إذ أتطلع حولي
أنظر، و أتأمل
أُمعن النظر في نفسي ، أتلمسها
ثم أتسال:
كيف حدث ذلك كله؟
نيقولاس غيين
ذات هجوم همجي
نظرَ عزرائيل إليّ
محاولاً أن يأخذني معه
و قال ...
سنمضي
من هذه النار
إلى تلك الجنة
فأمسك بيدي
لكنّي أفلتُ يده
و انصرفت
آنئذ أخذني رامبو من يدي
و قادني بهدوء و أدخلني نار الله
ثم صرخ بي ...
فيمَ أفادك أن تحتمي بالشعر
و ما ذنبي إن كانت قصائدك ملأى بالمعصية.
قُبيل مجئ البرابرة
كان النهارُ نهاراً
الشمس تشرق في ميعادها و تغيب
كنا نمارس طقوس الفرح و الحزن
الشجار و النميمة
هل أحسست ببكارة الصبح؟
أشممت نضارة الورد؟
الشوارع حليفة مع الأرصفة، الشجر مع الريح
لم أخدع يوماً
كنت أتفرس الأشياء
لم أؤمن ...
رائحة الشاي تتسلل إلى غرفتي
كنتُ أستعيض بها عن منبه الوقت
لا لشئ ... ذاك لأن أمي أجمل ساعة في العالم
إضافة إلى أنها ماهرة في:
إعداد الشاي و البكاء و إيقاظي من النوم
أما أبي فلا يضيره شئ
يواجه المتاعب بالصمت
كان صمته بليغاً
و قد علمني إياه قبل الأبجدية
تحترق من حولي الأشياء فيتآكلني الحيف
ليس هناك من نديم
حتى اعترضني الشعر مصادفة
قادني بهدوء و وقار إلى الخمرة
و بدوره أضفى عليّ سحابة من القلق حتى اللحظة
عشبة جلجامش هي البداية
و أساطير السياب لا تمنحك فرصة لعبور شط العرب إلا بثمن
كان الثمن باهضاً
ارتضيت بالغنيمة و أحسست بمرارة الخيبات
كنت كالطير متخبطاً بأجنحة عارية
كيف أكسو روحي العارية؟
طواسين الحلاج تعترضني أيضاً
على عتبة دارنا ينام الصيف
ما شأني بالصيف
لم أعد أتذكر منه سوى سطح الدار مرشوشاً
المرأة التي جعلتني أُشيد قصراً من الكلمات
أصابتني بداء الرومانتيكية
لكنيّ بريتونيّ الهوى
ثم جاء ( ت س أليوت ) فأحالني يباباً
ذات ليلة نؤاسية طرق السكر بابه عليّ
احترقت قدماي و أصابني دوار في الرأس
ياه ... أنه سيد الندامى يكتب عن دوران المراوح
علمني كيف أفرق بين منائر كربلاء و قمة إفرست
أودعني بمقاهي شارع الرشيد
و استأمن أوراقه لديّ فأورقت داخل الصاعقة شاعراً ضالاً
من مقعد المقهى البرازيلي إلى الصالحية فاسطنبول مروراً بالدول التي أسقطتها البيروسترويكا و إنتهاء لساحة الفنانين بفلورنسا
في مدينة دانتي ألغييري تعلمت تشذيب سذاجتي و خيالي الذي يهلوسني
بعد أن تدثرت بأقمطة النسيان، أختلطت الرؤى فعدت الى المقهى
لم أجد الأشياء كما عهدتها
أصبت بداء الهلوسة و أعياني الجدل البيزنطي
أول شئ سرقني ... كان رامبو و زمن القتلة
فأدمنت القراءة و العزلة
خلسة اقتحمتني الحرب فألبستني لونها الكاكي
البصرة أول المطاف
ثم عدت الى بغداد برئة معطوبة و عكاز
نويت الهرب
فأصبحت ضيفاً في سجن (كميت) المركزي
هل يعلم (الكميت) أنهم سيبنون سجناً بين أشعاره ليحمل أسمه
(ما أبهى الحياة)....
خرجتُ ثانيةً لتتلقفني الشوارع
فغدوت أكثر هدواءً و إحباطاً من ذي قبل
محترفاً التأمل... تأمل الخراب الذي حط على ضفاف دجلة بينما الآخرون أحالوا أصوات المدافع الى هلاهل.
إنزويت بعيداً ... مقهى شط العرب للفراعنة
الأرصفة و المقاعد تتكلم الفرعونية الحديثة
لم أكن على وئام مع ( أولاد حارة ) نجيب محفوظ
كانت ( أوراق الغرفة 8 ) لأمل دنقل قريبة الى روحي
حالة الحدس قادتني الى معرفة البرابرة قبيل قدومهم
فأدركت أن وجه الأمل أسود
و أصبح حبل الرجاء بالياً
بدأ البرابرة يسرفون في القتل
كيف كانوا فيما مضى ... (نوعاً من الحل) ؟
حين واجهت نفسي بالسؤال
هل تجدي القصيدة ؟
حتى أشتعل الرأس شعراً
هل باستطاعتها التغلب على المحن ؟
المحنة نائمة و البرابرة لا يأبهون
جاءني (نبيل ياسين) بأخوته باكياً على مسلة أحزاننا فحرضني بكاؤه و أحلامه الشاقة و جلسنا معاً على دروب (حسين عبداللطيف) نترقب المارة و نهجي ملوكاً لا ينتهون.
