لا اعرف ما الذي قاله محمد القيسي للموت الذي باغته على حين غرة، قبل عام كامل، أو ما هو نوع الحديث الذي تبادلاه قبل ان يرفع الشاعر راية استسلامه. فشاعر من طراز القيسي لا يمكن ان يتنازل بسهولة عن الحياة التي رأى إليها بوصفها الأعطية اليتيمة التي لا تتكرر والهوية الثمينة التي يصعب التفريط بها رغم كل العثرات. ومن هو جدير بهذه الهوية مثل شاعر (حمدة) الذي حوّل أعوام عمره الستين الى كرنفال هائل من الضجيج والمشاكسة واقتراع الأحلام. لم يكن الموت وارداً في قاموس القيسي ولا في حساباته الصغيرة أو الكبيرة، هو الذي رتب جسده وروحه ونظم خطوط دفاعه بما يكفي للعيش ثلاثة عقود إضافية على الأقل.
يلوّح للموت
كيف لم يستطع محمد القيسي إذا ان يلاعب الموت بالمهارة التي لعب فيها مع الحياة. كيف لم يقنعه بالذهاب الى سواه ممن لم يعد لديهم ما يخسرونه سوى إكمال أجسادهم التي أنهكها التعب وقصائدهم التي بليت من التكرار. أما هو المتوثب كفيلق من الذئاب والمتربص بكل ما يسيل له لعاب الكلمات فليس بينه وبين الموت حدود مشتركة أو لغة للتخاطب. كان يمكنه على الأقل ان يؤجل هذا الاستحقاق بداعي السفر أو الحب أو طباعة المخطوطات الكثيرة التي ما زالت بحوزته، تماما كما يفعل الشبان المطلوبون لخدمة العلم أو التجنيد الإلزامي. كان يمكنه ان يلوح للموت بخرقة المجاز الحمراء لكي يسدد قرنيه الى المكان الذي لا يشغله جسده الحقيقي. إلا إذا كان قد فعل ما فعله بكامل إرادته بعد ان هدّه الترحال وأتعبه الركض وراء ما تبقى من الأماكن والنساء والكلمات...
برحيل محمد القيسي تخسر فلسطين احد أكثر شعرائها أصالة وصدقا ورهانا على المعنى. صحيح ان بداياته المبكرة لم تختلف كثير اختلاف عن تجربة مجايليه ممن عرفوا بجيل الستينيات ولكنه عرف كيف يحول حياته الى بدايات مستمرة والى أسئلة مغلقة لم تكف عن تجديد نفسها في أوصاله. كانت مجموعاته الاولى جزءا من النسيج العام للقصيدة الفلسطينية الوطنية التي تؤثر تغليب العام على الخاص، والترسل الإنشادي على الحفر والإضمار، والرومانسية الثورية المسلحة بالايدولوجيا على التأمل والاستبطان.
ولكن ذلك كله لم يكن معزولا عن السياق العام لشعر الستينيات، وبعض السبعينيات، الذي رافق هزيمة حزيران واحتفى بصعود المقاومة الفلسطينية وتغذى من النظريات والأفكار التي تحول الشعر الى فعل دعوي ووسيلة من وسائل التحريض. غير ان القيسي سرعان ما انقلب على تلك المفاهيم السائدة مؤثراً الانحياز الى خصوصية التجربة وقوة الاختبار الشخصي وحمى الهواجس الداخلية للكائن الفرد.
لقد قرر محمد القيسي في مجموعاته اللاحقة بدءا من (إناء لأزهار سارا...) و(منازل في الأفق) و(كتاب حمدة) وصولا الى (شتات الواحد) و(ناي على أيامنا) وغيرها من الأعمال ان يوائم ببراعة بين الإخلاص لقضية الوطن المضيع والإخلاص لقضية الشعر نفسه بحيث لا تتحول الأفكار والنضالات العادلة الى مسوغ للقراءة والكتابة الجاهزة والسهلة. ولم يكن ذلك القرار يعني بأي حال تحللا من القضية نفسها أو تخليا عن النضال من اجل الحرية بقدر ما كان تشبثا صعبا بما يمنع الشعر من التحول الى شعارات جوفاء أو الى لافتات للابتهاج والاستنكار. باتت فلسطين عند محمد القيسي رمزاً لكل ما هو متعذر ومقصي ومسور بأسلاك الممنوعات الشائكة. فالجسد المغلول وفق الشاعر لا يمكن له ان يحرر وطنا مغلولا أو يفكه من الأسر. واللغة المكبلة ليس من شأنها ان تجترح للحرية فضاءها الملائم وللشعر وعوده الحقيقية.
