الوحوشُ التي تأتي من الحديقة المظلمة، تخترقُ زجاجَ النافذةِ مثلَ الضوء..
تحدّقُ بي ثم تمضي الى غرفةِ النومِ .. وأنا اجلسُ متماسكا ً، على الأريكة المغطاةِ بالنمل..
لا أدري للآن، ما الذي تفعلهُ الوحوشُ وهي تدمدمُ بزئيرِها المكتوم
تتقّلبُ فوقَ سريري، وتنقّبُ في الدولابِ المكتظّ بجثثِ ضحاياي-أخطائي الثلاثة القاتلة-..!
قال الطبيبُ:
طريقتك هذه في الكتابة، ستجلبُ لك العمى،أو نزيفا ً في الدماغ..!
قالت الزوجة:
لقد نفد الدهنُ ، والغازُ، والمعجون..
لم يعد معي مايكفي من النقودِ للذهابِ الى الوظيفة.
قال الابنُ وهو يحلم:
ها..هل هذا طيب يا أبي؟
أتذكرهُ وأصححهُ من شي جيفارا الى تشي غيفارا..، لسنا مصريينَ ياسيدي!
الوحوشُ تتناسلُ وتتقافزُ في الغرف: نمور، أسود، ذئاب، ضباع ، قطط وحشية، زوجات بليدات وحاقدات، سوقيون وكلابٌ سائبة
الضحيّة الأخيرة-الخطأ الأخير الذي يبدو كأنه سيتكرر- تستيقظُ من نومها، تهذي بين النوم واليقظة:
ها ياكلبة.. ، ياقحبة؟!
قيلولةُ الشتائم ابتدأت بجان الذي يقضيها في فندق الصياد، فيما نتصعلكُ في المقهى قبل التسكّع، نمضي الى ساحةِ الأندلس، بينما يتربّعُ ملكا ً في " روافد دجلة" بديونه التي تتكاثر..، نعودُ في المساء الى بيوتنا، الى وحوشنا..يخبو كل حنين في دمائنا..
يذهبُ هو الى فندقه المسائي الرثّ يلصفُ في دمه الذهب
" الكلبةُ جوعانة..والقحبة نعسانة..لاعشاء ولامبيت على العشب؟!"
الوحوشُ زمجرت، وابنتي التي تقفُ في الباب ، حامل ٌ وأنا لا ادري، ثوبُها من حرير ٍ ولا يهفهف..تنتظرني في ساحة الأندلس، ويمنعها يوسف من الدخول
أقولُ للطبيب:
طريقتك هذه في العلاج، ستجلبُ لك النقرسَ، والثراءَ ، والحسد
تقولُ الزوجة:
لقد نفد الدهن!
أقول لها: لقد نفد الذهن
نقوده تتضاءل،وديونه كذلك، وجسده يتورّم.. يمد قدحه الى واحد من "روافد دجلة" فيغرف الخمرَ..ويتذكّر الحروب
ينفض قميصه فتتساقط منه الشظايا والأصدقاء
ينظف نابه الوحيد ويمط فمه فتتناثر منه الشتائم والقروح
يعصر يديه فتتساقط منهما الغيوم
بعد ساعة وخمس دقائق ستبدأ قيلولة الشتائم
يبدؤها من" الحيدرخانة" ويختمها في " الميدان"
مفلسٌ يمتلك ناباً واحدا، واثنتين وثلاثين سيارة روسية من نوع"فولغا"
وحديقة واحدة، وعشرين رصيفا..ولاوحوش لديه
وحشه الوحيد.. يروّضه، ويشتمه ، ويذبحه، ويدفنه في الحانة
وفي الصباح يوقظه من نومه، ويصطحبه في جولاته اليومية:
"ملكٌ أنا، ولم أستحم منذ ستة أشهر"
أرستقراطيٌّ ينعم بالقيلولة في ساحة الميدان ويمضي المساء في فندق آخر
خلف سينما أطلس
عشيقٌ لنجاة الصغيرة، وفائزة أحمد..، تتأوّه نبيلة عبيد وهي تتقلب فوق فراشه
الذي يتكسر.. قلبه غير ميّال لذلك.. وعقله ميّال
يلمّع أفكاره ، وشتائمه ، وأصدقاءه الشعراء
ولا يحفل بأخته التي لم يرها منذ أربعة عشر عاما
" نفد الذهبُ والدهنُ والورقُ وكلٌّ شيء..!"
قال لها، ومضى الى الحديقة مهذباً، يبتسمُ، يهزّ رأسه، دون ان يودّعها
"أعطتني مئة دينار...أشربوا على حسابي!"
أثمل ُ معه ، وأتذكّر الوحوش التي تتناسل هناك.. ويتذكر ديونه التي تتكاثر هنا
يتذكّرُ وحشه الوحيد ولايمصّه..، يتذكر أيامَ بيروت ونساءها
نتذكرُ أيامَ " قوره تو" والقذائفَ، والوحوشَ، البلادةَ والحقد ، الجنونَ والبذاءة، الدماءَ التي تقطر من أصباغ المكياج وتلوث ضحايانا
الوحوش تلوي أعناقها وتشيحُ بوجوهها بعيدا عنا
تنتفخُ بطونها بأخطاء جديدة ، وينتفخً جسده النحيل بأمراض الكبد
أصححه الى " د. م. و" ويصحح غيره الى "ح . ن. ت. و. ش" ويسألني:
أينه؟!
ويبكي بفمه الأدرد وعينيه منتفختي الآجفان
أقول له:
لاتطر بقامتك النحيلة هكذا في الهواء!
نلوّح له بقمصاننا ونرميها وراءه ويقهقه
يختفي مثل بالون رفيع في السماء
في المساء.. يغيّر " روافد دجلة " بخمورها الى ساحة الأندلس ،ويمنعه يوسفُ الذي شتمه صباح أمس وهو يرقد على العشب
أسماله ينبح وراءه ، فينهرها الملكُ ، بائع أسمال الأصدقاء
يتبعه العدميون والشعراء المتنطعون والشحاذون
ينبحون..، فلا يلتفت .. "الكلاب" يهتف في سرّه ويصرخ:
ها يا ابن المرحاض ؟!
انتفخت بطنه بأخطائه والسموم.. ويسميها قصائد
ساعة ٌ نفدت.. لم يبق سوى خمس ساعات، أعني خمس دقائق
الشتائم تزدحم في فمه، تتكاثر بانتظار القيلولة
والديون تزدحم على الورق
الوحوش تمنع قيلولتنا من الاكتمال في البيت
الكذابون يتكاثرون في المقهى والحانة والرصيف
وحشه الوحيد ، يراوغه وينشطر.. فلا يعترف بذلك، حتى يضطره الى الاندماج
" ماذا أفعل بهؤلاء الذين كانوا أبنائي منذ ساعات، الوحوش الصغيرة التي تقاسمني أنفاسي، ملتصقة ً كالعناكب بالسقف؟ "
ماذا أفعل ُ بهذه الدواب التي تأتي من الحديقة المظلمة ، وأنا أجلسُ يائسا ً، ثملا ً، على الأريكة المليئة بالنمل ، محتميا ً بعقائد بائدة؟ وابني-أعني خطأي- يتأوّه في حلمه:
الوحوش يا أبي..!
نمور..أسود.. ضباع.. ذئاب.. زوجات حمقاوات وحاقدات.. أبناء اندلقوا سهوا ً..حشود النمل التي غزتك
اوّاه يا أبي..!
ماذا ستفعل لكل هذه الوحوش ، ولا قيلولة لك؟
بغداد 1993
إقرأ أيضاً: