ترجمة : ناديا ظافر شعبان
يبدأ بكاء
القيثارة.
تتكسر أقداح
الفجر.
يبدأ بكاء
القيثارة
غير مجد
أن نسكتها.
تبكي رتيبة،
كما تبكي المياه،
كما تبكي الريح،
فوق الثلج المتساقط ،
من المستحيل
أن نسكتها.
تبكي أشياء
بعيدة.
رمل الجنوب الساخن ،
متعطش لكاميليا بيضاء .
تبكي سهماً بلا هدف،
عشية بلا غد
والعصفور الأول الميت
فوق الغصن.
أوه! يا قيثارة!
يا قلباً جريحاً حتى الموت،
بخمس سيوف.
يدخل الموت
ويخرج،
من الخمارة.
تمر أحصنة سوداء،
وناس مشؤومون،
عبر الدروب الغامضة
للقيثارة.
وهناك رائحة ملح،
ودم لأنثى!
في السنابل المحمومة،
لشاطئ هذا البحر.
الموت
يدخل ويخرج،
ويخرج ويدخل
موت
الخمارة.
قولي ليلي
يحتمون في البيت،
من النجوم.
ينهار الليل.
في الداخل، هناك طفلة ميتة،
و وردة حمراء، مخبأة في شعرها.
يبكيها ست بلابل،
في الشباك الحديدي.
يتنهد الناس،
وقيثاراتهم ناحبة.
ترقص كارمن ،
في شوارع إشبيلية.
شعرها أبيض،
وبؤبؤ عينيها براق.
يا طفلات،
أسدلن الستائر!
تلتف حول رأسها
أفعى صفراء،
وتمضي حالمة بالرقص،
مع عشاق لأيام مضت.
يا طفلات ،
أسدلن الستائر!
الشوارع مقفرة،
وفي أعماقها نتبين
قلوباً أندلسية،
باحثة عن أشواك عتيقة.
يا طفلات،
أسدلن الستائر!
شجيرة ، شجيرة
يابسة وخضراء.
الطفلة الجميلة الوجه
تقطف زيتوناً
الريح ـ عاشقة الأبراج ـ
أمسكت بها من الخصر.
مر فرسان أربعة،
يمتطون مهوراً أندلسية،
يرتدون أزياء زرقاء وخضراء،
ومعاطف طويلة عتمة.
"ـ تعالي إلى غرناطة يا صبية "
لا تستمع إليهم الطفلة.
مر ثلاث مصارعي ثيران شباب،
هيف الخصور،
يرتدون أزياء بلون الليمون،
ويحملون سيوفاً من فضة عتيقة.
"ـ تعالي إلى إشبيلية، يا صبية"
لا تستمع إليهم الطفلة.
عندما أصبحت العشية
بنفسجية، وضوءها مبهم،
مر فتى كان يحمل
وروداً وريحان قمر
" ـ تعالي إلى غرناطة يا صبية"
لا تستمع إليه الطفلة.
ظلت الطفلة الجميلة الوجه
تقطف زيتوناً
والذراع الرمادي للريح،
يزنرها من الخصر
شجيرة، شجيرة
يابسة وخضراء.
دوت أصوات موت،
قرب نهر وادي الكبير.
أصوات عتيقة تحاصر،
نبرة لقرنفل ذكر.
شك في الجزمات،
عضات خنزير بري،
كان يثب في الصراع
كدلفين مغسول القفزات.
غسل بدم عدو ،
ربطة عنقه القرمزية.
إلا أن أربعة خناجر ،
أجبرته على أن يسقط ،
عندما سمرت النجوم،
حربات حادة في المياه الرمادية،
عندما كانت الثيران الصغيرة تحلم
بمنثور زاهر،
دوت أصوات موت،
قرب نهر وادي الكبير.
أنطونيو توريس إيريديا،
كامبوريو كثيف الشعر،
اسمر كقمر أخضر،
ونبرة رخيمة لقرنفل ذكر
من سلبك الحياة،
قرب نهر وادي الكبير؟
ـ أبناء عمي إيريديا الأربعة،
أبناء بينا ميخي.
والذي ما غبطوا الآخرين عليه،
كانوا يحسدونني أنا عليه:
ميداليات كبيرة من عاج،
وبشرتي المعجونة
بالزيتون والياسمين.
آي، يا أنطونيو آل كامبوريو،
الجدير بعشق إمبراطورة،
تذكر العذراء،
لأنك ستموت.
