دعد حداد
(سوريا)

من بين ثلاثة أجيال في حركة الشعر السوري الحديث كانت الأصوات المتفردة والمختلفة قليلة، بينما كانت الأكثرية الساحقة - أو المسحوقة - متشابهة، أو ضائعة في المسافة التي تفصل بين متاهة الغموض ومتاريس الأيديولوجيا الرثة.

منذ منتصف السبعينات إلى أول التسعينات الماضية كانت دعد حداد تنشر بين حين وآخر قصائد مختلفة مشحونة بهموم وأحلام شخصية وإنسانية وصور شعرية مبتكرة، كما نشرت مسرحية (العيشمر) التي لا نجد لها شبيهاً في موضوعها ولغتها، وأسلوبها، كما هو حال مسرحيتها المخطوطة الهبوط بمظلة مغلقة حيث الأجواء الغريبة التي تتحرك فيها كائنات شبه دودية وأخري شبه شيطانية وكائنات شبه بشرية مع زعيم كوكب متخيل، وتدور أحداثها في حال من الذعر من انقراض السلالة البشرية، ويزيد من غرابة هذه المسرحية أنها تبدأ من الفصل الأخير، مع ما يوحي به عنوانها من مغامرة انتحارية.

نشرت دعد حداد مجموعتين شعريتين في الثمانينات هما تصحيح خطأ الموت و كسرة خبز تكفيني بينما صدرت مجموعتها الثالثة بعد غيابها عام 1991، بعنوان الشجرة التي تميل نحو الأرض . فقد كانت ترثي نفسها وتودع الحياة والناس بحب صافٍ، وكانت هي نفسها الشجرة التي تميل نحو الأرض . فقد كانت ترثي نفسها وتودع الحياة والناس بحب صاف، وكانت هي نفسها الشجرة التي تميل، وكان غيابها في صباح يوم ربيعي يشبه غياب ذلك الفنان الياباني الذي رسم نافذة ثم خرج منها واختفي إلى الأبد، أما هي فإنها كانت تكتب عن الموت دائماً، ليس كشبح مرعب أو لغز غامض، وانما كموضوع مضاد للحياة، أو بداية رحلة طويلة إلى مكان مجهول: لا شيء أقوي من رائحة الموت / في الربيع... . وإذا كان الموت قاسياً فإن للحياة جمالها باتساعها: كم هو جميل هذا الاتساع في الحياة / بلا نهاية .

كان الشعر خبزاً يومياً عند دعد حداد، فكثير من قصائدها مؤرخة في أيام وليال متقاربة، وبعضها يحمل توقيتاً محدداً في ساعة متأخرة من الليل، وهي الساعات الضارية في حياة الشعراء المتوحدين، وفي مجموعتها الشعرية الأخيرة إحدى عشرة قصيدة مكتوبة في يوم واحد، وهذا ما يدعو آلي الظن أن ما نشر من شعرها قد لا يتعدى نسبة الربع.

في شعر دعد حداد إصرار علي مواجهة البؤس والعسف ودعوة إلى تأمل الأشياء الجميلة، حتى لو كانت صغيرة، وتمجيد للطبيعة الأم، ورصد حي لحركة الحياة، لا يخلو من السخرية اللاذعة، أو التواصل الحميم. وقد نجد في شعرها ما يشبه النحت والرسم والموسيقي، فهي نفسها حينما يبتعد عنها القلم ترسم أو تعزف علي كمان عتيق، أو تنحت الحجر الأسود الذي يخاف النحاتون المحترفون من شظاياه، وكأنها تنحت الورق الأبيض بالقلم الأسود: اكتبي... اكتبي / فجّري هذه الشرايين .