بعد أن عثر( فوزي كريم ) بطائره لوح بيديه...
هل كانت تلويحته استسلاماً أم احتجاجا على مخافر الحدود ؟
أكلما عدت من شارع أبي نؤاس لساحة التحرير يباغتني غناء رجل حزين مقرفص تحت نصب الحرية يردد ...
جواد ... ياجواد
إن الليل هنا
فاحم السواد
فتطير الحمامات فزعة من جدارية (فائق حسن)
و يردد سعدي يوسف مع نفسه ... (قد نبتني بيتاً و نسجن فيه)
يخرج أبو محسد من قبره صارخاً ... (أرى العراق طويل الليل)
لقد أسقطتنا حداثة القمع في الفخ
و أصبحت اللغة برزخاً في ذلك الحي الذي يغمره التراب و صوت الرجل القمئ
نكتفي بالتحديق من نافذة الغرفة المعتمة
محاولة يائسة للتعرف عليك أيها المستبد بطفولتنا.
لم يبق من نديم غير:
شاعر يحتمي بشجرته الشرقية على مقربة من نهر الراين يرمي بأحجار المنفى بعيداً
و آخر يلهو بغربته الشرقية محتفياً بتعتعاته الخمرية
يبدو أن مخاض السيد (غائب طعمة فرمان) بدأ من مقبرة توويه كوروفا الروسية
كيف أقنعت نفسي أن غائباً قد غاب
يسألني شاعر مربدي
ذات مساء ببغداد
ماذا تعني جزيرة أم الخنازير؟
فضحكت من البلاغة و أركان التشبيه
و آه من أركان التشبيه
هل صحيح أن حياة السياب تدخل في القصيدة ؟
أحالني السؤال الى قصيدة حفار القبور
و منذ ذلك الوقت أدركت لماذا أورثني أبي قبراً في وادي السلام.
يا جليل بن حيدر ...
لماذا أسمي صفير المقابر في الليل أنيناً خاصاً ؟
هل ستسعفنا قصائد الضد من غاز الخردل ؟
لِمَ حين لا نخلد الى النوم يحدثوننا عن الطنطل
بدلاً من ليلى و الذئب
آه من ليلى العراقية
بعد أربعين عاماً عرفت بأن الطنطل لم يكن وهماً
و ليلى لم تكن مريضة
هل بكى أدونيس حين كتب ...
(يكاد الحجر في بغداد أن يتفطر خجلاً
و ليس مستبعد أن تكون لدجلة لحية و عكاز
و أن يكون الفرات مرتجفاً هلعاً)
لو قرأ (والت وايتمان) هذه الكلمات لأحرق (أوراق العشب) أو أعاد صياغتها من جديد.
يبدو أن الأخضر بن يوسف مشغول هذه الأيام ببيرية (حسن السريع) و رقصة الفلاشا، و يسأل ... (هل ستظلون كثيراً و نظل نمد لكم أيدينا ؟)
في صباح بارد تيبست أصابع (قاسم حول) وهو يعزف على الجرح سيمفونية لألوان الزهور ببغداد بينما ( جعفر حسن ) يحاور( فكتور جارا ) تاركاً لكوكب حمزة كوكباً تذكارياً.
لقد ترك (محمد سعيد الصكار) برتقال ديالى في سورة الماء
و التين و الزيتون و هذا البلد الحنون
سأعلن لا متباهياً بل سعياً وراء التذكر...
لا شجر يضاهي النخيل
لا ماء كماء الفرات
لا شتيمة توازي شتائم النواب
لا خراب بحجم خراب بصرياثا
لا ملك بقامة حمورابي
لا خل مثل أنكيدو
و لا خيانة كخيانة دزدمونة
في السنة القادمة سيستبدل أبي عقاله بقبعة من تكساس حتى يكون جديراً بأمي، سأقول له بلهجة مسرحية يا أبتاه ...
أنت تستحق أكثر من ذلك و لن يصيبك القنوط بعد الآن.
بم تفكر عيون (خالد المعالي)
بنا أم ببادية السماوة
لمن سنعلن أوجاعنا ؟
لقد نسينا وصية المهاتما غاندي طافية على بحيرة ساوة كما أضعنا ألفة الشوارع حين مر بها (هاشم شفيق)
لقد اكتفى بالغزل العربي و راح بأزميله ينعم خاصرة مدينته المتورمة
يا محنة كوني برداً و سلاماً على طفولة بغداد
سنحمل قصائدنا مع( عبدالكريم كاصد ) و نتوغل في المنفى
و ندعه ينقر أبواب طفولتنا محاولة لاستعادة طفولة الشعر و رطوبة البصرة
و سأبقى مكتفياً بالنظر الى صدر الراقصة (حمزية) بينما بغداد تفور على صدرها النابض تاركاً (زاهر الجيزاني) لالتباسات قصده و صرخته المدوية ( انكسري يا عربة الغزاة ) و أمنيته التي لا تتحقق ... ليتني هرقل.
