بسّام حجّار
(لبنان)

( لذكرى منار الشمّاع )

لا أدري ما شَغَفُ الحَجَرِ
الذي ألَمَّ بي
يوسّدني حَجَرٌ
ويغطّيني حَجَرٌ
وحَجَرٌ أبيضُ
يروي سيرتي
مِنْ فَمِ الترابْ
( 20041942 )
برقمين فقط
وفاصِلة
لَمْ يفسّر لي أحدٌ من قبل
معنى الترابِ
وكائناتِه الضئيلة
التي تدبّ هَهُنا وتحفرُ
كأنّ رميم الغبار والحصى هذا
هو الطريق المفضية إلى سماءٍ
ولا أدري أيّ السماوات قد تسعى إليها
الكائنات الضئيلةُ التي تحفُرُ
وئيداً
في عينيّ وسَمْعي
ولا أدري ما الحكمةُ من اختصار عمري
برقمين وفاصلة
كأنني، في غفلةٍ، عَبَرْتُ
من ضفّةٍ إلى ضفّةٍ
وبينهما مياهُ النسيانِ
ولَم ألمح في عبوري
صورةً تُمحى
أو مكاناً يزولْ
ولَم يفسّر لي أحدٌ
ما الأسى
ولم أجد في <<قَصَص الأنبياء>> خَبَراً
عمّا رأيتُ
فالمكانُ هُنا ليس هو المكان
بل خاطرةٌ
تبدّدها اليقظةُ
ولا سُبات هنا
بل يقظاتٌ تنبّهُ اليقظاتِ
ولا أدري إذا كنتُ أعتادُ الموتَ
أو إذا كنتُ في ظنّي مَلكاً يموت:
(<<ورسم الملك الأكبر أن لا يجلس للناس ولا يكلّمهم ولا يدخل عليه أحدٌ (...) ورسم الملكُ الأكبر إذا مات أن يُبنى له دارٌ كبيرة فيها عشرون بيتاً ويُحفرُ له في كلّ بيتٍ منها قبر وتُكسَرُ الحجارة حتّى تصير مثل الكحل وتُفرَش فيه وتُطرَح النورةُ فوق ذلك، وتحت الدار والنهرِ نهرٌ كبيرٌ يجري، ويجعلون النهرَ فوق ذلك القبر ويقولون حتّى لا يصل إليه شيطانٌ ولا إنسانٌ ولا دودٌ ولا هوام، وإذا دُفِنَ ضُرِبَت أعناق الذين يدفنونه حتّى لا يُدرى أين قبره من تلك البيوت، ويُسمّى قبرُه الجنّة، ويقولون: قد دخَلَ الجنّةَ، وتُفرَش البيوت كلّها بالديباج المنسوج بالذهب>>.) 1
للأسى تفاسيرُ كثيرة
من بينها
بحسبِ الأبناء
الطّيرُ والهواءُ
وألوان الطيفِ
والطيفُ مجرّداً
ومن بينها
النارُ والحَجَرُ والترابْ
ومخلوقاتٌ عجيبة أخرى
ليسَت الهَوامُ منها
كالرؤى
والتوهّم
و
السّرابْ
تفاسير كثيرة
للأختِ المستلقية على السريرِ
بعد ظهرِ الحوادث المتفرّقة
في صحيفة،
بعد مأدبةِ الضيوف
بعد ظُهرِ التعبِ،
بين جدران معقّمةٍ
بين جدرانٍ كتومةْ
من بينها
الجرحُ الطفيفُ
تحت الثدي الأيسر
وحفنةُ الأنابيب المغروزة
في الأنفِ وفي الفمِ وفي الساعدِ
وكيس المصلِ
وآلة التنفّسِ التي تضخّ الهواء
بمشقّةٍ
بعويلٍ أجشّ،
وكيس الدماء
قطرةً قطرة
ومن بينها
الابن والشقيق
والزوج
والممرّضة
والفساتينُ المهملة في الخزانة
بقربِ المرآة
أو على مسند الكرسي العالي
أمام المرآة
تفاسير كثيرة للأبِ
الفارعِ القامةِ
والألمِ
من بينها
المعطفُ والسعالُ والقلبقُ
والمشيةُ المستقيمةُ
وروائح الصابون وماء الكولونيا
ونظرة حانية
ونظرة ساهيةٌ
رقيقة كلمسة يد
وللأمّ تفاسيرُ كثيرة
من بينها
حكايةٌ للطفلينِ قبل النوم
والألمُ والكرسيّ المدولَب
والصحيفةُ
وغيبوبة الحواس
وطبعاً من بينها
الموت.
بحسب الأبناء لم يكُن شاقّاً
فكلّ ألمٍ تطيّبُه القراءةُ
وكلّ ذنبٍ يغفرُهُ الغَسْل
قالت الفتاةُ:
سوف تغسلينها بماءٍ وآياتٍ
وسوفَ يُقيمُ طيفُها
في نومكِ
وقالَ الرّجلُ
حارسُ الترابِ:
يخلدُ المقيمون هَهُنا إلى نومٍ مبكرٍ
وأوانُ الزيارةِ عند الصباحِ الأوّل
قبيل النهوض إلى مشاغِلِ اليومِ
وكلّ يوم
فالبعضُ يعلّق صوراً تالفةً في الأرجاء
والبعضُ يبكي مِنْ وحشة المكان
وقالَ الرّجلُ:
لكنّ المكانَ هَهُنا
ليس هو المكان
قالت الفتاةُ:
الأمُّ مُعتَقَدٌ وصلواتٌ وأيّامٌ مُسنّة
وقالتِ:
الأمُّ وهمٌ نربّيه في قلوبنا أعواماً
ونحفَظُهُ كالحلية على صدورنا
ونذكُرُه إذا استذكرنا
لكنَّ الغَسْلَ محوٌ
قال الرجلُ
حارسُ التراب:
تحلّقوا حول الضريح متلاصِقينَ
فلا سعةَ في الأرض
ولا تتركوا أثراً
إنْ غادرتم
وقالَ: الأمّ ترابٌ ومن ترابٍ
وقالَ: لا تحزنوا
تفاسيرُ كثيرة للحزنِ
بحسبِ الأبناء
من بينها