منذ مدة قريبة كنا نتحدث عن شعر دعد حداد، بعد نحو عشر سنوات من غيابها، و تورط أحد الأصدقاء، وهو كاتب وناقد، فقال ان شعرها يشبه شعر اميلي ديكنسون، وكان هذا كافياً لكي يغضب الشاعر نزيه أبو عفش، ويحتج بصوت عال مؤكداً ان شعر دعد حداد لا يشبه شعر أحد، وهو أفضل وأكثر عمقاً من شعر اميلي ديكنسون، وكان نزيه كتب تقديماً لمجموعته الشعرية الثالثة يقول فيه: امرأة لا تشبه إلا نفسها، تنفرد، بين جميع من عرفت من شعراء، بكتابة بريئة من آثار بصمات الآخرين، وأشعار حرة باسلة، تتفتح باستقلالية مطلقة علي بياض الورقة، كتويجة ممهورة بالدم، أو شفرة نصل جارحة تخترق جدار القلب بمهارة تليق بملاك... .

في بعض قصائد دعد حداد يمكن أن نقرأ لوحة تشكيلية في سطرين، ولكن السطر الثالث ينقل هذه اللوحة إلى الحركة، حيث تتحول إلى ما يشبه اللقطة السينمائية الملونة: ملاءة سوداء فوق الثلج / وفوق الملاءة زهرة حمراء صغيرة / والريح ثلجية عاصفة....

إن الشعر هو النافذة التي غابت من خلالها دعد حداد، بعد أن كتبت وكتبت، وحلمت أن تجاور السكون البري والقمر الشاحب، وتنام علي الورق الأبيض، وهي التي قلما تسافر، كانت تكتب عن السفر علي طريقتها الخاصة: ها هي تذاكر السفر... / ارحلوا جميعاً واتركوني في داري....

قصائد لم تنشر من دعد حداد

في صيف 7891 كتبت دعد حداد في أيام قليلة مشروع مجموعة شعرية مستقلة، تحت عنوان ثمة ضوء في ثلاثين صفحة صغيرة، وأعطتها للكاتب والممثل لؤي عيادة، وهي جزء من القصائد التي لم تنشر، وهذه مختارات منها.

انزعوا الأقنعة أيها البشر
وامشوا حفاة أيضاً
وعرايا...
ثمة ضوء في آخر الليل الطويل
ثمة نهارات...

* * *

أودعك الليلة يا ناي
أودع الشعر الحزين،
أودع رقص الموت...
وأرحل...
أودع الأضواء...
والفلسفات...
والحكايات...
والأصوات
وأرحل...!
هذي الليلة
تأتي متمهلة...
حاملة آخر الذكريات،
الليلة عرس الموت،
والليلة
ستقولون... كانت!

* * *

بُحّت الآه
تطاولت الآه
وماتت الآه
الليالي... هنا دمشق
وأبعد... وليس بعد انتظار
أجاور السكون البري
والقمر الشاحب
وأنام علي الورق الأبيض...
لا شيء أصغر من هذا الكوكب
أفيقوا الليلة حتى الثمالة.

* * *

هذا القنفذ البرّي...
يتراكض في الطرقات...
يأكل الأشواك، والحر...
وينام تحت جذع الشجرة...
لا شيء أهدأ من حياة القنفذ البريّ
ولا ألطف من حياة القنفذ البرّي.

* * *

هذا وجه الجلاد
خذي سيفك
واغمديه... في القلب
تتفتح زهرة حمراء
أهديها لحبيبي...
مرحباً... بالبداية...

* * *

ما هذه المسافات
والفراغات...؟
وأنا وحدي... أركض بلا
نهاية
لا شيء سوي الذهول واللامعقول،
لا شيء يحد من هذه المسافات
لا يد صديقة
لا يد محبة
لأتوقف
آه... أيتها الحياة المتسعة
أين جدرانك
وبواباتك؟
أين حراس الأرض الطيبون،
أين الملائكة المبتسمون؟
وأنا أنمو تارة
وأصغر تارة...
حتى السياجات والأشواك
اختفت
وانطفأت الأنوار،
أهي صحراء...
وبلا رمال؟
أهي أحلام
ونستيقظ...؟
وأنا طفلة ذات شرائط
ملونة
أحوك ثوبي
وأصنع دميتي
ولكن
لمن أهدي كل هذا الجمال؟
والعالم مقفر... ومتسع...
وأنا أركض بلا نهاية...

عن جريدة (الحياة) 18-01-2002