ضجيج الخلايا
هكذا، ودفعة واحدة، شن محمد القيسي على الحياة كما على الشعر هجوماً ضارياً لا عودة عنه. كأنه، بعيدا عن الجغرافيا، كان يبحث عن فلسطين في جغرافية أخرى تترامى على امتداد الأرض حينا وتتكثف حينا آخر لتصبح ضجيجا في الخلايا ووسوسة في دورة الدم وجيشانا في العروق والأوردة. فهو لم يشأ ان يستسلم لذلك المناخ الكربلائي المثخن بالتفجع الذي حكم شعره الاول كما حكم الكثير من نماذج الشعر الفلسطيني، والعربي بوجه عام، فعمد الى شن هجومه المضاد على الحياة والعالم متصيدا كل ما يتشكل أمام ناظريه من صور الأنوثة وتجليات الرغبة وإضغان الأماكن. وقد ساعده في ذلك جسد رشيق ومطواع شبيه بجسد عروة بن الورد ووجه جذاب تتنازعه الوسامة والتعب وتطل من وراء قسماته الصورة التي رسمها عمر بن أبي ربيعة لنفسه.
سندباد معاصر هو محمد القيسي. مزيج مريب من الفروسية والصعلكة/ فيه بعض من طراوة الحبق وبعض آخر من صلابة السنديان الفلسطيني. كل ذلك، مضافا الى عيون صقرية نفاذة والى اندفاعة حصان بري، هيأه للخروج من نفق الرتابة والإملال والزحف على الحياة بجميع ما يملك. بات الشعر عنده اختبارا باللحم والدم لقدرة اللغة على المعاينة والكشف. وكناجٍ وحيد من مجزرة مروعة راح يميط اللثام عن الشرارة القابعة خلف الرماد ويحول الشعر الى طرديات معاصرة لا تشي بالمكان ولا بانعدامه بل هذا الترنح المستمر بين الاثنين: (يمرمرني ما أرى/ اذ يقود الدليل خطاي الى عتباتي القديمة/ تصدأ فضة روحي/ ولا استعيد ظلال الطفولة/ أبعد عني الندى والكروم/ وأبعد ارض الحنين/ خذيني/ يعذبني إنني في المكان وخارجه...).
جذر إيقاعي
على ان محمد القيسي رغم ما أصاب شعره من تغيرات ظل أمينا لغنائيته حتى النهاية. فكتابته تصدر قبل كل شيء عن عصب غنائي مترع بالإنشاد والترقرق المائي. وقصائده التي تخلت عن الإفاضة والاحتشاد والسيلان الكلامي بقيت محتفظة بجرسها المدروس ونمنمتها البلاغية وتقفيتها المنضبطة دون تعسف أو افتعال. ذلك ان الجذر الذي تصدر عنه هو في صميمه جذر إيقاعي يتغذى من الفولكلور والوجدان الشعبي والترددات المختلفة لموسيقى الشرق. وإذا كان بعض أصدقاء الشاعر وقارئيه قد أطلقوا عليه لقب (المغني الجوال) فإن هذا الوصف ليس مجافيا للحقيقة أو بعيدا عنها، ولو ان نزوعه المشرقي راحت تخالطه أصداء كثيرة من ظلال الشعر الاسباني التي تجسدت على الأخص في مناخات غارسيا لوركا حيث تتحد الحسية المشهدية بالتكرار والتوزيعات الصوتية المتناغمة:
(خمسة أفراس ترعى قرب النهر. خمسة أفراس وغيوم في الأفق/ خمسة أفراس وحشائش تتمايل في رفق/ وندى نعسان/ خمسة أفراس ترعى/ نفرت فزعى/ ودنت من طرف الغابة/ بزغ الغجري من الغيب وقال:/ هي ذي فرسي).
كان لا بد لهذا الجسد الجموح والمكتظ بالرغبات الكثيفة ان يستنفد كل طاقاته وقدراته خلال ما لا يزيد عن الستة عقود من العمر، وان يخذل صاحبه في أوج اندفاعته الشعرية والإنسانية. ولعله ليس من قبيل المصادفة ان تفقد الكتابة العربية خلال أعوام قليلة معظم اولئك الرحالة الذين اقتحموا الرغبات بجماع أجسادهم وجازفوا بكل ما أوتوا من قدرة على اختراع الحياة واللغة من مثل سعد الله ونوس ونزار قباني ومحمد شكري وادوارد سعيد وغيرهم.
حين التقيته في معرض بيروت الدولي للكتاب قبل أكثر من عام ونصف بدت على وجه محمد القيسي بعض علائم الحزن والخيبة والألم. ولما كنت قد علمت بأنه خارج للتو من أزمة عاطفية مريرة اعتبرت بأن ما يبدو على ملامحه ليس سوى انتكاسة عابرة لن يلبث ان يتجاوزها خلال وقت قصير كما تجاوز غيرها من الانتكاسات. ولم أكن اعلم يومها انه كان يترنح عند التخوم الأخيرة من العيش، وان رصيده من المقاومة لن يمكنه من الصمود أكثر من شهور قليلة قبل ان يضع نقطة الختام عند نهاية السطر.
السفير- 2004/07/30
إقرأ أيضاُ