اليد الرشيقة التي تسرّحُ الشعر
الفم الدافئ الذي يحكي حكاياتِ الإنس والجنّ
العينان اللامعتان أبداً
والدعاءُ كلّما سَلَك الأبناءَ درباً
والدعاءُ إذا مكث الأبناء
والدعاءُ ثانيةً لكي يُستجابَ الدعاءُ
والنومُ عميقاً على الزندِ المُطمئِنّ
في كَنَفِ الرائحةِ الغريبةِ المُسكرة
والنومُ في العُتمةِ
كأنما العتمةُ وساوس مضاءة
بمخلوقاتٍ أليفة
هي خَلْقُ اللهِ
من بينها
الوحشُ والغولُ والسَّربيرُس والتنّين
ومن بينها
النارُ وممالك النبات والمعدن والحيوان
تفاسيرُ كثيرة
ساذجةٌ
ولكن
ليس من بينها
الموت
لذلك
لم يتعب الولدُ
بل أتاه النعاسُ
حين شرحتُ له
بلادَ الخَزَر
(أوّلاً لأنّ الموت له كنيةُ الحلم لكنّنا نجهل هذه الكنية.
ثانياً لأنّ الحلم هو الختامُ اليومي للحياة، تمرينٌ بسيطٌ على الموت (...)
وثالثاً لأنّ في إتِلَ، عاصمة الخَزَر، موضعاً يستطيع فيه العابران إذا التقيا أن يتبادلا الاسمَ والمصيرَ، وأن يواصل أحدهما العيشَ في حياة الآخر) 2
وأتاه النعاسُ
حين فسّرت له
بإصبعي على صفحة الكتاب
أسرارَ الكوكبِ
وناديتُ الكوكبَ باسمه
قلت:
<<تلك هي العظام>>
كأنّني أقرأ في كتابِ جسمي
<<وتلك هي العضلات
ومسالك الدورة الدموية
وهذا رسمُ القلب
الذي يُحبّ
ولو متعباً
وهذا الرأسُ
الذي يصنعُ الأفكارَ
وهذه اليدُ القليلةُ
واليدُ القديرة
واليدُ الخرقاء
وهذه الساقُ
وعظمُ الساقِ
وهذه القَدَمُ
التي تسعى
وقد قيلَ في الكُتُبِ
إنّ جمعَها هو
الرفاتُ
لا أدري ما شغَفُ الحَجَرِ
الذي ألمّ بي
حَجرٌ أبيضُ يروي سيرتي
من فمِ الترابِ
ولم يُفسّر لي أحدٌ من قَبْل
ما معنى التراب
لو كنتُ ملكاً يموتُ
لأدركتُ معنى الترابِ
ورسَمتُ
أوّلاً
أنني ملكٌ يموتُ
لغسلتُ وجهي
وقلّمتُ أظافري
وسرّحتُ شعري
وجَعَلْتُ جنّتي
بجنبِ السريرِ
كأشيائي الأخرى:
العباءة الصيفيّة
الخفّان
علبة الدواء
الساعة والنظّارة
والريموت
الكوب والمناديل
وصورُ الأبناءِ
وقارورة العطر
وناديتُ ابنتي
لكي تطفئ الضوءَ
وتترك البابَ موارباً
لكي أسمعَ إذا غفوتُ
جَلبةَ البيتِ من حولي
لكي لا أكون
على السريرِ
ملكاً يموتُ
بمفرده

السفير
2005/02/04