آي فيديريكو غارثيا،
نادي رجال الدرك!
وتحطمت قامتي ،
مثل ساق ذرة.
ثلاث دفقات دم ،
وسقط على جانبيه وجهه.
نقود نادرة،
لن يعاد سكها ثانية.
يمدد ملاك أندلسي،
رأسه على وسادة.
وأشعل ملائكة آخرون،
ـ متعبو الوجه ـ قنديلاً.
عندما وصل أبناء العم الأربعة
إلى بينا ميخي،
انطفأت أصوات موت،
قرب نهر وادي الكبير.
لم يكن أحد يدرك عطر
الماغنوليا العتمة لبطنك.
لم يكن أحد يعرف أنك تعذبين
طائر حب بين أسنانك.
كان ألف مهر فارسي يغفو،
في الساحة المغمورة بقمر جبهتك،
بينما كنت أنا أحتضن طوال أربع ليال
خصرك، عدو الثلج.
كانت نظرتك ، بين جص وياسمين،
غصناً شاحباً لبذار.
بحثت أنا ، لأعطيك من صدري،
حروف العاج، التي تقول: دائماً،
دائماً، دائماً:حديقة احتضاري،
جسدك الهارب إلى الأبد،
دم وريدك على شفتي،
فمك الذي صار بلا ضوء باقتراب موتي.
لا يريد الليل أن يأتي،
حتى لا تأتي،
ولا أستطيع أنا الذهاب إليك.
إلا أني سأذهب،
رغم أن شمس عقارب تحرق صدغي.
إلا أنك ستأتين،
بلسان محروق من مطر الملح.
لا يريد النهار أن يطلع ،
حتى لا تأتي،
ولا أستطيع أنا الذهاب إليك.
لكني سأذهب،
مسلماً لضفادع البر قرنفلي المعضوض.
لكنك ستأتين،
عبر المواخير الكدرة للعتمة.
لا يريد الليل ولا النهار أن يأتيا،
حتى أموت من أجلك،
وتموتي من أجلي.
هناك جذر مر،
وعالم من ألف سطح.
إلا أن أصغر يد،
لا تستطيع أن تحطم باب الماء.
إلى أين تذهبين؟ إلى أين؟ إلى أين؟
هناك سماء ذات آلاف النوافذ
ـ عراك نحل داكن ـ
وهناك جذر مر.
مر.
إنه يخرج بأخمص القدمين،
أعماق الوجه،
ويجرح أيضاً جذع الليل البارد،
المقطوع للتو.
يا حب ، يا عدوي،
كيف يعض جذرك المر.
لا تحملي ذكراك.
دعيها وحيدة في صدري.
ارتعاش لكرز أبيض،
في عذاب كانون الثاني.
يفصلني عن الأموات ،
جدار أحلام شنيعة .
أعطي حزن زنبق بارد،
لقلب من جص.
طوال الليل ، تسهر عيناي
في البستان، مثل كلبين كبيرين.
طوال الليل، أطارد
سفرجل السم.
يكون الهواء أحياناً،
خزامى من خوف،
إنه خزامى مريضة،
في الصبح الشتائي.
جدار من أحلام شنيعة ،
يفصلني عن الموت.
يكسو الضباب بصمت،
الوادي الرمادي لجسدك.
في ظل جسر لقائنا،
ينمو الشوكران السام الآن.
لكن دعي ذكراك،
دعيها وحيدة في صدري.
أريد أن أنام نوم التفاح،
وأن أبتعد عن جلبة المقابر،
أريد أن أنام رقاد ذاك الطفل،
الذي كان يريد أن ينتزع قلبه في عرض البحر.
لا أريد أن يعيدوا علي، أن الأموات لا تفقد دمها ،
وأن الشفاه المتعفنة تظل متعطشة للماء.
لا أريد أن أعرف شيئاً عن العذاب الذي يعطيه العشب،
ولا عن القمر ذي الفم الأفعواني .
الذي ينشط قبل طلوع الفجر.
أريد أن أغفو برهة،
برهة ، دقيقة، دهراً،
لكن ، ليعلم الجميع أني لست ميتاً،
وأني أحمل بين شقتي إسطبلاً من ذهب،
إني الصديق الصغير لريح الغرب،
وإني الظل الكبير لدموعي.
