رُسُل

ليس عليكَ سوي أن تنتظر، ولسوف يجدونكَ.
الإوزّ الذي يطير واطئاً فوق المستنقع،
الإوزّ اللامع في المياه السوداء،
سوف يعثر عليك.

والغزلان

كم هي بديعة،
كأنّ أجسادها لا تعترض سبيلها.
تنزلق خفيفة في العراء
تعبر أشعة الشمس ذات الألواح البرونزية.

ما الذي يجعلها تقف ساكنة هكذا
إذا لم تكن تنتظر؟
لابثة بلا حراك، حتى تصدأ أقفاصها،
والشجيرات ترتعش في الريح
جالسة القرفصاء، عارية من الأوراق.

ليس عليكَ سوي أن تترك الأمر يحدث:
تلك الصرخة ــ (أطلقها، أطلقها) ــ مثل القمر
الذي غضّنته الأرض فصعدَ
ممتلئاً بدائرة سهامه

هكذا حتى تجدهم أمامكَ
مثل أشياء ميّتة، الأجساد صهواتها
وأنتَ تعتليها، جريحاً وقاهراً.

تبارَكَتْ

المشهد يستجمع أشتاته الآن أيضاً.
التلال تزداد عتمة. والثيران
تغفو في أطواقها الزرقاء،
الآن إذْ الحقول حُصدت
والحِزَم
مرصوفة مكدّسة علي حوافّ الطريق
بين العشب خماسيّ الأوراق،
آنَ يصعد القمر المسنّن.

هذا هو الغثاء،
غثاء الحصيد أو الوباء
والمرأة التي تطلّ برأسها من النافذة،
والبذور
لامعة، ذهبية، صائحة:
تعالي هنا
تعالي هنا، أيتها الصغيرة.

وأمّا الروح فإنها تدبّ بطيئة، زاحفة من الشجرة.

أحزان سيرسيه

وفي النهاية عَرّفتُ نفسي
عند زوجتك،
كما ينبغي أن يفعل إله.
في عقر دارها،
في إيثاكا، صوت بلا جسد.
أطرقتْ وهي تغزل، ثم التفتَ رأسها
إلي اليمين أوّلاً، ثمّ إلي اليسار
رغم أنّ الأمل كان ضعيفاً
في رَدّ ذلك الصوت
إلي أيّ أصل ملموس: أشكُّ
في أنها ستعود إلي مغزلها
بما تعرفه الآن. وحين
تراها ثانية، أَخبِرْها
أنّ الإله يودّع هكذا:
فإذا مكثتُ في رأسها إلى الأبد
فإنني سأمكث في حياتك إلي الأبد.

أغنية بينيلوب

أيتها الروح الصغيرة، الصغيرة المتجرّدة أبداً
افعلي الآن ما أرجوك أن تفعليه، تسلّقي
أغصان شجرة الصنوبر الشبيهة بالرفوف،
انتظري في الأعلى، متنبهة، مثل
حَرَس أو رقيب. لن يطول الوقت حتى يعود إلي بيته
يتعيّن عليكِ أن تكوني
كريمة. أنتِ لم تكوني
كاملة الأوصاف، بجسدكِ المُرْبِكِ
فعلتِ أشياء ما كان ينبغي
أن تناقشها القصائد.
ولهذا
نادي عليه من خلال المياه المفتوحة
والمياه اللامعة
بأغنيتكِ المظلمة، الطامعة،
أغنيتكِ غير المألوفة، الجيّاشة
مثل ماريا كالاس.
مَن الذي لن يشتهيكِ؟
وهل يمكن أن تفشلي
في تلبية أيّة شهيّة شيطانية؟
سرعان ما سيعود من حيث يذهب،
مُسْمَرّ البشرة من فرط الغياب، توّاقاً
إلي دجاجاته المشوية. آه، ينبغي أن تُحَيّيهِ
ينبغي أن تهزّي أغصان الشجرة
لكي تلفتي انتباهه،
بحذر مع ذلك، بحذر، لئلا
يتشوّه وجهه الجميل
بالكثير من الإبر الساقطة.

قصيدة حبّ

ثمة على الدوام شيء يُصنع من الألم
أمُّكَ منكبّة على الحياكة
تحوّل الشالات إلي تلاوين الأحمر كلّها
كانت برسم عيد الميلاد، وكانت تدفئكَ
وهي تنتقل من زيجة إلي زيجة، تصطحبكَ
معها. كيف تمكّنتْ من هذا
حين خزّنَتْ قلبها المترمّل طيلة هذه السنين
تماماً كما يؤوب الموتى؟
لا عجبَ أنكَ كما أنت اليوم،
تخاف الدمّ، ونساؤكَ
يتعاقبنَ مثل أحجار الجدار، واحدة تلو الأخرى.

ذاكرة أولي

جُرحتُ، منذ زمن بعيد.
وعشتُ لكي أثأر لنفسي
من والدي، ليس
بسبب ما كان عليه،
بل بسبب ما أنا عليه: منذ بدء الزمن
أيّام الطفولة، فكّرتُ
أنّ الألم يعني
أنني لم أكن محبوبة،
أنني كنتُ أحبّ.

السوسنة البرّية

في ختام عذاباتي
كان ثمة باب.

أنصتوا إليّ: ذاك الذي تطلقون عليه اسم الموت
أتذكّرهُ

فوق الرأس صخب من كلّ فَجّ، أغصان الصنوبر تتنقّل
ثمّ لا شيء. الشمس الواهية
خفقتْ فوق السطح اليابس.

رهيب أنْ تواصلَ الحياة
والوعي
دفينٌ في التراب المظلم.

وبعدها انتهي الأمر: ذاك الذي تخاف منه، أنتَ
الروح، أنتَ العاجز عن
النطق، المنتهي بغتة، والأرض المتصلّبة
تلتوي قليلاً. وتلك
طيور ترمحُ في شجيرات واطئة.

أنتَ الذي لا تتذكّر
العبورَ من العالم الآخر
أقول لك إنّ في وسعي الكلام ثانية: كلّ
هذا العائد من النسيان، عائد
للعثور علي صوت:

ومن مركز حياتي جاءت
نافورة عظيمة، ظلالٌ زرقاء غامقة
علي لازورد من مياه البحر.

ليلكة الذهب

الآن إذْ أدركُ
أنني
أحتضر وأعرف
أنني لن أنطق ثانية، لن
أعيش بعد الأرض، لن أُدعي منها ثانية، وما
من زهرة، بل الشوك وحده، والقذارة الخام
تطبق علي أضلاعي، أناديكَ
يا أبي وسيّدي: الكلّ من حولي،
الصحب كلّهم يخرّون أرضاً، يظنّون
أنكَ لا تري. كيف
يجزمون أنكَ لا تري
وأنتَ لم تخلّصنا بعد؟
وفي شفق الصيف، أأنتَ
قريب بما يكفي لكي تصغي
إلي فزع طفلكَ؟ أم
أنكَ لستَ أبي،
أنتَ الذي رَبّيتَني؟