هل سيكرر(خزعل الماجدي) يقظة دلمون جديدة أم يكتفي بأسفاره مع سومر؟
هل ستجد لجنة ( أنموفيك ) ضالتها في قصيدة فيزياء مضادة أم تعتبرها من قصائد الدمار الشامل و خارج ما سماه القصيدة المتعددة(polypoetic poem)
سيرد عليهم :
( أحاول دائماً أن أجمع الورد الذي تخلفه العاصفة ).
عاصفة للشعراء
عاصفة للصحراء
بطبعة منقحة جديدة تقودان مركب رامبو السكران على ضفاف دجلة و هما يغنيان ...
(مركب هوانا
من البصرة جانا
شايل حبيب الروح)
ثم جفت قصيدة يوسف الصائغ فقد كان مرتبكاً بأصابعه و هي تكتب
( من أين تأتي القصيدة و الوزن مختلف و الزمان قديم ).
هل بكى بعد ذلك حين عاتبته دزدمونة؟
من أين لي بأصابع ( شاكر لعيبي ) الحجرية كي...
( أخلط المرمر بالمرير
و أكسر الواحد بالوحيد )
و أظل واصفاً نخيل العراق بما يليق.
هل أصابنا العمى من أدخنة منازلنا يا ( سلام كاظم )
ها هم الملوك العزل يتساقطون الواحد بعد الآخر
من أين لي القدرة على السكوت إذ يتعالى صمت القبور؟
من أين لي وجوه جديدة، أعضاء جديدة لمشوهي الحرب؟
من أين لي الشجاعة لأستجيب لاستغاثات الجرحى؟
لا قدرة لي سوى أن أشاطركم بموتي اللاحق.
يتفتت الحلم
ينكشف الوهم في بطء
يرفرف الخوف بجناحيه و يلامس الروح
ليحتل الغياب المشهد من جديد
يسافر الموت متنكراً
رافضاً أن يمحو من على عتبة الذاكرة آثام الماضي
لذا بقي هرقل حبيس مغاراته
فلا أهمية و لا أمن في فضاء الكلام
هامش غنائي
ستؤديه المطربة شاكيرا ذات الأصول
العربية العريقة جداً بالطبع
هامش على الهواء
و أخيراً انفضضت محمولاً
و وطني بسلة ياسمين
حتى لا يموت كما كان عليه أن يموت
ليغفر أبناء جلدتنا تلك الفوضى
ففي زحمة الموت العام ليس هناك موت خاص
لكن لنا خصوصيتنا بالموت
إذ نمنحه معنى
يبدو أننا سنقتل جميعاً
بلا استئذان أو استثناء
ستخرج حشود نيابة عنا
يحملون يافطاتهم و قد كتب عليها ...
(و اعتصموا بالقتل جميعاً)
و يسجل موتنا كحادث عابر
و تغدو أسماؤنا أكثر سطوعاً
لأننا سنكون النجوم في حربهم
أمنْ القضاء و القدر أن نموت جميعاً ؟
هل سيدعوننا نموت كما نشاء؟
بالنسبة لي مثلاً أريد أن أموت هكذا:
جالساً في غرفتي
متصفحاً قصيدة المومس العمياء
مرتشفاً قهوتي على مهل
نافثاً دخان سيجارتي
منصتاً لفيروز
هذه ميتة أرستقراطية ...
حتى يكون موتي تناصاً مع ... (أتجئ الصحراء إذا دخلت في الغرفة قنبلة موسيقى ... و البحر بعيد)
سأخرج خلسة للتنزه من القبر
مقدماً العزاء لهذا المتكوم بسلة الياسمين
و سأبتاع له هاتفاً محمولاً ثم نتفق على رقم سري بعد أن نمنح أنفسنا أسماء حركية و بهاتف أحدنا الآخر، سأطالبه بعد موتي ألا يدلل قلبي كثيراً و ألا يغير موقع سكناه لأزوره لاحقاً.
هل سنبني وطناً هنا بعد أن أضعناه هناك
سنلهو حتى آخر الفرص المتاحة
و إذا عدنا...
فأي الأبواب سنطرق؟
أي جهة من القلب سنختار؟
الحنين عشبة يابسة كشفة الأرملة
و أنت الذي يطالبونه بالتعليق من على شاشة
...........
...........
فاصل إعلاني و نعود....
تماسكوا أيها ....
نعزيكم بالمغفور له
ا ل ع ر ا ق
تنتهي الأغنية
لكن الرقص يتصاعد بجنون ....
طاق
طاق
طاق ....
******
أشارة: ورد في النص الكثير من الأسماء الشعرية المعروفة متضمنة أسماء بعض مجاميعهم الشعرية و مقاطع منها وضعت بين قوسين.
12/2/2003