غطني ببرقع فجراً،
لأنه سيرميني بحفنات نمل،
ويبلل بماء صلب حذائي ،
حتى ينزلق فكا عقربه.
لأني أريد أن أنام نوم التفاح،
لأتعلم نحيباً يطهرني من التراب،
لأني أريد أن أعيش مع ذاك الطفل المظلم،
الذي كان يريد أن ينتزع قلبه في عرض البحر.
ضعت مرات كثيرة في البحر،
أذني مليئة بأزهار مقطوفة للتو،
ولساني ملئ بحجب وباحتضار.
ضعت مرات كثيرة في البحر،
كما أضيع في قلب بعض الأطفال.
ليس هناك من ليلة لا يشعر فيها المرء،
بابتسامة ناس بلا وجوه،وهو يعطي قبلة،
وليس هناك من أحد، ينسى الجماجم الجامدة،
للأحصنة الميتة ،وهو يداعب وليداً.
لأن الورود تبحث في الجبين
عن منظر قاس لعظم،
ليس لأيدي البشر اتجاه،
غير تقليد الجذور في باطن الأرض.
كما أضيع في قلب بعض الأطفال،
ضعت مرات عديدة البحر.
جاهلاً للماء،أمضي مفتشاً
عن موت من ضوء يفنيني.
أريد أن أهبط إلى البئر،
أريد أن أتسلق جدران غرناطة،
لأنظر القلب المثقوب ،
بمخرز المياه المظلم.
كان الطفل الجريح يئن،
وتاجه من صقيع.
كانت برك، جبب، وينابيع،
تسل سيوفها في وجه الريح.
أي، أي جنون حب ، أي خنجر جارح ،
أي ضجيج ليلي، أي موت أبيض!
أي صحارى ضوء، كانت تحفر
رمال الفجر! كان الطفل وحده،
والمدينة غافية في حنجرته.
فوارة مياه آتية من الأحلام،
تحميه من الجوع، والطحلب،
كان الطفل واحتضاره، وجهاً لوجه،
مطرين أخضرين متعانقين.
كان الطفل يتمدد على الأرض،
ويحدودب ظهر احتضاره.
أريد أن أهبط إلى البئر،
أريد أن أموت موتي ، جرعة جرعة،
أريد أن أملأ قلبي طحلباً،
حتى أرى جريح المياه.
أغلقت شرفتي،
لأني لا أريد أن أسمع البكاء
إلا أن وراء الجدران الرمادية،
لا يسمع شيء غير البكاء.
هناك ملائكة قليلة تغني،
هناك كلاب قليلة تنبح،
يسقط ألف كمان في راحة يدي.
لكن البكاء كلب ضخم،
البكاء كمان ضخم،
الدموع تكم فم الريح،
ولا يسمع شيء غير البكاء.
أنا لا أتمنى غير يد،
يد جريحة ، لو أمكن ذلك.
أنا لا أريد غير يد،
حتى لو قضيت ألف ليلة بلا مضجع.
ستكون زنبقاً شاحباً من كلس،
ستكون حمامة مربوطة بقلبي،
ستكون حارساً في ليل احتضاري،
يمنع بتاتاً القمر من الدخول.
أنا لا أتمنى شيئاً غير هذه اليد
للزيوت اليومية، وشرشف احتضاري الأبيض .
أنا لا أريد غير هذه اليد،
لتسند جناحاً من موتي.
كل ما تبقى يمر
تورد بلا اسم، كوكب أبدي دائم.
كل الباقي شيء آخر مختلف: رياح حزينة.
بينما تفر الأوراق أسراباً.
لم تكن الوردة
تبحث عن الفجر:
خالدة على غصنها تقريباً
كانت تبحث عن شيء آخر
لم تكن الوردة
تبحث عن علم ولا عن ظل :
تخوم من لحم وحلم،
كانت تبحث عن شيء آخر
لم تكن الوردة
تبحث عن الوردة .
جامدة عبر السماء،
كانت تبحث عن شيء آخر.
اسمه: فيديريكو غارثيا لوركا. أبوه فيديريكو غارثيا رودريغز . أمه فيسنتا لوركا روميرو. وُلد في فونتيه فاكيروس في الخامس من حزيران عام 1899، وقتله جند الديكتاتورية في التاسع عشر من شهر آب عام 1936. |
المصدر.. مختارات من لوركا، ناديا ظافر شعبان،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،بيروت ـ ط.الثانية 1983